شكر وتقدير
مقدمة: ليبرالي من نوع جديد
1 - نظرة على حياة توكفيل
2 - ثناء توكفيل على الديمقراطية
3 - الديمقراطية غير الرسمية
4 - استبداد الديمقراطية
5 - الإدارة العقلانية
6 - فخر توكفيل
المراجع
مصادر الصور
شكر وتقدير
مقدمة: ليبرالي من نوع جديد
1 - نظرة على حياة توكفيل
2 - ثناء توكفيل على الديمقراطية
3 - الديمقراطية غير الرسمية
4 - استبداد الديمقراطية
5 - الإدارة العقلانية
6 - فخر توكفيل
المراجع
مصادر الصور
توكفيل
توكفيل
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
هارفي سي مانسفيلد
ترجمة
مصطفى محمد فؤاد
مراجعة
هاني فتحي سليمان
شكر وتقدير
أنتج هذا الكتاب تحت رعاية مجموعة «قيم المجتمع الحر» التابعة لمعهد هوفر بجامعة ستانفورد؛ حيث أعمل زميلا أول بكرسي كارول جي سايمون. وقد ساعد في ظهوره أيضا زمالة بحثية في مؤسسة كارل فريدريش فون سيمنز في ميونيخ بألمانيا، امتدت طوال الأشهر الستة الأولى من عام 2009 بدعوة من صديق عمري د. هاينريش ماير. ويجب ألا أنسى في هذا المقام توجيه الشكر لجامعة هارفرد على كرمها الذي تبديه لي دائما؛ فهي المكان الذي قضيت فيه معظم حياتي في واقع الأمر. وأنا ممتن أيضا لكاثرين سينسن لنقدها القيم والموضوعي للكتاب، الذي قدمته لي باحترام شديد. وقد كانت زوجتي الراحلة ديلبا وينثروب، التي كان من المفترض أن تشاركني تأليف هذا الكتاب، في خاطري طوال الوقت وأنا أخط هذا الكتاب.
مقدمة: ليبرالي من نوع جديد
من هو ألكسي دي توكفيل؟ هو، بالتأكيد، كاتب صاحب أسلوب بارع، لكنه كاتب أعمال غير قصصية يتحدث عن الحقيقة والواقع بعبارات آسرة وصياغات جذابة. هو أيضا عالم اجتماع، لكنه لم يستخدم المنهجية المعقدة والحياد غير التدخلي والموضوعية المصطنعة التي يستخدمها علماء الاجتماع اليوم. وقد كان مدافعا عن السياسة ومصلحا فيها في نفس الوقت، متبعا المنهج العلمي في بعض الأحيان، لكن دون أن يسمح لهذا المنهج العلمي بأن يتعارض مع هدفيه السابقين. هل كان مؤرخا؟ نعم؛ لأنه كتب عن الديمقراطية في أمريكا، التي كانت حينها وما زالت حتى الآن مهدها الأساسي، وكتب كذلك عن النظام القديم في فرنسا، الذي كان - بحسب قوله - يرى أن الديمقراطية بدأت فيه؛ والمدهش أن هذا كان في شكل حكم رشيد من قبل نظام ملكي. لم يكن يكتب مثل المنظرين المنفصلين عن الزمان والمكان، غير أنه كان يسعى دائما وراء الأسباب ولم يكن مجرد سارد للأحداث، وقد اختار كذلك أن يكتب عن أهم الأحداث، أو «الأسباب الأولى»، على حد زعمه. هل كان فيلسوفا؟ هذا سؤال صعب، على الرغم من أن الكثيرين ممن يربطون بين الفلسفة والنظام السياسي سيجيبون على هذا السؤال بالنفي، أما أنا فأرى أنه يحمل من سمات الفلاسفة أكثر مما يبدو. يمكننا الاتفاق على أنه «مفكر»، على الرغم من أنها كلمة غير معبرة إلى حد كبير عن شخص كانت لديه شكوك تجاه الفلسفة.
هل كان رجلا عظيما؟ هذا مؤكد؛ هو رجل عظيم لنفاذ بصيرته، وأيضا لأنه أخذ على عاتقه تفسير العظمة في عصر ديمقراطي في الوقت الذي كانت فيه محل هجوم أو ببساطة مغفلة تماما. إنه رجل عظيم ربط بين الديمقراطية والحرية من جهة، والعظمة من جهة أخرى.
شكل 1: ألكسي دي توكفيل في عام 1850. عندما ولد توكفيل، نظر أبوه إلى وجهه المعبر على نحو مدهش، وقال إنه متأكد أنه سيكون رجلا عظيما.
لقد وصف توكفيل نفسه بأنه «ليبرالي من نوع جديد». أما اليوم، فهو غير معروف باعتباره ليبراليا، كما هو الحال بالنسبة إلى صديقه جون ستيوارت ميل، الذي ألف كتابا عنوانه «عن الحرية» لتفسير المبادئ الليبرالية وتأييدها. يبدو أن توكفيل كان يميل أكثر للوصف والتحليل بصفته عالم اجتماع، غير أن أسلوبه كان بارعا. وعلى الرغم من أن أعماله كانت تزخر بالرؤى الكاشفة، فإن أفكاره نبعت من رصد الحقائق بدلا من أن تظهر مرتبة على نحو منهجي في تسلسل الحجج. لكنني سأحاول أن أحافظ له على الوصف الذي أطلقه على نفسه، وأوضح أنه يستحق المرتبة الأعلى بين الليبراليين؛ فقط لأنه لم يكن منظرا كما يريد عادة الليبراليون أن يكونوا.
إذا كان توكفيل ليبراليا من نوع جديد، فهذا يعني أن الليبرالية نفسها ليست شيئا جديدا. صحيح أن كلمة «ليبرالي» قد بدأ استخدامها فقط في عصر توكفيل، لكن كان أساس تلك الليبرالية قبل ظهورها موجودا في معتقدات المنظرين السياسيين المحدثين في القرن السابع عشر، وبالأخص توماس هوبز وباروخ سبينوزا وجون لوك، الذين جعلوا الأساس الذي انطلقوا منه هو أن الإنسان حر بطبيعته. لقد كانوا يقصدون أنه قبل أن يصبح الإنسان جزءا من مجتمع أو نظام سياسي ما، لا بد أنه كان في حالة مجردة (أي «الحالة الطبيعية»)؛ حيث كان حرا في اختيار المجتمع الذي قد يرغب في الانضمام إليه ونظامه السياسي. لا يعتقد توكفيل أن الإنسان بدأ في تلك الحالة التي كان فيها «كامل الحرية»، بحسب قول لوك، ولا يعتقد أن الحرية سبقت السياسة. يبدو أن توكفيل كان يتفق بدلا من ذلك مع أرسطو، وهو الفيلسوف القديم الذي عارضه المنظرون المحدثون هؤلاء، والذي قال إن «الإنسان بطبيعته حيوان سياسي»، قاصدا أن الحرية الإنسانية تضرب بجذورها في السياسة، وليس في حالة طبيعية أصلية سابقة على السياسة.
لم يقل توكفيل إنه يتفق مع أرسطو؛ فهو لم يتفق معه في أن الفلسفة هي أسمى سبل فهم الحياة، ولم يدخل في جدل مع الفلاسفة، ونادرا ما كان يشير إليهم، وعندما كان يفعل، كان عادة ما يهاجمهم؛ ففي كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، قال عن الأمريكيين الذين كان يمدحهم لممارساتهم الحرة إنهم كانوا «أقل اهتماما بالفلسفة» من أي شعب متحضر آخر. وفي كتابه «النظام القديم والثورة»، هاجم فلاسفة أو «أدباء» عصر التنوير في القرن الثامن عشر لقيامهم بالتنظير في مجال السياسة دون أن تكون لديهم خبرة في مجال الممارسة السياسية. ولم يذكر في كلا العملين الحالة الطبيعية الليبرالية. وفي كتابه عن أمريكا، لم يناقش قط المبادئ الليبرالية الأمريكية المنصوص عليها في إعلان الاستقلال الأمريكي. من الواضح أن توكفيل كان مدركا لليبرالية القديمة، لكنه كان يتعامل معها بتجاهلها.
بدلا من ذلك، انتقل توكفيل إلى ليبراليته الجديدة التي فيها تكون الحرية متصالحة مع الدين وملهمة للإحساس بالفخر وموجهة بالمصلحة الشخصية. تحتاج الليبرالية الجديدة إلى «علم سياسة جديد ... لعالم مختلف تماما»، لم يحدد توكفيل أبعاده في منظومة من المبادئ، شبيهة بمنظومة المبادئ الخاصة بليبرالية القرن السابع عشر. وهي ليست علم السياسة الخاص بمونتسكيو؛ عالم السياسة الأكثر حداثة في القرن الثامن عشر، الذي كان بمنزلة المرجعية لليبراليين في عصر توكفيل من أمثال بنجامين كونستان وفرانسوا جيزو، وكان سابقا على الأمريكيين الذين صاغوا «الوثيقة الفيدرالية». إن علم السياسة الجديد الخاص بمونتسكيو صيغ للعالم الذي سبق ظهور الديمقراطية الحديثة التي غيرت هذا العالم لآخر «مختلف تماما»، وذلك قبل أن تخرج الولايات المتحدة الأمريكية للنور.
يتناول علم السياسة الخاص بتوكفيل الحرية كما مورست في مجتمع موجود بالفعل، هو المجتمع الأمريكي، وليس من الناحية النظرية التي تسبق الممارسة الفعلية. هذا ما جعل كتاباته تبهر قراءه وتقنعهم؛ لأنها كانت حافلة بالأدلة والملاحظات والأمثلة. غير أن تحليله - الذي كان يبدو في الغالب تلقائيا، بل حتى غير منظم أيضا - كان لا ينتقل من نقطة لأخرى دون هدف؛ فكل نقاش كان له دوره في كيان كلي تتضح ملامحه تدريجيا. سأتناول في كتابي هذا عن توكفيل خمسة جوانب عن ليبراليته الجديدة، وكلها على نحو ما متعلقة بالديمقراطية؛ لأن الديمقراطية هي العالم الجديد الذي يجب أن تعيش فيه الحرية وتزدهر.
سأعرض أولا نبذة عن حياة توكفيل وعلاقتها بالديمقراطية؛ حيث كان سياسيا إلى جانب كونه كاتبا، وليبراليا إلى جانب كونه أرستقراطيا. ثم سأتناول أفكاره عن الحكم الذاتي الديمقراطي في أمريكا التي كانت في عصره - وما زالت حتى الآن - نموذجا للديمقراطية. وبعد ذلك، سأسرد مخاوفه بشأن الديمقراطية، التي نجدها على وجه الخصوص في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ حيث عرض المخاطر الناشئة عن النظريات الديمقراطية التي تضعف الأغلبيات الديمقراطية وتقويها في الوقت ذاته. ثم بالانتقال لكتاب توكفيل «النظام القديم والثورة»، سأعرض تصويره قوة الإدارة العقلانية التي جرد بها النظام الملكي الفرنسي الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية من سطوتها، وأعرض كشفه عن العلاقة بين شيئين يبدو أن هناك مسافة شاسعة تفصل بينهما، وهما: الديمقراطية (حكم الشعب)، والإدارة العقلانية (حكم البيروقراطية). وأخيرا، سأتناول العظمة التي كان يسعى إليها توكفيل من خلال الديمقراطية، على الرغم من أنها نادرا ما تؤدي إليها؛ فالديمقراطية تؤدي في الغالب إلى إنجازات عادية جامدة ومضطربة وسلبية، ويجب على توكفيل أن يخبرنا كيف نستطيع أن ننقذها من سلبياتها. أما بالنسبة إليه، فإن «الأصدقاء الحقيقيين» للحرية هم أيضا أصدقاء «العظمة الإنسانية».
ما أهمية توكفيل بالنسبة إلينا اليوم؟ بداية، هناك اتفاق عام على أهميته؛ فمن الصعب التفكير في محلل للسياسة والمجتمع الأمريكيين له سمعة أعلى أو أوسع نطاقا منه اليوم. في أثناء حياته، ثم خلال القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين، بدت ليبراليته رتيبة وعقيمة، وقد فاقه شهرة نقاده الراديكاليون من اليسار واليمين، لكن بعد هزيمة اليمين الراديكالي في الحرب العالمية الثانية، وفقد اليسار الراديكالي لبريقه بسبب الاستبداد الشيوعي، برز الليبراليون المعتدلون، وفي مقدمتهم توكفيل. في فرنسا، قاد هذا الاتجاه الفيلسوف ريمون آرون والمؤرخ فرانسوا فيوريه. وفي الولايات المتحدة، ومع كون توكفيل محتفى به دائما هناك بسبب كتابه عنها، فإنه عاد ليلفت الانتباه هناك بعد أن أعاد الأمريكيون النظر في اعتمادهم الفكري على أفكار ماركس ونيتشه، وبدءوا في مناقشة طبيعة «التفرد الأمريكي»، الذي يمكن على أساسه أن تكون أمريكا نموذجا لكل الإنسانية. وترتب على ذلك أنه تم اقتباس كلماته من قبل كل الرؤساء الأمريكيين؛ بدءا من أيزنهاور وحتى الآن (على الرغم من عدم دقة اقتباساتهم في معظم الأحيان!) حدث هذا أيضا على نطاق واسع في الدوائر الأكاديمية من قبل علماء الاجتماع والمؤرخين، كما أن أفكاره تستخدم لإضفاء الحيوية والموثوقية على العديد من الكتب التي يؤلفها مشاهير المؤرخين والصحفيين. كما أن كتابه «الديمقراطية في أمريكا» يستهوي على نطاق واسع كلا من اليمين واليسار، وكل منهما له فقراته المفضلة منه، وكل منهما مستعد للاعتراف بمرجعية توكفيل.
لكن توكفيل لم ينل المكانة التي يستحقها بسبب نوعية فكره؛ من أسباب ذلك براعته الشديدة، التي جعلته يبدو مجرد شخص بليغ، ورؤيته للمستقبل التي جعلته يبدو ثاقب البصيرة؛ وكأن من يكون بليغا جدا في أسلوب كتابته يجب أن تكون أفكاره سطحية، ومن تكون لديه قدرة على التنبؤ الجيد يجب أن يكون عرافا. إن رغبة توكفيل في أن يكون أسلوبه جميلا يمكن أن تكون قد شغلته بعض الشيء عن التحليل الدقيق لما يقوله، ومثال ذلك تشبيهه الانتخابات الرئاسية في أمريكا بمرور عاصفة. سبب آخر لعدم التقدير الكافي لحكمته هو قوة التجريد في المجتمعات الديمقراطية، وهي قوة حاول توكفيل معارضتها؛ فالديمقراطيون الأمريكيون يحبون تعميم أو عولمة أو توحيد الأشياء حتى تكون رؤاهم عامة ومتسامحة ومقدرة لكل الاعتبارات، والمفكرون الأمريكيون الذين يعملون مع الديمقراطيين يحبون التنظير حتى يكونوا عموميين ودقيقين ومتحررين من سطوة الماضي، وحتى مؤرخونا يرغبون في كتابة التاريخ من منظور جديد؛ فليبرالية توكفيل تجبرنا على إعادة التفكير في ممارستنا الفعلية للحكم الذاتي، بدلا من المجادلة اللانهائية على نحو مجرد فيما يتعلق بماهيتنا وحقوقنا وواجباتنا. وبالرغم من شهرة توكفيل، فإننا لم نتعلم منه بالقدر الكافي.
الفصل الأول
نظرة على حياة توكفيل
ولد ألكسي دي توكفيل بعد فترة قصيرة من قيام الثورة الفرنسية في أسرة أرستقراطية أصيلة من نورماندي، وعاش من 29 يوليو 1805 وحتى 16 أبريل 1859. وكان مرتبطا بالنظام القديم في فرنسا بسبب أسرته، وبالنظام الجديد من خلال رؤيته للحرية. وقد شهد دخول الديمقراطية إلى فرنسا، وتنبأ بأنها ستنتشر في النهاية في جميع أنحاء العالم. كان اسم أسرته في الأصل هو كليرل، وقد حارب أحد أفراد تلك الأسرة مع ويليام الفاتح في معركة هاستنجز في عام 1066. وبالتدريج، حازت الأسرة على إقطاعية توكفيل في نورماندي، وفي عام 1661 أصبح اسم الأسرة توكفيل، ولا يزال قصر الأسرة موجودا ويسكنه أحفاد شقيق ألكسي.
شكل 1-1: قصر توكفيل في نورماندي. عاش ألكسي في قصر الأسرة ولم يترك وريثا يرثه.
حافظ ألكسي على لقبه وعاش في قصره المحبوب إلى قلبه، لكن بالرغم من أنه قضى وقتا كبيرا وأنفق مالا كثيرا للمحافظة على القصر، لم يترك وريثا يرثه. من العجيب أنه لم يندم على ذلك، وقد قال ذات مرة إنه لم تكن لديه «أي رغبة حقيقية في المشاركة في يانصيب الأبوة الكبير.» إن تلك النظرة للأبوة تشي بمزيج من الازدراء الأرستقراطي للإنسان العادي وعدم الاكتراث الديمقراطي بمستقبل الأسرة، هذا إلى جانب الرصانة الفلسفية، لكن زواجه كان ببساطة أكثر ديمقراطية؛ فقد تزوج - كما اعترف هو بنفسه - من امرأة إنجليزية من طبقة أقل من طبقته الاجتماعية، ليست من طبقة النبلاء (أصر على الارتباط بها، بالرغم من اعتراضات بعض أفراد أسرته).
شكل 1-2: ماري موتلي، زوجة توكفيل المولودة نحو عام 1830. وهي إنجليزية، بروتستانتية، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وهي تعد اختيارا غير اعتيادي كزوجة بالنسبة إلى رجل أرستقراطي فرنسي، لكن توكفيل كتب يقول لها: «إنك بلا مبالغة الإنسانة الوحيدة في العالم التي تعرف خبايا روحي.»
توكفيل السياسي
رفض توكفيل أن يحمل لقب «كونت»، لكنه لم يرفض كل المزايا التي منح إياها بسبب انتسابه إلى أسرة أرستقراطية، ولقد استغلها لخدمة غاية ديمقراطية فيما أطلق عليه «العالم الجديد» القائم على الديمقراطية. وبالرغم من أنه عاش حياته باعتباره أرستقراطيا، فقد اتخذ جانب الديمقراطية، وحتى يقوم بهذا، دخل في المعترك السياسي. في النظام الأرستقراطي الذي كان قائما في النظام القديم في فرنسا، كان السبيل لشغل أي منصب سياسي هو من خلال التوارث الإقطاعي؛ فدخول السياسة - في اعتقاد توكفيل - كان بطبيعته أرستقراطيا لسبب بسيط، وهو أن الحكم يستوجب تحمل مسئولية الآخرين، وهكذا يكون السياسي في مرتبة أعلى من الناس. كانت أول تجربة لتوكفيل في السياسة في ظل الملكية البوربونية يرجع الفضل فيها لمكانة والده إيرفيه، الذي كان مسئولا بالحكومة المحلية؛ ومن خلال نصحه ونفوذه، أصبح ألكسي في عام 1827 قاضيا تحت الاختبار لا يتقاضى راتبا. بعد ذلك، كان عليه الترشح لمنصب رسمي في انتخابات كانت ديمقراطية بعض الشيء. نرى هنا تطبيقا لمبدأين من مبادئه: إضفاء الصبغة الديمقراطية على نظام سياسي هو بالأساس وفي الأصل أرستقراطي، وتعلم السياسة بممارستها، وهي الفضيلة التي وجدها في الديمقراطية الأمريكية وكانت تتفرد بها. تلاقى المبدآن لأن النظام السياسي يمكن تحويله إلى النظام الديمقراطي، فقط إذا تنافس الديمقراطيون من خلال الانتخابات على المناصب التي كانت ستئول دون ذلك إلى نبلاء الطبقة الأرستقراطية دون أي مجهود. ومن أعظم رؤى توكفيل أن تلك الفضيلة الضرورية للديمقراطية لا يمكن أن تعتبر أمرا مسلما به في أي ديمقراطية، وأنها يمكن أن تكون مهددة بالفعل فيها.
كان دخول الحياة السياسية في عصر توكفيل مهمة صعبة؛ فبعد الثورة الفرنسية، عانى نظام الحكم في فرنسا من سلسلة من التقلبات الشديدة؛ بدءا من الملكية البوربونية قبل عام 1789، أو ما يسمى ب «النظام القديم»، إلى نظام جمهوري دستوري، ثم لنظام جمهوري يعقوبي في عهد سمي بعهد الإرهاب، ثم لأحداث ثيرميدور التي كانت ضد اليعقوبيين، ثم للإمبراطورية النابليونية، ثم لملكية بوربونية ثانية، ثم للنظام الملكي البرجوازي للويس-فيليب، ثم للجمهورية الثانية التي انقلب عليها وأطاح بها لويس نابليون الذي أسس إمبراطورية ثانية. إن تلك الاضطرابات جعلت رغبة أي شخص يطمح إلى الدخول في مجال السياسة مخاطرة، كما كانت مصدر قلق لأي مراقب للشأن الفرنسي. وبالنسبة إلى كاتب ومفكر مثل توكفيل، كانت تلك الأوضاع كفيلة بابتعاده عن السياسة من أجل الحصول على الراحة والسكينة في حياته الخاصة، لتتوافر له فرصة للتفكير وإطلاق العنان لموهبته الكبيرة في الكتابة. لكن توكفيل، الذي شعر بالقلق على حال فرنسا طوال حياته، شارك بكل قوة في العمل السياسي، حتى عندما كان يتعارض هذا مع رغبته في الكتابة. على سبيل المثال، في عام 1837 ترك توكفيل العمل في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» ورشح نفسه في مجلس النواب في نظام لويس-فيليب، ورغم خسارته في المرة الأولى، مع أنه كان نبيلا يترشح في منطقته، فقد أعاد الكرة في عام 1839 بشجاعة كبيرة وإصرار ديمقراطي، ونجح ثم أعيد انتخابه مرتين أخريين. وبعد سقوط نظام لويس-فيليب في عام 1848، انتخب توكفيل في المجلس التأسيسي الذي كان منوطا به التأسيس للجمهورية الثانية والمعاونة في وضع دستورها. ثم انتخب في المجلس الجديد بمقتضى هذا الدستور، وعمل وزيرا للشئون الخارجية لمدة خمسة أشهر، حتى أقال الرئيس الجديد لويس نابليون الوزارة التي كان توكفيل عضوا فيها. وفي ديسمبر من عام 1851، ألغى لويس نابليون النظام الجمهوري من خلال انقلاب، وحينها ترك توكفيل السياسة للأبد، بعد أن استمر في ممارستها بقدر ما سمحت له مبادئه وتطلبت ذلك. وكانت آخر تجربة سياسية له هي سجنه لمدة يومين على يد لويس نابليون لكونه نائبا معارضا.
ما الذي جعل توكفيل الكاتب بالفطرة يدخل معترك الحياة السياسية الديمقراطية التي كان يشك في أنه يمكن أن ينجح فيها؟ بالنسبة إلى توكفيل، حرية الكتابة والنشر لا تكتمل دون حرية سياسية، وقد أراد أن يشعر بنفسه بتلك الحرية، وذلك بأن يتولى مناصب سياسية بدلا من أن يراقب الأمور من الخارج فحسب. فلم يكن كافيا لفهم حقيقة الأمور تأملها من معتزل هادئ، كما يفعل المنظرون؛ فقد كان يرى أن رضا الروح وسكينتها، اللذين يقال في التقليد الفلسفي إنهما بمنزلة مكافأة للتأمل، لا يمكن الوصول إليهما، واعتقد أن الروح الإنسانية، وخاصة روحه، «مضطربة ونهمة». كان يحتقر «كل متع هذا العالم»، لكن حتى يتجنب «البلادة الخطيرة» التي تصيب الروح عندما تحاول تأمل ذاتها، كان يسعى وراء تلك المتع. إن المتعة الأساسية كانت بالطبع هي الإحساس بالفخر، ذلك «الميل الطبيعي» الذي لديه ل «القيام بأفعال عظيمة والتحلي بفضائل عظيمة»، وكل المتع الأخرى ثانوية؛ أي إنها مجرد وسائل للوصول لهذا الإحساس بالفخر. تطلع توكفيل وسعى على نحو واع ومقصود وموجه إلى تمييز نفسه في الحياة؛ فهو يزدري الإحساس بالفخر ويسعى إليه في الوقت نفسه.
يبدو أن توكفيل فهم الرغبة في التميز بالمعنى السياسي فقط - أي ممارسة النشاط السياسي - بدلا من المعنى العام المتمثل في إبراز الموهبة والذكاء من أجل تقدير الناس له. غير أنه كان يعتقد أن «فكره أهم من فعله»، ولقد كان محقا بالتأكيد في ذلك؛ فباعتباره سياسيا، كانت تعوزه القدرة على التواصل الفعال مع الناس العاديين، وقد كان مدركا لذلك؛ إذ اعترف (على نحو غير معلن، وذلك في عمله «ذكريات») أنه بالكاد يستطيع تذكر أسماء ووجوه زملائه العاديين في المجلس الوطني الذي كان عليه التعامل معهم، قائلا: «إنهم يشعرونني بملل شديد.» وقال أيضا إن الكتابة نوع من الفعل، ووسيلة مهمة للانخراط في السياسة. ويبدو أن الحرية السياسية بالنسبة إليه لها جانبان - النشاط السياسي والكتابة - وأنهما يلتقيان في العظمة.
في نظر أي فيلسوف، أو معظم الفلاسفة، العظمة الإنسانية شيء ضئيل؛ تضخيم ذاتي للإنسان من المفترض أن يفقد حجمه وقيمته مقارنة بالخلود، لكن توكفيل يرى عكس ذلك؛ فقد قال في أحد الخطابات: «خيالي يقفز بسهولة لقمة العظمة الإنسانية.» لم يكن الأمر أنه كان يظن نفسه إسكندرا آخر، لكنه لم يكن راضيا عن مصادر الفخر الدنيوية التي كان يسعى إليها في نفس الوقت، غير أنه كان يشك في أن الرب ضمن عظمة الإنسان. إن الاضطراب في روحه له جانبان: تكبر أرستقراطي في ازدرائه، وفي نفس الوقت مسئولية ديمقراطية للاضطلاع بالمهام السياسية التي لم يعد النظام الأرستقراطي الطبقي الآن - في ظل الديمقراطية - قادرا على القيام بها.
توكفيل الكاتب
إن الفشل النبيل كان أقصى ما كان يمكن أن يصل إليه توكفيل باعتباره سياسيا، وبقية حياته يجب النظر إليها باعتبارها أحداثا في مسيرة كاتب. في واقع الأمر، كانت تجربته السياسية الأكثر إثارة هي رصد وتسجيل الثورتين اللتين حدثتا في فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية، وذلك في عامي 1830 و1848. وبصفته قاضيا في عام 1830، كان عليه أن يقرر ما إن كان سيدين بالولاء للملك الأورلياني الجديد، متخليا عن الوريث الشرعي للملك من آل بوربون؛ وهو ما فعله بالفعل. وفي يناير من عام 1848، ألقى خطبة حذر فيها الحكومة من حدوث ثورة، لكن بالرغم من كونه عضوا في مجلس النواب، فإنه لم يكن بوسعه شيء غير هذا التحذير، وكان مرغما على مراقبة الجمهورية الثانية وهي تولد دون أن يستطيع إيقافها، وهو ما فعله بالرغم مما كان لديه من هواجس كثيرة حول مستقبلها الاجتماعي. في عام 1850، وبينما كان يعاني من مرض السل الذي كان السبب في موته في النهاية، ألف كتابه «ذكريات»، الذي كان محوره هو تلك الثورة، وكان نوعا من «أحلام اليقظة» - بحسب قوله - وكان موجها بالأساس لأصدقائه وربما للنشر اللاحق (وهو الأمر الذي لم يحدث حتى عام 1893 في واقع الأمر). هنا جاءت اللحظة التي اقترب فيها من مركز قيادة الثورة الديمقراطية التي طالما انشغل بدراستها، لكن كل ما كان يستطيع فعله هو المراقبة والكتابة، وقد فعل هذا بنجاح كبير.
