17

Tocqueville Muqaddima Qasira

توكفيل: مقدمة قصيرة جدا

Genres

إن أساس مهارة أي مشرع، بحسب قول توكفيل، يكمن في تقدير النزعة الأساسية للمجتمعات الإنسانية بحيث يحدد الجوانب التي يدعم فيها جهود المواطنين وتلك التي يكبحها فيها. وفي أي نظام ديمقراطي، يجب على المشرعين وكل الرجال الأمناء والمستنيرين أن يسموا بأرواح إخوانهم المواطنين، وأن يحولوا انتباههم للآخرة، تماما كما يفعلون في أمريكا، وذلك بحسب اعتقاد توكفيل. ويجب أن يفعلوا ما في وسعهم من أجل سيادة الأفكار الروحية، لكن هذا ليس بالمهمة السهلة؛ لقد انتصر سقراط وأفلاطون على الماديين القدماء، وترجع شهرتهما - وحتى بقاء كتاباتهما مقارنة بالمقتطفات القصيرة التي وصلت إلينا من أعمال الماديين القدماء - إلى التقدير الذي يبديه الناس للجانب غير المادي من الإنسان. إن هذا ليس دليلا على صحة المذهب الروحاني، ويبدو من خلال تناول توكفيل أن هذا المذهب سيثبت صحته على أفضل نحو من خلال حقيقة أن الناس يؤمنون بصحته؛ أي من خلال سرد للطبيعة الإنسانية وتطلعها للحياة أو هدف العيش، فيما يتجاوز الجانب المادي إلى الجانب الروحاني.

والآن الوسيلة البسيطة والعامة والعملية الوحيدة لتعليم الإنسان أن له قيمة خاصة ومسئولية خاصة، هي تعليمه أن له روحا، وعلى وجه الخصوص أن تلك الروح خالدة؛ يعني هذا تعليمه الدين. لكن باعتبار توكفيل ليبراليا، أراد فقط أن يرفع من مكانة الدين وأن يعلي من شأن الجوانب الروحية فيه، وألا يؤسس لنظرية فلسفية أو كنيسة رسمية؛ فعندما تصبح الكنيسة ذات طابع سياسي، تصبح لها مصالح دنيوية وتفقد سلطتها الأخلاقية، ومعها أيضا سلطتها السياسية. وللحفاظ على المسيحية، قال توكفيل قولته المشهودة: «أفضل تقييد القساوسة بسلاسل في معتزلهم، عن السماح لهم بتركه.» تكون النتيجة في الديمقراطية هي الخلاف أو الصراع بين الرغبة في المتع المادية والدين. يريد توكفيل لهذا الخلاف أن يبقى موجودا؛ لأنه نابع من قلب الإنسان الذي به مساحة لكل من «الرغبة في متع الدنيا وحب متع الآخرة.» يجتاز قلب الإنسان الفرق بين الديمقراطية والأرستقراطية، ويوفر المبرر لعداء توكفيل للمادية الموجودة في الديمقراطية.

الفصل الرابع

استبداد الديمقراطية

يأتي الخطر الأكبر على الديمقراطية من الديمقراطية نفسها، ولمعرفة هذا، يجب الرجوع للاختلاف الواضح بين جزأي كتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا»؛ فبعد مناقشة مبدأ سيادة الشعب في الجزء الأول، غير توكفيل توجهه على نحو ملحوظ في الجزء الثاني؛ فبدلا من الحديث عن سيادة الشعب، تكلم عن «فردية» جديدة تنقلب على إحساس الشعب الواعي بأنه يحكم نفسه، وتنصب «الكائن العملاق» المتمثل في الحكومة الكبيرة في السلطة؛ فبدلا من استبداد الأغلبية، وصف «استبدادا هادئا» جديدا ينتج عن تلك الحكومة. وللتدليل على هذا التغيير، لم يستخدم عبارة «استبداد هادئ» في الجزء الأول، ولم يشر إلى «استبداد الأغلبية» في الجزء الثاني. فعليا، يبدأ التغيير من اعتبار الخطر الأساسي في الديمقراطية هو استبداد الأغلبية القائم على الاضطهاد العلني، والمتضح في استعباد السود، وصولا إلى استبداد هادئ تخضع فيه الأغلبية على نحو سلبي للطبيعة المتكبرة والعنيدة والمضطربة المميزة لأي مستبد، وتصبح «قطيعا من الحيوانات الجبانة الكادحة.»

