27

Tocqueville Muqaddima Qasira

توكفيل: مقدمة قصيرة جدا

Genres

الفصل السادس

فخر توكفيل

في ضوء انتقادات توكفيل للفلسفة، ربما يبدو وصفه بالفيلسوف أمرا ينطوي على نوع من التناقض والتجاوز، لكنه وصف نفسه بأنه «ليبرالي من نوع جديد»، وأوضح معالم الليبرالية الجديدة التي توصل إليها؛ ففي كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، انتقد الفلسفة المادية لتشجيعها على عادة الديمقراطية المتمثلة في عدم السعي وراء أي شيء سوى المتعة المادية، كما انتقدها لحرمانها الديمقراطية من الإحساس بالفخر الذي يثيره الدين. في كتاب «النظام القديم والثورة»، انتقد الفلسفة العقلانية لسعيها وراء نظم الإصلاح دون الاهتمام بالحرية. ليس من الصعب النظر لهاتين الفلسفتين باعتبارهما جانبين من الفلسفة السياسية الحديثة التي تعد أصل الليبرالية: المادية من أجل الإصلاح وليس الاستسلام لما هو حتمي، والعقلانية من أجل التطور المادي للحياة بدلا من التأمل. استعرض توكفيل في كتابه «ذكريات» الإحساس بالفخر الذي أراد أن يضيفه لليبرالية، إحساسه هو بالفخر الحزين بعض الشيء، أثناء تناوله للثورة التي اندلعت عام 1848 في فرنسا، والتي شهدها وشارك فيها. إنه تناول لفشل الثورة، وليس انتصارا للفخر. لكنه أيضا عرض تعليمي للفلاسفة الذين يظنون أنفسهم سياسيين، وللمواطنين الذين سمحوا لهؤلاء الفلاسفة أن يكونوا مصدر إلهام بالنسبة إليهم.

هل كتب توكفيل كتابه «ذكريات» لنفسه فقط؟

اختلف عمل توكفيل «ذكريات» عن عمليه الكبيرين السابقين اختلافا بينا، وقد تم تأليفه فيما بين هذين العملين في عامي 1850 و1851. في البداية، قال إنه «أبعد مؤقتا عن مسرح الشئون السياسية»، وإنه لم يعد قادرا على الاستمرار في أي دراسة بسبب متاعب صحية. في أكتوبر من عام 1849، أجبر على الاستقالة من منصبه باعتباره وزيرا للشئون الخارجية، وهو أعلى وآخر منصب تقلده في مجال السياسة؛ استمر فيه لمدة خمسة أشهر فقط، ثم في مارس من عام 1850، تقيأ دما للمرة الأولى، وكانت هذه علامة على المرض الذي أودى بحياته بعد ذلك بتسعة أعوام. لقد أصبح وحيدا في تلك الفترة «وسط حالة من العزلة»، وذلك بحسب تعبيره الدرامي مستخدما أسلوب روسو، وقد قرر استعراض أحداث ثورة عام 1848 وتصوير الأشخاص الذين رآهم يشاركون فيها. لم يكن من المفترض أن يكون هذا العمل «عملا أدبيا» مثل عمليه الآخرين اللذين كانا مكتوبين للجمهور ؛ فقد كان عملا بحسب قوله مخصصا لنفسه فقط . لم يعرض توكفيل في واقع الأمر عمله هذا إلا على بعض الأصدقاء، ولم ينشر في حياته، لكنه نشر فقط في عام 1893 من خلال الإذن بذلك الذي نص عليه في وصيته.

قال توكفيل إن هذا العمل سيكون بمنزلة «مرآة» يرى من خلالها معاصريه ونفسه، ليس باعتباره «لوحة» مقدمة للناس يمكنهم الاطلاع عليها؛ فقد كان هدفه الوحيد هو الحصول على «متعة فردية» لنفسه، و«التأمل المنفرد» للوحة حقيقية للمجتمع، ورؤية «الإنسان من خلال حقيقة فضائله ورذائله من أجل فهم طبيعته والحكم عليها.» وحتى تكون كلماته صادقة، يجب أن يجعلها «خفية بالكامل». هذا تمييز واضح بين نظره في المرآة، وهو الأمر الذي سيفعله، وبين تصوير الآخرين، وهو الأمر الذي لن يفعله. وعلى الرغم من ذلك، قال بالفعل إنه سوف يصور الرجال الذين رآهم، وفي الفقرة التالية تحدث ثانية عن الأحداث التي أراد تسليط الضوء عليها. علاوة على ذلك، في باقي الكتاب، أخذ «يصور الرجال والأحداث مستخدما أسلوبه الشديد البراعة، ولم يكن يكتب على الإطلاق لمتعته الشخصية فقط.» وعلى الرغم من أنه في أحد الخطابات وصف عمله بأنه نوع من «أحلام اليقظة»، فقد تحدث بالفعل مع آخرين شاركوا في الثورة، وراجع الوثائق حتى يتأكد من صحة عمله. السؤال: لماذا تلك المراوغة في الحديث عن الجمهور المستهدف من عمله؟

