21

Tocqueville Muqaddima Qasira

توكفيل: مقدمة قصيرة جدا

Genres

لا توجد دائما مساواة بين السيد والتابع في ظل الأرستقراطية، لكن في الديمقراطية، يكون هذا الوضع مؤقتا؛ لأن السبب فقط هو العقد الاجتماعي وليس الطبقة أو الأصل. والتابع الأرستقراطي من ثم يتطبع بطباع شخصية سيده، وتكون كرامته مستمدة من كرامة سيده، وممارساته متعجرفة مثل سيده أو حتى أكثر. أما التابع الديمقراطي، فليس لديه هذا الميل للفخر بخضوعه؛ فكرامته تكمن في المساواة بينه وبين سيده خارج حدود العقد الاجتماعي، حيث السيد والعبد «مواطنان وفردان»، لكن هل هما متساويان كمواطنين أو كفردين؟

قال توكفيل إن الرأي العام يقرب بين الأمرين بالرغم من المسافة الظاهرية الموجودة بينهما؛ فهو «يوجد نوعا من المساواة المتخيلة فيما بينهما.» فيبدو أن الديمقراطية ليست متفقة تماما مع الطبيعة؛ فالمساواة الطبيعية التي يزعم الديمقراطيون وجودها تحتاج إلى دفعة من الرأي العام الذي يزعم أن البشر متساوون بغض النظر عن وضعهم؛ فالسيد والتابع مواطنان لا يريدان أكثر من أن يكونا فردين؛ حيث إن المساواة الطبيعية ليست كافية بنفسها، لكنها بحاجة إلى عقد المواطنة الذي يهدف إلى المساواة الطبيعية. إن المساواة الديمقراطية ممكنة لأن الرأي العام الديمقراطي يرى هذا. إننا نرى حقيقة سياسية تظهر من خلال الحديث عن علاقة في المجتمع المدني، وهي أن العقد الاجتماعي الخاص بالنظرية الليبرالية التقليدية، الذي يميز بين الحاكم والمحكومين، ليس ناتجا عن موافقة أشخاص متساوين في الحالة الطبيعية، وإنما عن مواطنين يزعم الرأي العام أنهم أفراد متساوون. أما رؤية توكفيل لهذا العقد، فتتمثل في أنه لا ينشئ مجتمعا، لكنه يبدأ منه، ولا يفترض وجود المساواة الطبيعية، ولكنه يحاول أن يحافظ عليها، وإلى حد ما إقامتها.

يمكن تتبع نفس الرؤية السياسية للعقد الاجتماعي لتوكفيل، ونفس التعديل للنسخة الليبرالية التقليدية منه في حديثه الرائع عن المرأة الأمريكية. تحدثت النظرية الليبرالية قبل توكفيل عن «حقوق الإنسان»، قاصدة حقوق البشر بغض النظر عن نوعهم. في عصرنا هذا، تتعرض تلك النظرية للهجوم نظرا لتجريدها الشديد ولتجاهلها عدم المساواة التقليدية - التي من المفترض أنها طبيعية - بين الرجل والمرأة. لم يتحدث الليبراليون السابقون على توكفيل كثيرا عن هذا النوع من عدم المساواة، الذي عادة ما يعتبرونه على ما يبدو أمرا مسلما به. صحح توكفيل هذا التجاهل بتقديمه خمسة فصول عن المرأة الأمريكية، مثنيا عليها بشدة نظرا لفضيلتها وأعمالها الطيبة؛ فبحسب رأيه، لا يوجد مجتمع حر دون أعراف، والنساء هن من يصنعن تلك الأعراف. يضع الرجل القوانين، لكن الأعراف أهم من القوانين. وهو يرى أن هناك «فائدة سياسية عظيمة» في كل شيء متعلق بالمرأة الأمريكية.

تكمن المشكلة في أن توكفيل أثنى على المرأة الأمريكية لابتعادها عن السياسة وتخليها عن العمل؛ وهو ما يثير سخط معظم النساء الأمريكيات اليوم . لكن لا يجب أن نتجاهل رؤيته لمجرد أن النتيجة التي خلص إليها مستهجنة، كما أن هناك الكثير لنعرفه عن ليبرالية توكفيل الجديدة من خلال حديثه عن المرأة الأمريكية.