تلقى توكفيل تعليمه المبكر على يد الأب ليسيور الذي كان معلم والده، وقد علمه ليسيور تعليما دينيا تقليديا، لكنه دلله وأصبح الاثنان صديقين مقربين. وعندما بلغ توكفيل السادسة عشرة، أرسله والده - الذي كان حينها حاكما على ميتز - إلى الجامعة لدراسة البلاغة والفلسفة. في ذلك الوقت، وكما حكى لاحقا توكفيل، ذهب إلى مكتبة والده ووجد هناك كتبا عن الفلسفة أحدثت «زلزالا» داخله، مما سمح ل «موجة شك عام» بأن تجتاح روحه التي كانت قبل ذلك عامرة بالإيمان، وهذا الشك الذي استمر معه وعانى منه لبقية حياته، لم يضعف إيمانه بالرب فحسب، وإنما أضعف أيضا إيمانه ب «العالم الفكري» الخاص ب «كل الحقائق» التي حددها لتكون أساسا لمعتقداته وأفعاله.
شكل 1-3: توكفيل، في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وهو يجلس إلى مكتب بجانب والده، إيرفيه دي توكفيل، في عام 1822.
تجاهل والد توكفيل الزلزال الذي حدث في روح ابنه وأرسله لدراسة القانون في باريس، وهو ما حدث من عام 1823 وحتى عام 1826. بعد ذلك بعامين، حضر محاضرات كان يلقيها فرانسوا جيزو، الذي أصبح بعد ذلك رئيس وزراء فرنسا، وكان يدون ملاحظات توضح أنه كان معجبا بأفكار جيزو عن تاريخ الإنسانية أو «الحضارة». وفي خطاب في ذلك الوقت، وصف أعمال جيزو بأنها غنية بالأفكار والألفاظ المدهشة؛ وكان جيزو وبنجامين كونستان أهم مفكرين ليبراليين فرنسيين في أوائل القرن التاسع عشر، وكان توكفيل عادة ما يقارن بهما، لكنهما كانا يعتقدان، بخلاف توكفيل تماما، أن الليبرالية يمكن أن تقيد الديمقراطية دون أن يتعين عليها التوافق معها. وأيا كان ما تعلمه توكفيل من هذين المفكرين، فإنه لم يقترب من تلك النقطة الجوهرية. لكن كانت تلك المحاضرات فرصة لأن يتقابل على نحو مباشر مع أشهر أقطاب الفكر الليبرالي في عصره.
لكن كان تعليم توكفيل يعتمد إلى حد كبير على قراءاته الشخصية لأعمال مؤرخي عصره وكلاسيكيات الفلسفة السياسية، والكتاب المفضلون لديه كانوا فرنسيين، وهم: باسكال، ومونتسكيو، وروسو، الذين قال عنهم في عام 1836 إنهم هم: «الرجال الثلاثة الذين أقضي معهم بعض الوقت كل يوم.» لكن بالإضافة إلى الكتاب الذين كان يقرأ لهم، كان لديه أصدقاء يراسلهم كثيرا، وكان يعلم نفسه بتعليمهم، ومن بين هؤلاء الباحث الأدبي جيه جيه أمبير، والمنظر الاجتماعي آرثر دي جوبينو، والاقتصادي الإنجليزي ناسو سنيور، والسياسي بيير-بول روييه-كولار، وأصدقاؤه المقربون: فرانسيسك دي كورسيل، ومدام صوفي سويتشين، وأدولف دي سيركور، وأوجين ستوفل، وصديقه منذ الطفولة لوي دي كيرجورلي.
من أهم صداقاته كانت صداقته مع جوستاف دي بومون؛ فقد أرسل توكفيل لجوستاف ثلاثة مجلدات من الخطابات، واصطحبه في رحلته لأمريكا التي استمرت لمدة تسعة أشهر فيما بين عامي 1831 و1832، قبل تأليفه لكتاب «الديمقراطية في أمريكا». وقد درس توكفيل وبومون معا القانون وعملا قاضيين في نفس المحكمة، وحضرا المحاضرات التي كان يلقيها جيزو قبل رحلتهما الشهيرة، وسافرا لأمريكا ليتعرفا على «سمات الجمهورية العظيمة» - وذلك على حد قول توكفيل في أحد خطاباته - وهما يحملان فكرة غير واضحة المعالم عن القيام بمشروع مشترك. إن خطتهما الأكثر تحديدا كانت تأليف كتاب عن إصلاح نظام السجون في أمريكا، وبالرغم من أن هذا لم يكن سوى «ذريعة» للسفر إلى هناك (كما أسر توكفيل لكيرجورلي)، فإنهما ألفا كتابا عن هذا الموضوع بعنوان «عن نظام العقوبات في الولايات المتحدة وتطبيقه في فرنسا» بعد عام من عودتهما من أمريكا، أكدا فيه على ضرورة الإصلاح، لكنهما - وعلى نحو مميز لليبرالية توكفيل - هاجما الآمال المبالغ فيها لدعاة الإصلاح.
طاف توكفيل وبومون معظم أنحاء أمريكا بحدودها المعروفة حينذاك، وبدأ الاثنان جولتهما من نيويورك، ثم سافرا باتجاه الشمال عبر بافلو، مرورا بالبحيرات العظمى، وصولا إلى ميشيجان وويسكونسن حيث توجد الحدود التي تفصل بين الطبيعة والحضارة، وبينما كان توكفيل هناك يكتب «على ظهر سفينة بخارية»، كتب تأملات موجزة ولكن رائعة، عن هدوء الطبيعة وحديث الحضارة المختلف، مقارنا بين الأمريكيين من جهة والإنجليز والفرنسيين من جهة أخرى، ومعتبرا الهنود بشرا غير متحضرين ومعادين للحضارة. وقد كان نتاج تلك التأملات كتابا بعنوان «أسبوعان في البرية» (ألفه في عام 1831 حين كان في السادسة والعشرين من عمره)، وكان يسعى لنشره، لكنه لم ينشر حتى وفاته.
كتب توكفيل وبومون يومياتهما أثناء الرحلة، وبالرغم من أن يوميات توكفيل نشرت في كتاب بعنوان «رحلة إلى أمريكا»، فقد حوى الكتاب ملاحظات غير ذات صلة، مخصصة لأعماله اللاحقة، ولم يكن منظما مثل كتاب «أسبوعان في البرية». وفي مرحلة ما أثناء الرحلة، أصبح المشروع المشترك بين توكفيل وبومون لإنتاج كتاب عن الجمهورية العظيمة في أمريكا مشروعا خاصا بتوكفيل وحده، وهو ما لنا أن نخمن أنه كان قصده طوال الوقت. وبعد أن تجاوز توكفيل وبوبون الحدود الأمريكية التي كانا يعتبرانها مؤقتة فقط، وأنها لن تستقر حتى تصل إلى ساحل المحيط الهادئ؛ ذهبا إلى كندا، ثم جنوبا إلى بوسطن وفيلادلفيا وبلاتيمور، ثم غربا إلى بيتسبرج، ثم جنوبا إلى ناشفيل وممفيس ونيو أورليانز، ثم سافرا عبر ولاية جورجيا وولايتي نورث وساوث كارولينا إلى واشنطن، وأخيرا إلى نيويورك، التي عادا منها إلى فرنسا. كانا يتنقلان باستخدام السفن البخارية، ويمكثان في أكواخ خشبية، وقد أجريا مقابلة قصيرة مع الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون، كما تحدثا باستفاضة مع العديد من الأمريكيين، سواء أكانوا شخصيات بارزة أم أشخاصا عاديين. وتمثل منهج توكفيل في البحث المسحي في طرح أسئلة تتناسب مع الشخص الذي يتم سؤاله، ثم الاستماع لما يقوله ومحاورته بحثا عن حقائق وآراء، بدلا من تصنيف ردود الفعل على المجموعة ذاتها من الأسئلة، كما يفعل أي عالم اجتماع معاصر.
نشر كتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا» في جزأين، يفصل بين نشر كل منهما خمس سنوات، وذلك في عامي 1835 و1840. حقق الجزء الأول الذي تحدث في معظمه عن أمريكا ومميزاتها وعيوبها، نجاحا باهرا، لكن الجزء الثاني، بتضمنه تحليلا منظما وهواجسه بشأن مستقبل الديمقراطية، لم يقابل بالقدر المناسب من الترحيب. جلب الجزء الأول الشهرة والصيت لتوكفيل؛ حيث أثنى عليه كبار الكتاب في فرنسا مثل شاتوبريان وسانت -بوف. وفي عام 1838، عين عضوا في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية، وفي عام 1841، وهو في سن السادسة والثلاثين، انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية حيث مارس حياته الاجتماعية، خاصة في سنوات حكم لويس نابليون بعد أن خرج توكفيل من الحياة السياسية. ألقى توكفيل محاضرة عن علم السياسة في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في عام 1852، مميزا هذا العلم عن «فن الحكم»؛ لأنه يركز على منطق الأفكار بدلا من الجوانب المعتادة الأساسية الضرورية للحكم. لكن علم السياسة الخاص بتوكفيل اعتمد في منطقه على تلك الجوانب المعتادة بعد تنقيحها، بدلا من معارضتها وتفنيدها كما كان يفعل منظرو الليبرالية.
لم تكن أمريكا هي الوجهة الوحيدة التي قصدها توكفيل؛ فقد سافر إلى صقلية في عام 1827، وهي الرحلة التي نتج عنها كتابه الأول. وبعد رحلته لأمريكا، سافر إلى إنجلترا في عام 1833، ثم إلى إنجلترا وأيرلندا في عام 1835؛ متلهفا إلى رصد تطور الديمقراطية في أكثر الدول ليبرالية في أوروبا، ومهتما بالإدارة الحكومية اللامركزية التي وجدها في أمريكا، وراغبا في دراسة الفارق بين الأرستقراطية الإنجليزية والأرستقراطية الفرنسية. وقد سافر أيضا إلى سويسرا في عام 1836، وإلى الجزائر في عامي 1841 و1846، وقد كتب تقارير عن الفقر («تقرير عن الإملاق»، 1835) والعبودية والمستعمرات. وفي عام 1850، بعد أن ترك السياسة، انكب على تأليف كتاب عن الثورة الفرنسية التي طالما تأملها، وهو المشروع الذي مات قبل أن يكمله، غير أنه نشر الجزء الأول منه، الذي كان بعنوان «النظام القديم والثورة»، وذلك في عام 1856. كان توكفيل، بحسب قوله في خطاب لكيرجورلي، يسعى لأن يكون هذا الكتاب «عملا عظيما» يعد «مزيجا، إن أردنا الدقة، بين التاريخ والتاريخ الفلسفي»، مما يقدم تقييما عاما ل «مجتمعاتنا الحديثة» ومستقبلها المحتمل. وقد أعلن أن «قضيته الأساسية هي قضية الحرية والكرامة الإنسانية»، وبالرغم من أنه ترك السياسة، فقد بقي فيها بكتاباته، ومن خلال دراسته للتاريخ، درس للآخرين الفلسفة.
الفصل الثاني
ثناء توكفيل على الديمقراطية
لم يبدأ توكفيل بالثناء على الديمقراطية، ولم يبالغ في الثناء عليها مطلقا؛ بل أثنى عليها فقط وهو يصفها وهي قيد التطبيق. بدأ توكفيل كتابه «الديمقراطية في أمريكا» بقوله إن الديمقراطية حقيقة، «حقيقة إلهية»، وهكذا أبعد نفسه عن مواقف المروجين والمعارضين لها (حيث كان لا يزال في عصره معارضون لها). ثم ذكر أن الديمقراطية كانت أسهمها في تصاعد في كل مكان، وقد وصلت لقمة نضجها في أمريكا، ولم تكن بحاجة إلى من يروج لها، ولا يمكن كذلك معارضتها. كان توكفيل يعتقد أن المروجين والمعارضين للديمقراطية ليسوا على صواب، وخاصة المروجين لأنهم أكثر انسجاما مع العهود الديمقراطية؛ ومن ثم يكون رأيهم أكثر جاذبية من رأي الرجعيين؛ فالديمقراطية يجب أولا أن تحلل وتقيم نقاط القوة والضعف فيها، ثم يمكن بعد ذلك مدحها على نحو مفيد بهدف التأكيد على رؤية المروجين لها ومواجهة أفكار المعترضين عليها. قيم توكفيل الديمقراطية بدلا من أن يفترض أنها أسلوب حكم جيد، أو نظام الحكم الوحيد المتكامل.
صورة الديمقراطية
ما هي الديمقراطية؟ يعرفها توكفيل في البداية على أنها المساواة في الأوضاع، وأنها أسلوب حياة. فقط عندما أتى على ذكر البيوريتانيين، بدأ يصفها بأنها شكل من أشكال الحكم؛ فالديمقراطية باعتبارها أسلوب حياة لا تستحق ثناء كالذي تستحقه عندما تعني الحكم الذاتي. بالنسبة إلى تعريف الديمقراطية بأنها المساواة في الأوضاع، ربما نعترض قائلين إن هناك جوانب عدم مساواة واضحة في الديمقراطية اليوم - فضلا عنها في عصره - لكنه كان سيجيب بأن المساواة في الأوضاع كانت تتزايد، وأنه من طبيعة الديمقراطية أن نصبح أكثر ديمقراطية، كما لو كانت المساواة هي الهدف الدائم الوحيد حتى لو كان دائما هدفا غير متحقق. كان في ذهنه الفارق بين الديمقراطية والأرستقراطية، بين الأفراد صعودا وهبوطا على سلم السياسة من جهة والتسلسل الهرمي الثابت المعتمد على الفروق الطبقية من جهة أخرى. وعندما عرف الديمقراطية، ذكر أنها نهج عمره 700 سنة، ترجع بداياته إلى إتاحة الكنيسة الرتب الكهنوتية للجميع، وليس فقط للنبلاء؛ وهو اتجاه خفي بدأ يبرز الآن و«يتجلى بوضوح» في نظام الحكم في أمريكا، وهي الدولة التي ذهب إليها توكفيل لمعرفة «صورة الديمقراطية نفسها ».
غير أنه بخلاف المنظرين الليبراليين لم يحدد منطق الصورة، مع أنه قال إنه سيستكشف «تبعاتها النظرية». لقد تناول الممارسة الفعلية للديمقراطية من «نقطة انطلاقها»، وهي قدوم البيوريتانيين (المتطهرين) إلى أمريكا، وقد اعتبر هؤلاء أنفسهم حجاجا؛ لأنهم جاءوا إلى أمريكا سعيا وراء فكرة وليس من أجل المال أو المغامرة. وتلك الفكرة، بالرغم من أنها كانت دينية بالأساس، كانت أيضا نظرية سياسية خاصة بالديمقراطية، يصبح الشعب في ظلها السيد، وتلك النظرية هي التي تحكم كل المجتمع، وتحدد الأعراف وتقيم نظام التعليم العام. ظهر أن الديمقراطية ليست فقط متعلقة بالمساواة، وإنما أيضا بالحكم الذاتي الذي يسود ويوجه مجتمعا ديمقراطيا أو «حالة اجتماعية». ولا تتمثل نقطة الانطلاق في الحالة الطبيعية التي تنص عليها النظرية الليبرالية، التي ليس فيها سوى الأفراد - ولم يكن فيها للمجتمع وجود بعد - وإنما تتمثل في وجود مجتمع من نوع ما، يكون ديمقراطيا وليس أرستقراطيا.
إن الديمقراطية حالة اجتماعية معينة لا تؤدي إلى الترابط الاجتماعي الشديد، والمثال على ذلك في أمريكا التغيير الذي حدث في قانون الميراث، من البكورة (أي حق الابن البكر في إرث التركة كاملة) إلى المساواة بين الأبناء في الميراث أو توريث الآباء باختيارهم بعض الأبناء. لقد كان الهدف من نظام البكورة في الميراث هو عدم المساس بالملكيات العقارية الأرستقراطية وغرس الافتخار بأسلافنا، في حين أن نظام المساواة في الميراث حرر الأفراد من القيود الأسرية وجعلهم يفكرون في المستقبل بدلا من الماضي. لقد انتشرت المساواة في جميع أنحاء المجتمع، في بعض الأحيان في شكل شغف من أجل التميز القائم على التنافس الذي يرفع الأشخاص البسطاء لمنزلة العظماء، وقد وصف توكفيل هذا الشغف بأنه «شغف إنساني ومشروع»، وفي أحيان أخرى بأنه ميل منحرف للتحاسد يشجع الضعفاء على النزول بالأقوياء لمستواهم. وبدلا من إنتاج الحالة الطبيعية للديمقراطية، كما يرى هوبز ولوك، تنتج الديمقراطية شيئا يشبه الحالة الطبيعية، لا يكون فيها الأفراد بالضرورة في صراع، وإنما ليسوا في حالة ارتباط قوية بعضهم مع بعض وحسب.
كيف يكون الأفراد الديمقراطيون أقوياء وليسوا ضعفاء؟ لم يقل توكفيل إنهم بالضرورة أقوياء أو ضعفاء؛ إن مفهومه الخاص ب «الحالة الاجتماعية» إذا فصلناه عن السياسة، يبدو وكأنه يندرج ضمن علم الاجتماع، وهو علم كان لا يزال في بداياته في عصره. لكنه بخلاف علماء الاجتماع وعلماء العلوم الاجتماعية الأخرى المعاصرة، لم يكن يعتقد أن السمات الاجتماعية هي التي تحدد الأمور السياسية؛ لأن الاعتقاد بذلك يتجاهل تأثير السياسة على المجتمع الذي أوضحه توكفيل من خلال قانون الميراث. فهل هذا القانون نتج عن الحالة الاجتماعية أم حددها؟ راوغ توكفيل هنا حيث قال إن الحالة الاجتماعية هي في الوقت نفسه نتاج حقيقة أو قانون، كما أنها السبب الأول لمعظم السلوكيات الاجتماعية. ويبدو أن أهمية الحرية السياسية محل نظر؛ فما أهمية الحرية السياسية إذا كانت السياسة نتاجا لحالة اجتماعية معينة ولا يمكنها إقرار المسائل المهمة؟ لذا، وبالرغم من قوله بأن الحالة الاجتماعية يمكن اعتبارها السبب الأول لمعظم السلوكيات الاجتماعية، انتقل للحديث عن سيادة الشعب، ملمحا لأهمية من يحكم، لكنه ترك الانطباع بأن الديمقراطية تحكمها حالتها الاجتماعية بقدر حكمها لذاتها.
ذهب توكفيل بعيدا لحد أنه قال: «الشعب يهيمن على العالم السياسي الأمريكي كما يهيمن الرب على الكون»، فالشعب هو «سبب وغاية كل شيء.» لكن إذا كان الشعب الأمريكي مثل الرب، فيبدو أنه سيحل محل الرب باعتباره السيد؛ فالإنسان وليس الرب هو السيد، وهذا تحول واضح في الفكرة البيوريتانية التي قال عنها إنها كانت «نقطة الانطلاق». كانت الديمقراطية البيوريتانية ثيوقراطية، ولن يكون توكفيل ليبراليا إذا كان هذا هو شكل الديمقراطية الذي يريده. تضع الحرية السياسية حدودا للسياسات الديمقراطية؛ مما يمنع الدولة من الفرض الصارم للأعراف التي نصفها اليوم بالمتشددة لأنها ترغب في أن يكون الأفراد الديمقراطيون أحرارا. كان توكفيل من أبرز دعاة مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، لكنه أثنى على السياسات الديمقراطية التي جلبها البيوريتانيون لأمريكا؛ لأن الشخص لا يكون حرا إلا إذا حكم بنفسه، وفي ظل تلك العلاقة المحيرة بين الإنسان والرب، أوضح أن الحرية تدين للدين، لكنها في نفس الوقت في خصومة معه.
نظام البلدات
إن الأفراد الأحرار في حد ذاتهم ضعفاء، ويجب أن يفسر توكفيل كيف يمكن أن يصبحوا أقوياء بحيث تؤدي المساواة الديمقراطية إلى زيادة قوتهم بدلا من التشجيع على التحاسد فيما بينهم. إن ما يقوي الأفراد هو الارتباط أو الاجتماع، وهو موضوع رئيسي بالنسبة إلى توكفيل، ناقشه عند تناوله للبلدات في نيو إنجلاند. في النظام الأرستقراطي، يكون الأفراد ثابتين في تسلسل هرمي بين من هم أعلى منهم ومن هم أدنى منهم، وهكذا تكون علاقات الارتباط محددة مسبقا بالنسبة إليهم؛ لكن في النظام الديمقراطي، يكون الناس متحررين - أو محرومين - من تلك القيود، ويكون عليهم أن يصنعوا تلك الارتباطات بأنفسهم. وللقيام بهذا، فإن لديهم نزعة طبيعية للارتباط مع الآخرين برغبتهم، وتأتي تلك النزعة في المرتبة التالية فقط لحبهم لذواتهم. مرة أخرى، يعد هذا تعارضا آخر مع مفهوم «الحالة الطبيعية» الذي يرى أن الأفراد في صراع بعضهم مع بعض.
تتكون البلدة على نحو تلقائي وتكون عرضة للتدخل في شئونها؛ إنه «أمر شائع في الطبيعة أنه مع اجتماع الناس في مكان ما، يتحول هذا المكان لبلدة من تلقاء نفسه»، غير أن هذا الأمر موجود فقط في أمريكا، من بين كل الأمم المتحضرة؛ والسبب في ذلك هو أن حكومة البلدة تشبه «مدرسة ابتدائية» للحرية؛ أي إنها غير ناضجة وغير ذات خبرة؛ ولذا تكون السلطات الأعلى مستعدة دائما للتدخل في شئونها وتصحيح أوضاعها. إن أمريكا وحدها هي التي لديها الحكمة، أو الحظ السعيد الذي كان توكفيل من الحكمة بحيث يشير إليه، لعدم التدخل في شئون حكومات البلدات. وصف توكفيل هذا بأنه «شكل» من أشكال الحكومات لأنه منظم وواضح المعالم وعام؛ فهو ليس خفيا ولا معزولا بل يتجلى بوضوح شديد. وتتبع حكومة البلدة بالتأكيد حكومة الولاية، التي انتقل توكفيل لتناولها بعد ذلك، لكنه بدأ تحليله للديمقراطية باعتبارها شكلا من أشكال الحكم من أسفل لأعلى، من حكومة البلدات الأكثر تلقائية.
ينص مبدأ سيادة الشعب على أن الجميع متساوون في «الفهم والخيرية والقوة»، غير أنه إذا أراد الفرد أن يقوم بأي شيء خارج عن قدراته الفردية، يجب أن يرتبط مع الآخرين، وإذا ارتبط معهم، يجب أن يطيع من يتولى أمرهم. استخدم توكفيل الكلمة الإنجليزية
selectmen (مسيري الأمور المحلية) للإشارة إلى المسئولين عن أي بلدة، ولو كان استخدم كلمة فرنسية بدلا منها، لاختار كلمة
elite (النخبة أو الصفوة). والآن حيث إن الجميع متساوون في الأهلية، فلماذا يجب على بعضهم طاعة البعض الآخر؟ إن الفرد يطيع من هم مسئولون عنه، ليس لأنه أقل منهم، ولكن لأن تلك الطاعة مفيدة؛ فهو يتخلى عن كبريائه من أجل إنجاز شيء ما، مثل إنشاء طريق لا يمكنه إنجازه بنفسه. وفي النهاية، لا تزال لديه كبرياء الإنجاز إلى جانب متعة المخالطة الاجتماعية؛ فلقد تعلم، كما لو كان في مدرسة ابتدائية، أنه يمكن أن يطيع غيره وهو لا يزال حرا. في مقدمة توكفيل لكتابه «الديمقراطية في أمريكا»، ذكر أن الديمقراطية في أوروبا «تركت لأهوائها الهمجية»؛ أما هنا في البلدة الأمريكية، فهي تزدهر بينما تتمتع بالمشروعية التي لا تتمتع بها هناك.
تعلم أمريكا نفسها من خلال البلدات كيف يمكن العيش في حرية، وتوكفيل - من خلال تحليله - كان يعلم أمريكا ماذا تفعل. اعترف توكفيل أن حكومة البلدة غير موجودة في كافة أنحاء أمريكا، وقد بالغ بلا شك في تقدير فضائلها والحث على تقليدها من خلال مدحه لها. فإذا كان مبدأ سيادة الشعب يعمل من أعلى لأسفل بدلا من أسفل لأعلى، كما في فرنسا، فسيكون مفروضا ولن يكون محسوسا؛ فحكومة البلدة، التي يكون فيها العديد من المناصب بالانتخاب، ترضي الكثير من الطموحات البسيطة وتربط المواطنين بحكومتهم التي يعتبرونها ملكهم، وهي تجعلهم يعتادون على أشكال الحكومات؛ «الأشكال التي دونها تنشأ الحرية فقط من خلال الثورات.» قال توكفيل إن الديمقراطية تزدهر من خلال الانتخابات، وأمريكا مزدهرة لأن لديها انتخابات، وليس الأمر أن لديها انتخابات بسبب أنها مزدهرة.
هناك شكل آخر يعلم الحكم الذاتي للأمريكيين، وهو نظام المحلفين؛ فهو بمنزلة «مدرسة مجانية ومفتوحة دائما يصبح كل عضو فيها مدركا على نحو جيد لحقوقه .» في إنجلترا، كانت هيئات المحلفين المكونة من النبلاء عبارة عن نظام أرستقراطي، لكنها في أمريكا نظام ديمقراطي يعلم المواطنين كيف يصدرون أحكاما قضائية؛ أي كيف ينفذون القوانين العامة، التي من نوعية القوانين التي تكون السلطات التشريعية الديمقراطية راغبة في إقرارها، في بعض الظروف التي قد تحتاج فيها العدالة لبعض التعديل. وهو يعلم «كل شخص ألا يتنصل من تحمل مسئولية أفعاله الشخصية»، وهي فضيلة سياسية إنسانية، بحسب تعبيره. أثنى توكفيل على هذا النظام ثناء كبيرا؛ فهو «أكثر الوسائل حيوية في جعل الناس يحكمون»؛ ربما تكون تلك مبالغة مقصودة تتناسب مع استراتيجيته الخاصة بالتوجيه أو الحث التي تتخفى وراء الثناء. وأضاف أن ما يجعل الناس يحكمون «هو أيضا أكثر السبل فاعلية في تعليمهم كيف يحكمون.» ففي أمريكا، يتعلم الشعب الحر بالفعل وليس بالرجوع لنظرية ما قبل الفعل.
بوجه عام، الحكم على الآخرين من خلال نظام المحلفين يحد من سيادة الشعب، معلما إياه أن سيادته لها حدود، وأنه يجب أن يكون لها إطار قانوني، حتى إن القوانين الجيدة، عند تنفيذها، ربما تكون قاسية جدا. وفي نفس الوقت، يكشف انتخاب القضاة في الولايات الأمريكية أنه في الانتخابات تكون للشعب بوجه عام سلطة تعسفية للاستبعاد لا يمكن تبريرها أو مواجهتها على نحو كامل؛ فمهما تم تقييد سيادة الشعب وتحديدها، فهي لا تزال محتفظة بعنصر ما من اللاعقلانية؛ ففي نهاية الأمر قد لا تصبح تلك السيادة أكثر عقلانية من تلك الخاصة بأي نظام ملكي؛ فكل منهما له أهواؤه. فلا يمكن أن تكون هناك عقلانية كاملة في الحرية، ويجب على المواطنين الأحرار الذين يرون أن حزبهم ومرشحيهم قد خسروا، أن يتعلموا كيف يتقبلون قرار الشعب بهدوء شديد.
