Tocqueville Muqaddima Qasira
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
بعد تأكيد توكفيل على أن الشعب الأمريكي يحكم بالمعنى الدقيق للكلمة، انتقل إلى الأدوات غير الرسمية لهذا الحكم، وأولها الأحزاب السياسية. والأحزاب في واقع الأمر غير معنية بالهوية العرقية (كما سنوضح)، وإنما بالاختلافات حول المصالح المشتركة التي تؤثر على كل المجموعات على نحو متساو. إنها شر كامن في الحكومات الحرة، بحسب قوله، متفق في ذلك مع الازدراء التقليدي لها، وهي ربما تنقسم إلى أحزاب كبيرة، أحزاب لها مبادئ مثل الحزب الفيدرالي والحزب الجمهوري الجيفرسوني، وأحزاب صغيرة ليست لها أفكار همها فقط شغل المناصب. غير أنه حتى الأحزاب الصغيرة مثل الحزب الديمقراطي الجاكسوني في وقت زيارة توكفيل لأمريكا، كانت لها «رغبتان سريتان» ترجعان لأعظم حزبين ظهرا في كل المجتمعات الحرة، وهاتان الرغبتان تتمثلان في الرغبة الديمقراطية في توسيع نطاق سلطة الشعب والرغبة الأرستقراطية في تقييد الشعب. على نحو غير رسمي، وحتى في الديمقراطية؛ حيث يكون الشعب هو من يحكم، يكون هناك حزب يرغب في تقييد سلطات الشعب، كما لو كان الطابع الأرستقراطي - حتى عندما تغيب الأرستقراطية عن المشهد - يستحيل كبح جماحه في الطبيعة الإنسانية .
تعد الصحافة الحرة في أمريكا سلاحا في يد أحزابها، وأيضا عاملا غير رسمي من عوامل سيادة الشعب؛ فتولي الشعب الحكم معناه أن يمارس الحكم بآراء اختارها، ودور الصحافة يكمن في تشكيل الآراء التي يختارها الشعب؛ هذا هو دور المثقفين، لكن في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن هناك رصيد فكري مكافئ لذلك الموجود في باريس، وكان المثقفون متفرقين بحيث لا يمكنهم بسهولة مخاطبة الأمة بأكملها. إن طابع الصحافة في أمريكا على عكس فرنسا - التي تلعب فيها دورا أكبر - كان يقوم على الهجوم الشديد على الآخرين، واللعب على وتر المشاعر، وعدم مراعاة المبادئ، ونشر الفضائح. الخلاصة أن الصحافة الحرة لها محاسن ومساوئ ويجب قبولها كما هي؛ حيث لا يوجد طريق وسط مقبول بين الصحافة التي تتمتع بحرية كاملة، وتلك المقيدة والخاضعة.
تعد الجمعيات السياسية جانبا آخر من جوانب الديمقراطية غير الرسمية، يجمع أيضا بين ما هو جيد وما هو سيئ. يتمتع الأمريكيون بحرية مطلقة فيما يتعلق بإنشاء الجمعيات السياسية التي تعد خطيرة حتى من وجهة نظر الليبراليين في أوروبا؛ غير أنه في بعض الأحيان يحدث، بحسب قول توكفيل، أن الحرية المطلقة يمكن أن تصحح حالات إساءة استخدام الحرية. حدث هذا في أمريكا حيث كان هناك تسامح كبير مع المعارضة، كما كان الحال في الأزمة الدستورية التي ألمح إليها توكفيل، والتي حدثت في عام 1832 (بسبب إعلان ولاية ساوث كارولينا بطلان التعريفتين الجمركيتين الفيدراليتين اللتين أقرهما الكونجرس في عامي 1828 و1832)، لكن مثل هذا الفعل يأتي عادة على حساب التضحية باستقلالية الفكر داخل الجمعية عندما تسعى لتشكيل جبهة موحدة. إن مثل تلك الجمعيات تحسن صنعا بفعلها هذا؛ لأنها بسعيها للتغيير «تضعف الإمبراطورية الأخلاقية للأغلبية»، غير أنها بسعيها للحصول على استحسان الأغلبية، فإنها أيضا تدعم قوتها الأخلاقية. إن سيادة الشعب تعني تساوي الجميع في الأهلية والقوة الأخلاقية، لكنها في واقع الأمر تعني حكم الأغلبية على الأفراد باسم الكل.
استبداد الأغلبية
تناول توكفيل هذا القسم من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» بروية ، كما لو أنه قد أراد نقل الأخبار السيئة بالتدريج؛ فقد تحدث عن الاستبداد في النصف الأول من الجزء الأول حيث أثنى على نظم الحكم في أمريكا، لكنه لم يثن قط على الأغلبية. ظهر مصطلح «استبداد الأغلبية» في الفصل الخاص بالجمعيات السياسية، ثم برز من خلال عنوان الفصل السابع الذي تناول «السلطة المطلقة» للأغلبية، التي قال عنها ضمن هذا الفصل إنها «استبداد» الأغلبية، ثم قال في النهاية إنها شكل جديد من أشكال الاستبداد والطغيان. هذا هو الشبح الذي يتوارى وراء مبدأ سيادة الشعب، والذي كان، وصولا إلى تلك النقطة، قد استفاض في عرضه والثناء عليه.