يتمثل تأثير الديمقراطية على الأسرة في القضاء على السلطة الأبوية بالمعنى الأرستقراطي، التي تتمثل بحق في «نظام أبوي» يتجاوز معناه بمراحل المعنى الحالي لهذا المصطلح. تساوي الديمقراطية بين الآباء والأبناء، متجاهلة الاختلافات الطبيعية في السن والنوع، غير أنها تؤدي إلى توثيق الروابط الطبيعية داخل الأسرة حتى مع اختفاء السلطة المطلقة. تتعلم البنات الصغار، المتحررات من سيطرة آبائهن الساعين لحمايتهن، كيفية إدارة شئون حياتهن، مع تحكمهن في مشاعرهن وتطويرهن لقدرتهن على الحكم؛ حيث سرعان ما يفقدن بساطتهن (التي نصيبهن منها أقل من نصيب الفيلسوف)، ويكتسبن «معرفة مبكرة بكل الأشياء.» فهن، بحسب قول توكفيل، لديهن «أعراف نقية أكثر من عقل عفيف.» ويكتسبن معرفتهن بالأعراف من خلال مراقبة العالم؛ عالم الرجال؛ مما يجعلهن يحصلن على تربية رجولية تعوضهن عن السلطة الأبوية التي يفتقدنها؛ فالرجولة ليست سمة خاصة بالرجال فقط، بحسب اعتقاد توكفيل.

غير أن المرأة الأمريكية عندما تتزوج تدخل إلى الحياة الزوجية ب «قيودها» الأخلاقية والأسرية، التي ركز توكفيل عليها على نحو خاص؛ فقال إن المرأة في أمريكا كان لها مسار حياة مختلف تماما عن ذلك الخاص بالرجل، من أجله يجب أن تترك الروح الحرة الخفيفة التي كانت تتمتع بها وهي فتاة، وتجد السعادة في بيت الزوجية بواجباته وقيوده، لكنها كانت تعاني من قيود الزوجية بشجاعة لأنها اختارت طوعا قبولها. ركز توكفيل على موضوع الاختيار هذا؛ فكلمة «اختيار» هي نفس الكلمة المستخدمة اليوم لوصف حياة مختلفة تماما للمرأة لا يسمح لها فيها بترك المنزل والعمل في حرفة أو مهنة ما فحسب، بل تكون مدعوة لذلك ويتم تشجيعها عليه. في رأيه، الاختيار لا يعني محاولة الهروب من المسار المرسوم للنساء، وإنما اختيار الزوج الذي ستعيش في كنفه؛ فبالرغم من أن المرأة في معظم الأحوال ليس أمامها إلا طريق الزواج ، فهي لديها حق اختيار زوجها، وليس عليها قبول الشخص الذي اختاره لها أبوها. إن توكفيل هنا من خلال وصفه اختيارا نعتبره أمرا مسلما به، يجعلنا ندرك أن الاختيار الحر يجب أن يتم على نحو حكيم، وحيث إن الطلاق كان نادرا في تلك الأيام، لم تكن المرأة لديها رفاهية الوقوع في الخطأ ثم تصحيحه؛ فقد كان يجب عليها أن تكون حذرة ومسئولة. والزواج بالنسبة إلى الرجل لم يكن مسألة اختيار زوجة مناسبة بقدر ما كان اختيارا لامرأة ينجذب إليها جسديا؛ ربما ما زال هذا الاختلاف في طرق تعامل الرجال والنساء مع الزواج ملحوظا حتى الآن.