وفيما يتعلق بالفضائل السياسية لحكومات البلدات ونظام المحلفين، سلط توكفيل الضوء على خصيصة مهمة من خصائص مركزية الحكم، كثيرا ما يستشهد بها حتى الآن؛ فمركزية الحكم أمر جيد إذا كان الهدف منها توحيد القوى من أجل خدمة مصالح الناس، لكن مركزية الإدارة تضعف من سيادة من يخضع لها؛ لأنها، بمطالبتها بالتوافق، تميل لإضعاف «روح المدينة» فيهم، وهي ممارسة الحكم الذاتي إلى جانب مقاومة الغرباء المنعكسة في الحرية المحلية المتمثلة في حكومة البلدة ونظام المحلفين. اعترف توكفيل أن الإدارة المركزية يمكن أن تكون أكثر فاعلية، لكنها تصبح أكثر نهما للسلطات والمزايا، وتتسع دائرة تأثيرها، وتصبح غير مدركة للأضرار الكبيرة التي تحدثها عندما تنتزع الإدارة من يد الشعب، رافضة تعاونه المجاني ومعطية الإدارة لمسئولين بيروقراطيين يوجهونها من المركز. فرنسا نموذج مجسد لهذا الخطأ؛ حيث كانت إدارة النظام الملكي من قبل رؤساء وزراء مثل الكاردينالين مازاران وريشليو مثالا سيئا حذت حذوه الثورة الفرنسية؛ لكن الولايات المتحدة بفيدراليتها حافظت على نظام الإدارة المحلية، وضربت مثالا جيدا للامركزية الإدارية في إنجلترا، وهو شكل آخر للإدارة مأخوذ من النظام الأرستقراطي لكن تحول للنهج الديمقراطي.
إن نظام الفيدرالية في أمريكا هو الاتحاد المنشأ بموجب الدستور، وانتقل توكفيل من الحديث عن حكومة البلدات التي وصفها بأنها شكل حكم طبيعي وتلقائي، وعن حكومة الولايات الفردية التي وصفها أيضا بأنها شكل حكم طبيعي يشبه السلطة الأبوية، إلى الحديث عن الاتحاد الذي سماه «إنجازا مبدعا». ثم أثنى على تأسيس الأمريكيين دستورهم فيما بين عامي 1787 و1789، مادحا إياهم بأنهم «شعب عظيم حذره مشرعوه» من حدوث أزمة، فتدبر الأمر لمدة عامين وحدد عمق المشكلة، ثم وجد الحل دون عجلة وخضع له «دون أن يكلف الإنسانية قطرة دمع أو دم واحدة.» كان هذا الإنجاز «جديدا في تاريخ المجتمعات»، وتماشيا مع مبدأ سيادة الشعب، أرجع الفضل في وضعه وتطبيقه للشعب الأمريكي، ثم أثنى بعد ذلك على مؤسسي أمريكا والحزب الفيدرالي لقيادتهم الحكيمة للأمر، الذين وصفهم بأنهم: «أفضل العقول وأنبل الشخصيات التي ظهرت في العالم الجديد.» ويبدو أنه كان يشير إلى أن السيادة تتجلى أحيانا في الصبر والإذعان لمن لديهم فضيلة أعلى، وليس في الحسم.
الجمعيات والمصلحة الشخصية
إن ما يمكن أن يطلق عليه عالم الاجتماع اليوم جماعة يسميه توكفيل جمعية. توحي الكلمة بأن المجتمع يتكون من ارتباط الشخص بآخرين. إن عملية الارتباط هذه طبيعية بالنسبة إلى البشر، وإن كانت أقل طبيعية من رغبة الشخص في العيش بمفرده. لكن في الديمقراطية الكل متساوون؛ ومن ثم غير معتمدين بعضهم على بعض؛ ولذلك فإن الرغبة في المساواة تميل لإضفاء الفردية على المواطنين، ويجب على الأفراد القيام بعمليات الارتباط هذه بأنفسهم، ولا يمكن اعتبارها أمرا مسلما به. ويطلق توكفيل تقريبا على أي مجموعة مكونة من أكثر من شخصين جمعية؛ مثل: الزواج، والنادي الخاص، والشركة المشتركة، والحزب السياسي، والبلدة، والأمة، وحتى الجنس البشري. هنا تظهر سمة متفردة أخرى لليبراليته؛ ففي حين أن جون ستيوارت ميل، وهو ليبرالي أكثر نمطية، حاول جاهدا الدفاع عن قيمة الفردية فيما يتعلق بعدم الامتثال لرأي الأغلبية، فإن توكفيل توسع في استعراض مزايا الارتباط بالنسبة إلى المجتمع الليبرالي؛ فقد كان أقل وثوقا من ميل في أن الأفراد يمكن أن يتعلموا التصدي للأغلبية، وأراد أيضا إقناع الأغلبية بأنها لا تحتاج إلى طلب التوافق.
إن الجمعيات السياسية هي النوع الأول الذي تناوله توكفيل، وفي الجزء الثاني أضاف تمييزا بين الجمعيات السياسية والمدنية، وهذان النوعان من الجمعيات يندرجان تحت الجمعيات غير الرسمية لما أطلق عليه «المجتمع المدني»، وهو مصطلح مستخدم على نطاق واسع اليوم للإشارة إلى الحيز بين الدولة والفرد، لكن توكفيل استخدمه أيضا للإشارة إلى البلدة، وكذلك الأشكال الأخرى من الحكومة. إن الارتباط عملية سياسية، أو يميل لأن يكون كذلك؛ فهو فعل نابع من الحرية السياسية. قال توكفيل إن أي جمعية مدنية تكون بين أشخاص لهم مصالح متشابهة، وأي جمعية سياسية تكون بين أشخاص مختلفين، لكن يبدو أنه لم يكن مهتما بالتشديد على مثل هذا التمييز؛ لأنه في واقع الأمر وصف مثاله الرئيسي - الذي كان الجمعيات الداعية للاعتدال في معاقرة الخمور في أمريكا في القرن التاسع عشر - بأنه مدني في بعض المواضع، وسياسي في مواضع أخرى. في الولايات المتحدة اليوم، تتألف جمعيات مثل رابطة السلاح الوطنية أو الرابطة الأمريكية للمتقاعدين، من أشخاص لديهم مصالح متشابهة، ولكنها ذات طابع سياسي واضح جدا.
إن السبب وراء عدم وجود تمييز واضح بين الجمعيات السياسية والمدنية، هو أن الأمريكيين تعلموا كيفية الارتباط من الارتباط في السياسة؛ فالشعب يعلم نفسه، بحسب قول توكفيل، أولا من خلال نظامي البلدات والمحلفين، ثم يأتي دور الجمعيات بوجه عام التي تعد بحسب تعبيره «مدارس عظيمة مجانية يذهب إليها كل المواطنين ليتعلموا النظرية العامة للارتباط.» ربما تسأل: ما هي تلك النظرية العامة؟ لم يجب توكفيل على هذا السؤال، لكنه تحدث عن فن وعلم الارتباط، جامعا على نحو ما بين الفعل الإنساني والفهم الإنساني؛ بحيث تنبع النظرية من الممارسة الفعلية لعملية الارتباط.
إن تلك النظرية يمكن للشعب تعلمها. والارتباط نوع من التعليم المجاني؛ لأنه غير معقد نسبيا، ولا يفرض توقعات غير معقولة على المواطنين الديمقراطيين، الذين هم - في النهاية - بشر؛ فالأمريكيون يتوقعون أن تكون مصلحتهم في المقدمة، ولا يعتقدون أنه مطلوب منهم ألا يهتموا بمصلحتهم الشخصية؛ فالرؤية الأمريكية (أو الأنجلو أمريكية) في هذا الصدد واضحة في المصطلح الشهير الذي صاغه توكفيل، وهو: «المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد»، التي هي في المقام الأول المصلحة الشخصية التي يجب أن يضعها الفرد في اعتباره. لم يقل توكفيل إنه يتفق مع تلك الرؤية، لكنه ذكر أن الأمريكيين كانوا يؤمنون بها.
عند إشارة توكفيل لاعتبار الأمريكيين المصلحة الشخصية هي الأساس، اختلف عن معظم النقاش الدائر حاليا حول المشاركة الديمقراطية التي تسمى أحيانا ب «التوجه الجماعاني»، والتوجه الجماعاني هو المقابل للتوجه القائم على المصلحة الشخصية؛ فهو يركز على الغيرية والإيثار من أجل الصالح العام، في مقابل الأنانية والرغبة في الربح. في نظر توكفيل، تنبع الغيرية من أجل الصالح العام من المصلحة الشخصية، وهي مفيدة لها وليست متعارضة معها أو تلغيها. اليوم أيضا من المفترض أن المجتمع الوحيد هو المجتمع الديمقراطي، وهو مجتمع يقوم على المساواة بين أفراده، وذلك كما يتضح من خلال عبارة «المشاركة الديمقراطية»، لكن بالنسبة إليه، هناك أيضا المجتمع الأرستقراطي الذي يرتبط الأفراد فيه من خلال نظام طبقي. والمجتمع الديمقراطي، كما لاحظنا من خلال حكومات البلدات، يستفيد من مواهب وطموحات أفراد غير متساوين ويعطي فرصا لهم، بينما يتكون هو في حد ذاته من أفراد متساوين.
بالطبع، يعتمد الكثير على ما هو متضمن في جزء «المفهومة على نحو جيد» من مصطلح توكفيل الشهير، الذي أحيانا ما يترجم: «المفهومة على نحو صحيح»، كما لو أن الفائدة التي لا تكون في صالح الفرد على نحو مباشر يمكن اعتبارها على نحو صحيح ضمن المصلحة الذاتية للفرد، أم هل من الأفضل افتراض أن المصلحة الشخصية «المفهومة على نحو جيد» يجب أن تصاحبها أشياء يبدو أنها ليست في صالح الشخص، مثل الإحساس بالفخر والفضيلة؟
أثيرت تلك النقطة في نقاش توكفيل حول «ضرورة وجود نظم» داخل الديمقراطية، وهو موضوع تكرر كثيرا عبر كتابه؛ ففي موجزه في نهاية الكتاب، ألمح توكفيل إلى أن الديمقراطيين «لا يدركون بسهولة فائدة النظم؛ فهم لديهم نفور فطري منها.» إن النظم أو الرسميات هي المؤسسات (التي لها قواعد ومسئولون)، أو الأعراف (المراسم والطقوس والمجاملات و«ارتداء ملابس رسمية»)، أو التشريعات القانونية (مثل مراعاة القواعد القانونية) التي تجعل الفرد يحترم الآخرين، وتساعده على التعاون المشترك مع أشخاص ليسوا بأصحابه أو من عائلته. بالنسبة إلى الديمقراطيين، عادة ما تبدو تلك الأشياء مجرد أشياء فرعية أو أمور مزعجة تعطل التحقيق السريع لرغباتهم أو تحول دونه. إن تلك الأشياء تبدو مزعجة وغير منطقية في أي ديمقراطية، مثل «التصرف على نحو رسمي» كما لو أنك ترغب في أن تظهر على نحو أو آخر في هيئة مختلفة عن هيئتك؛ لكن هذا - بالنسبة إلى توكفيل - هو بالضبط ميزتها.
إن النظم تضع حواجز بين الناس، مثلما يكون الحال عندما توجد الهيئات الرسمية عدم مساواة بين الحكومة والشعب؛ فهي تضع عقبات أمام تحقيق الناس رغباتهم، عندما تتطلب الرسميات مراسم وآدابا معينة. والنظم تتطلب احترام القواعد القانونية عندما تجبر الحكومة على تمرير قانون بدلا من إصدار مرسوم أو التصرف بحسب أهوائها. إنها تحافظ على المسافات بين الناس عندما تفرض ضرورة احترام الخصوصية أو الكرامة الإنسانية. إن الشعوب الديمقراطية تكره النظم لأنها تريد أن تحقق رغباتها على نحو مباشر، مفضلة الفعل على الكرامة، والوضوح على الأدب، والنتيجة على الإتقان؛ وإجمالا، الموضوع عن الشكل. إن مثل تلك الشعوب تكون نافدة الصبر بطبيعتها، بسبب المساواة بين أفرادها التي تجعلهم غير مضطرين للتأدب مع الآخرين الأكثر أهمية منهم، ومحاولة إرضائهم. إن المصلحة الشخصية بمعناها الأساسي تناسب هذا الميل؛ حيث إنها تتطلب النظر إلى كل الأشياء من منظور صالح الفرد - كما نقول اليوم على نحو براجماتي - بدلا من منظور ملاءمتها للأصول والنظم. غير أن الشعوب الديمقراطية التي لا تحترم كثيرا النظم في واقع الأمر تحتاج إليها أكثر؛ فميزتها الرئيسية - بحسب قول توكفيل - هي أن تكون بمنزلة حاجز بين القوي والضعيف، خاصة بين الحكومة والمحكومين؛ مما يجبر الحكومة على التمهل ويمكن المحكومين من أن يكون لديهم وقت للتفكير وتأمل الأمر. إذن فالمصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد، كما يراها توكفيل وبخلاف الرؤية الأمريكية، هي العيش في مجتمع يكون فيه الفرد ممنوعا من التحقيق المباشر لمصلحته الشخصية، ولكنه مجبر على فعل هذا قانونيا، أو دستوريا، أو عرفا، أو من قبيل الاحترام، أو رسميا.
إذن، المصلحة الشخصية تدعم أشكال الارتباط لفائدتها، وفي نفس الوقت تقوضها إذا أصبحت غير ملائمة. إن الاستعداد لتكوينها يقابله الميل لتجاهلها أو حلها؛ لذا يؤكد توكفيل على الاضطراب والتشوش اللذين ينتجان دائما في النشاط السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر قال إنه لا يمكن إدراكه دون مشاهدته هناك. إن نشاط الارتباط يكون على نحو خاص ارتباطا من أجل فكرة جديدة أو غرض أخلاقي، وفي أمريكا عادة الحرية أقوى حتى من عشق الحرية؛ وفي النشاط المضطرب لأشكال الارتباط، يمكن اكتشاف التميز الحقيقي للديمقراطية على الاستبداد.
شكل 2-1: أسفار توكفيل وبومون في أمريكا فيما بين عامي 1831 و1832. كان توكفيل في الخامسة والعشرين من عمره فقط عندما ذهب هو وبومون في رحلتهما التي استمرت لمدة تسعة أشهر.
هناك جانب آخر للمصلحة الشخصية يحتاج أن «يفهم على نحو جيد»، وهو الأعراف الديمقراطية للأمريكيين. يعتبر توكفيل اهتمام الأمريكي بمصلحته الشخصية في النشاط الاقتصادي أمرا مسلما به، لكنه أضاف إلى هذا الخبرة العملية والعادات والآراء - أي الأعراف - التي يقوم عليها المجتمع، وأضاف أن أي قارئ لا يدرك الأهمية التي يوليها الأمريكي للأعراف قد فاته «الهدف الأساسي» الذي وضعه نصب عينيه وهو يؤلف هذا الكتاب. لقد ظهرت الأعراف في النظريات الفلسفية السياسية لاثنين من كبار مفكري القرن الثامن عشر ومعلمي توكفيل، وهما مونتسكيو وروسو، وقد لعبت دورا مهما في ظهور علم الاجتماع في القرن التاسع عشر. لو كان الفلاسفة السياسيون الكلاسيكيون تناولوا هذا الموضوع، لتحدثوا عن القانون بمفهومه الواسع، بما في ذلك القوانين المكتوبة وغير المكتوبة، لكن توكفيل قبل التفرقة الليبرالية بين هذين النوعين من القوانين؛ ففي النظرية الليبرالية لهوبز ولوك، كان الغرض من تلك التفرقة هو إعلاء شأن القوانين التي تضعها السلطة الحاكمة، والتي يوافق عليها الناس، فوق الأعراف التي قد تعيق تنفيذ القوانين التي تتخذها تلك السلطة. لكن من أجل الحرية السياسية، أراد توكفيل ألا تتم إعاقة تلك القوانين على نحو كبير عند نشرها على نطاق واسع في المجتمع الديمقراطي. وفي اختلاف آخر مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية، رفع توكفيل من شأن الأعراف على القوانين؛ حيث إن الأعراف تدعم القوانين. صحيح أن القوانين يمكنها أحيانا تغيير الأعراف، كما فعل قانون الميراث الجديد الذي ساعد على إدخال النظام الديمقراطي إلى الأسرة الأمريكية، لكن الأعراف - التي هي «عادات القلب» إلى جانب عادات العقل أيضا - تمثل «الحالة الأخلاقية والفكرية لأي شعب.»
إذن فإن الأعراف تضم الدين أيضا. السؤال الآن: هل الدين أحد العوامل في الرؤية الأمريكية المتمثلة في «المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد»؟ الإجابة هي نعم، ولكن على نحو معقد. تناول توكفيل الدين في جزأي كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكن على نحو مختلف بعض الشيء في كل منهما؛ ففي الجزء الأول، أشار إلى أن الدين هو أساس الأعراف التي ساعدت على إقامة جمهورية ديمقراطية في أمريكا، وقد تناوله بسبب هذا الدور الذي يقوم به، وليس بسبب حقيقته؛ فقد قال توكفيل إن الأهم هو أن المواطنين لديهم دين معين، وليس أن كل المواطنين يدينون بالدين الحق. فمن وجهة نظره السياسية، الدين يخدم السياسة وليس العكس، كما يرى البيوريتانيون؛ فالدين يخلق «تناغما بين الأرض والسماء» بإلزام الناس باحترام قيود لا يمكن الفكاك منها؛ أي «بعض المفروضات الأساسية» التي تقيد إرادتهم، فهو يضع حدودا لسيادة البشر، ومن ثم لسيادة الشعب في أي ديمقراطية، وهو يقوم بذلك غالبا عبر النساء وليس الرجال؛ لأن الرجال الديمقراطيين نادرا ما تتقيد رغبتهم في الثراء، لكن النساء هن من يصنعن الأعراف، والدين «يحكم باعتباره سيدا على روح المرأة.»
إن الأهمية التي أعطاها توكفيل للأعراف في السياسة، أعطاها أيضا للنساء. وللمفارقة، نرى في حديثه عن النساء في الجزء الثاني من الكتاب أنه يقول إن تأثير النساء ينبع من بقائهن بعيدا عن السياسة. وينطبق الأمر نفسه على رجال الدين؛ فهو يدعم على نحو كبير الفصل بين الكنيسة والدولة؛ والسبب الأساسي في ذلك هو أن الدين يفقد تركيزه على العالم الآخر عندما يتدخل في السياسة في هذا العالم. ولكي يحافظ الدين على مكانته، يجب أن يحافظ على نقائه؛ وحينها - عندما يبتعد عن السياسة - يمكن أن يكون له التأثير الأكبر على السياسة باعتباره وسيلة لتقييد الناس. إن كلا من النساء ورجال الدين يمارس سلطته على نحو غير مباشر، وذلك من خلال الابتعاد عن ممارسة السياسة على نحو مباشر. يمثل الدين والأسرة معا جزءا تكميليا للسياسة، وهو ضروري وغير سياسي بطبيعته، والهدف منه تقييد السياسة عن طريق تذكير الناس بأن هناك حياة أسمى وأكثر حميمية من الحياة السياسية، لكن الدين والأسرة على نحو ما سياسيان؛ لأنهما ضروريان للحكم الذاتي.
لم يتوان توماس جيفرسون في آخر خطاب كتبه في حياته (في 4 يونيو من عام 1826) - الذي كان يتحدث فيه عن إعلان الاستقلال الذي صاغه - عن توجيه انتقاد عنيف إلى «جهل الرهبان وأباطيلهم»، معتبرا إياهم أعداء للتنوير. بالنسبة إلى توكفيل، الاستبداد يمكن أن يحدث دون وجود معتقد ديني، لكن الحرية لا يمكنها هذا. وقال إنه على الرغم من الأمريكيين لم يسمحوا للدين بالتدخل على نحو مباشر في الحكم، فإنه يجب اعتبار الدين «أولى مؤسساتهم السياسية»، فهو لم يجعلهم يذوقون طعم الحرية بقدر ما سهل عليهم التمتع به؛ ففي عقولهم، كان لديهم «خلط كامل بين المسيحية والحرية»، وهو استنتاج أتاح له تجنب الحكم على مدى إخلاص الأمريكيين المسيحيين في إيمانهم؛ فالأمريكيون يؤمنون بأن الدين مفيد، لكنه سيبدو مفيدا فقط إذا آمنوا به باعتباره الدين الحق، وليس باعتباره مؤسسة سياسية؛ فالدين لا يمكن «فهمه على نحو جيد» بنفس طريقة فهم المصلحة الشخصية، كما لو كان الأمريكيون ينظرون لدينهم دون ورع من الخارج، حتى يخلصوا إلى أن إيمانهم شيء جيد.
في هذا الإطار، وجه توكفيل انتقادا عنيفا، دون أن يشير إلى انتقاد جيفرسون، لمن يدينون في فرنسا الأمريكيين لأنهم لا يؤمنون مع الفيلسوف الملحد سبينوزا بأزلية العالم. وفي مقدمة كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، وضع ضمن «المآسي الفكرية» في أوروبا الفرق التي ترى أن هناك تعارضا شديدا بين الدين والحرية، وأشار بوضوح أن وجود انسجام بينهما هو المبدأ الأول لعلم السياسة الجديد خاصته ومن السمات المميزة لليبراليته الجديدة.
على الرغم من أن الدين الذي جلبه معهم البيوريتانيون من إنجلترا كان ديمقراطيا وجمهوريا، فهو بوجه عام «الإرث الأغلى للعهود الأرستقراطية.» وهناك عدد من السمات الأرستقراطية للديمقراطية في أمريكا، التي لفت توكفيل وحده انتباهنا إليها. وعلى الرغم من أنه ذكر كلا منها، فهو لم يحسب عددها الإجمالي قط؛ ربما لأن هذا سيجعل الأرستقراطية تبدو مهمة جدا؛ فبالنسبة إليه، الأرستقراطية والديمقراطية حقبتان متتاليتان في التاريخ، والأرستقراطية ككل وكمفهوم، قد تركت الساحة وغادرت للأبد. لكن إذا كانت الأرستقراطية قد غادرت للأبد، فهي من ثم لم تعد خطرا على الديمقراطية. ويمكن أن يساعدنا توكفيل في تقدير فضائل ومحاسن الأرستقراطية دون أن يبدو أنه يسعى للدفاع عنها، وهو لم يحاول المزج بينها وبين الديمقراطية، وأعلن على نحو واضح أن النظام الذي يخلط بينهما «وهم»؛ لأنه في كل مجتمع دائما ما يجد المرء أن هناك «منهجا واحدا يهيمن على كل المناهج الأخرى.» وبرفضه لهذا النظام المختلط، يتخلى عن الاستراتيجية الأساسية لعلم السياسة الكلاسيكي، ويلقي بظلال الشك على فكرة التعددية الليبرالية. لكنه احتفظ بفكرة استمرار بعض سمات الأرستقراطية في الديمقراطية، ما دامت المبادئ التي تقوم عليها الأخيرة لم تمس.
إن الديمقراطية والأرستقراطية كيانان كليان، كل منهما أسلوب حياة يسعى لجعل نفسه مطلقا؛ مما ينشئ، «إن جاز التعبير، إنسانيتين متمايزتين.» هكذا أعلن توكفيل في نهاية كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، غير أنه أراد أن يخفف من الطابع المطلق والمتحزب للإنسانية الديمقراطية دون الإخلال بالمبدأ الديمقراطي الخاص بسيادة الشعب، وترك لقرائه مسألة تحديد الأعراف والمؤسسات الديمقراطية التي من المفترض أنها أرستقراطية الأصل أو الطابع. وإلى جانب الدين، ذكر نظام المحلفين، الذي كان قبل ذلك أرستقراطيا يضم النبلاء فقط، وأصبح الآن ديمقراطيا. كذلك، فإن نظام الحكم الذاتي المحلي وحرية التعبير وحرية الصحافة في أمريكا كلها أمور تعود جذورها لإنجلترا الأرستقراطية. إن الجمعيات الديمقراطية تعد بدائل اصطناعية لتأثير «الأشخاص الأرستقراطيين»، كما أن المحامين بحبهم للقانون والنظم القانونية يمثلون طبقة أرستقراطية محافظة داخل أمريكا الديمقراطية. كما أن «السلطات الثانوية» التي كثيرا ما أوصى بها باعتبارها علاجا للمركزية الديمقراطية أمر معتاد في الأرستقراطية، وهكذا الحال بالنسبة إلى النظم الديمقراطية التي أثنى عليها؛ ففي واقع الأمر، وضع الدستور الأمريكي من قبل الحزب الفيدرالي، وألهم من قبل «نزعاته الأرستقراطية».
الأكثر إدهاشا في هذه القائمة هو إرجاع توكفيل الفضل فيما يتعلق بالحقوق للأرستقراطية الإنجليزية المالكة للأراضي؛ فقد ذكر أن فكرة الحقوق لم تنتقل من إنجلترا من خلال الفلسفة السياسية لجون لوك (فاسمه لم يرد ذكره في كتابه)، وإنما أخذت من ممارسة النبلاء الإنجليز الذين وقفوا في وجه الملك وحافظوا على الحقوق الفردية والحريات المحلية؛ ففي أمريكا، «الحرية قديمة والمساواة جديدة نسبيا.» لذا، عند حديثه عن الممارسة والأعراف والمؤسسات الخاصة بالحرية، لم يقدم الحقوق باعتبارها «أساس» الممارسة، كما في إعلان الاستقلال حيث الناس قد «حباهم خالقهم» بحقوق قبل وجود الحكومات، وإنما باعتبارها ممارسة للحكم الذاتي نفسه.
يجب أن تمارس الحقوق ب «روح سياسية توحي لكل مواطن ببعض المصالح التي تدفع النبلاء في النظم الأرستقراطية للعمل.» يمكن أن تذكرنا تلك الروح بروح الحياة التي وصفها أفلاطون وأرسطو بأنها متأهبة كحيوان دفاعا عن مصالح الفرد الشخصية، لكنها مختلفة تماما عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنها الحكومة وتصونها، والمعروفة اليوم ب «الحقوق المكفولة» التي من المفترض أن توفر الأمن للأفراد. بالنسبة إلى توكفيل، الحقوق مشتقة من الفضيلة؛ «الفضيلة الموجودة في العالم السياسي.» ستشجع تلك الفضيلة الفرد على المخاطرة بأمنه للدفاع عن الحرية - مثل الموقعين على إعلان الاستقلال، الذين تعهدوا بأن يبذل كل منهم في سبيلها «شرفه المقدس» - أو في الممارسة اليومية؛ ستشجعه على أن يتخلى عن مشاعر الراحة والرضا المرتبطة باللامبالاة السياسية، وأن ينضم لجمعية ما أو يترشح لمنصب معين.