وبأخذ هذا التغيير في الكلمات والمعنى في الاعتبار، ذهب بعض الباحثين بعيدا إلى حد الزعم بأن الجزأين يتحدثان عن «ديمقراطيتين» تختلف كل منهما عن الأخرى، وأصبح من الشائع الإشارة إلى الديمقراطية الأولى بأنها «ديمقراطية 1835»، والثانية على أنها «ديمقراطية 1840»؛ ربما تعد هذه مبالغة كبيرة. بالتأكيد، كانت لدى توكفيل فرصة لمراجعة أفكاره في السنوات الخمس التي بين نشر الجزأين. اعترف توكفيل بوجود بعض الاختلاف قائلا في خطاب إن الجزء الأول يتحدث أكثر عن أمريكا، مهد الديمقراطية، في حين يركز الجزء الثاني على الديمقراطية نفسها، لكن هذا يصف تغيرا في التركيز وليس تغيرا في الرؤية. وعلى نحو أكثر جزما، قال في مقدمته للجزء الثاني إن «الجزأين يكمل كل منهما الآخر، ويشكلان عملا واحدا.»

مع هذا الإنكار الصريح، لا لوجود اختلاف بين الجزأين وإنما لوجود انفصال بينهما، ترك توكفيل لقرائه ملاحظة التغيير وفهمه من تلقاء أنفسهم. وعندما وصف استبداد الأغلبية في الجزء الأول، كان قد قال بالفعل إن أسوأ ما فيه هو ممارسة الاستبداد على العقول، وليس الأجساد. ربما يكون الاستبداد الديمقراطي الجديد تطورا مقصودا في حجته بسبب الديمقراطية غير الرسمية، وليس تغيرا كاملا في الرؤية.

قال توكفيل أيضا في مقدمته للجزء الثاني إنه تحدث في الجزء الأول عن القوانين والأعراف السياسية، وإنه سيناقش في الجزء الثاني «المجتمع المدني» الذي يتضمن المشاعر والآراء والعلاقات التي ليست سياسية على نحو مباشر. غير أنها في نهاية الأمر سياسية أيضا؛ ولذلك عاد - في القسم الرابع من الجزء الثاني من الكتاب - لوصف تأثيرها على السياسة الديمقراطية. إن الديمقراطية ليست فقط أشكال الحكم والحالة الاجتماعية للشعب الأمريكي المتناولتين في الجزء الأول، وإنما أيضا أسلوب حياة وغاية مجتمع. يعرض الجزء الثاني كيف تنظر الديمقراطية بعين الاحترام لغايتها أو هدفها. قال توكفيل شيئا لم يسبق له أن قاله، وهو أنه ليس معارضا للديمقراطية ولا مؤيدا شديدا لها؛ ومن ثم فهو سيتحدث عنها بأمانة؛ فجمهوره المستهدف ليس أعداءها من الأرستقراطيين الذين قال عنهم إنهم إلى زوال، وإنما مؤيدوها غير الحكماء الذين تناولهم على وجه الخصوص في القسم الأول من الجزء الثاني الذي تعرض للعقل الديمقراطي.

العقل الديمقراطي

من الواضح أن توكفيل تناول الممارسة الديمقراطية في أمريكا، مؤكدا على أن الممارسة، وليس الأفكار الفلسفية، كانت هي السبيل لتعلم الأمريكيين للديمقراطية. لكنه في القسم الأول من الجزء الثاني، تحول للفلسفة لا ليتناول تأثير الفلسفة على الديمقراطية، وإنما ليتناول تأثير الديمقراطية على الفلسفة وعلى «الحركة الفكرية في الولايات المتحدة». كانت هذه هي إحدى المرات المبكرة التي يذكر فيها مفهوم «حركة فكرية»، وربما تكون هي الأولى، ولقد استخدم هذا المفهوم بالصيغة المفردة، وليس «حركات فكرية» بصيغة الجمع كما نفعل اليوم، للإشارة إلى أنه أراد أن يعرف كيف يعمل العقل الديمقراطي، وما إذا كان يعمل أم لا. قال إن الديمقراطية «لا تقاوم»؛ أي لا يمكن مقاومتها، لكن اتضح أن هناك «أنصارا» مزعومين للديمقراطية يستخدمون الكلمة بطريقة مختلفة؛ فهم يعتقدون أن البشر لا يوجد أمامهم خيار سوى الإذعان لقوى كبيرة غير محددة تحدد حياتهم وتسلبهم إمكانية التحرك («الفكري») الطوعي الواعي باتجاه الحرية الديمقراطية باعتبارها الهدف.

Unknown page