من أجل اختيار المرأة زوجها المستقبلي واستقرارها في زواجها، كانت تعمل عقلها بحرية كاملة، وكان يعاونها في ذلك تعاليم دينها، ونجد أن توكفيل في كل المواضع التي ذكر فيها المرأة في كتابه، يقول إنها كانت تستعين بعقلها ودينها. وعلى الرغم من أنه قد ذكر في الجزء الأول من كتابه أن الدين هو ما يهيمن على روح المرأة، فإنه الآن يوضح أن تلك الهيمنة يشاركه إياها العقل؛ فالدين في أمريكا لا يجعل المرأة في حالة من الاعتماد الشديد على أبيها وزوجها ورجال الدين؛ ويرجع ذلك جزئيا لتأثير البروتستانتية هناك، وجزئيا أيضا للتربية الدنيوية الخاصة بها؛ فهي مستقلة بالرغم من عيشها في ظل «نير» الزواج، وهي تمارس ما يسميه توكفيل «الفضيلة» وما نسميه نحن اليوم «القيم الأسرية» باختيارها وباستخدامها لعقلها بدلا من خضوعها لسلطة دينية.

شكل 4-1: صفحة من المخطوطة الأصلية لكتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا». يتحدث توكفيل عن المرأة الأمريكية في فصل من الجزء الثاني يسمى «الفتاة كزوجة».

في أمريكا، تعتقد المرأة أن أي زواج يحتاج إلى قائد، وأن «القائد الأكثر طبيعية لرباط الزوجية هو الرجل.» تتباهى «النساء الأكثر فضيلة» ب «تنازلهن الطوعي عن رغباتهن» (هن «يقلن» ذلك)؛ ولهذا ينظر إليهن باحترام كبير، في حين ينظر إلى النساء في أوروبا، بالرغم من أن لهن مكانة أكبر (حتى إن بعضهن حكمن «إمبراطورية استبدادية»)، على أنهن كائنات ضعيفة يسعين لغواية الرجال حتى يحصلن على ما يردن. إن «عدم المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة» ما زال حتى اليوم له على ما يبدو «أصوله الدائمة في الطبيعة»، وهو أمر لم يتحداه توكفيل؛ فقد قبله بالشكل الذي اتخذه في أمريكا - أو بالشكل الذي قال إنه وجده في أمريكا - معبرا عن ذلك بالكلمات الرائعة التالية: «إذا سألني أحد عن العامل الذي أعتقد أنه يعزى إليه على نحو أساسي الرخاء الفريد والقوة المتزايدة لهذا الشعب، فسأجيب بأنه يتمثل في المكانة العالية للنساء فيه.» يا له من ثناء! لكنه لم يذكر إن كانت النساء الأمريكيات أعلى شأنا من النساء الأخريات أم من الرجال الأمريكيين؛ ربما هن أعلى شأنا من الاثنين.

لا شك أن المرأة الأمريكية اليوم، بسبب تلهفها على العمل وحرصها على مكانتها في المجتمع، ستكون مستعدة للتخلي عن ثناء توكفيل على فضيلتها بالمعنى الذي أصبح مهجورا تماما الآن. لكن علينا عدم إغفال مضمونه الفلسفي. صحيح أن الديمقراطية تدعم سيادة الشعب، التي تتطلب كما رأينا سيادة البشر، لكن البشر لا يمكنهم تجنب الضرورة أو الهروب من مصيرهم، وتتطلب سيادة البشر توافق اختياراتهم مع القوى الخارجية التي ربما يبدو أنها تخضعهم وتستعبدهم. وتوكفيل، في تصويره الرائع وربما المبالغ فيه، والمقدم على هيئة حقيقة لكنه في الواقع أمر مفترض أكثر من كونه حقيقة، أعطى للمرأة الأمريكية مهمة اختيار قبولها الضرورة بكرامة؛ فقد عارض العقد الاجتماعي الخاص بالنظرية الليبرالية الذي تجاهل الضرورة الإنسانية الخاصة بعيش الأفراد بعضهم مع بعض، وحاول أن يجعلها تبدو اختيارا، كما لو أن الفرد لديه حرية الاختيار في كل شيء. وبدلا من هذا العقد، قدم عقد الزواج وأوضح طبيعة هذا العقد من خلال التركيز على نموذج المرأة الأمريكية وحديثها.

Unknown page