يعد عمل توكفيل «ذكريات» في واقع الأمر لوحة، لكن للجيل التالي؛ فسمته المميزة تتمثل في تصويره الرائع للعديد من الشخصيات، بخلاف عمليه الآخرين، اللذين درسا الأسباب وذكرا الشخصيات فقط لتوضيح التعميمات. هنا، وبدءا من التحليل اللاذع للملك لويس-فيليب، يستعرض القارئ لوحات بارزة وساخرة، واحدة بعد الأخرى للشخصيات ليس باعتبارهم متحكمين في سير الأحداث، وإنما باعتبارهم ضحية لأخطائهم، وفي بعض الأحيان لفضائلهم؛ ولم يسلم من العرض أسرته (أخت زوجته)، ولا صديقه (جيه جيه أمبير)، وقرب نهاية الكتاب انتقد بشدة الرئيس لويس نابليون (الذي سرعان ما أصبح الإمبراطور)، معتبرا إياه متآمرا قديما ومحبا شديدا للمتع السهلة. إن نشر تلك الأشياء أثناء حياته يعد نوعا من الطيش الذي ربما كلفه حريته، لكنه بتسجيله لها للأجيال التالية استطاع أن يوضح كيف تكون طبيعة السياسة العملية. في عمليه «الديمقراطية في أمريكا» و«النظام القديم والثورة»، أثنى على ممارسة الحرية السياسية؛ إنه يوضحها هنا وهي محل التطبيق، أو بالأحرى يشير إلى عدم تحققها في فرنسا.

الأكثر من ذلك أن توكفيل أظهر نفسه وهو يعمل، أو بالأحرى وهو يفشل؛ فهو نفسه كان مفكرا في مجال السياسة، تماما مثل المفكرين الذين هاجمهم في كتابه «النظام القديم والثورة». إنه يوضح الآن إلى أي مدى يمكن أن يذهب المفكر في محاولته توجيه السياسة، ومقدار اعتماده على الصدفة، ومدى اعتماده الكبير على التعاون مع الأشخاص العاديين الذين يجب أن يعمل معهم. هذا هو جانب «المرآة» في العمل الذي يعمل في تناغم، لكن أيضا في تعارض، مع جانب تصويره للشخصيات والأحداث؛ فهو عندما ينظر لنفسه، يرى رساما منخرطا في السياسة ويعلوها باعتباره معلما. في نهاية كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، قال إنه سعى للنفاذ إلى وجهة نظر الرب حتى يوازن بين النظامين الديمقراطي والأرستقراطي. لكنه قال أيضا إن الرب، بخلاف البشر، يرى الأحداث الفردية والتعميمات أيضا. إن توكفيل ينظر هنا إلى الإنسانية من منظور الفردية؛ حيث إن الأحداث فردية لأن الأفراد مختلفون؛ فالفيلسوف السياسي، شأنه شأن المفكرين في فرنسا في القرن الثامن عشر، يميل للاعتقاد بأن الحقائق العامة يمكن تطبيقها على نحو منهجي لإحداث تطور دائم في شئون البشر؛ لذا فإن حقيقة عامة يمكن أن توجب الطاعة من ظروف معينة، وتجبر هذه الظروف على تنفيذ ما تريد.

شكل 6-1: لوحة رسمها توكفيل لنفسه عندما كان وزيرا للشئون الخارجية، وزميله لونجوينيه عندما كان وزيرا للتجارة، وهما مقيدان بنير الوزارة.

أشار توكفيل في كتابه «ذكريات» إلى أن تلك الطاعة لن تحدث، وقد ضرب مثالا على هذا من واقع ثورة عام 1848 في فرنسا؛ حيث أراد باعتباره مفكرا أو فيلسوفا أن يسيطر على الأحداث، لكنه لم يكن قادرا على ذلك. بالطبع، عارض توكفيل المنظرين، وفي مقدمتهم الاشتراكيون، الذين كانوا يريدون تلك الثورة، ولم يزعم أنه كان يمثل «الفلسفة» أو أي شيء آخر في واقع الأمر غير نفسه، لكنه بمعارضته للثورة، اضطلع بدور المعارض للفيلسوف، الذي يكشف عن ضلال الفلاسفة المتغطرسين. أسقطت ثورة عام 1848 النظام الملكي للويس-فيليب، وهي نتيجة عارضها توكفيل عبثا، ثم تم إنشاء جمهورية أضعفها التحزب، وقد انضم لحكومتها بدافع المسئولية ولكن دون حماس. بعد ذلك، تم إسقاط تلك الجمهورية على يد لويس نابليون في عام 1851، الذي أعاد تأسيس إمبراطورية نابليون، التي أصبحت حينها استبدادا ديمقراطيا هادئا يجمع بين مركزية الإدارة والغطرسة البرجوازية. لم يحقق ثوار ثورة عام 1848 ما كانوا يريدونه، وهكذا الحال بالنسبة إلى توكفيل؛ فقد رأى أسوأ المخاوف التي توقعها وقد تحققت أمام عينيه، وكان قريبا على نحو كاف من الأحداث الحاسمة، بحيث لم يستطع تقديم النموذج الخاص به المتعلق بعجز المفكرين. وبعدم نشر توكفيل ذكرياته هذه عن تلك الأحداث إلا بعد فترة طويلة، سمح لنا بالنظر داخل عقله وبإصدار حكم مثله؛ حيث تتكشف أمامنا تلك الأحداث من خلال تعليقات بديهية هدفها إرضاء جمهور من المعاصرين.

Unknown page