في استخدام توكفيل لكلمة «أرستقراطية»، كان يشير إلى شكل مميز من الإنسانية بديل للديمقراطية، لكن ليس إلى المعنى الحرفي للكلمة وهو: «حكم الأفضل». لقد كان يعني الأرستقراطية المالكة للأراضي الخاصة بأسر النبلاء، لكن السمات الأرستقراطية لأمريكا مصدرها إنجلترا، وهو من ثم لا يتحدث عن الأمريكيين فقط، وإنما يتحدث كثيرا عن «الأنجلو أمريكيين» عندما يريد لفت الانتباه للاستمرارية - في بعض الجوانب - بين الأرستقراطية الإنجليزية والديمقراطية الأمريكية. يمكن القول أيضا إن ليبراليته اعتمدت على الأمة والحالة الاجتماعية، وليس على العقد الاجتماعي، لوصف المجتمع الليبرالي. وعند تحدثه باستفاضة عن الأنجلو أمريكيين، قال بوضوح شديد إنه لن يقر أبدا بأن البشر يكونون مجتمعا فقط عن طريق طاعة نفس الحاكم والخضوع لنفس القوانين؛ أي فكرة العقد الاجتماعي. بدلا من تلك الفكرة، عرض العهد الفعلي الذي تبناه البيوريتانيون باسم الرب وليس من أجل حفظ الذات، كما هو الحال بالنسبة إلى النظرية الليبرالية. إن اكتساب أمريكا لهويتها جزئيا من إنجلترا جعل طابعها مختلفا إلى حد كبير عما لو كانت قد أخذت سماتها من أمة مختلفة، وليس فقط فيما نطلق عليه اليوم العرقية؛ فالسياسة والدين وحتى الفلسفة والأخلاق - على سبيل المثال، مفهوم المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد - كلها جاءت لأمريكا من إنجلترا، وأضحت سمة من سمات أمة الأنجلو أمريكيين المزدوجة.
ما ميز الأنجلو أمريكيين على وجه الخصوص من بين كل الشعوب الأخرى هو شعورهم بالفخر، وهذا على وجه الخصوص ينطبق على الأمريكيين الذين لديهم «اعتزاز كبير» بذاتهم. وحتى حماستهم الدينية «تغذيها الوطنية باستمرار»، كما أنهم يرسلون وعاظا إلى الحدود لهداية الناس وتطوير بلدهم في ذات الوقت. تختلف الوطنية الأمريكية عن الوطنية الإنجليزية؛ لأن مصدرها هو الديمقراطية وليس الوطن، ولأنها ناتجة عن ممارسة الحكم الذاتي. إنها مصنوعة وليست موروثة، وعقلانية وتأملية ومستنيرة وليست فطرية؛ فعندما يقوم المواطنون بدور فعال في الحكم كما في أمريكا، ينسب لهم الفضل عند تحقيق نتائج جيدة؛ إذ يرون أن هناك ارتباطا بين مصلحتهم الشخصية والرخاء العام، وعندما يعملون من أجل الاثنين معا، يصبح الشعور بالفخر لديهم ممزوجا بالرغبة في الثراء؛ لذا فإن توكفيل أقر بما نطلق عليه اليوم «الحلم الأمريكي» الذي يشير لإمكانية تحقيق النجاح والازدهار من خلال العمل الجاد، لكن مع تركيز على أساسه في السياسة. إن الوطنية الأمريكية مصدر «تضجر» وإزعاج للأجانب الزائرين لأمريكا مثل توكفيل؛ لأن الفخر الوطني يزيد من اعتزاز كل أمريكي بنفسه وببلده، ويعطي تبريرا لهذا الاعتزاز بحيث لا يكون مسموحا بالانتقاد وإنما فقط بالثناء. إن هذا نتاج تطبيق الحرية الديمقراطية، ولكن مع اقتباس جوانب كثيرة من الأرستقراطية الإنجليزية.
إن الإحساس بالفخر هو سمة مهمة من الليبرالية الجديدة لتوكفيل؛ إذ قال في هذا الشأن: «سأستعيض طوعا بهذه الرذيلة عن العديد من فضائلنا الصغيرة.» لقد قال هذا في مواجهة «الأخلاقيين» الذين كانوا يهاجمون الإحساس بالفخر، وهو موجه أيضا للمذهب الليبرالي التقليدي لهوبز، الذي يدعو الحكومة لإخماد الإحساس بالفخر أو الزهو لدى الناس، ولمذهب لوك الذي قلل من أهميته بأن جعله شعورا بعدم الأمان أو عدم الارتياح. كلا المفكرين وضع حق حفظ الذات في المقدمة، معلنين أن خوف الفرد على حياته، وليس إحساسه بالفخر للفضائل التي يمتلكها، هو أقوى شعور فطري في البشر. بالنسبة إليهما، وفي الليبرالية بوجه عام، الإحساس بالفخر هو عدو الحرية؛ لأنه يثير الرغبة في الهيمنة على الآخرين، وهو يتعارض مع المصلحة الشخصية؛ لأن الشخص الفخور بنفسه يمكن أن ينفعل ويفقد أعصابه بسهولة، ويتخلى عن مراعاته لمصلحته الشخصية ويتصرف بتهور. اختلف توكفيل مع هذا لكنه - من قبيل المفارقة - قال إن الإحساس بالفخر رذيلة، وأضافه لقائمة الأشياء التي يبدو في الظاهر أنها متعارضة مع مصلحة الفرد الشخصية، لكن يمكن فهمها في إطار المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد.
اعتقد توكفيل أن الرغبة في الهيمنة على الآخرين ليست هي أهم الرغبات التي ينبغي الخوف منها في الديمقراطية، وأن عادة اهتمام الفرد بمصلحته الشخصية متعارضة مع الحرية أكثر من كونها داعمة لها. وفيما يتعلق بالإحساس بالفخر، أوضح الجوانب التي يخشاها، وتلك التي يراها إيجابية في الديمقراطية الأمريكية؛ فأثنى على نظام الحكم الذاتي وإحساس المواطنين الأحرار بالفخر، مقدما أدلة على رقيهم لمستوى يعلو عن باقي كائنات الطبيعة التي تطيع فقط ولا يمكنها حكم نفسها، لكنه أشار أيضا إلى أن الديمقراطية تتعارض مع الإحساس بالفخر وتميل لكبته، كما هو الحال عندما يترشح رجل ثري في الانتخابات. لقد تحقق هدف الأخلاقيين الديمقراطيين والنظرية الليبرالية في هذا الاتجاه إلى حد كبير، من قبل مجتمع ديمقراطي يتصرف من تلقاء نفسه ودون توجيه منهم، غير أن الديمقراطية بكبتها هذا الإحساس بالفخر تخلق إحساسا آخر بالفخر خاصا بها يكون على نفس القدر من الضرورة، كفخر الأرستقراطيين في النظام الأرستقراطي.
ولأن الإحساس بالفخر مهم جدا للحرية، رجع توكفيل للحديث عن الروح. إن هذا الإحساس يعني أنك مدرك لذاتك؛ ومن ثم تعلوها، وهذا هو أحد المعاني الأساسية للروح؛ فالروح يمكن أن تراقب الذات، بحيث توافق على الإحساس بالفخر وتعارض الإحساس بالخزي. إن مثل تلك الروح تضفي تعقيدا على تصوره بشأن الطبيعة الإنسانية. لقد تحدث كثيرا عن الروح، وليبراليته الجديدة ليبرالية لها روح؛ حيث إنها تدين بالفضل للمفهوم القديم للروح الذي حاولت الليبرالية الاستعاضة عنه بالذات؛ فالذات الليبرالية مهتمة بتحقيق المكاسب على نحو لا تعقده الرؤية الناقدة لوجود روح فوق الذات، وهذه الذات ليست قادرة على الإحساس بالفخر أو الخزي، ومن غير المحتمل أن تشعر بالرضا؛ فهي فقط تريد المزيد. لم يعد توكفيل ببساطة إلى المفهوم التقليدي للروح المنظمة، لكنه استدعى المفهوم الكلاسيكي والمسيحي لسمو الروح.
من ثم، فإن الخوف الأساسي الذي أبداه توكفيل في مقدمة كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، يتمثل في أن الديمقراطية كما هي مطبقة في أوروبا، تحط من شأن الروح. وقال إن الأرستقراطية كانت معتمدة على اعتقاد يقوم على أن امتيازات النبلاء كانت أمرا طبيعيا غير قابل للتغيير، وهو وهم بالتأكيد، لكنه أمر يعد مقبولا من قبل الأشخاص الذين عليهم الإذعان له. لكن الديمقراطية لم تؤسس مؤسسات شرعية في أمريكا كي تحل محل الامتيازات الأرستقراطية التي أسقطتها، وعلى الرغم من أن الناس لم يعودوا تابعين للنبلاء، فإنهم يذعنون للسلطات الحالية بسبب الخوف وليس بسبب الحب والاحترام. إن الطاعة بدافع الخوف تجعل الفرد يتصرف بسبب الضرورة القصوى؛ الأمر الذي يحط من قدر الروح لأنه يشعر بالخزي بسبب خضوعه الشديد للسلطة، حتى السلطة الديمقراطية، ولا يمكنه احترام نفسه أو الاعتقاد بأنه حر.
إن السبب في تلك الحالة المحزنة ليس هو الأخطاء الأخلاقية بقدر ما هو بعض «المآسي الفكرية» الموجودة في أوروبا في ذلك الوقت؛ فنفس تلك الأخطاء كانت موجودة في النظام الديمقراطي المطبق في أمريكا؛ التي فيها يشعر المواطنون بالفخر ويعتقدون أن حكومتهم شرعية، وخضوعهم لها أمر مقبول.
الفصل الثالث
الديمقراطية غير الرسمية
أثنى توكفيل على الديمقراطية الرسمية في أمريكا التي تفعل مبدأ سيادة الشعب؛ فقد مدح النظم الدستورية، كما تصورها واضعوها بكل ما فيها من تعقيد مقصود، كما مدح النظام البسيط والطبيعي للبلدات الذي نقل لأمريكا على يد البيوريتانيين، وفن الارتباط الذي هو أساس كل هذا. أتاحت تلك النظم للشعب حكم أنفسهم على نحو فعال؛ ومن ثم العيش على نحو متزن والانتعاش اقتصاديا، وجعلت الحرية السياسية ممكنة لأنها هي الحرية السياسية، وهي حرية تمارس وليست حرية نظرية. وبحكم الشعب الأمريكي لنفسه، شعر بالفخر الذي يتلاءم مع الشعور بالحرية، وفي نفس الوقت أنجح الديمقراطية.
سلطة الأغلبية
أشار توكفيل إلى أن هناك ديمقراطية غير رسمية أقوى من الديمقراطية الرسمية؛ فنظم الارتباط توفر بنية - تسلسل هرمي وإجراءات - تمكن أفراد الشعب من العمل معا، لكن تلك القنوات أو أدوات التمكين تعد أيضا حواجز تؤخر - أو عقبات تمنع - إرادة الشعب من تحقيق ما تريد على الفور؛ فقد تؤدي لإحساس محبط بالفخر بدلا من الإحساس بالفخر حال الإنجاز. في القسم الثاني من الجزء الأول من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، أعلن توكفيل عن تحول في عرضه من مبدأ أو معتقد سيادة الشعب (الذي عرض له في الفصل الرابع من القسم الأول) إلى حكمه الفعلي. بدأ القسم الثاني بفصل عنوانه «كيف يمكن للفرد أن يقول بحسم إن الشعب في الولايات المتحدة هو الذي يحكم؟» ذكر أن «آراء الشعب الأمريكي وتحيزاته واهتماماته وحتى رغباته» لا توجد أمامها أي «عقبات دائمة» من أجل الوصول لغايتها؛ فالشعب يحكم من خلال حكومة تمثيلية، لكنه يختار ممثليه على نحو دوري ويوجههم ويبقي على اعتمادهم عليه. بالإضافة إلى ذلك، يرجع «الشعب» لأغلبية تحكم باسمه، لا لكيان رسمي لا يتحرك أبدا.
الديمقراطية غير الرسمية هي تماما ما حاولت الليبرالية التقليدية الكلاسيكية أن تستبقها من خلال فكرتي التمثيل والفصل بين السلطات. تصور هوبز ولوك وجود ديمقراطية رسمية في الحالة الطبيعية، لكنها تستمر لفترة قصيرة - إن وجدت - والغرض منها هو إضفاء الشرعية على الحاكم الذي سيحكم باسم الشعب؛ أي بدلا منه. عندما وجد لوك ومونتسكيو أن ممثلي الشعب من الممكن أن يكونوا غير أمناء، صاغا مفهوم الفصل الرسمي بين السلطات الذي سيجبر الحكومة على الحذر في اتخاذ القرار. كما أن الوثيقة الفيدرالية قد أحكمت صياغة هذين الشكلين الرئيسيين من الحكومة الحرة، بحيث يكون الدستور الأمريكي بالكامل ذا طابع تمثيلي في كل فرع من فروعه، كما يوجد توازن جديد ومحسن بين السلطات التي تم الفصل بينها، إلى جانب نظام الفيدرالية الجديد. صيغت تلك الإجراءات بعناية من أجل «تنقيح وتوسيع نطاق» إرادة الشعب عبر الانتخابات، وإن لم يحدث هذا، فمن أجل توفير «إجراءات احترازية إضافية» للتعامل مع الحكومة التي تخرج عن جادة الطريق أو الشعب الذي ينفلت، بما يوجه عقول أفراده للتحكم في رغباته.
اعترض توكفيل على هذا، وليبراليته التي «من نوع جديد» تخلت عن أمل الليبرالية التقليدية الذي يرى أن البداية الديمقراطية، في ظل الحالة الطبيعية، يمكن أن تتجنب النهاية الديمقراطية في الحكومة الناتجة؛ فالنظم الليبرالية المصممة للتحكم في سيادة الشعب سيتم ببساطة إسقاطها. ويوحي قول توكفيل إنه لن تكون هناك عقبة «دائمة» أمام تحقيق الشعب إرادته، بأنه ربما يمكن كبح النزعات الفورية، وربما لا. إنها فكرة أقرب لفكر روسو (الذي يعد أحد معلمي توكفيل باعترافه) من فكر الليبراليين الذين انتقدهم أيضا روسو لاستراتيجيتهم المعقدة، التي تقوم على تمثيل الشعب بدلا من قيامه بالحكم. لكن توكفيل لم يقبل ولم يلمح إلى اقتراح روسو بالاستعاضة عن الحكومة التمثيلية الليبرالية بشكل جديد من أشكال العقد الاجتماعي؛ فأيا كانت النظم التي يقدمها المنظرون، فإن الشعب الديمقراطي سيفعل ما يريده في النهاية.
بعد تأكيد توكفيل على أن الشعب الأمريكي يحكم بالمعنى الدقيق للكلمة، انتقل إلى الأدوات غير الرسمية لهذا الحكم، وأولها الأحزاب السياسية. والأحزاب في واقع الأمر غير معنية بالهوية العرقية (كما سنوضح)، وإنما بالاختلافات حول المصالح المشتركة التي تؤثر على كل المجموعات على نحو متساو. إنها شر كامن في الحكومات الحرة، بحسب قوله، متفق في ذلك مع الازدراء التقليدي لها، وهي ربما تنقسم إلى أحزاب كبيرة، أحزاب لها مبادئ مثل الحزب الفيدرالي والحزب الجمهوري الجيفرسوني، وأحزاب صغيرة ليست لها أفكار همها فقط شغل المناصب. غير أنه حتى الأحزاب الصغيرة مثل الحزب الديمقراطي الجاكسوني في وقت زيارة توكفيل لأمريكا، كانت لها «رغبتان سريتان» ترجعان لأعظم حزبين ظهرا في كل المجتمعات الحرة، وهاتان الرغبتان تتمثلان في الرغبة الديمقراطية في توسيع نطاق سلطة الشعب والرغبة الأرستقراطية في تقييد الشعب. على نحو غير رسمي، وحتى في الديمقراطية؛ حيث يكون الشعب هو من يحكم، يكون هناك حزب يرغب في تقييد سلطات الشعب، كما لو كان الطابع الأرستقراطي - حتى عندما تغيب الأرستقراطية عن المشهد - يستحيل كبح جماحه في الطبيعة الإنسانية .
تعد الصحافة الحرة في أمريكا سلاحا في يد أحزابها، وأيضا عاملا غير رسمي من عوامل سيادة الشعب؛ فتولي الشعب الحكم معناه أن يمارس الحكم بآراء اختارها، ودور الصحافة يكمن في تشكيل الآراء التي يختارها الشعب؛ هذا هو دور المثقفين، لكن في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن هناك رصيد فكري مكافئ لذلك الموجود في باريس، وكان المثقفون متفرقين بحيث لا يمكنهم بسهولة مخاطبة الأمة بأكملها. إن طابع الصحافة في أمريكا على عكس فرنسا - التي تلعب فيها دورا أكبر - كان يقوم على الهجوم الشديد على الآخرين، واللعب على وتر المشاعر، وعدم مراعاة المبادئ، ونشر الفضائح. الخلاصة أن الصحافة الحرة لها محاسن ومساوئ ويجب قبولها كما هي؛ حيث لا يوجد طريق وسط مقبول بين الصحافة التي تتمتع بحرية كاملة، وتلك المقيدة والخاضعة.
تعد الجمعيات السياسية جانبا آخر من جوانب الديمقراطية غير الرسمية، يجمع أيضا بين ما هو جيد وما هو سيئ. يتمتع الأمريكيون بحرية مطلقة فيما يتعلق بإنشاء الجمعيات السياسية التي تعد خطيرة حتى من وجهة نظر الليبراليين في أوروبا؛ غير أنه في بعض الأحيان يحدث، بحسب قول توكفيل، أن الحرية المطلقة يمكن أن تصحح حالات إساءة استخدام الحرية. حدث هذا في أمريكا حيث كان هناك تسامح كبير مع المعارضة، كما كان الحال في الأزمة الدستورية التي ألمح إليها توكفيل، والتي حدثت في عام 1832 (بسبب إعلان ولاية ساوث كارولينا بطلان التعريفتين الجمركيتين الفيدراليتين اللتين أقرهما الكونجرس في عامي 1828 و1832)، لكن مثل هذا الفعل يأتي عادة على حساب التضحية باستقلالية الفكر داخل الجمعية عندما تسعى لتشكيل جبهة موحدة. إن مثل تلك الجمعيات تحسن صنعا بفعلها هذا؛ لأنها بسعيها للتغيير «تضعف الإمبراطورية الأخلاقية للأغلبية»، غير أنها بسعيها للحصول على استحسان الأغلبية، فإنها أيضا تدعم قوتها الأخلاقية. إن سيادة الشعب تعني تساوي الجميع في الأهلية والقوة الأخلاقية، لكنها في واقع الأمر تعني حكم الأغلبية على الأفراد باسم الكل.
استبداد الأغلبية
تناول توكفيل هذا القسم من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» بروية ، كما لو أنه قد أراد نقل الأخبار السيئة بالتدريج؛ فقد تحدث عن الاستبداد في النصف الأول من الجزء الأول حيث أثنى على نظم الحكم في أمريكا، لكنه لم يثن قط على الأغلبية. ظهر مصطلح «استبداد الأغلبية» في الفصل الخاص بالجمعيات السياسية، ثم برز من خلال عنوان الفصل السابع الذي تناول «السلطة المطلقة» للأغلبية، التي قال عنها ضمن هذا الفصل إنها «استبداد» الأغلبية، ثم قال في النهاية إنها شكل جديد من أشكال الاستبداد والطغيان. هذا هو الشبح الذي يتوارى وراء مبدأ سيادة الشعب، والذي كان، وصولا إلى تلك النقطة، قد استفاض في عرضه والثناء عليه.
إن السلطة المطلقة، بحسب قول توكفيل، آمنة وهي في يد الرب؛ لأن حكمته وعدله مساويان لقدرته، لكنها عندما تكون في يد البشر الذين يعتريهم النقصان، يصبح الأمر مختلفا؛ فالسلطة المطلقة التي تكون في يد حاكم بشري تؤدي إلى الاستبداد، وهذا لا يحدث بالضرورة ولكن يحتمل أن يحدث، ما لم يكن هناك ضمان لمنع حدوثه. لم يرد توكفيل للشعب الحاكم أن تكون له السيادة غير المنقوصة التي للرب كما تشير المبادئ الليبرالية لهوبز وسبينوزا ولوك.
لكن ما الضمان الذي يحول دون استبداد الأغلبية في الولايات المتحدة؟ يشكل الرأي العام الأغلبية؛ فالسلطة التشريعية تمثل وتطيع الأغلبية، وهكذا الحال بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، كما أن الجيش يمثل الأغلبية في قالب عسكري، ويمثل نظام المحلفين الأغلبية التي تصدر أحكاما قضائية. وسيادة القانون ليست ضمانا يحول دون استبداد الأغلبية، كما أوضح توكفيل صراحة في عبارته «استبداد القوانين». لقد عرف الاستبداد بأنه الحكم على نحو يتعارض مع صالح المحكومين، وهذا يختلف عن التعسف في ظل عدم وجود قوانين؛ لذا يمكن للقانون أن يكون أداة لاستبداد الأغلبية، والحكم المتعسف يمكن استخدامه في صالح المحكومين، بالرغم من أنه إذا كان مطلقا، فمن غير المحتمل أن يكون في صالحهم. الاستبداد يعني حكم الفرد، إلا عندما تتصرف الأغلبية على نحو استبدادي؛ أي إنها تفكر وتتحرك كما لو كانت رجلا واحدا. في أمريكا، الأغلبية تداهنها حاشيتها، وهي «تعيش في حالة دائمة من الإعجاب بذاتها »، تماما كما كان الحال بالنسبة إلى لويس الرابع عشر.
إن استبداد الأغلبية يتسم بطابع جديد في الديمقراطية؛ ففي ظل النظام الملكي (أو «الحكم المطلق لشخص واحد»)، سيضرب الاستبداد جسم الضحية من أجل أن يصل لروحه، أما استبداد الديمقراطية، فإنه «يترك الجسم ويتجه مباشرة للروح.» إن استبداد الديمقراطية - وذلك بحسب تعبير توكفيل في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» - عبارة عن «استبداد هادئ»، لا يقوم بالتعذيب والإعدام، وإنما يسعى للهيمنة الأخلاقية والفكرية، وهو استبداد ليس خشنا بل ناعم، غير أنه ليس ناعما جدا. في حاشية، أعطى توكفيل مثالين لاستبداد الأغلبية: في بلاتيمور، قتل صحفيان عارضا حرب عام 1812 على يد حشد من مؤيدي الحرب، وفي فيلادلفيا، تعرض العبيد المحررون من السود لحالة من التخويف الشديد؛ الأمر الذي أدى إلى إحجامهم عن ممارسة حقهم الانتخابي. والمثال الثاني الذي يدور حول التمييز العنصري تناوله توكفيل باستفاضة في فصل مهم عن الأجناس الثلاثة الموجودة في أمريكا في تلك الفترة، وهم: البيض، والسود، والهنود.
ذلك الفصل - وهو الأخير في الجزء الأول من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، والذي يعد خاتمة تناوله مبدأ سيادة الشعب - هو الأطول إلى حد كبير. والموضوعات المغطاة فيه تتعلق بأمريكا على وجه الخصوص، بحسب قول توكفيل، وهي تتناول الأجناس الثلاثة ومستقبل أمريكا. لكن الهدف الأعمق لتوكفيل من هذا الفصل هو الكشف عن طبيعة استبداد الأغلبية وما يمكن فعله لمنع هذا الاستبداد، وذلك عن طريق تحليله للإحساس بالفخر والحرية.
كانت الإبادة شبه التامة للهنود واستعباد السود - ولا يزالان - المثالين الأكثر بشاعة على استبداد الأغلبية في أمريكا، وقد درس توكفيل الأجناس الثلاثة، وليس فقط جنسي المحكومين؛ لأنه أراد أن يوضح آثار الاستبداد على المستبد وعلى الضحايا على نحو سواء؛ فالاستبداد الذي وصفه بأنه الحكم «على نحو يتعارض مع صالح المحكومين» ظهر في الشعوب الحديثة خصوصا لأنهم ربوا على الإيمان بالسلطة المطلقة للحاكم وليس للرب؛ أي «الحق والقدرة على فعل أي شيء.»
لم يقل توكفيل شيئا عن الأفضلية الفطرية أو الطبيعية لجنس معين، بدلا من ذلك، فرق بين الأجناس الثلاثة فيما يتعلق بإبدائهم الإحساس بالفخر من عدمه. وصف توكفيل الرجل الأبيض أو الأنجلو أمريكي في العالم الجديد بأنه «السيد»؛ لأنه يعامل الجنسين الآخرين كما يعامل الإنسان الحيوان، تماما كما يسود الطبيعة. فهو يمارس الاستبداد على الجنسين الآخرين اللذين يحكمهما، واللذين يمثلان طرفي النقيض؛ فالرجل الهندي في استقلاليته البربرية يمثل الطرف المتطرف في الفخر والحرية، في حين يمثل الرجل الأسود الطرف الآخر في العبودية وتقليد سادته. إن سلوك هذين الجنسين مختلف تماما؛ فالسود يقبلون حضارة البيض ويحاولون الانضمام لمجتمع البيض الذي يرفضهم ويلفظهم، في حين أن الهنود الفخورين بأجدادهم والواثقين بكرم الطبيعة، يرفضون حضارة البيض ويسعون للانعزال عنهم. يعرف الهنود معنى الحرية، لكنهم نظرا لأنهم يعيشون في وهم نبل أصلهم، فهم لا يستطيعون التحكم في أنفسهم، ولا يستطيعون الحفاظ على حياتهم. يعرف السود كيف يحافظون على حياتهم، لكنهم يشعرون بأن كرامتهم منقوصة لأنهم مملوكون لأشخاص آخرين؛ ولذلك لا يحاولون تطوير أنفسهم حتى يصبحوا أحرارا. إن كلا الموقفين المتطرفين يظهران النتيجة المترتبة على استبداد الأغلبية في صورة إحساس متطرف بالفخر؛ فالفخر الشديد يؤدي إلى عدم مرونة مواقف الهنود، والفخر شبه المنعدم يؤدي إلى خضوع السود، ودون وضع الفخر في إطاره الصحيح، يمكن أن تعاني الأغلبية البيضاء من نفس حالة البؤس الشديدة التي تفرضها على ضحاياها. يجب أن يصاحب الفخر التعقل حتى تتحقق الحرية؛ حيث إنه في الديمقراطية يمكن أن يبدو دائما أنه من المعقول التضحية بالحرية من أجل الكفاءة الإدارية، لكن الفخر يحتاج إلى التعقل للتحكم في أوهامه، ولجعله خاضعا للحضارة؛ للحضارة، هكذا أوضح توكفيل، وليس فقط للخبرة.
في تأييد توكفيل للإحساس بالفخر، اختلف ثانية عن الليبرالية الكلاسيكية كما وضعها توماس هوبز، التي تدعي أن الإنسان يجب ألا يكتفي فقط بكبح جماح فخره، وإنما عليه أن يتخلى عنه حتى تتحقق الحضارة؛ ففي الحالة الطبيعية، يعيش الإنسان في حالة حرب - حرب الكل مع الكل - وفي تلك الحالة يجب أن يمحو خوفه ، من أجل الحفاظ على نفسه، أوهام غروره . وبعد تلك التجربة، سواء في الواقع أم الخيال، يكون الإنسان مستعدا لأن يكون معاونا ومراعيا، وربما خاضعا، لأقرانه في المجتمع المتحضر. بالنسبة إلى هوبز وعدد كبير من أتباعه، الحرية والإحساس بالفخر يكونان في صراع كل منهما مع الآخر، والخلاصة أنه على الأفراد المتحضرين أن يتعلموا كيفية مراعاة شعور الآخرين والانسجام معهم.
شكل 3-1: لوحة رسمها جوستاف دي بومون - صديق توكفيل ورفيقه في رحلته لأمريكا - لنفسه ولتوكفيل (الذي يستند في الصورة إلى شجرة ساقطة)، وللمرشد الهندي الذي كان يقودهما عبر البرية في ميشيجان.
