29

Tocqueville Muqaddima Qasira

توكفيل: مقدمة قصيرة جدا

Genres

الصدفة والعظمة

يمكن للفضيلة البشرية أن يكون لها دخل في أفعال الإنسان بقدر ما تسمح به الصدفة، حيث إن الصدفة تكون السبب في كل الأفعال فيما عدا تلك التي تكون نتاج الفضيلة البشرية، والتي تتطلب نطاقا للفعل؛ فعندما يقوم الشخص الفاضل بفعل، فإنه يستبدل ما قام به بما كان سيحدث بالصدفة أو بالأفعال العادية للأشخاص غير الفضلاء؛ لذا، فإن الفضيلة لديها هدف «إبعاد» عامل الصدفة، وذلك كما قال توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا». لكن الفضيلة تقتضي ضمنا وجود الصدفة حتى يمكن أن تحل محلها؛ في النظريات العلمية الحتمية التي رفضها توكفيل، لا يوجد مجال للفضيلة ولا للصدفة؛ فالفضيلة لا تصبح فضيلة إذا كان الشخص مجبرا على القيام بها، بل يجب أن يقوم بها طوعا؛ فالشخص الفاضل يجب أن يكون حرا؛ فالفضيلة أفضل مؤشر على الحرية لأن الاستخدام السيئ للحرية - على سبيل المثال: فساد الحكومة الفرنسية تحت حكم لويس-فيليب - من المرجح أنه كان مفروضا ولم يتم طوعا، كما هو الحال في نفس هذا المثال فيما يتعلق بالشغف بالمتع المادية الذي اتسم به هذا النظام.

غير أن توكفيل لم يكن أحد دعاة الفضيلة، الذين يروجون لها باعتبارها الحرية الحقيقية الوحيدة؛ فليبراليته الجديدة لم تتبع الاعتقاد الذي اعتنقه كانط، والمتمثل في وجود قانون أخلاقي عام ومطلق يوفر الحرية ويضمنها. فعندما تأمل توكفيل أشخاصا فعليين في عمله «ذكريات»، انبهر بحدود الفضيلة البشرية؛ فهي في المقام الأول فريدة ومنقسمة إلى فضائل عامة وخاصة بحيث قد يتحلى الفرد بمجموعة منهما دون أخرى، حتى لو تعارضت إحداهما مع الأخرى. تعد الأمانة أكثر الفضائل توافرا، لكن عندما تكون هناك حاجة إلى الفعل، قد يصبح «وغد جريء» أفضل من شخص أمين. إن الديمقراطيين كثيرا ما يمزجون بين «الهراء» وأمانتهم. اكتشف توكفيل أن السيدة دي لامارتين امرأة ذات «فضيلة حقيقية»، لكنها إلى جانب فضيلتها «أضافت تقريبا كل النقائص التي يمكن أن تكون متضمنة فيها، والتي إن لم تتغير فإنها ستجعلها أقل قبولا.» في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، قال إن «فكرة الحقوق ليست سوى فكرة الفضيلة» في السياسة، لكنه لم يتناول مسألة الحقوق في عمله «ذكريات».

بدلا من ذلك، تناول توكفيل التمييز بين ما هو عادي وما هو عظيم؛ فقد كان النظام الملكي البرجوازي الذي تمت الإطاحة به، والجمهورية الاشتراكية التي كانت بمنزلة مصدر تهديد ولم تتحقق قط، والإمبراطورية النابليونية الثانية كلها أمثلة على انتصار ما هو عادي على ما هو عظيم. تعد العظمة عبر كل أعمال توكفيل مصدر إلهام للحرية، ويمكن القول إنها هي السمة الأساسية لليبراليته التي «من نوع جديد». إن الرغبة في العظمة هي الدافع الذي يبرر ويعلي من شأن الوطنية الديمقراطية، وحتى النظم الإمبريالية والاستعمارية الديمقراطية.