إن السلطة المطلقة، بحسب قول توكفيل، آمنة وهي في يد الرب؛ لأن حكمته وعدله مساويان لقدرته، لكنها عندما تكون في يد البشر الذين يعتريهم النقصان، يصبح الأمر مختلفا؛ فالسلطة المطلقة التي تكون في يد حاكم بشري تؤدي إلى الاستبداد، وهذا لا يحدث بالضرورة ولكن يحتمل أن يحدث، ما لم يكن هناك ضمان لمنع حدوثه. لم يرد توكفيل للشعب الحاكم أن تكون له السيادة غير المنقوصة التي للرب كما تشير المبادئ الليبرالية لهوبز وسبينوزا ولوك.
لكن ما الضمان الذي يحول دون استبداد الأغلبية في الولايات المتحدة؟ يشكل الرأي العام الأغلبية؛ فالسلطة التشريعية تمثل وتطيع الأغلبية، وهكذا الحال بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، كما أن الجيش يمثل الأغلبية في قالب عسكري، ويمثل نظام المحلفين الأغلبية التي تصدر أحكاما قضائية. وسيادة القانون ليست ضمانا يحول دون استبداد الأغلبية، كما أوضح توكفيل صراحة في عبارته «استبداد القوانين». لقد عرف الاستبداد بأنه الحكم على نحو يتعارض مع صالح المحكومين، وهذا يختلف عن التعسف في ظل عدم وجود قوانين؛ لذا يمكن للقانون أن يكون أداة لاستبداد الأغلبية، والحكم المتعسف يمكن استخدامه في صالح المحكومين، بالرغم من أنه إذا كان مطلقا، فمن غير المحتمل أن يكون في صالحهم. الاستبداد يعني حكم الفرد، إلا عندما تتصرف الأغلبية على نحو استبدادي؛ أي إنها تفكر وتتحرك كما لو كانت رجلا واحدا. في أمريكا، الأغلبية تداهنها حاشيتها، وهي «تعيش في حالة دائمة من الإعجاب بذاتها »، تماما كما كان الحال بالنسبة إلى لويس الرابع عشر.
إن استبداد الأغلبية يتسم بطابع جديد في الديمقراطية؛ ففي ظل النظام الملكي (أو «الحكم المطلق لشخص واحد»)، سيضرب الاستبداد جسم الضحية من أجل أن يصل لروحه، أما استبداد الديمقراطية، فإنه «يترك الجسم ويتجه مباشرة للروح.» إن استبداد الديمقراطية - وذلك بحسب تعبير توكفيل في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» - عبارة عن «استبداد هادئ»، لا يقوم بالتعذيب والإعدام، وإنما يسعى للهيمنة الأخلاقية والفكرية، وهو استبداد ليس خشنا بل ناعم، غير أنه ليس ناعما جدا. في حاشية، أعطى توكفيل مثالين لاستبداد الأغلبية: في بلاتيمور، قتل صحفيان عارضا حرب عام 1812 على يد حشد من مؤيدي الحرب، وفي فيلادلفيا، تعرض العبيد المحررون من السود لحالة من التخويف الشديد؛ الأمر الذي أدى إلى إحجامهم عن ممارسة حقهم الانتخابي. والمثال الثاني الذي يدور حول التمييز العنصري تناوله توكفيل باستفاضة في فصل مهم عن الأجناس الثلاثة الموجودة في أمريكا في تلك الفترة، وهم: البيض، والسود، والهنود.
ذلك الفصل - وهو الأخير في الجزء الأول من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، والذي يعد خاتمة تناوله مبدأ سيادة الشعب - هو الأطول إلى حد كبير. والموضوعات المغطاة فيه تتعلق بأمريكا على وجه الخصوص، بحسب قول توكفيل، وهي تتناول الأجناس الثلاثة ومستقبل أمريكا. لكن الهدف الأعمق لتوكفيل من هذا الفصل هو الكشف عن طبيعة استبداد الأغلبية وما يمكن فعله لمنع هذا الاستبداد، وذلك عن طريق تحليله للإحساس بالفخر والحرية.
كانت الإبادة شبه التامة للهنود واستعباد السود - ولا يزالان - المثالين الأكثر بشاعة على استبداد الأغلبية في أمريكا، وقد درس توكفيل الأجناس الثلاثة، وليس فقط جنسي المحكومين؛ لأنه أراد أن يوضح آثار الاستبداد على المستبد وعلى الضحايا على نحو سواء؛ فالاستبداد الذي وصفه بأنه الحكم «على نحو يتعارض مع صالح المحكومين» ظهر في الشعوب الحديثة خصوصا لأنهم ربوا على الإيمان بالسلطة المطلقة للحاكم وليس للرب؛ أي «الحق والقدرة على فعل أي شيء.»
Unknown page