أخذ توكفيل مسارا مختلفا عن المسار السابق الذي أوضحه في نفس هذا الفصل؛ فبدلا من وجود عقد اجتماعي يفرض المقايضة بين الإحساس بالفخر والحضارة، لم يرد أن يفصل إحساس المرء بالفخر عن إحساسه بالحرية؛ فيجب دمج الحرية البدائية التي لدى الهنود، في الرغبة في التحضر التي لدى السود، لتكون النتيجة شخصا أبيض يحافظ على حريته لأنه يحافظ على كبريائه وحياته؛ لأن كرامته ليست قائمة على الوهم. بالطبع، إن مثل هذا الشخص لا يجب أن يكون أبيض بالمعنى العنصري، وإنما بمعنى أنه يجب أن يتخلى عن تحيزه ضد الجنسين الآخرين الخاضعين له؛ وهو أمر يظنه توكفيل مستبعدا.
عندما تجتمع العبودية مع العرق، كما في أمريكا وفي نظام العبودية الحديث بوجه عام، يوسم العبد للأبد بلونه؛ فالرجل الأبيض بتحيزه ضده يقلل من مكانته في الإنسانية، واضعا إياه في مرتبة بين الإنسان والحيوان. ربما يدعي الليبراليون - وربما يؤكد إعلان الاستقلال - أن كل البشر خلقوا متساوين، لكن هذا الادعاء جعل إلغاء العبودية أكثر صعوبة؛ لأن البيض لا يرون أن السود بشر كاملون. يمكن لمستبد أن يلغي العبودية في أمريكا، كما ألغتها السلطات الأوروبية في مستعمراتها.
لكن الأمريكيين الديمقراطيين يفخرون بالمساواة بين البيض فقط، بينما في الوقت نفسه (وحتى في الشمال) يخافون من تمرد العبيد عليهم. إن الفخر العنصري الذي يبدونه غير مفهوم من قبل النظرية الليبرالية التي تتجنب الحديث عن مسألة العرق، والخوف الذي يبدونه يتناقض مع المساواة العنصرية بدلا من أن يعمل لصالحها، وذلك كما تفترض النظرية الليبرالية. يوضح سلوك الفخر لدى الهنود، والذي يرفض أسلوب حياة البيض وحكمهم، أن النظرية الليبرالية تعتبر انجذاب المرء للحضارة أمرا مسلما به، ولا تفهم أن عليه أن يخضع للحضارة. إن تحيز البيض ضد السود برفضهم إياهم يوضح أن الإحساس بالفخر لا يختفي على الرغم من تعارض الديمقراطية معه، وأنه يجب التعامل معه ومع كل الأشياء المفيدة المرتبطة به. إن الإحساس بالفخر الذي يبديه الكثير من الأمريكيين في تحيزهم يجب أن يتحول لصالح الإحساس بالفخر بحرية الحكم الذاتي؛ فلا يمكن للمرء أن يساوي بين كل أشكال الإحساس بالفخر لديه في الحالة الطبيعية، ويتجه نحو عقد اجتماعي، كما يفترض الليبراليون عادة في نظرياتهم.
اتفق توكفيل مع النظرية الليبرالية في زعمها الذي يقول إن العبودية أمر غير طبيعي، لكن ليس بسبب أننا نولد جميعا أحرارا ومتساوين في حالتنا الطبيعية. وتعجب على نحو ساخط قائلا إننا نرى في العبودية «النظام الطبيعي وقد أصبح معكوسا.» غير أنه في إطار معنى آخر للمقصود بما هو طبيعي، كان من الطبيعي جدا بالنسبة إلى الأوروبيين أن يستعبدوا جنسا آخر اعتبروه أقل منهم منزلة؛ الأمر كان مفهوما. إن النظام الطبيعي يسعى من أجل الأفضل، لكن الأفضل لا يتحقق على نحو تلقائي؛ في واقع الأمر، هو يواجه عقبات بسبب الإحساس بالفخر الذي هو إحساس طبيعي لدى البشر. تعتقد النظرية الليبرالية أنها قهرت الإحساس بالفخر في الحالة الطبيعية، وأنها ربطت النظام الطبيعي (القانون الطبيعي) بأقوى شعور إنساني؛ ألا وهو الخوف من أجل حفظ الذات. بالنسبة إلى توكفيل، هذا حل ذكي لكنه مبسط للغاية؛ فرؤيته للديمقراطية لا تحاول استبعاد الفخر، وهو لا يركز فقط على مقاومة التحيز وضرورة التخلي عن الإحساس الزائف بالفخر، كما نفعل اليوم بسهولة، وإنما على المهمة الأكثر صعوبة المتمثلة في إيجاد حل ل «نقص» الإحساس بالفخر؛ فالديمقراطية ليست على وفاق مع ادعاءات الفخر التي دائما ما تنطوي على نوع من عدم المساواة، لكنها بحاجة إلى أن يكون هناك فخر يستند إلى الشعور بالأهمية والإنجاز كما يتجلى في السياسة على وجه الخصوص.
مباشرة بعد أن عرض توكفيل لمفهوم استبداد الأغلبية، تحدث عن «السلطة التي تمارسها الأغلبية على الفكر»، وقال على نحو مباشر وحاسم: «لا أعرف أي دولة تسود فيها بوجه عام استقلالية فكر وحرية تعبير أصيلة أقل من أمريكا.» ليست القضية أن المعارض يخشى التعرض للاضطهاد أو الإعدام حرقا على خازوق، وإنما القضية أنه «لن يستمع أحد لما يقوله» وسيصبح منبوذا، وفي النهاية سيتوقف عن المعارضة. إن هذا عنف «فكري» يؤدي إلى توقف العقول عن التفكير، بل حتى إلى توقف الكتاب عن التفكير في نشر آراء معارضة لرأي الأغلبية، وهو أمر أكثر سوءا مما كان يجري في محاكم التفتيش التي كانت مهمتها قمع المهرطقين. ذكر توكفيل دليلا على تلك الحقيقة مفاده أن «أمريكا حتى الآن ليس لديها كتاب عظام.»
بالطبع، ترجم كتاب توكفيل ونشر في أمريكا بعد فترة قصيرة جدا من ظهوره في فرنسا، ويبدو أن هذا تم بغض النظر عن رأي الأغلبية، لكنه في مواضع كثيرة من الكتاب أظهر نفسه وكأنه يخشى أن ينظر إليه باعتباره معاديا لأمريكا أو للديمقراطية، وخاصة في بداية الجزء الثاني؛ حيث أعلن عن عدم استعداده لمداهنة الأحزاب الكبيرة أو الفصائل الصغيرة التي كانت موجودة في عصره. بالإضافة إلى ذلك، قد يرد أي قارئ معاصر قائلا إن كتاب أمريكا الكبار، بالرغم من عدم عظم مكانتهم، سرعان ما ظهروا، ومن بينهم ناثانيال هوثورن بعمله المعروف «الحرف القرمزي» الذي ظهر في عام 1850، وهرمان ملفيل بعمله المعروف «موبي ديك» الذي ظهر في عام 1851، كما أن عمل جيمس فينيمور كوبر «آخر الموهيكان» (1826) ظهر في وقت مناسب بحيث يستطيع توكفيل أخذه في الاعتبار وهو يصدر حكمه؛ ومع ذلك، لن يرغب أحد في معارضة نقده الشديد للأمريكيين الذين - بحسب قوله - لا يمكنهم تحمل أقل نقد يوجه لبلدهم.
في الفصل الذي تناول فيه توكفيل حرية الصحافة، أشار إلى أن هناك ثلاثة أنواع من الرأي؛ وهي: الإيمان، والشك، والاعتقاد العقلاني . إن النوع الأخير لا يصل إليه سوى عدد قليل جدا من الناس؛ فمعظم الناس يعيشون في حالة إيمان وذلك في العصور التي يسود فيها الدين، أو في شك وذلك في عصر الديمقراطية. هنا تكمن إحدى مفارقاته البارعة؛ قال إنه في أوقات الإيمان، يغير الناس آراءهم عندما يتدينون، لكنهم في أوقات الشك يتمسكون بآرائهم. لماذا هذا الموقف الأخير؟ عندما يشك الناس، يرون أنه لا يوجد رأي أفضل من رأيهم، ويشعرون بأنه لا توجد مصلحة غير مصلحة واحدة، من المرجح أن تكون مصلحة مادية، تتوافق بسهولة مع العناد والتحيز والثبات على الرأي.
لذا، فإن الصحافة الحرة لا تحث الناس على الوصول للاعتقاد العقلاني أو الحقيقة. ثمة ادعاءات تزعم اليوم - فيما يتعلق بالصحافة - أن الناس من حقها أن تعرف كل ما يمكن معرفته. لكن معظم الناس لا يعيشون على أساس المعرفة، وإنما على أساس الرأي القانع. إنهم متشككون؛ وكأن لسان حالهم يقول: «لا يمكن أن تصدق ما تقرؤه!» ونحن نقول اليوم إن وسائل الإعلام دائما ما تسيء فهم الأمور. بناء على ذلك، نحن نؤمن بأننا على حق، وأنه لا توجد سلطة أعلى منا تقول لنا إننا مخطئون. يحب الديمقراطيون الفخر باستقلالية فكرهم، وهو بالضبط أقل أنواع الاستقلالية التي يتمتعون بها. أشار توكفيل لميزتين خفيتين للصحافة الحرة؛ وهما استغلال طموح الكتاب الموهوبين في هجوم بعضهم على بعض، واستقرار الرأي الناتج عن البلبلة التي تجعل الناس لا يثقون فيما يقال لهم أو يستبعدونه.
في الجزء الثاني، ناقش توكفيل سلطة العلم التي تحاول خلق اعتقاد عقلاني من نوع ما لدى الناس؛ اعتقاد وسط بين المعرفة الكاملة والرأي غير المطلع. لكنه في هذا النقاش ركز على «الأهمية العظيمة» للصحافة الحرة، وفي نفس الوقت على الاستبداد اللاعقلاني لدى الأغلبية التي تعززه باسم التنوير. وبتميزها بالاعتدال، قيمها مقارنة بالصحافة التي توجد رقابة عليها، وهو مقابل معتاد بالنسبة إلى الليبراليين، وأيضا مقارنة بالعقل في أسمى معانيه، وهو مقابل غير معتاد. وكانت النتيجة صورة مختلفة تماما عن الثناء الشديد على «حرية الفكر والتعبير» الموجود في كتاب جون ستيوارت ميل «عن الحرية» المنشور في عام 1859، وهو العام الذي توفي فيه توكفيل.
كان ميل صديقا لتوكفيل وأحد أتباعه الأوائل بمراجعته لكتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكنهما اختلفا اختلافا بينا في رأيهما بشأن العلاقة بين العقل والإحساس بالفخر؛ اعتقد ميل أن تحيز الناس العاديين يمكن التغلب عليه بواسطة أشخاص نسميهم الآن «المفكرين»، الذين يمكنهم توجيه المجتمع دون أن يحكموه على نحو فعلي. وقد اعتبر الإحساس الإنساني بالفخر عائقا أمام تقدم المعرفة، والحرية السياسية وسيلة لإحداث هذا التقدم. على الجانب الآخر، كان توكفيل يعتقد أن الإحساس بالفخر يفيد الديمقراطية ويضرها في نفس الوقت؛ فهو يضرها عندما يمجد تحيز الأغلبية الديمقراطية، ويفيدها عندما يساعدها على تصحيح هذا التحيز في «المدرسة المجانية» التي تقدمها الحرية السياسية؛ فبالنسبة إليه، يمثل العقل في أسمى معانيه «الملاذ الأخير» للإحساس الإنساني بالفخر، وبالرغم من أن الاكتشافات النظرية قد تؤدي إلى تطوير المجتمع، فإنه يجب أن تكون هي نفسها هدفا في حد ذاتها. يتميز الإنسان عن الحيوان بعقله؛ هذا هو الأساس المنطقي للإحساس بالفخر، ويجب أن يحترم هذا الأساس لدى الأشخاص القادرين على استخدام عقولهم بفاعلية كبيرة، لكن معظم الناس يستخدمون عقولهم معظم الوقت للفخر بدفاعهم عن تحيزاتهم. إن نشر التحيز هدف ومهمة أي صحافة حرة.
المساواة والتشابه
تقوم المؤسسات غير الرسمية على السيادة غير الرسمية للرأي العام. وفي هذا، اتفق توكفيل مع ميل، لكنه كان أقل تفاؤلا بكثير منه. اعتقد ميل أن الرأي العام يمكن قيادته من خلال مفكرين مثله هو شخصيا؛ مما يؤدي إلى مزيد من التنوير، لكن توكفيل - بالرغم من أنه اتفق مع ميل على أن قلة من الناس يكونون أكثر استنارة من غالبية الناس - اعتقد أن هناك احتمالا أكبر لأن يقود الرأي العام المفكرين وليس العكس، وأنهم لن يصغى إليهم إذا حاولوا أن يعظوا وينصحوا الناس متبعين أسلوب ميل؛ أي إنهم سيكونون مجبرين على خدمة الرأي العام. يميل المفكرون الديمقراطيون من أمثال ميل لأن يكونوا أكثر ديمقراطية من الأفراد الديمقراطيين، مع الاحتفاظ باستثناء لأنفسهم باعتبارهم معلمين للناس. هذا صحيح؛ فتوكفيل نفسه كان يسعى ل «تعليم الديمقراطية»، كما قال في مقدمة كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكنه كان يفعل هذا من خلال تحليل صريح لمزاياها وعيوبها، ممزوجا بثناء مكبوت، بدلا من الدفاع عن الديمقراطية واللوم على معارضيها. ومن دون ضجر، قارن بهدوء بين النظامين الديمقراطي والأرستقراطي.
للرأي العام سلطة أعلى في النظام الديمقراطي مقارنة بسلطته في النظام الأرستقراطي؛ لأن الكل في ظل النظام الديمقراطي متساوون أو من المفترض أنهم كذلك. فلا يوجد فرد - أو جماعة - له سلطة أعلى من الشعب؛ ومن ثم لا يمكن لأحد أن يتحداه على نحو صريح، وهو الأمر الذي يحدث بسهولة في أي نظام أرستقراطي. إن سيادة الرأي العام تتفق مع الحالة الاجتماعية الديمقراطية، وهو المفهوم الذي وضعه توكفيل الذي يرى أنه سابق للسياسة ويتحدد من خلالها. وعلى الرغم من أن الرأي العام في واقع الأمر يسود في النظام الديمقراطي، فلا يبدو أنه يسود لأنه ليس له ممثل محدد يرجع إليه؛ فهو بالتأكيد يتشكل على يد مفكرين وسياسيين وصحفيين، لكن حيث إن كل هؤلاء يزعمون أنهم يتبعونه، فلا أحد يتحمل مسئوليته. وعندما يتغير الرأي العام، معتبرا حسن الصنيع سوء صنيع أو العكس، فإنه يفعل هذا دون تفسير؛ حيث إنه لا يوجد أحد مسئول عنه يمكن محاسبته. ربما يحاول البعض تأويل الرأي العام، لكن الرأي العام لن يحدد إن كان هذا التأويل صحيحا أم لا؛ فقراراته السيادية ليست خاضعة للعقل، ولا يمكن لأحد الاعتراض عليها نظرا لكونها متضاربة أو قصيرة النظر. سيتم الاستماع والالتزام بما يقوله الرأي العام، لكنه لن يستمع لأحد عندما لا تكون لديه الرغبة في ذلك.
يقوم الرأي العام الديمقراطي على المساواة، لكن طبيعة هذه المساواة تحتاج لأن يتم النظر فيها. كيف تتعامل الديمقراطية مع جوانب عدم المساواة الطبيعية الواضحة؟ ففي أي ديمقراطية، يعتقد كل شخص أنه ينعم بالمساواة مع غيره؛ ففكرة المساواة أقوى من حقيقة اللامساواة؛ لأنها يمكن أن تخلق مساواة في حالة عدم وجودها. فربما يكون جارك أكثر ثراء منك ، لكن إذا اعتقدت أنه مساو لك، فإنه سيصبح على هذا النحو. استخدم توكفيل مفهوم الشبيه أو النظير للإشارة إلى القوة الإبداعية للرأي العام الديمقراطي؛ فجارك ليس مساويا لك تماما، لكنه شخص يشبهك، على الرغم من أنه أكثر أو أقل ثراء أو جمالا أو ذكاء منك؛ لذا يمكنك التعامل معه على أنه مساو لك؛ مما يعني أن جوانب عدم المساواة بينك وبينه لا تمنح أيا منكما سلطة على الآخر.
يجب أن نطبق مفهوم الشبيه على عبارة توكفيل التي تقول إن الثورة الديمقراطية تؤدي إلى مساواة أكبر في الأوضاع، وهي عبارة يعترض عليها بعض القراء؛ لأنها تغفل على ما يبدو جوانب عدم المساواة الواضحة التي تستمر فيما نسميه «الديمقراطية». لكن ما «نطلق» عليه ديمقراطية «يكون» ديمقراطية؛ فالديمقراطية هي سيادة الكل المتساوين منهم وغير المتساوين؛ حيث إن جميعهم يعتبرون أنفسهم متشابهين. فالناس الذين ينظر إليهم على أنهم متساوون يكونون متساوين في الواقع، على عكس تساويهم من الناحية النظرية، وهي مساواة نادرا ما تلاحظ، هذا إن حدثت، ويعتبرها المنظرون الليبراليون الحالة الطبيعية. استبدل توكفيل بالمساواة الطبيعية المزعومة للبشر المساواة العرفية التي يرى فيها الناس أن الآخرين مشابهون لهم. غير أن المساواة العرفية بين المتشابهين ليست اعتباطية تماما؛ فهي تقوم على أساس الفخر بالطبيعة الإنسانية التي بموجبها يعتقد الفرد أنه مهم؛ حيث يمكن للفرد أن يشعر بالفخر بأنه لا يوجد من هو أعلى مكانة منه (كما في الديمقراطية)، كما يشعر بالفخر بأنه أعلى مكانة من الآخرين (كما في الأرستقراطية).
عندما تذعن للرأي العام، فإنك لا تذعن لشخص أو جماعة قد يبدو أن لها سلطة عليك؛ فغموض الرأي العام لا يحميه فقط من الاتهام أو تحمل المسئولية، وإنما يسمح له أيضا بأن يصبح بمنزلة سلطة؛ فالتشابه داخل شعب ديمقراطي يجعل الديمقراطية تبدو طبيعية، بالرغم من أنها إلى حد كبير عرفية. وعلى الرغم من إقرار توكفيل بوجود فارق بين الطبيعة البشرية والعرف البشري، فإنه لم يحاول توسيع هذا الفارق كما فعلت النظرية الليبرالية، التي عارضت الاثنين كما لو كان كل منهما معاديا للآخر، لكنه بدلا من ذلك مزج بين ما هو معطى وما هو مصطنع.
إن الإحساس بالفخر يتم الثناء والهجوم عليه في نفس الوقت في ظل الرأي العام الديمقراطي؛ فعندما يقارن فرد نفسه بآخر، يشعر بالفخر لأنه متساو مع الآخرين، لكنه عندما يقارن نفسه مع «مجموع كل المشابهين له»؛ أي جمع كبير من الناس، يغلبه شعور بالضآلة وعدم الأهمية؛ لذا فإن الرأي العام «يضغط على نحو كبير على عقل كل فرد»، فيحاصره ويوجهه ويقهره. وكلما زاد تشابه الأفراد بعضهم لبعض، زاد شعور كل منهم بالضعف في مقابل الآخرين كلهم، ويبدأ في عدم الثقة والتشكك في نفسه عندما يجد نفسه مختلفا مع الأغلبية؛ وهكذا فإن الأغلبية «ليست في حاجة إلى قهره، وإنما هي فقط تقنعه.» وهذا هو سبب ندرة الثورات الكبيرة في الديمقراطية، بحسب اعتقاد توكفيل؛ فالشعوب الديمقراطية ليس لديها الوقت ولا الميل للبحث عن آراء جديدة، فهي لا تحيد عن الآراء الشائعة بالرغم من الأخطاء الموجودة بها دون النظر لشعورها بالخضوع لأنها تذعن لرأي الأغلبية.
الرفاهية المادية
يقوم الرأي العام على الرغبة في «الرفاهية المادية»، بحسب تعبير توكفيل. في المرة الأولى التي استخدم فيها توكفيل هذا المفهوم، كان يتحدث عن تأثيره على الآراء السياسية؛ هذا التأثير الذي يتجلى على نحو خاص لدى الأجانب الذين يأتون إلى أمريكا وتزدهر حياتهم. هناك صديق فرنسي لتوكفيل قابله في رحلته لأمريكا كان داعيا معروفا لمفهوم التوزيع العادل للثروة في فرنسا، لكنه تعلم من خلال نجاحه في أمريكا - مع تغير آرائه بسبب زيادة ثروته، ومع تخليه عن الدعوة للعدالة في توزيع الثروة - أن يتحدث عن حق الملكية تماما كما يفعل الاقتصاديون أو الماديون، ومن هنا، بدأ توكفيل الربط - الذي قد يبدو توسعا - بين المذهب الفلسفي للمادية والرغبة العامة في الرفاهية المادية. إن كلا من المذهب والرغبة له سلطة غير رسمية في أمريكا؛ مما يؤدي إلى أداء عادي لا بريق له، غير مفسد للأخلاق في مراحل عديدة من الحياة الديمقراطية. خصص توكفيل سبعة فصول متتالية في الجزء الثاني من كتابه لتناول تلك الرغبة، لكنه أدان المذهب بعنف قبل ذلك في مقدمته للجزء الأول، ووصف من يحاولون «تحويل الإنسان إلى مادة»، بأنهم سفهاء ومغتصبون للسلطة ولا قيمة لهم.
سيبدو من مثال الصديق الفرنسي الذي لم يحدد توكفيل اسمه أن الرغبة في الرفاهية المادية في أمريكا تسببت في ظهور المذهب بشكله السائد هناك؛ بحيث يتحدد الرأي الاقتصادي من خلال الطبقة أو المصلحة الاقتصادية، كما في الماركسية. لكن توكفيل لم يتبع هذا المسار؛ فقد أكد على أن الرغبة في الرفاهية المادية (التي أطلق عليها أيضا في الجزء الثاني «المتع المادية») نابعة من الديمقراطية؛ فهي لها سبب سياسي لا اقتصادي، وهي ليست ناتجة عن الرأسمالية أو روح الرأسمالية كما اعتقد ماكس فيبر، فما هي إذن تلك الرغبة؟ تحدث توكفيل عن طابع تلك الرغبة وربطها بمقابلها الواضح؛ ألا وهو الروح؛ حيث للرفاهية المادية جانب غير مادي في الديمقراطية الأمريكية؛ فالروح الديمقراطية لها طبيعتها المضطربة المستمدة من الرغبة في هذا الشيء على الخصوص.
إن الأمريكيين في واقع الأمر لديهم رغبة في الحصول على الأشياء المادية النابعة من وضعهم الاستثنائي غير الموجود في كل الأمم الديمقراطية، وقد استغل توكفيل هذه الفرصة لينفي أن أمريكا ستكون هي المثال الذي يجب أن تحذو تلك الأمم حذوه في هذا الشأن؛ فأمريكا متطرفة جدا في تلك الرغبة، لدرجة أن المرء يجب أن يذهب إلى هناك حتى يتعرف على مدى تأثير تلك الرغبة، وهو الأمر الثاني - بعد البراعة في إنشاء الجمعيات - الذي قال عنه توكفيل إن على المرء أن يشهده بنفسه حتى يقدر أهميته. وفي تناوله للأجناس الثلاثة، قال إن البيض في الشمال يعتبرون الرفاهية المادية الهدف الأساسي لوجودهم، وهذا يدل على أن تلك الرغبة ليست واحدة في كل أمريكا، غير أنه بالرغم من تلك الصفات، أكد على أن المساواة، من خلال «قوة خفية» ما، تجعل الشغف بالمتع المادية (وليس فقط الرغبة فيها) و«التفضيل الحصري للحاضر » الذي يصاحب تلك الرغبة؛ يسيطران على قلب الإنسان.
ما هي تلك القوة الخفية؟ في الفصل الذي تناول فيه توكفيل الرغبة في الرفاهية المادية في الجزء الثاني، قارن ثانية بين الديمقراطية والأرستقراطية؛ فالرجل الأرستقراطي يحتقر الرفاهية المادية، ويمكن أن يستغني عن الأساسيات، في حين أن الرجل الديمقراطي لا يمكن أن يعيش دون تلك الرفاهية. في عصرنا الحالي، يعتبر نظام السباكة الحديث ضرورة في كل الدول الديمقراطية؛ فالرفاهية المادية توجد في المنتصف بين الفقراء والأغنياء؛ فالفقراء يريدونها والأغنياء لا يبالغون في التفاخر بها؛ فهي تنتشر مع نمو الطبقة الوسطى. إنها تحتاج لمجهود في الوصول إليها، ودائما ما يحيط بها القلق. فهي رغبة عنيدة وحصرية وعامة، لكن لها أهدافا بسيطة تتشبث بها الروح. وعلى الرغم من أنها تشجع الشعوب الديمقراطية على الإفراط، فإنها مقيدة، وقال توكفيل إن لومه للمساواة لا ينبع من أنها تجعل الناس يسعون من أجل الحصول على متع محظورة، وإنما في أنها تجعلهم ينشغلون بالكامل في البحث عن متع غير محظورة؛ فبحسب قوله: «هم يقعون فريسة للدعة لا للإغواء.» فالرغبة في الرفاهية المادية صادقة ومقبولة، فقط لأنها تفتقد الطموح الكبير: «من الصعب الخروج عن المسار العام، سواء من خلال الرذائل أم الفضائل.»
إن وجود رغبة مقبولة لحيازة متع هذا العالم هو الشغف السائد في أمريكا، لكنه ليس الشغف الوحيد. عرض توكفيل فجأة نقاشا حول الروح في هذا السياق، موضحا الشغف الآخر المضاد للشغف السائد ومبينا قوته الخفية. بالنظر إلى الصورة التي رسمها توكفيل للواعظين المتجولين، الذين وجدوا جماهيرهم في البرية في الغرب ونقلوا إليهم «روحانيات سامية» غير موجودة في أوروبا، نجد أنه كشف عن إحدى حقائق الطبيعة الإنسانية؛ فالإنسان، بحسب قوله، لديه رغبة في اللانهاية وحب للخلود. إن هاتين الغريزتين الساميتين ليستا من ابتكار عقله، لكنهما من الأسس الثابتة في طبيعته، بحيث يمكن إعاقتهما أو تشويههما لكن لا يمكن أن يختفيا؛ فالروح لا ترضى بالمتع التي تأتي من الحواس؛ فهي لها احتياجات خاصة بها يجب أن يتم إشباعها، ولا يمكن شغلها عن ذلك لفترة طويلة قبل أن تشعر بالملل والاضطراب والقلق. إن الأمريكيين يشعرون بالاضطراب والحيرة على نحو يذكرنا بفلسفة باسكال، أحد الكتاب المفضلين لدى توكفيل.
ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلى الرؤية الأمريكية الخاصة بالمصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد؟ عند الحديث عن حب الخلود في الطبيعة الإنسانية، ألمح توكفيل إلى أن الفرد لا يمكن أن يرى أن كل شيء مصدره الذات؛ فالطبيعة هي مصدر هذا الحب، والطبيعة وليس الإنسان هي التي صنعت تلك الذات. علاوة على ذلك، يبدو أن حب الخلود بمنزلة امتداد للشغف السائد؛ لأن الرغبة في التملك تصبح حبا للخلود عندما تكسر «الأغلال المقيدة التي يرغب الجسد في فرضها» بسبب عدم الرضا عن الجانب المادي. وهكذا، تتحرك المصالح المادية من خلال القوة الكبرى لما يرغب في أن يطلق عليه «المصالح غير المادية للإنسان»، التي هي امتداد مهم لجزء «المفهومة على نحو جيد» من المصلحة الشخصية. والمصلحة الشخصية بهذا المعنى الواسع ترتبط بالذات من خلال «روابط مادية»؛ أي السياق الإنساني، لكن حقيقتها غير المادية تكون متجاوزة للذات. بل إن الأمريكيين أنفسهم يدركون على نحو ضمني أن شغفهم بالأشياء المادية لا يمكن أن يؤدي بهم إلى الشعور بالرضا، على الرغم من أن تجربة السمو فوق المادية يمكن أن تكون مقتصرة على القليل من الأشخاص. والروح لها احتياجات لا يفهمها الأمريكيون؛ ولذا عندما تنفصل الروح عن المصالح المادية، لن تستطيع أن توقفها أي حدود، وستتجاوز الفطرة السليمة إلى اللانهاية.