لقد زاد الاهتمام مؤخرا بكتابات توكفيل عن الجزائر التي تؤيد الإمبريالية الفرنسية، وهو موقف يعتقد أنه أساء لسمعته باعتباره صديقا للديمقراطية؛ لكنه أيد الاستعمار الفرنسي للجزائر (بالطبع دون استخدام أسلوب الرق)، باعتباره تعبيرا عن رغبة في العظمة تعد ضرورية للإعلاء من شأن الديمقراطية فوق ادعاء المساواة العالمية العادية. اتفق توكفيل مع صديقه جون ستيوارت ميل على أن «الحضارة» أفضل من «الهمجية»، على الرغم من أنهما ربما قد يختلفان حول ما إذا كانت تلك الأفضلية يمكن أن تذهب إلى حد تبرير الاستبداد، كما قال ميل في كتابه «عن الحرية». غير أن علو مكانة الأمم الديمقراطية والعظمة الناتجة الخاصة بالوطنية الديمقراطية يشيران لاحتمال حدوث الاستعمار، إذا كان أي من تلك الأمم تسعى ل «نشر التحضر» (وهي عبارة ليست خاصة بتوكفيل). يتمثل الحل اليوم في إسقاط الفارق بين الحضارة والهمجية؛ ومن ثم تحويل الحضارة إلى «ثقافة»؛ فالثقافات كلها متساوية؛ ومن ثم فإن فكرة التعددية الثقافية اليوم ليست لديها ما تقوله عن العظمة. وهي بذلك تصبح قريبة من العولمة، وهما مفهومان غير سياسيين في سعيهما لتجاوز التقسيمات السياسية؛ ومن ثم معارضان لإصرار توكفيل على الحرية السياسية؛ حيث إنهما يتطلبان كيانات سياسية مختلفة. وبقدر ما تكون الرغبة في العظمة هي مصدر إلهام للحرية السياسية، فإنها تخاطر ببدء مشروعات هدفها صالح الآخرين في الوقت الذي قد يفضل فيه المنتفعون منها السعي من أجل صالحهم هم فقط.

إذا كان توكفيل ليبراليا من نوع جديد لأن عينه كانت تركز دائما على العظمة الإنسانية، فما الداعي لاعتباره ليبراليا من أي نوع من الأساس؟ أليست العظمة أرستقراطية الطابع على نحو حتمي بحيث لم يكن هو بالفعل ليبراليا على الإطلاق مع وضع العظمة دائما في اعتباره، فضلا عن مدى كونه ديمقراطيا من عدمه؟ للإجابة على هذا السؤال، يمكن أن نقارنه بأرسطو الذي لا يمكن أن نتهمه بأنه كان ليبراليا؛ فتوكفيل اتفق مع أرسطو على أن الإنسان بطبيعته حيوان سياسي. إنه لم يكرر قط تعريف أرسطو، لكنه على نحو واضح لم يشر للبديل الليبرالي له، الذي ذكر أولا في أفكار هوبز الذي قال إن الإنسان بطبيعته حر، ويدخل السياسة بموافقته فقط على الخضوع لحاكم مصطنع. كيف اختلف إذن عن أرسطو؟

يمكن رؤية اختلافه على وجه الدقة في فكرة العظمة الإنسانية التي طورها باعتبارها مختلفة عن الفضيلة والخيرية الإنسانية عند أرسطو. يرى أرسطو أن الفضيلة هي السائدة؛ لأن أي شيء نسعى إليه نحن البشر «نعتقد» أنه فضيلة، ووسع أرسطو تلك النظرة الإنسانية لتشمل كل الطبيعة. لكن سيادة الفضيلة هي الأمر الذي أنكره هوبز، أول المفكرين الليبراليين؛ فهو يفترض أننا جميعا نرغب في الحفاظ على الذات، وهي الفضيلة التي نشترك فيها جميعا، لكننا نستخدم تلك الفضيلة بطرق مختلفة لنسعى وراء فضائل نختلف في اعتقادنا بفضيلتها؛ فلا توجد فضيلة تعد أسمى الفضائل، ولكن هناك تمييزا فقط بين الفضيلة الأدنى العامة - وهي الحفاظ على الذات - والفضائل المختلفة التي نسعى وراءها بحسب اعتقادنا. في السياسة، يؤدي هذا إلى التمييز الليبرالي الجوهري بين الدولة من جهة، التي تضمن فضيلة حفظ الذات، وبين المجتمع من جهة أخرى حيث نختلف ونعيش في وضع نطلق عليه اليوم التعددية.