تحول المساواة البشر إلى سلع مادية؛ لأنها تطيح بأي سلطة أرستقراطية تهيمن عليهم أو تجبرهم على تحويل انتباههم للمستقبل، أو التضحية بمصالحهم المادية من أجل هدف طويل الأجل. يركز الديمقراطيون على الأجل القصير؛ فهم يوجهون انتباههم للحاضر. وما الشيء الموجود في الحاضر الواضح للجميع دون حاجة إلى تعليم أو تضحية؟ إنه السلع المادية. تكمن المشكلة في أن السلع المادية التي يمتلكها الفرد تزيد التطلع لديه من أجل المزيد؛ مما يؤدي إلى عدم الرضا بدلا من الرضا. في أي ديمقراطية، يكون لدى الفرد الحرية في تغيير مكانه ووظيفته ومنزله، وحيث إن الأمريكيين يوجهون انتباههم باتجاه الأشياء الجيدة في هذا العالم، ويسعون دائما من أجل المزيد، فيجب أن يكونوا دائما في حركة دءوبة؛ فلا قانون ولا عرف يجعلهم يقفون في مكانهم؛ لذا فإن الأمريكيين يشعرون بالحزن والكأبة، ولا يمكنهم الحصول على ما يريدونه؛ فالحياة قصيرة جدا، وهناك عدد كبير جدا من الاختيارات.
على الرغم من أن الأمريكيين يجمعون بين رغبتهم في الرفاهية المادية وحب الحرية والاهتمام بالشأن العام، لا يوجد ارتباط لازم بين هذه الأشياء؛ فمن غير الملائم عادة أن تمارس حقوقك السياسية بحيث يمكن أن تؤدي مصلحتك الشخصية إلى تجاهل اهتمامك الأساسي في هذه الحياة، وهو أن تبقى سيد نفسك في ظل سيادة الشعب. إن السعي من أجل الرخاء مشروع، لكنه عندما يؤدي بالإنسان إلى عدم «استخدام أكثر ملكاته سموا»، فهو برغبته في تحسين كل شيء من حوله يحط من شأن نفسه؛ فبحسب تعبير توكفيل، «اللؤلؤة هناك وليست في مكان آخر.»
صاحب عرض توكفيل لهذا الموضوع نقاش للمادية؛ فالمادية، بحسب قوله، «داء خطير للعقل الإنساني في كل الأمم»، لكن على نحو خاص في أي أمة ديمقراطية؛ لأنها تجتمع مع «أكثر الرذائل المألوفة للقلب». إن المادية في حد ذاتها ليست ديمقراطية، وبالطبع هناك ماديون في العصور الأرستقراطية. هاجم توكفيل كل الماديين؛ لأنه وجد أن المادية ضارة، وأن الماديين أنفسهم مثيرون للاشمئزاز في فخرهم. يعلم المذهب الناس ألا يهتموا بالسياسة أو الأخلاق، حتى على الرغم من أن المادية الحديثة تصاحب الديمقراطية. ربما نحاول أن نستخلص من المادية درسا مستفادا مقبولا ظاهريا نخبر الناس من خلاله أنه لا يوجد ما يميز المادة التي خلق منها الإنسان عن أي مادة أخرى؛ ومن ثم يجب ألا يغتر الإنسان كثيرا بنفسه. لكن بدلا من ذلك، يفتخر الماديون على نحو مبالغ فيه بالإعلان أن البشر ما هم إلا همج، يتصرفون «بفخر مبالغ فيه كما لو كانوا تأكدوا أنهم آلهة.»
إن أساس مهارة أي مشرع، بحسب قول توكفيل، يكمن في تقدير النزعة الأساسية للمجتمعات الإنسانية بحيث يحدد الجوانب التي يدعم فيها جهود المواطنين وتلك التي يكبحها فيها. وفي أي نظام ديمقراطي، يجب على المشرعين وكل الرجال الأمناء والمستنيرين أن يسموا بأرواح إخوانهم المواطنين، وأن يحولوا انتباههم للآخرة، تماما كما يفعلون في أمريكا، وذلك بحسب اعتقاد توكفيل. ويجب أن يفعلوا ما في وسعهم من أجل سيادة الأفكار الروحية، لكن هذا ليس بالمهمة السهلة؛ لقد انتصر سقراط وأفلاطون على الماديين القدماء، وترجع شهرتهما - وحتى بقاء كتاباتهما مقارنة بالمقتطفات القصيرة التي وصلت إلينا من أعمال الماديين القدماء - إلى التقدير الذي يبديه الناس للجانب غير المادي من الإنسان. إن هذا ليس دليلا على صحة المذهب الروحاني، ويبدو من خلال تناول توكفيل أن هذا المذهب سيثبت صحته على أفضل نحو من خلال حقيقة أن الناس يؤمنون بصحته؛ أي من خلال سرد للطبيعة الإنسانية وتطلعها للحياة أو هدف العيش، فيما يتجاوز الجانب المادي إلى الجانب الروحاني.
والآن الوسيلة البسيطة والعامة والعملية الوحيدة لتعليم الإنسان أن له قيمة خاصة ومسئولية خاصة، هي تعليمه أن له روحا، وعلى وجه الخصوص أن تلك الروح خالدة؛ يعني هذا تعليمه الدين. لكن باعتبار توكفيل ليبراليا، أراد فقط أن يرفع من مكانة الدين وأن يعلي من شأن الجوانب الروحية فيه، وألا يؤسس لنظرية فلسفية أو كنيسة رسمية؛ فعندما تصبح الكنيسة ذات طابع سياسي، تصبح لها مصالح دنيوية وتفقد سلطتها الأخلاقية، ومعها أيضا سلطتها السياسية. وللحفاظ على المسيحية، قال توكفيل قولته المشهودة: «أفضل تقييد القساوسة بسلاسل في معتزلهم، عن السماح لهم بتركه.» تكون النتيجة في الديمقراطية هي الخلاف أو الصراع بين الرغبة في المتع المادية والدين. يريد توكفيل لهذا الخلاف أن يبقى موجودا؛ لأنه نابع من قلب الإنسان الذي به مساحة لكل من «الرغبة في متع الدنيا وحب متع الآخرة.» يجتاز قلب الإنسان الفرق بين الديمقراطية والأرستقراطية، ويوفر المبرر لعداء توكفيل للمادية الموجودة في الديمقراطية.
الفصل الرابع
استبداد الديمقراطية
يأتي الخطر الأكبر على الديمقراطية من الديمقراطية نفسها، ولمعرفة هذا، يجب الرجوع للاختلاف الواضح بين جزأي كتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا»؛ فبعد مناقشة مبدأ سيادة الشعب في الجزء الأول، غير توكفيل توجهه على نحو ملحوظ في الجزء الثاني؛ فبدلا من الحديث عن سيادة الشعب، تكلم عن «فردية» جديدة تنقلب على إحساس الشعب الواعي بأنه يحكم نفسه، وتنصب «الكائن العملاق» المتمثل في الحكومة الكبيرة في السلطة؛ فبدلا من استبداد الأغلبية، وصف «استبدادا هادئا» جديدا ينتج عن تلك الحكومة. وللتدليل على هذا التغيير، لم يستخدم عبارة «استبداد هادئ» في الجزء الأول، ولم يشر إلى «استبداد الأغلبية» في الجزء الثاني. فعليا، يبدأ التغيير من اعتبار الخطر الأساسي في الديمقراطية هو استبداد الأغلبية القائم على الاضطهاد العلني، والمتضح في استعباد السود، وصولا إلى استبداد هادئ تخضع فيه الأغلبية على نحو سلبي للطبيعة المتكبرة والعنيدة والمضطربة المميزة لأي مستبد، وتصبح «قطيعا من الحيوانات الجبانة الكادحة.»
وبأخذ هذا التغيير في الكلمات والمعنى في الاعتبار، ذهب بعض الباحثين بعيدا إلى حد الزعم بأن الجزأين يتحدثان عن «ديمقراطيتين» تختلف كل منهما عن الأخرى، وأصبح من الشائع الإشارة إلى الديمقراطية الأولى بأنها «ديمقراطية 1835»، والثانية على أنها «ديمقراطية 1840»؛ ربما تعد هذه مبالغة كبيرة. بالتأكيد، كانت لدى توكفيل فرصة لمراجعة أفكاره في السنوات الخمس التي بين نشر الجزأين. اعترف توكفيل بوجود بعض الاختلاف قائلا في خطاب إن الجزء الأول يتحدث أكثر عن أمريكا، مهد الديمقراطية، في حين يركز الجزء الثاني على الديمقراطية نفسها، لكن هذا يصف تغيرا في التركيز وليس تغيرا في الرؤية. وعلى نحو أكثر جزما، قال في مقدمته للجزء الثاني إن «الجزأين يكمل كل منهما الآخر، ويشكلان عملا واحدا.»
مع هذا الإنكار الصريح، لا لوجود اختلاف بين الجزأين وإنما لوجود انفصال بينهما، ترك توكفيل لقرائه ملاحظة التغيير وفهمه من تلقاء أنفسهم. وعندما وصف استبداد الأغلبية في الجزء الأول، كان قد قال بالفعل إن أسوأ ما فيه هو ممارسة الاستبداد على العقول، وليس الأجساد. ربما يكون الاستبداد الديمقراطي الجديد تطورا مقصودا في حجته بسبب الديمقراطية غير الرسمية، وليس تغيرا كاملا في الرؤية.
قال توكفيل أيضا في مقدمته للجزء الثاني إنه تحدث في الجزء الأول عن القوانين والأعراف السياسية، وإنه سيناقش في الجزء الثاني «المجتمع المدني» الذي يتضمن المشاعر والآراء والعلاقات التي ليست سياسية على نحو مباشر. غير أنها في نهاية الأمر سياسية أيضا؛ ولذلك عاد - في القسم الرابع من الجزء الثاني من الكتاب - لوصف تأثيرها على السياسة الديمقراطية. إن الديمقراطية ليست فقط أشكال الحكم والحالة الاجتماعية للشعب الأمريكي المتناولتين في الجزء الأول، وإنما أيضا أسلوب حياة وغاية مجتمع. يعرض الجزء الثاني كيف تنظر الديمقراطية بعين الاحترام لغايتها أو هدفها. قال توكفيل شيئا لم يسبق له أن قاله، وهو أنه ليس معارضا للديمقراطية ولا مؤيدا شديدا لها؛ ومن ثم فهو سيتحدث عنها بأمانة؛ فجمهوره المستهدف ليس أعداءها من الأرستقراطيين الذين قال عنهم إنهم إلى زوال، وإنما مؤيدوها غير الحكماء الذين تناولهم على وجه الخصوص في القسم الأول من الجزء الثاني الذي تعرض للعقل الديمقراطي.
العقل الديمقراطي
من الواضح أن توكفيل تناول الممارسة الديمقراطية في أمريكا، مؤكدا على أن الممارسة، وليس الأفكار الفلسفية، كانت هي السبيل لتعلم الأمريكيين للديمقراطية. لكنه في القسم الأول من الجزء الثاني، تحول للفلسفة لا ليتناول تأثير الفلسفة على الديمقراطية، وإنما ليتناول تأثير الديمقراطية على الفلسفة وعلى «الحركة الفكرية في الولايات المتحدة». كانت هذه هي إحدى المرات المبكرة التي يذكر فيها مفهوم «حركة فكرية»، وربما تكون هي الأولى، ولقد استخدم هذا المفهوم بالصيغة المفردة، وليس «حركات فكرية» بصيغة الجمع كما نفعل اليوم، للإشارة إلى أنه أراد أن يعرف كيف يعمل العقل الديمقراطي، وما إذا كان يعمل أم لا. قال إن الديمقراطية «لا تقاوم»؛ أي لا يمكن مقاومتها، لكن اتضح أن هناك «أنصارا» مزعومين للديمقراطية يستخدمون الكلمة بطريقة مختلفة؛ فهم يعتقدون أن البشر لا يوجد أمامهم خيار سوى الإذعان لقوى كبيرة غير محددة تحدد حياتهم وتسلبهم إمكانية التحرك («الفكري») الطوعي الواعي باتجاه الحرية الديمقراطية باعتبارها الهدف.
من هؤلاء الأشخاص؟ وصف توكفيل نوعين من المفكرين كان يرى أنهما يضران بالديمقراطية؛ وهما أنصار الواحدية (مذهب وحدة الوجود) والمؤرخون الديمقراطيون. لكنه في بداية نقاشه، خص شخصا واحدا بتناول منفرد - وهو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي ظهر في القرن السابع عشر - قال إن الأمريكيين يعطون اهتماما أقل للفلسفة مقارنة بأي مكان آخر في العالم المتحضر، غير أنهم جميعا يستخدمون منهجا واحدا في التعامل مع المسائل الفكرية يقوم على الجهد والحكم الشخصيين، وهو نفس المنهج الذي دعا إليه ديكارت؛ فأفكاره «هي الأقل دراسة ولكن الأكثر اتباعا» في أمريكا. كما أن الحالة الاجتماعية الديمقراطية للأمريكيين تبعدهم عن الفلسفة وتجعلهم يميلون لتبني أفكار ديكارت؛ ففي تلك الحالة، لا يلتزم الناس بالعرف ولا يتقبلون رأي طبقة معينة؛ فحيث إنهم لا يرون أن هناك من هم أعلى مكانة منهم، فإنهم لا يثقون إلا بأنفسهم.
يعرض كتاب توكفيل وجهة نظر غريبة بشأن ديكارت - الذي لا يعد عادة فيلسوفا سياسيا، وهو بالتأكيد ليس من دعاة الديمقراطية - حيث يعلن توكفيل من خلالها أن ديكارت هو من وضع، دون أن يقصد، «المنهج» (وهو مصطلح خاص بديكارت) الديمقراطي. وهو يعرض هنا وجهة نظر غريبة أخرى عن الأمريكيين، وهي أنهم متأثرون بشدة بفيلسوف فرنسي لم يقرأ أي منهم شيئا من أعماله، أو أنهم يتفقون مع أفكاره على نحو غير واع. إن ديكارت، الذي يعد أشهر جهوده هو تحدي السلطة، أصبح هو نفسه سلطة ومرجعية في أمريكا في كل شيء ما عدا اسمه؛ فهجومه على السلطة أصبح مرجعية تبرر سيادة الفرد. من الصعب تحديد ما إذا كان توكفيل قد جعل ديكارت أو المفكرين الأمريكيين الجهلاء به يبدون أكثر سخافة أم لا؛ ففلسفة ديكارت القائمة على «أفكار واضحة ومميزة» تستخلص منها السيادة الخرقاء لكل الأمريكيين غير المهتمين أصلا بالفلسفة، الذين يعرفون على نحو أساسي ما يعرفه دون الحاجة إلى قراءة أعماله. غير أن الأمريكيين يخلعون - بشكل عبثي - سلطة على أشخاص معينين، في الوقت الذي كان يجب أن يتعاملوا معهم فيه بارتياب، إذا كانوا يتبعون بحق منهج ديكارت. وفي ظل الابتذال والتناقض، ما هو إذن نوع الحركة الفكرية التي يتحدث عنها؟
لتفسير العقل الديمقراطي، تأمل توكفيل طبيعة الوضع الإنساني؛ فكل الحركات الفكرية في مقابل الحركات الفطرية أو التلقائية تحتاج لاستخدام الفرد عقله، واستخدام الفرد عقله يعني الشك في صحة ما يقال له. لكن إذا كان التفكير يتضمن إنتاج فعل، فيجب أن يكبت الفرد شكوكه؛ فلا يوجد فرد لديه الوقت للتفكير في كل شيء بنفسه أو القدرة على ذلك، ولا يمكن لمجتمع أن يستمر دون وجود أفعال وأفكار مشتركة، وحتى الفيلسوف يجب أن يضع افتراضات؛ لأنه لا يستطيع التفكير في كل الجوانب المتعلقة بكل أمر.
قام توكفيل بعد ذلك بتحول سهل من الحاجة إلى سلطة، إلى الحاجة إلى إيمان؛ حيث إن كلا من المجتمع والفرد يجب أن يقبلا وجود «أساس أولي» قائم على الإيمان، الذي هو في حقيقة الأمر نوع من العبودية، لكنها «عبودية محمودة» وضرورية. بالغ كل من ديكارت والحالة الاجتماعية الديمقراطية التي تردد صدى فلسفته في تقدير سلطة العقل البشري؛ فلا يمكن للعقل أن يحل محل السلطة ويؤسس لاستقلالية الفرد؛ فبحسب رأيه، كل ما يمكن للعقل الإنساني أن يفعله هو تغيير السلطة الأرستقراطية إلى السلطة الديمقراطية، وهو يستطيع أن يفعل ذلك؛ فالإنسان ليس بطبيعته «حرا على نحو كامل»، بداية من الوضع الذي لم تكن توجد فيه أي سلطة، كما افترض كل من هوبز ولوك؛ فالديمقراطية لا تنشأ من الحالة الطبيعية التي لا يوجد في ظلها أي سلطة، وإنما تنشأ على يد ديمقراطيين ينكرون سلطة أي شخص أو طبقة عليهم؛ وبقيامهم بهذا، يشعر كل منهم بالفخر بالمساواة بينه وبين الآخرين. غير أن كلا منهم في الوقت نفسه يغلبه شعور بالضعف والضآلة مقارنة ب «الكيان العظيم» المتمثل في مجموع الآخرين؛ لذا فإن السلطة الديمقراطية لها تأثيران متناقضان على العقل: جلب أفكار جديدة إليه متعلقة بإنكار الأعراف والتقاليد، وفي الوقت نفسه حثه على التخلي عن التفكير في مواجهة الرأي العام.
استنادا إلى الحاجة إلى الإيمان، أشار توكفيل إلى أن العقل الديمقراطي يحب التعميم، وهذه نقطة ضعف في اعتقاده؛ فالرب، الذي يعرف كل الأمور المتشابهة والمختلفة، ليس بحاجة إلى أفكار عامة، لكن الإنسان يحتاج إلى الاستفادة من جمع الأشياء المتشابهة معا في فئة واحدة. والأمريكيون يبدون اهتماما بالأفكار العامة أكبر من اهتمام «أسلافهم الإنجليز»، الذين يمثلون الماضي الأرستقراطي الإنجليزي لأمريكا، وذلك في مقابل من كانوا يمثلون نقطة انطلاقها نحو الديمقراطية، وهم البيوريتانيون الذين كانوا يعارضون النظام الأرستقراطي الإنجليزي. إن الأرستقراطيين لديهم كره غريزي للتعميمات؛ حيث إنهم يفضلون التفكير في شخص واحد أو مجموعة قليلة من الأشخاص في المرة الواحدة، لكن الديمقراطيين لديهم شغف مندفع وكسول لعمل تلك التعميمات؛ لأنهم ينطلقون من الحقيقة الواضحة بأن الجميع من حولهم يتماثلون معهم تماثلا شبه تام؛ أي إنهم جميعا «متشابهون» معهم. ومن خلال المساواة الديمقراطية، تأتي عادة التفكير اعتمادا على التعميم المتسرع والخوف من التعمق في التفكير، ونقطة الضعف هذه التي تتسبب فيها الديمقراطية شجعت توكفيل على تقديم تناول جديد للدين؛ ففي الجزء الأول من كتابه، تعرض لفائدة الدين بالنسبة إلى الديمقراطية، وأوضح كيف أنه «يعلم الأمريكيين فن الحرية.» أما في الجزء الثاني، فقد تحول لتناول حقيقة الدين.
يساعد الدين الأمريكيين على التفكير من خلال إنقاذهم من الشك؛ ففي حين تفرض فلسفة ديكارت متطلب الشك، خاصة في الدين، فإن الدين من وجهة نظر توكفيل ينقذ أي شعب ديمقراطي من حالة التخاذل والعجز التي تنتج عن الشك؛ فالبشر بحاجة إلى «أفكار راسخة جدا لأنفسهم عن الرب وعن أرواحهم وواجباتهم العامة تجاه خالقهم ومن يشبهونهم»؛ لأنهم دون تلك الأفكار سيصبحون تحت رحمة الصدفة، ويكونون معرضين للفوضى والعجز. يفرض الدين «قيودا محمودة على العقل»، وإذا لم ينقذ الإنسان في الحياة الأخرى، فهو مهم لسعادته وعظمته في هذه الحياة؛ فهو يقدم إجابات على الأسئلة الكبرى التي من دونها سيتخاذل الإنسان ويتوقف عن التفكير كلية؛ نظرا لأنه تعوزه القدرة على التفكير بمفرده.
قد يرد ديكارت، أو أي فيلسوف آخر، بأن الشك يؤدي إلى وعي وحرية أكبر من الإيمان. وعند قراءة أعمال أفلاطون، سيجد المرء نظرة أقل إطراء ل «القيود المحمودة» كما يراها توكفيل في صورة الكهف الذي يقول سقراط إن معظم الناس مسجونون فيه. لكن توكفيل عارض هذا وأشار إلى أن الشك بالنسبة إلى معظم الناس يؤدي بهم إلى الاستسلام للصدفة؛ لأن الشك يتساءل عما إذا كان الشيء يحدث بانتظام أو على نحو متوقع؛ فإذا اعتقد الفرد أن الصدفة تحكم الأحداث الإنسانية، فإنه سيدع الأشياء تحدث دون أن يحاول التدخل في الأمر، ولن يحاول القيام بفعل حر ومتعقل. يؤكد لنا الدين أن الصدفة لا تحكم أحداثنا، ويشير إلى أن المساعي الإنسانية يمكن أن تنجح، وأن الأفعال الإنسانية لها معنى.
يمكن أن يعترض أحد قائلا إن الدين في جانبه الفكري ما زال يتم الحكم عليه استنادا إلى فائدته؛ لكن الآن، يمكن أن يجيب أحد بأنه يحكم عليه استنادا إلى فائدة العقل في توجيه الفعل؛ فالدين مفيد للديمقراطية لأنه يحرك فينا غرائز تعمل على نحو معاكس لحب المتع المادية، ولأنه بفعله هذا يعلمنا واجباتنا تجاه الآخرين، وفي كلا الأمرين، يعد الدين ضروريا للحرية. قال توكفيل إنه يعتقد أنه «إذا لم يكن لدى الإنسان إيمان، فإنه يجب أن يكون عبدا، وإذا كان حرا، فيجب أن يكون لديه إيمان.» عندما يفكر أحد في مدى العداء الذي توليه النظرية الليبرالية الكلاسيكية للإيمان، فإن ما يقوله توكفيل هنا يمثل في واقع الأمر «ليبرالية من نوع جديد.» فقد قدم توكفيل الدين على أنه الوجه العام للفلسفة، وهو صديق لها أكثر من كونه عدوا لها؛ مما يحمي الفلسفة من إحداث ضرر غير مقصود، وهو ما ستحدثه إذا تركت وشأنها.
الواحدية فلسفة دينية أو «نظام فلسفي»، يضم - كما في مذهب سبينوزا - الرب والكون، الخالق والخلق، في كل واحد؛ وهذا يعني أن الرب كان عليه أن يخلق كما فعل، وأن الرب هو أثر لخلقه مثلما كان السبب فيه؛ وهذا يعني أيضا أن الإنسان لا يمكن أن يوجهه عقله، ولا يمكن أن يكون السبب الأول كما هو الحال بالنسبة إلى البيوريتانيين، وأنه لم يعد حرا أكثر من عناصر الطبيعة الأخرى. إن هذا المذهب ليس فقط تعبيرا عن العقل الديمقراطي، بل هو فكرة عامة تلغي كل الفروق في الطبيعة ولا تعطي أي مكانة متميزة في الطبيعة للبشر. كما أنه يعد هجوما على العقل الديمقراطي أو أي مفهوم للعقل؛ لأنه ينكر قدرة البشر على أن تكون لهم أفضلية على باقي عناصر الطبيعة عن طريق التفكير والتأثير فيها، كما أنه يعد الذروة المنطقية للموضوعية العلمية؛ حيث لا يعطي أي أفضلية للبشر وأيضا، وعلى نحو غريب، للمساواة الديمقراطية؛ فالكون بأكمله ديمقراطي.
غير أن توكفيل بعد أن أورد مباشرة نقاشه الموجز والمهم في ذات الوقت لمذهب الواحدية، تناول فكرة التقدم التي أطلق عليها «القابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال». السؤال الآن: ما علاقة هذا بمذهب الواحدية؟ التقدم هو الاعتقاد الإيجابي الأساسي للعقل الديمقراطي، على الرغم مما يحيط به من شك وميله للحتمية العمياء؛ فالتقدم سيبدو كتحسن معقول للوضع القائم بحيث يصبح أفضل حالا، وسيبدو أنه المثال الأساسي على «حركة فكرية» مثل تلك التي يتحدث عنها. والآن، يبدو أن التقدم قدرة إنسانية تميز الإنسان عن غيره من الحيوانات وباقي الخلق؛ فالخلق إذن ليس «كلا واحدا» كما يدعي مذهب الواحدية، وإنما كل معقد يتضمن كيانا قادرا على التغيير والتجديد - وهذا هو التقدم - بخلاف باقي الكون. إن فكرة التقدم لا تتلاءم مع مذهب الواحدية، غير أنهما تعبير عن العقل الديمقراطي. يرغب مذهب الواحدية في التعميم بالرغم من كل الفروق والاختلافات، لكن تصر فكرة التقدم على وجود استثناء واحد؛ وهو الإنسان الديمقراطي، حتى تبدي احتراما للعقل الديمقراطي الذي صاغ التعميم الذي يقوم عليه مذهب الواحدية. يقول الديمقراطيون إن جميع الأشياء في واقع الأمر متكافئة على نحو أساسي، باستثناء الديمقراطيين الذين يؤكدون على تلك النقطة.
يمكن تبين عدم الاتساق داخل فكرة التقدم؛ فالمساواة، بحسب قول توكفيل، «توحي» للأمريكيين بفكرة قابلية الإنسان «اللامحدودة» لبلوغ الكمال، وهي توحي بذلك ولكن لا تجبر الديمقراطيين على الإيمان بالتقدم؛ لأن الإجبار سينتقص من مكانة الابتكار الإنساني ومن تصور طريقة أفضل للوجود أو للفعل والترويج لتلك الطريقة. السؤال: لماذا التقدم الديمقراطي غير محدود؟ يمكن أن يحدث التقدم في النظم الأرستقراطية، لكنه سيكون محددا في ظلها؛ فهو عبارة عن تطوير باتجاه الكمال أو تقدم «في حدود معينة لا يمكن تجاوزها»؛ فلا يمكن للتقدم أن يتجاوز حد الكمال، ولا يستطيع سوى الاقتراب من الكمال، باعتبار أن البشر ناقصون.