اتبع توكفيل هذا المسار الليبرالي، مقتديا بهوبز ومختلفا عن أرسطو والفكر السياسي التقليدي بوجه عام، لكنه اتفق مع أرسطو فيما يتعلق بالروح، وتحدث عن «الأرواح المنحطة»؛ فالليبرالية تهاجم الروح لأنها تجمع بين الفضيلة الأدنى المتمثلة في حفظ الذات، والهدف الأسمى المتمثل في عيش حياة خيرة. إن الروح المنحطة ستكون تلك التي على مسافة كبيرة من الحياة الخيرة، وتلك رؤية مختلفة تماما عن الرؤية الليبرالية التي ترى أن النفس قد اتخذت فحسب اختيارها بالعيش بحسب ما ترغب، وأن قيمتها لا يمكن قياسها من خلال تصور واحد يزعم أنه صحيح ويتمثل في الحياة الخيرة. لكن بدلا من الحديث عن «الحياة الخيرة»، تحدث توكفيل عن «العظمة». ما الفارق الذي يحدثه هذا؟

لا توجد العظمة في الطبيعة لكنها تنسب خصوصا للبشر من جانب البشر أنفسهم؛ فهي تشير للعظمة من وجهة نظر البشر، أو كما سماها توكفيل «العظمة الإنسانية». إنها جزئيا متغيرة واختيارية، لكن التطلع للعظمة وحبها متأصلان في الطبيعة الإنسانية؛ فالبشر فقط هم الذين يصدرون أحكاما تتعلق بما أو من هو مهم ، والعظمة تمثل ما يعتقد البشر أنه مهم. وهي تختلف عن العديد من الأشياء التي هي مفيدة فقط، وتعد خيرة؛ ومن ثم تمثل جزءا من «الفضيلة»، لكن ربما تكون غير مهمة. إن العظمة ممكنة دون فضيلة، كما قال توكفيل عن نابليون إنه «كان عظيما بالرغم من أنه كانت تنقصه الفضيلة.» لكن مع امتلاك المرء الفضيلة، يمكن أن يصبح أكثر عظمة، لكن الفضيلة نادرة، والعظمة كذلك نادرة جدا، ولكن نظرا لكونها تمثل ما يعتقد البشر أنه مهم، وهو الأمر الذي يفعلونه بطرق متعددة وأحيانا متعارضة، فهي أكثر تنوعا من الفضيلة؛ ومن ثم هي تتناسب أكثر مع الحرية السياسية؛ فكل البشر لديهم تصور عما هو عظيم، وهو الشيء الذي يطمحون إليه. لكن لا يوجد توحد أو اتفاق ضروري فيما يتعلق بما هو «عظيم»، كما هو الحال فيما يتعلق بما هو «فضيلة»؛ وهذا هو السبب في رفض سيادتها من قبل المفكرين الكلاسيكيين. والعظمة هي أيضا نتاج التطبيق وليس النظرية؛ فعندما وصف أرسطو الرجل ذا الروح العظيمة، كان يتحدث عن مجال الفضيلة الأخلاقية في الجانب التطبيقي منه، في مقابل الفضيلة الفكرية الخاصة بالفلاسفة؛ فالفلاسفة ربما يكون لديهم تصور متعلق بالعظمة الخاصة بكل الطبيعة، لكنهم قد يستخدمونه في التقليل من شأن الأشياء التي يعتبرها معظم الناس عظيمة. لم يختلف توكفيل مع رأي معظم الناس فيما يتعلق بتلك النقطة؛ فعدم ثقته في الفلسفة تظهر في إصراره على العظمة؛ فربما كانت لديه فلسفة خفية قريبة على نحو ما من فلسفة أرسطو لتبرير تجاهله الفلسفة، وربما يكون هدف هذه الفلسفة الدفاع عن السياسة، لكنه في الغالب كان يعتقد أنه من الضروري الدفاع عن السياسة من خلال الهجوم على الفلسفة؛ حيث إن الفلسفة الليبرالية التي كان يعرفها كانت تعد في ذلك الوقت الخطر الأكبر على الحرية والليبرالية.

المراجع

Unknown page