لا تسعى النظم الديمقراطية وراء الكمال وإنما وراء شيء مختلف؛ وهو: «صورة كمال مثالي صعب الوصول إليها دائما»؛ «عظمة كبيرة» دائما ما تتوارى لكن يمكن لمحها فقط على نحو مشوش. إنها لا تعرف المقصود بالكمال، لكنها في الوقت نفسه لا تنكر وجوده؛ إنها غير فلسفية لأنها تنكر وجود أي منطق أو حقيقة خارج ذواتها، غير أنها في الوقت ذاته تتبع «نظرية فلسفية» تقوم على القابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال التي تؤيد سيادة العقل على المادة، لكنها تقر بأن بإمكان كل البشر والدول تحقيق التقدم. ذكر توكفيل طرفة بطلها بحار أمريكي قال إن سفن بلاده لم تبن حتى تبقى للأبد؛ لأن التقدم سريع الخطى جدا بحيث سرعان ما تصبح السفن القديمة عديمة الجدوى. بالنسبة إلى الأمريكيين، لا يوجد ما يسمى بالسفينة الكاملة المثالية، لكننا - على نحو ما ودون أن نعرف ما المقصود بالكمال - نعرف على نحو غامض وغير محدد أن الجديد دائما يكون أفضل.
وهكذا، فإن للعقل الديمقراطي نظرية خاصة بالتقدم، لكنها تتجاهل النظرية المجردة الخاصة بالكمال، وتفضل تطبيق النظرية على الممارسة. قال توكفيل: «المساواة تثير في كل شخص الرغبة في الحكم على الأشياء بنفسه؛ فهي تعطيه فيما يتعلق بكل الأشياء رغبة في الأشياء الملموسة والواقعية، وازدراء للتقاليد والنظم.» فالناس في ظل حركة النشاط الدءوبة للديمقراطية ليس لديهم الوقت للتأمل الهادئ المطلوب للوصول ل «معظم المبادئ النظرية»، كما تنقصهم الآراء المعبرة عن «كرامة الإنسان وقوته وعظمته» التي لها قيمتها في النظم الأرستقراطية، ويستغنون عن العقل لصالح حب الحقيقة. حذر توكفيل من أن التقدم يعتمد على الاكتشافات التي تقوم على النظريات المجردة، والتي يكون احتمال الوصول إليها ضئيلا - وإن لم يكن مستحيلا - في المجتمعات الساعية للتقدم؛ فالتقدم يحدث على يد الشعوب التي لديها «شغف كبير بالحقيقة»، ولا يحدث نتيجة لحب التقدم. فالعلم، كما يبدو، ليس متعلقا بالمنهج العلمي - الذي هو منهج الأمريكيين - بقدر تعلقه بحب الحقيقة؛ ففي الحركة الفكرية للأمريكيين، لا يعرف الأمريكيون وجهتهم، وهم لا يبدون اهتماما كبيرا ل «تأمل الأسباب الأولى» الضرورية للعلم المجرد. قال توكفيل: «في وقتنا هذا، يجب على المرء أن يحتجز العقل الإنساني في النظرية»؛ حيث إن العقل الديمقراطي يفضل الجانب العملي ولا يهتم بالتفكير على نحو عميق ومستقل. وفي هذا القسم من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، كشف توكفيل عن تقدير للنظرية لم يكن على هذا النحو من الوضوح في أي موضع آخر في كتابه، لكنه لم يكن غائبا؛ ففي معظم الكتاب، كان يصف الأمر ثم يثني أو يعيب عليه، لكنه هنا، بصفته معلما للديمقراطية، شرع في تقديم النصح.
أشار توكفيل بعد ذلك فيما يتعلق بالفنون في أمريكا إلى أن الأمريكيين، بالرغم من قدرتهم على تقدير الجمال، يفضلون الشيء النافع على الشيء الجميل، ويريدون أن يكون الشيء الجميل نافعا. لكنه بعد ذلك عرض نقطة أقل وضوحا فيما يتعلق بروح التصنيع لدى الأمريكيين؛ فبخلاف العصور الأرستقراطية، حيث كان الهدف من الفنون الإنتاجية هو تصنيع أفضل منتج ممكن، نادرا ما يصنع الأمريكيون منتجات عالية الجودة؛ فهي تكون في الغالب متوسطة الجودة، بالرغم من أن الجميع يحصلون عليها. وباتباعهم هذا الأسلوب على نحو واع ومتعقل، فإن المهم بالنسبة إليهم أن يكون المنتج «جيدا على نحو كاف»، وقد اكتشفوا أن بإمكانهم أن يصبحوا أغنياء بأن يبيعوا منتجات رخيصة الثمن للجميع. لكن - كما قد يتساءل المرء - كيف سيسعى الأمريكيون للكمال في منتجاتهم إذا كانوا لا يدركون أن فعل الشيء يعني فعله على نحو متقن؟ وحتى المنتج المتوسط الجودة يحتاج إلى وجود نموذج مثالي، إذا أراد منتجه أن يطوره. أثنى توكفيل على الأعمال الفنية لرافائيل، وهو رسام من عصر النهضة يبدو أن توكفيل كان يعتبره أرستقراطيا؛ لأنه جعلنا «نلمح الألوهية في أعماله.» وألوهية كهذه تسمو فوق الكمال البشري، لكنها مصدر إلهام للكمال البشري الضروري للتقدم الديمقراطي ، غير أنه من المستبعد أن تتواجد في العصور الديمقراطية.
عند تلك النقطة، أثار توكفيل النقطة الخاصة بمكان العظمة في الديمقراطية؛ ففي ظل الديمقراطية، الأفراد ضعفاء، لكن الدولة أو الأمة قوية وعظيمة. ربما يعيش الأفراد في مساكن صغيرة، لكنهم في مبانيهم العامة العملاقة يتصورون رغبتهم في العظمة ويبدونها؛ فقد بنى الأمريكيون لأنفسهم مدينة ضخمة واصطناعية (وهي واشنطن العاصمة)، التي قلما وجدت بلدة فرنسية أقل سكانا منها في عصر توكفيل؛ ذلك لأن الديمقراطية في المجمل تنتج عددا كبيرا من المباني الصغيرة، وعددا قليلا جدا من المباني العظيمة، دون وجود وسط بين الأمرين. إن العظمة في الديمقراطية تقوم على الخيال الرحب، وقد ناقش في الفصول التالية من كتابه الأشكال المختلفة للتعبير الديمقراطي عن الرأي، التي يعبر من خلالها العقل الديمقراطي عن نفسه، مركزا على اتسامها بالمبالغة والغرور.
في الأدب، يحتقر الكتاب الديمقراطيون سمات الأسلوب الشكلية التي يتم تقديرها في النظم الأرستقراطية، كما أنهم أقل إبداعا وأكثر جرأة وحدة، وأقل علما وعمقا، وأكثر خيالا وإقناعا؛ فهم يسعون لإبهار الآخرين لا لإسعادهم، ولإثارة الانفعالات بدلا من رفع الذوق؛ فيمكن للمرء أن يلاحظ وجود عدد قليل من الكتاب العظام والآلاف من مروجي الأفكار. ولا تتم كثيرا دراسة الكتاب القدماء - باهتمامهم بالتفاصيل وجاذبيتهم بالنسبة إلى الخبراء - في النظم الديمقراطية حيث يكون التعليم علميا وتجاريا وصناعيا أكثر منه أدبيا؛ بالرغم من أنهم، بحسب اعتقاد توكفيل، «وجبة دسمة» بالنسبة إلى الديمقراطيين الذين يريدون التميز في مجال الأدب. وتعكس لغات الشعوب الديمقراطية رغبتهم في الحركة والابتكار وكرههم لأي شيء تقليدي أو تعسفي وحبهم للتجريد؛ فالشعر الديمقراطي لديه كره فطري لأي شيء قديم ولأي حديث عن أي شيء مثالي. بدلا من ذلك، هو منفتح على المستقبل ويسعى وراء أشياء رحبة مثل مصير كل الإنسانية، كما أن فن الخطابة الديمقراطي عادة ما يعتمد على التحذلق والمبالغة في الأسلوب، في حين أن المسرح الديمقراطي «يصبح أكثر إبهارا وأكثر فجاجة وأكثر صدقا» دائما مقارنة بالمسرح الأرستقراطي.
غير أن آخر فصلين في الفصول التي تتناول أشكال التعبير الديمقراطي عن الرأي يكشفان عن الغرور الحزين الموجود في قلب العقل الديمقراطي: ما مدى أهمية الإنسان في حالة المساواة بين كل الناس؟ للإجابة عن هذا السؤال، قارن توكفيل على نحو درامي بوجه خاص بين الديمقراطية والأرستقراطية، وقال إن المؤرخين في العصور الأرستقراطية يجعلون كل الأحداث تعتمد على الإرادات والأهواء الخاصة بأشخاص بعينهم، لكن في العصور الديمقراطية، هم لا ينسبون أي تأثير تقريبا في التاريخ لأي شخص، بل يحددون أسبابا عامة كبرى لحقائق معينة. صحيح أن تلك الأسباب، بحسب اعتقاده، تفسر الكثير في العصور الديمقراطية عندما يكون الأشخاص في واقع الأمر أقل تأثيرا، لكن تلك التفسيرات تكون خطيرة لأنها تخضع الأشخاص لعناية إلهية غير مرنة أو حتمية عمياء؛ فهي تشير ضمنا إلى أنه بما أن الإنسان ليس سيد نفسه، فهو لا يتحكم في الأحداث؛ ومن ثم ليس حرا. يبدو أن المؤرخين الديمقراطيين مصممون على إثبات أن التقدم ليس هدفا يتحقق على نحو واع وطوعي على يد البشر؛ فبحسب قوله: «يعلم المؤرخون القدماء الناس كيف يحكمون، أما مؤرخو اليوم، فنادرا ما يعلمونهم شيئا بخلاف كيف يطيعون.»
غير أن المؤرخين يبدون عظماء، ويتخلون على ما يبدو عن الأسباب الكبرى التي يصفونها ويزدرون بلا مبالاة باقي البشر الذين يجهلون القوى التي تحركهم. يبدو أن الفصل التالي المخصص لفصاحة أعضاء البرلمان في الولايات المتحدة غير متعلق بالتاريخ، لكنه في واقع الأمر يصب في نفس الاتجاه. في البرلمانات الأرستقراطية، لا يكون لدى الأعضاء، الذين هم في واقع الأمر أرستقراطيون، أي شيء يريدون إثباته ويقنعون بالسكوت إذا لم يكن لديهم أي شيء يقولونه. على العكس من ذلك، في أمريكا، يكون النائب شخصا عاديا، وهو يشعر دائما بالحاجة إلى أن تكون له ولمن انتخبوه أهمية ومكانة يبرزها؛ لذا فهو كثيرا ما ينزع لإلقاء خطب رنانة عديمة الجدوى. تتناقض روح النائب الديمقراطي الذي يقول إنه مهم مع روح المؤرخين الديمقراطيين الذين يفترضون أن الإنسان ليس له أهمية. من الواضح أن الإنسان الديمقراطي لديه رغبة في أن يكرم ، وهي رغبة غير معروفة لمن يعيش في ظل نظام أرستقراطي؛ حيث سيكرم باعتباره شخصا مهما؛ فعقله المحب للتعميم والمشغول بتبرير الديمقراطية متعارض مع عقله الشخصي الذي يحاول تبرير نفسه.
الفردية الديمقراطية
انتقل توكفيل من تناول أفكار العقل الديمقراطي إلى تناول «المشاعر» التي تميز القلب الديمقراطي، وأهم تلك المشاعر هو الإحساس بالضعف الذي أطلق عليه «الفردية». إن الفردية مصطلح نسمعه الآن كل يوم وبمعان مختلفة، وعادة بمعنى إيجابي كما في «الفردية الصارمة». لم يكن توكفيل هو أول من استخدم هذا المصطلح، لكنه كان أول من ركز عليه واعتبره أساسيا؛ فهو لم يعرفه بأنه نوع من الأنانية أو الأثرة؛ أي حب شديد للذات يعد بوجه عام رذيلة أخلاقية، وإنما على أنه شعور ديمقراطي، تأملي ومسالم، يجعل كل مواطن يميل لأن يعزل نفسه عن جموع المواطنين الآخرين وأن يتقوقع داخل أسرته وأصدقائه ونفسه. ويصاحب هذا الشعور شغف بالمساواة يكون دائما أقوى في أي نظام ديمقراطي من الرغبة في الحرية، لكنه في ذاته حكم خاطئ أكثر منه شغف أو رذيلة؛ وهذا الحكم، الناتج عن الحالة الاجتماعية الديمقراطية، هو نفسه الذي يقول به الواحديون والمؤرخون الديمقراطيون الذين يرون أن الفرد لا حول له ولا قوة، وأنه خاضع لقوى هائلة خارج الذات، وأن الفضائل العامة عديمة الجدوى. وعلى عكس النظام الأرستقراطي حيث يربط النظام الطبقي الأفراد بعضهم ببعض وبالماضي، يساوي النظام الديمقراطي بينهم بحيث يهتمون في واقع الأمر فقط بمن هم أقرب إليهم، وذلك على الرغم من أن إحسانهم وعطفهم يمتدان على نحو مجرد وضعيف لكل الإنسانية.
حيث إن الأمريكيين لم يمروا بثورة ديمقراطية، فإنهم لديهم فردية أقل من الشعوب الديمقراطية في أوروبا؛ فوفقا لتوكفيل، هم لديهم الميزة الكبرى المتمثلة في «أنهم ولدوا متساوين بدلا من أن يصبحوا كذلك.» وحيث إنهم مدركون لفرديتهم، فإنهم «يحاربونها» من خلال الجمعيات الحرة، ومن خلال الاعتقاد الأخلاقي الغريب المتمثل في المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد، وهما أمران تناولهما توكفيل في الجزء الأول من كتابه. تأخذ الجمعيات المواطنين من الشعور بالارتياح الخاص بالفردية إلى النشاط العام، مما يرضي طموحهم ويحقق مصالحهم الشخصية، وفي نفس الوقت يعزز الصالح العام.
إن الاعتقاد الذي وصفه توكفيل هو من جديد «المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد.» وقد ذكر أن مصدره الأخلاقيون الأمريكيون الذين قدموه للأمريكيين، وأنه «من بين كل النظريات الفلسفية الأكثر ملائمة لاحتياجات الناس في عصرنا الحالي.» فهو يستوعب الضعف الإنساني بأن يجعل المصلحة الشخصية تنقلب على نفسها: «فحتى توجه المشاعر، هي تستفيد من المثير الذي يحفزها.» لكن بالرغم من براعة هذا الاعتقاد، ترك توكفيل شكوكه تظهر من خلال المقارنة بين النظام الديمقراطي والأرستقراطي؛ ففي ظل النظام الأرستقراطي، يتحدث الناس عن الجانب المعنوي للفضيلة ويدرسون سرا فائدتها، لكن الآن في ظل النظام الديمقراطي، العلاقة معكوسة؛ فالأخلاقيون الأمريكيون يخشون الحديث عن الجانب المعنوي للفضيلة؛ فالجانب المعنوي للفضيلة ربما يستدعي التضحية، ويبحث الأخلاقيون الديمقراطيون - الذين لا يجرءون على النصح بذلك - عن حالات تكون فيها الفضيلة في مصلحة الشخص، ويستفيضون فيها محولين إياها إلى معتقد عام. لم يسم توكفيل أحدا من الأخلاقيين الأمريكيين، ولم يستشهد إلا بمونتين، لكن أبرز معلم أمريكي للمصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد سيكون بنجامين فرانكلين، الذي أوضح في سيرته الذاتية كيف يمكن للمرء شق طريقه في الحياة، وفي نفس الوقت يسعى لمساعدة الآخرين دون أن يحاول تحقيق كل طموحه.
لفت توكفيل في تحليله الانتباه إلى نقطة دقيقة كان فرانكلين قد أشار إليها أيضا ولكن ليس بهذا الوضوح؛ إذ أوضح توكفيل أنه في أمريكا لا تحتاج المصلحة الشخصية أن تخفي نفسها في شكل فضيلة - وهو نوع من النفاق العادي الذي تتم ممارسته في كل المجتمعات الإنسانية - وإنما الفضيلة هي التي تحتاج للتخفي في شكل مصلحة شخصية. وادعاء الفضيلة في أي ديمقراطية يعني أن تظهر نفسك بأنك أفضل من «المتشابهين» معك، وهذا يجعلك محل حسد من جانب الآخرين. ذكر توكفيل أن الأمريكيين «يفضلون احترام فلسفتهم أكثر من احترام أنفسهم»؛ هذا يعني أنهم يفضلون الاعتراف بحرصهم على مصلحتهم الذاتية على إنكارها. ويعني تفضيلهم احترام فلسفتهم أنهم يحترمون الحقيقة، لكن من أين تأتي تلك الحقيقة؟ ليس من ذات الشخص؛ فمعتقد المصلحة الشخصية لا يأتي من المصلحة الشخصية نفسها، وإنما من السعي المخلص وراء الحقيقة؛ بهذا يناقض الأمريكيون أنفسهم؛ فهم يثنون على أنفسهم بأنهم يتصرفون وفقا للمبادئ وليس المصالح، على الرغم من إنكارهم لهذا. وبثناء توكفيل على الأمريكيين لممارستهم الحرية السياسية، فقد فعل عكس ما قال الأمريكيون إنهم يفعلونه؛ فهو يثني على الأمريكيين وليس على فلسفتهم.
إن اعتقاد المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد ليس فقط متناقضا، وإنما أيضا مبالغ في تجريده؛ فهو يعني ضمنا أن هناك «ذاتا» إنسانية عمومية تفعل أو تستجيب دائما بالطريقة نفسها. مع ذلك، أكد توكفيل على أن تلك الذات العمومية المفترضة هي بالفعل الروح الديمقراطية. وفي الفصول التي تلت الفصل الذي تحدث فيه عن المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد، تناول مرة ثانية الرفاهية المادية المميزة للروح الديمقراطية، وخلص إلى أن الديمقراطية تنتج مادية معتدلة ومقبولة لا تفسد الأرواح بقدر ما تهذبها؛ فالأمريكيون يشعرون بالاضطراب (وهو لفظ شائع في كتاب توكفيل) ولا يشعرون بالرضا بالرغم من رخائهم؛ إن إيمانهم باعتقاد «المصلحة الشخصية» لا تبرره الطبيعة الإنسانية، وإنما تحدده الديمقراطية التي يعيشون في ظلها، كما أنها ليست في الحقيقة «مفهومة على نحو جيد» من جانبهم.
في ضوء الطبيعة الأساسية للأمريكيين التي تتميز بالاضطراب والقلق، من المهم معرفة أن لديهم شيئا طويل الأجل يعملون من أجله، وهذا هو الموضوع التالي الذي سيتناوله توكفيل. إن مهمة الدين هي تحرير الديمقراطيين، بقدر الإمكان، من التكالب على الإشباع الفوري لرغباتهم، وجعلهم يكتسبون عادة العمل من أجل هدف مستقبلي. وعندما تكون الديمقراطية منفصلة عن الدين بسبب حبها للرفاهية المادية، فإن المهمة السابقة تكون أيضا مهمة «الفلاسفة ومن في السلطة.» من الضروري «استبعاد الصدفة قدر الإمكان من العالم السياسي»، ليس باستخدام العلم للتنبؤ بما سيحدث بغض النظر عن رغباتنا، وإنما لإعطاء الانطباع بأن الجهد الصادق ستتم مكافأته. إن الاعتقاد بأن الصدفة هي التي تحكم العالم يجعل الشعوب تتسم بالسلبية والبلادة؛ إما لأن هذا الاعتقاد يجعل التضحية من أجل الفضيلة شديدة الخطورة إذا كنت تعتقد أنك غير محظوظ، وإما لأنه يجعل النجاح يبدو بالغ السهولة إذا كنت تعتقد أنك محظوظ. وعلى الرغم من أن الصدفة لا يمكن - ولا يجب - استبعادها تماما من الحياة البشرية، فإنه يجب التقليل من حجمها إلى الحد الذي يمكن للناس عنده أن يعتقدوا على نحو معقول أنهم هم من يتحكمون في شئونهم ويسيطرون على حياتهم. حدد توكفيل تلك الوظيفة الوحيدة الموجهة للدين والفلسفة والسياسة على حد سواء؛ فيجب على الحكومات أن تعلم المواطنين أن «النجاحات العظيمة تأتي بعد تحقيق الرغبات الطويلة الأمد.» فتفكيرهم في مستقبلهم في هذا العالم سيردهم ثانية - دون وعي منهم بذلك - إلى الإيمان بالعالم الآخر. والفضيلة ذات الطابع الأمريكي، مهما تخفت في شكل مصلحة شخصية، ما دام أنها دائمة، يمكن إثبات أنها ليست حلما أو هبة تحققت بالصدفة، بل يمكن أيضا إثبات أنها متأصلة في النظام الطبيعي للأمور. ومع تحقيق «نجاحات عظيمة» مستحقة، فإن الإيمان الأمريكي بالقابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال سيتحرر من القلق المضطرب المصاحب له، وسيكتسب بعض الصحة من خلال الثقة المعقولة بالنفس.
لكن توكفيل الذي ليس من نوعية الأشخاص الذين يبالغون في تفاؤلهم حذر من أن أمريكا في المستقبل قد تشهد نظاما أرستقراطيا جديدا تخلقه الصناعة؛ فقد توقع - كما فعل كارل ماركس تماما - أن العامل الديمقراطي سيستسلم للخضوع والتبعية؛ حيث إن التوسع في تقسيم العمل سيضيق من رؤيته وأهليته بحيث يترك كل عمليات التخطيط والتفكير لرئيسه في المؤسسة الصناعية. إن مثل هذا النظام الأرستقراطي سيكون قاسيا؛ لأنه سيعامل العمال باعتبارهم أشياء، لكنه ليس خطيرا؛ لأنه لن يتحول إلى طبقة حاكمة. ومن طبيعة الديمقراطية - لم يتحدث توكفيل عن الرأسمالية - أن تؤدي إلى الشعور بعدم الاستقرار وحب الصدفة؛ وهذا ما يجعل النظم الديمقراطية تتحول للتجارة، وهي لا تفعل هذا من أجل المكسب المادي فقط، وإنما من أجل المتعة أيضا؛ فالأزمات الصناعية جزء من المزاج الديمقراطي ؛ ومن ثم فهي متأصلة في الديمقراطية ومن المستحيل التنبؤ بها. إن الحلم الأمريكي القائم على المكافأة على ممارسة الفضيلة يتهدده تعقد التجارة، وهو عرضة للمفاجآت المباغتة.
كشف توكفيل في نقاشه أن هناك شعورين ديمقراطيين دائمين غير عقلانيين على نحو جوهري؛ وهما: الرغبة في الرفاهية المادية، والشغف للمساواة؛ فالأول لا يتوقف أبدا، في حين أن الثاني يفرض متطلبات لا تنتهي، ولا يمكن إشباع أي منهما. وكلاهما يميل لجعل الأشخاص الديمقراطيين ضعفاء؛ الأول عن طريق إضعاف الأرواح، والثاني عن طريق حرمان كل أشكال السلطة والطاعة من الشرعية. غير أن الأمريكيين، بممارستهم للحرية السياسية وعملهم من أجل الصالح العام إلى جانب مصلحتهم الشخصية، يثبتون أنهم جادون بشأن نظرتهم التي تعتبر أن هناك كلا هم أجزاء منه، وليس أنهم مجرد كل في حد ذاتهم. وهم يفندون «الفردية» من خلال أفعالهم دون أن يدركوا قيمتها، أو دون معرفة أنه من الأفضل لهم أن يقروا بقيمتها. وتوكفيل، بتوجيهه الأمريكيين على نحو يتعارض مع رؤى الأخلاقيين الخاصين بهم، سيساعدهم على فهم مصلحتهم الشخصية على نحو أفضل.
أعراف المساواة
تحول توكفيل من الحديث عن الأفكار ثم عن المشاعر، إلى الحديث عن الأعراف؛ فكل منها يؤدي إلى الآخر، مع اعتبار أن الأعراف هي السلوك الذي يقترحه الفكر ويحفزه الشعور. في هذا القسم من كتابه الرائع، تأمل توكفيل كيف تتعامل الديمقراطية مع جوانب عدم المساواة المستعصية التي يبدو أن الطبيعة (وهي كلمة تكررت كثيرا في كتابه) تعارضها، وحاول الإجابة على الأسئلة التالية: ما العلاقة بين السيد والتابع في ظل الديمقراطية؟ وماذا عن الأفضلية الواضحة للرجل على المرأة؟ وما الرغبة في الشرف التي تسعى لتمييز النفس على الآخرين؟ في كل حالة من تلك الحالات، تبذل الديمقراطية كل ما في وسعها لإنهاء جوانب عدم المساواة، محاولة تجميل الوضع وجعله أقل قسوة واستبدادا وقبحا. صحيح أنها لم تنجح في القضاء على عدم المساواة لكنها صبغتها بصبغة تذكر الجميع بالحقيقة الجوهرية المتمثلة في المساواة بين البشر، التي هي أساس التوافق مع عدم المساواة. وفي نفس الوقت، تقدم الديمقراطية - حتى مع توفيرها سبل المساواة - تبريرها لجوانب عدم المساواة تلك؛ ومن ثم يبدو أنها تعترف بأن هناك حدا معينا للمساواة لا يمكن تجاوزه، وأن عدم المساواة البشرية هي أيضا حقيقة جوهرية.
بدأ توكفيل بمقارنته المعتادة، معلنا أنه حيث أصبحت هناك مساواة أكبر في الأوضاع الاجتماعية، فقد أصبحت الأعراف أكثر اعتدالا ورفقا مما كانت عليه في ظل النظم الأرستقراطية. وأوضح رأيه بإحدى أكثر الفقرات تميزا في كتابه، مقتبسا جزءا من إحدى الرسائل التي كانت بين السيدة دي سيفينيه - وهي سيدة أرستقراطية كانت تعيش في القرن السابع عشر - وابنتها. كانت تلك السيدة تحكي بسعادة، وسط حديثها عن أحداث اليوم، حادثة تتعلق بتمرد دافعي الضرائب الذي تم القضاء عليه من خلال تعذيب المحرضين عليه وإعدامهم، في حين تم طرد الباقين، «كل هؤلاء البؤساء»، من بيوتهم. كان تعليق توكفيل كما يلي: «لا تستطيع السيدة دي سيفينيه أن تدرك بوضوح معنى المعاناة التي يلاقيها الشخص إذا لم يكن من النبلاء.» يجب أن يقرأ تلك الفقرة كل من يعتقد أن توكفيل كان متعاطفا جدا مع الأرستقراطية؛ فالعطف الديمقراطي يقلل من تأثير المصلحة الشخصية الديمقراطية، وهو بالطبع جزء من المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد. لكن الديمقراطيين أيضا لا يدركون بوضوح معنى المعاناة، ويتضح هذا من سلوكهم تجاه العبيد والأعداء في الحرب، عندما لا يمرون بنفس تلك المعاناة، وعندما لا يرون أن الآخرين «مشابهون» لهم.
لا توجد دائما مساواة بين السيد والتابع في ظل الأرستقراطية، لكن في الديمقراطية، يكون هذا الوضع مؤقتا؛ لأن السبب فقط هو العقد الاجتماعي وليس الطبقة أو الأصل. والتابع الأرستقراطي من ثم يتطبع بطباع شخصية سيده، وتكون كرامته مستمدة من كرامة سيده، وممارساته متعجرفة مثل سيده أو حتى أكثر. أما التابع الديمقراطي، فليس لديه هذا الميل للفخر بخضوعه؛ فكرامته تكمن في المساواة بينه وبين سيده خارج حدود العقد الاجتماعي، حيث السيد والعبد «مواطنان وفردان»، لكن هل هما متساويان كمواطنين أو كفردين؟
قال توكفيل إن الرأي العام يقرب بين الأمرين بالرغم من المسافة الظاهرية الموجودة بينهما؛ فهو «يوجد نوعا من المساواة المتخيلة فيما بينهما.» فيبدو أن الديمقراطية ليست متفقة تماما مع الطبيعة؛ فالمساواة الطبيعية التي يزعم الديمقراطيون وجودها تحتاج إلى دفعة من الرأي العام الذي يزعم أن البشر متساوون بغض النظر عن وضعهم؛ فالسيد والتابع مواطنان لا يريدان أكثر من أن يكونا فردين؛ حيث إن المساواة الطبيعية ليست كافية بنفسها، لكنها بحاجة إلى عقد المواطنة الذي يهدف إلى المساواة الطبيعية. إن المساواة الديمقراطية ممكنة لأن الرأي العام الديمقراطي يرى هذا. إننا نرى حقيقة سياسية تظهر من خلال الحديث عن علاقة في المجتمع المدني، وهي أن العقد الاجتماعي الخاص بالنظرية الليبرالية التقليدية، الذي يميز بين الحاكم والمحكومين، ليس ناتجا عن موافقة أشخاص متساوين في الحالة الطبيعية، وإنما عن مواطنين يزعم الرأي العام أنهم أفراد متساوون. أما رؤية توكفيل لهذا العقد، فتتمثل في أنه لا ينشئ مجتمعا، لكنه يبدأ منه، ولا يفترض وجود المساواة الطبيعية، ولكنه يحاول أن يحافظ عليها، وإلى حد ما إقامتها.
يمكن تتبع نفس الرؤية السياسية للعقد الاجتماعي لتوكفيل، ونفس التعديل للنسخة الليبرالية التقليدية منه في حديثه الرائع عن المرأة الأمريكية. تحدثت النظرية الليبرالية قبل توكفيل عن «حقوق الإنسان»، قاصدة حقوق البشر بغض النظر عن نوعهم. في عصرنا هذا، تتعرض تلك النظرية للهجوم نظرا لتجريدها الشديد ولتجاهلها عدم المساواة التقليدية - التي من المفترض أنها طبيعية - بين الرجل والمرأة. لم يتحدث الليبراليون السابقون على توكفيل كثيرا عن هذا النوع من عدم المساواة، الذي عادة ما يعتبرونه على ما يبدو أمرا مسلما به. صحح توكفيل هذا التجاهل بتقديمه خمسة فصول عن المرأة الأمريكية، مثنيا عليها بشدة نظرا لفضيلتها وأعمالها الطيبة؛ فبحسب رأيه، لا يوجد مجتمع حر دون أعراف، والنساء هن من يصنعن تلك الأعراف. يضع الرجل القوانين، لكن الأعراف أهم من القوانين. وهو يرى أن هناك «فائدة سياسية عظيمة» في كل شيء متعلق بالمرأة الأمريكية.
تكمن المشكلة في أن توكفيل أثنى على المرأة الأمريكية لابتعادها عن السياسة وتخليها عن العمل؛ وهو ما يثير سخط معظم النساء الأمريكيات اليوم . لكن لا يجب أن نتجاهل رؤيته لمجرد أن النتيجة التي خلص إليها مستهجنة، كما أن هناك الكثير لنعرفه عن ليبرالية توكفيل الجديدة من خلال حديثه عن المرأة الأمريكية.
يتمثل تأثير الديمقراطية على الأسرة في القضاء على السلطة الأبوية بالمعنى الأرستقراطي، التي تتمثل بحق في «نظام أبوي» يتجاوز معناه بمراحل المعنى الحالي لهذا المصطلح. تساوي الديمقراطية بين الآباء والأبناء، متجاهلة الاختلافات الطبيعية في السن والنوع، غير أنها تؤدي إلى توثيق الروابط الطبيعية داخل الأسرة حتى مع اختفاء السلطة المطلقة. تتعلم البنات الصغار، المتحررات من سيطرة آبائهن الساعين لحمايتهن، كيفية إدارة شئون حياتهن، مع تحكمهن في مشاعرهن وتطويرهن لقدرتهن على الحكم؛ حيث سرعان ما يفقدن بساطتهن (التي نصيبهن منها أقل من نصيب الفيلسوف)، ويكتسبن «معرفة مبكرة بكل الأشياء.» فهن، بحسب قول توكفيل، لديهن «أعراف نقية أكثر من عقل عفيف.» ويكتسبن معرفتهن بالأعراف من خلال مراقبة العالم؛ عالم الرجال؛ مما يجعلهن يحصلن على تربية رجولية تعوضهن عن السلطة الأبوية التي يفتقدنها؛ فالرجولة ليست سمة خاصة بالرجال فقط، بحسب اعتقاد توكفيل.
غير أن المرأة الأمريكية عندما تتزوج تدخل إلى الحياة الزوجية ب «قيودها» الأخلاقية والأسرية، التي ركز توكفيل عليها على نحو خاص؛ فقال إن المرأة في أمريكا كان لها مسار حياة مختلف تماما عن ذلك الخاص بالرجل، من أجله يجب أن تترك الروح الحرة الخفيفة التي كانت تتمتع بها وهي فتاة، وتجد السعادة في بيت الزوجية بواجباته وقيوده، لكنها كانت تعاني من قيود الزوجية بشجاعة لأنها اختارت طوعا قبولها. ركز توكفيل على موضوع الاختيار هذا؛ فكلمة «اختيار» هي نفس الكلمة المستخدمة اليوم لوصف حياة مختلفة تماما للمرأة لا يسمح لها فيها بترك المنزل والعمل في حرفة أو مهنة ما فحسب، بل تكون مدعوة لذلك ويتم تشجيعها عليه. في رأيه، الاختيار لا يعني محاولة الهروب من المسار المرسوم للنساء، وإنما اختيار الزوج الذي ستعيش في كنفه؛ فبالرغم من أن المرأة في معظم الأحوال ليس أمامها إلا طريق الزواج ، فهي لديها حق اختيار زوجها، وليس عليها قبول الشخص الذي اختاره لها أبوها. إن توكفيل هنا من خلال وصفه اختيارا نعتبره أمرا مسلما به، يجعلنا ندرك أن الاختيار الحر يجب أن يتم على نحو حكيم، وحيث إن الطلاق كان نادرا في تلك الأيام، لم تكن المرأة لديها رفاهية الوقوع في الخطأ ثم تصحيحه؛ فقد كان يجب عليها أن تكون حذرة ومسئولة. والزواج بالنسبة إلى الرجل لم يكن مسألة اختيار زوجة مناسبة بقدر ما كان اختيارا لامرأة ينجذب إليها جسديا؛ ربما ما زال هذا الاختلاف في طرق تعامل الرجال والنساء مع الزواج ملحوظا حتى الآن.
من أجل اختيار المرأة زوجها المستقبلي واستقرارها في زواجها، كانت تعمل عقلها بحرية كاملة، وكان يعاونها في ذلك تعاليم دينها، ونجد أن توكفيل في كل المواضع التي ذكر فيها المرأة في كتابه، يقول إنها كانت تستعين بعقلها ودينها. وعلى الرغم من أنه قد ذكر في الجزء الأول من كتابه أن الدين هو ما يهيمن على روح المرأة، فإنه الآن يوضح أن تلك الهيمنة يشاركه إياها العقل؛ فالدين في أمريكا لا يجعل المرأة في حالة من الاعتماد الشديد على أبيها وزوجها ورجال الدين؛ ويرجع ذلك جزئيا لتأثير البروتستانتية هناك، وجزئيا أيضا للتربية الدنيوية الخاصة بها؛ فهي مستقلة بالرغم من عيشها في ظل «نير» الزواج، وهي تمارس ما يسميه توكفيل «الفضيلة» وما نسميه نحن اليوم «القيم الأسرية» باختيارها وباستخدامها لعقلها بدلا من خضوعها لسلطة دينية.
شكل 4-1: صفحة من المخطوطة الأصلية لكتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا». يتحدث توكفيل عن المرأة الأمريكية في فصل من الجزء الثاني يسمى «الفتاة كزوجة».
في أمريكا، تعتقد المرأة أن أي زواج يحتاج إلى قائد، وأن «القائد الأكثر طبيعية لرباط الزوجية هو الرجل.» تتباهى «النساء الأكثر فضيلة» ب «تنازلهن الطوعي عن رغباتهن» (هن «يقلن» ذلك)؛ ولهذا ينظر إليهن باحترام كبير، في حين ينظر إلى النساء في أوروبا، بالرغم من أن لهن مكانة أكبر (حتى إن بعضهن حكمن «إمبراطورية استبدادية»)، على أنهن كائنات ضعيفة يسعين لغواية الرجال حتى يحصلن على ما يردن. إن «عدم المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة» ما زال حتى اليوم له على ما يبدو «أصوله الدائمة في الطبيعة»، وهو أمر لم يتحداه توكفيل؛ فقد قبله بالشكل الذي اتخذه في أمريكا - أو بالشكل الذي قال إنه وجده في أمريكا - معبرا عن ذلك بالكلمات الرائعة التالية: «إذا سألني أحد عن العامل الذي أعتقد أنه يعزى إليه على نحو أساسي الرخاء الفريد والقوة المتزايدة لهذا الشعب، فسأجيب بأنه يتمثل في المكانة العالية للنساء فيه.» يا له من ثناء! لكنه لم يذكر إن كانت النساء الأمريكيات أعلى شأنا من النساء الأخريات أم من الرجال الأمريكيين؛ ربما هن أعلى شأنا من الاثنين.
لا شك أن المرأة الأمريكية اليوم، بسبب تلهفها على العمل وحرصها على مكانتها في المجتمع، ستكون مستعدة للتخلي عن ثناء توكفيل على فضيلتها بالمعنى الذي أصبح مهجورا تماما الآن. لكن علينا عدم إغفال مضمونه الفلسفي. صحيح أن الديمقراطية تدعم سيادة الشعب، التي تتطلب كما رأينا سيادة البشر، لكن البشر لا يمكنهم تجنب الضرورة أو الهروب من مصيرهم، وتتطلب سيادة البشر توافق اختياراتهم مع القوى الخارجية التي ربما يبدو أنها تخضعهم وتستعبدهم. وتوكفيل، في تصويره الرائع وربما المبالغ فيه، والمقدم على هيئة حقيقة لكنه في الواقع أمر مفترض أكثر من كونه حقيقة، أعطى للمرأة الأمريكية مهمة اختيار قبولها الضرورة بكرامة؛ فقد عارض العقد الاجتماعي الخاص بالنظرية الليبرالية الذي تجاهل الضرورة الإنسانية الخاصة بعيش الأفراد بعضهم مع بعض، وحاول أن يجعلها تبدو اختيارا، كما لو أن الفرد لديه حرية الاختيار في كل شيء. وبدلا من هذا العقد، قدم عقد الزواج وأوضح طبيعة هذا العقد من خلال التركيز على نموذج المرأة الأمريكية وحديثها.
العظمة الإنسانية واستبداد الديمقراطية
في نهاية عمل توكفيل الرائع عن الديمقراطية، كشف النقاب عن الشر السياسي الذي تميل الديمقراطية على نحو طبيعي باتجاهه، ويمثل قمة مخاوفه فيما يتعلق بالديمقراطية، وقد عبر عنه أكثر من مرة. يتمثل هذا الشر السياسي في تسلط المساواة الديمقراطية على الحرية الديمقراطية . هنا، يطلق على هذا الشر «الاستبداد الهادئ »؛ وفي مواضع أخرى، أطلق عليه استبداد الديمقراطية أو استبداد الإدارة؛ إنه شر جذاب وليس مزعجا، ناعم وسلبي، بل ويبدو حتى في الظاهر مفيدا، وقد أصبح بالنسبة إلى توكفيل مصدر خوفه الأساسي وليس استبداد الأغلبية (المذكور في الجزء الأول من الكتاب)، الذي كان يتسم بالخشونة والتعسف كما تمثل في استعباد السود في أمريكا. وقد رأينا بذرة هذا الاستبداد الهادئ في الجزء الأول من كتابه في وصفه السلطة الغامضة للرأي العام، لكننا رأيناه في الجزء الثاني متجسدا في الدولة الديمقراطية المركزية.
الاستبداد الهادئ هذا ليس حتميا ويمكن معارضته في أي نظام ديمقراطي، وهناك قوة مضادة له في الطبيعة الإنسانية، وقد بدأ توكفيل في القسم الأخير من الكتاب نقاشا مفاده أن المساواة تعطي الإنسان «على نحو طبيعي» رغبة في وجود مؤسسات حرة، وليس في الاستبداد؛ فهي بحسب قوله تجعله مستقلا عن الآخرين؛ ومن ثم متشككا من السلطة وميالا لاتباع إرادته وليس إرادة أحد غيره. وهي تؤدي إلى نوع من العناد، وهو رغبة واعية في التحرر تذكرنا بالجزء النشط من الروح عند أفلاطون (روح الحياة)، وهذا مفيد للإصرار الديمقراطي على الحرية. ربما يبدو هذا العناد متناقضا مع ولع الأمريكيين بتكوين الجمعيات، وربما يكون كذلك بالفعل، لكن رفضهم السلبي للتعاون مع الآخرين يمكن جعله مسئولا عندما يجد الناس منفعة ومكانة في تنفيذ مهمة ما. ربما يقول أحد اليوم إن الأمريكيين بوجه عام معادون للسلطة؛ ومن ثم من الصعب حكمهم، غير أن لهم أيضا روحا مقابلة تجعلهم يستسلمون للسلطة في مواقف معينة.
بالرغم من العناد الموجود في الطبيعة الإنسانية الذي يجعل أي نظام حكم يبدو صعبا، فإن الديمقراطية تتحرك على نحو طبيعي في الاتجاه المقابل الذي يجعل نظام الحكم أكثر سهولة وقبولا. ويمثل قلق توكفيل النابع من فقدان الناس الرغبة في وجود مؤسسات حرة، موضوع القسم الأخير من كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ فالإنسان الديمقراطي، كما عرفنا، يصبح بسهولة ضحية للفردية، وهو ذلك الشعور بالضعف الباعث على التراخي الذي يحول المواطنين إلى أفراد منعزلين مهتمين فقط بحياتهم الخاصة، وعندما يفعلون هذا، تكون الدولة هي الممثل المرئي والدائم الوحيد للمجتمع، ويتركون جمعياتهم لأنهم قد أصبح لديهم ميل طبيعي لجعل الدولة تهتم بكل الشئون العامة. وعندما ينظر الأفراد للمساواة فيما بينهم، يكون لديهم ميل غريزي تجاه الإحساس بالفخر والاستقلالية، لكنهم يشعرون في داخلهم بنوع من الضعف والعزلة الناتجين عن هذه الاستقلالية؛ ومن ثم يهجرون النشاط المحلي في السياسة والمجتمع، ويطيعون على نحو لا مبال «الكيان العظيم» المتمثل في الدولة (كان توكفيل قد استخدم هذا المصطلح قبل ذلك لوصف رب مذهب الواحدية).
وبينما تميل كل الشعوب الديمقراطية نحو الاعتماد على الدولة، فإن الدولة من جانبها تحب المساواة وتحاول التوسع فيها قدر إمكانها. تعود جذور الدولة الحديثة إلى النظم الملكية في أوروبا التي اتبعت سياسة التحالف مع الشعب ضد الطبقة الأرستقراطية؛ حيث تخلصت تدريجيا من أفرادها الموجودين في حكومات البارونات والنبلاء، وتحولت للإدارة المركزية للدولة. وعندما حلت الديمقراطية محل الملكية أثناء الثورة الفرنسية، ظلت الدولة كما هي واستمرت في الاستحواذ على كل السلطات لنفسها، وحل عداؤها الجديد لتكوين الجمعيات محل الغيرة الملكية من الطبقة الأرستقراطية؛ ومن ثم فإن الدولة المركزية تحب المساواة التي يحبها المواطنون الديمقراطيون وتكره تلك التي يكرهونها؛ فالطرفان يقوي كل منهما الآخر على نحو متبادل. الدولة تقوي باستمرار من سلطتها، في حين يفقد الشعب سلطاته باستمرار.
من ثم فإن الاستبداد الذي يجب أن تخشاه الأمم الديمقراطية هادئ في طبيعته؛ فعلى الرغم من أنه لا يحبط رغباتهم، فهو يرضي أسوأ ما فيهم. وأسوأ رغبة في الديمقراطية هي التخلي عن الإحساس بالفخر الذي يدعم استقلالية الفرد وضياع الحرية؛ مما يحط من شأن الشعب دون أن يعرضهم للتعذيب، ودون أن يثير معارضتهم أو حتى يشعرهم بما فقدوه. وهكذا يصبح الشعب «حشدا من الأفراد المتشابهين والمتساوين ... الذين يحصلون على المتع الصغيرة والعادية التي يملئون بها أرواحهم.» فكل منهم «منعزل ومنزو» ويقتصر وجوده «على نفسه ويعيش فقط لنفسه.» وتسيطر على الأفراد «سلطة وصائية كبيرة» ترعاهم بأسلوب ناظر المدرسة أو الوصي، وتوفر عليهم - بحسب تعبير توكفيل بسخرية شديدة - «عناء التفكير وألم العيش». وقد سبق توكفيل نيتشه في وصفهم بأنهم «قطيع من الحيوانات المستأنسة والكادحة التي تقوم الحكومة على رعايتها.»
في هذا الوضع، يشعر الشعب الديمقراطي بالحاجة إلى الحرية والحاجة إلى أن تتم قيادته، ويعزي نفسه لقيادة الآخرين له بفكرة أنه قد اختار قادته. وعند مشاركته في الانتخابات، يترك تبعيته لبعض الوقت، فقط ليعود إليها بعد ذلك. قال توكفيل على نحو فخور متحدثا عن نفسه: «هذا ليس كافيا بالنسبة إلي.»
هناك حقائق عرضية معينة، بحسب اعتراف توكفيل، يمكن أن تزيد أو تقلل من الاتجاه نحو مركزية الإدارة؛ على سبيل المثال، عدم حدوث ثورة ديمقراطية في أمريكا. ولأن أمريكا لم تكن مرغمة على القيام بثورة ديمقراطية ضد نظام أرستقراطي - نظرا لأن الأمريكيين ولدوا متساوين، ولم يتعين عليهم أن يسعوا كي يصبحوا كذلك - فقد كانت لديها حرية أكبر في استعارة بعض الأمور من النظام الأرستقراطي حتى تدعم حريتها. وقرب نهاية كتابه، ذكر توكفيل أن هناك ثلاث سمات للمساواة تحتاج الشعوب الديمقراطية أن تحترس منها؛ تتمثل الأولى في فائدة النظم التي نوقشت بالفعل، والتي لا تعيها بسهولة الشعوب الديمقراطية وتشعر بازدراء تجاهها. هناك غريزة ديمقراطية ثانية، وهي أيضا طبيعية جدا، ويعتقد بوجه عام أنها خطيرة جدا، وتتمثل في احتقار الحقوق الفردية والتضحية بها من أجل مصالح وقوة المجتمع. قال توكفيل متحدثا بلسان الليبرالي إن «الأصدقاء الحقيقيين للحرية والعظمة الإنسانية» يجب أن يكونوا منتبهين دائما حتى يضمنوا عدم التضحية السهلة بالحقوق الفردية من أجل الأهداف العامة للمجتمع؛ فحدوث هذا يضر بالفعل بالمجتمع لأنه يتعارض مع دور المجتمع باعتباره داعما للحقوق.
أضاف توكفيل للأمرين السابقين قلقه من حدوث ثورات في المجتمعات الديمقراطية، وهو قلق ربما يكون أكثر حدة فيما يتعلق بأوروبا مقارنة بأمريكا؛ فحيث إن الديمقراطيين يحبون التغيير، يمكن أن تصبح الثورة عادة بل قد يتم أيضا تقنينها في سياسة الحكم. لم ينكر توكفيل أن الثورة أحيانا تكون أمينة ومشروعة، لكنه اعتقد أنها علاج خطير على نحو خاص في العهود الديمقراطية. تحدث قبل ذلك عن سبب ندرة الثورات العظيمة مثل الثورة ضد الديمقراطية، قائلا إنه كان يخاف جمود الطبقة الوسطى أكثر من تمردها العنيف الذي يحدث غالبا في النظم الديمقراطية. لكن الجمود في الديمقراطية يتوافق مع الاضطراب العام المتدني الناتج عن الطموح العادي والتنافس على المتع المادية.
ما علاج الفردية الديمقراطية والأداء العادي للديمقراطية واللامبالاة الديمقراطية؟ تبرز الإجابة في العبارة المقتبسة أعلاه التي تصف المخاطبين بكلام توكفيل بأنهم: «الأصدقاء الحقيقيون للحرية والعظمة الإنسانية.» يكمن الحل في تضافر الحرية والعظمة الإنسانية. في البداية، سيفكر البعض في مزج حرية الديمقراطية مع عظمة الأرستقراطية في نظام مختلط من النوع التقليدي، لكن كما هو الحال دائما في كتاب «الديمقراطية في أمريكا» وخاصة في نهايته، أصر توكفيل على أن الديمقراطية وجدت لتبقى، وأنه لا يوجد احتمال «لإعادة إنشاء مجتمع أرستقراطي»، وأن علينا أن نكون داعمين للمساواة ونتبنى نظاما ديمقراطيا غير مختلط معتبرين إياه «مبدأنا وعقيدتنا الأساسيين»؛ لذا فإنه لا يخاطب هنا الرجال العظماء، «عظمة القلة»، باعتبارهم مصدر إلهام الديمقراطية. فهو لم يذكر مؤسسي أمريكا الذين أثنى عليهم من قبل، أعضاء الحزب الفيدرالي الذي قال عنه إنه حزب أرستقراطي، بدلا من ذلك، قال إنه على الرغم من أنه لا يمكن إعادة إنتاج نظام أرستقراطي، فإنه يعتقد «أنه عندما يترابط المواطنون العاديون معا، يمكنهم أن يصبحوا أفرادا غاية في الثراء والنفوذ والقوة؛ بعبارة أخرى، يصبحون أشخاصا أرستقراطيين.»
يؤدي الارتباط الحر فيما بين المواطنين العاديين إلى نشوء أرستقراطية الديمقراطية، وهؤلاء المواطنون هم نبلاؤها؛ فهم يمارسون حريتهم، وبقيامهم بهذا يدافعون عنها ويحمونها وينشرونها، وهذا الارتباط يجعلهم يقدمون تضحيات ويقدمون على مخاطر في طموح عام لا يظهر لدى من يكونون مؤسسات هدفها تجاري بحت. وعلى الرغم من أن المواطنين العاديين لديهم ما يكسبونه من السياسة، فإن المقابل الذي سيحصلون عليه سيكون إحساسهم بالفخر أكثر منه مكاسب مادية. صحيح أن الأمريكيين برجوازيون، وقلقون ولديهم نهم لتحقيق المكاسب بحسب وصف توكفيل لهم، لكنهم عندما يتجمعون معا في جمعيات حرة، يكون لديهم قدر من النبل في أرواحهم. هذا هو رد الديمقراطية - الرائع وإن لم يكن الملائم على نحو كامل - على الاتهامات الموجهة إليها بأنها تؤدي إلى اللامبالاة والأداء العادي.
إذن فالخطر الذي يجب أن يكون الأصدقاء الحقيقيون للحرية والعظمة الإنسانية على استعداد لمنعه هو أن تضحي «السلطة الاجتماعية» بسهولة بحقوق الأفراد من أجل تحقيق هدف اجتماعي ما. قال توكفيل: «ليس هناك مبرر لظلم أي مواطن مهما بلغت درجة تهميشه.» غير أن الضمانين الأساسيين بالنسبة إلى المواطن المهمش، اللذين ذكرهما توكفيل هنا هما: حرية الصحافة، والسلطة القضائية. قال هنا عن الصحافة الحرة، متجاوزا الثناء المتوازن الذي أبداه قبل ذلك في كتابه، إنها «مهمة أكثر بكثير في الأمم الديمقراطية منها في الأمم الأخرى.» فهي تتيح للمواطنين التواصل بعضهم مع بعض؛ ومن ثم الخروج من دائرة التهميش. أما السلطة القضائية، فمهمتها الاستماع للمواطنين المهمشين عندما يشعرون بالظلم؛ هنا نرى جانبا أرستقراطيا غير محدد وغير معروف، يمارس تأثيره في ظل الديمقراطية لدعم حقوق الأفراد، ربما في مواجهة الجزأين الأكثر ديمقراطية من الحكومة، وهما: السلطتان التشريعية والتنفيذية، اللتان تمثلان «السلطة الاجتماعية».
تتمثل «المهمة الأساسية للمشرع» في العصر الديمقراطي في وضع حدود للسلطة الاجتماعية تكون «واسعة النطاق، وفي ذات الوقت واضحة وثابتة.» سيبدو «المشرع» شخصا فوق السلطة التشريعية، ربما يكون عالم سياسة مثل توكفيل نفسه. بالنسبة إلى هذا الشخص، وضع حدود للسلطة الاجتماعية يتضمن وضع دستور ويتضمن أيضا، على ما يبدو، الدفاع عن الديمقراطية ضد الأفكار التي تروج للسلطة الاجتماعية في مقابل التخلي عن حقوق الفرد. وعلى الرغم من كل إصرار توكفيل السابق على كون الحالة الاجتماعية هي السبب الأول للديمقراطية، فقد أشار في هذا المقام إلى «فكرتين متناقضتين، ومتساويتين في الخطورة في ذات الوقت»، ربما تنبعان من الحالة الاجتماعية الديمقراطية، ولكن قد تمثلان تهديدا لها. تتمثل الأولى في أن أهم ما في الديمقراطية هو ميولها اللاسلطوية؛ فمن يتبنونها يخافون من إرادتهم الحرة، «يخافون من أنفسهم». في حين تتمثل الأخرى في أن الديمقراطية تؤدي بالضرورة إلى العبودية والخضوع؛ مما يجعل المدافعين عنها ييأسون من البقاء أحرارا، ويعجبون على نحو غير معلن بالاستبداد الذي يعتقدون أنه حتمي.
في ضوء هذا الوصف المباشر للفكرتين، لم يذكر توكفيل أسماء، ولم يقدم المادة التي يمكن للقراء من خلالها تخمين تلك الأسماء. كالمعتاد، اهتم توكفيل بتبعات هاتين الفكرتين أكثر من مضمونهما. ومع ذلك، ختم كتابه العظيم بشجب هذين «الاعتقادين الخاطئين والجبانين» اللذين يعصفان بالديمقراطية التي وجدها في أمريكا. وقد أعلن، مستخدما أسلوبا يماثل أكثر أسلوب أرسطو منه أسلوب الليبراليين السابقين عليه، أن الرب لم يخلق الجنس البشري «حرا على نحو كامل، ولا عبدا على نحو تام.»
الفصل الخامس
الإدارة العقلانية
نشر العمل الرائع الثاني لتوكفيل تحت عنوان «النظام القديم والثورة» في عام 1856. في هذا العمل، تناول توكفيل النظام الملكي القديم في فرنسا، لكنه لم يصل لمرحلة الثورة الفرنسية، وبقي الكتاب غير مكتمل عندما توفي توكفيل في عام 1859. درس توكفيل النظام القديم تطلعا للثورة الفرنسية لأنه هو الذي أدى إلى قيامها. لقد تسبب هذا النظام القديم في إسقاط نفسه عبر عشرين جيلا بتأسيسه لنظام الإدارة العقلانية، الذي ربما نطلق عليه الحكم بالجدارة. الإدارة العقلانية من وجهة نظر توكفيل هي المقابل للديمقراطية، وقد رأيناها في شكل إدارة مركزية في كتابه «الديمقراطية في أمريكا».
في عمله اللاحق الذي بعنوان «النظام القديم والثورة»، أسهب توكفيل في عرض معنى وأساليب الحكومة الكبيرة البيروقراطية، وأشار إلى أنها ليست فقط صورة مخيفة للمستقبل، رسمها أعداء الديمقراطية، لكنها أيضا حقيقة تاريخية فعلية في فرنسا؛ فالنظام الملكي الفرنسي لم يكن ينوي إقامة نظام ديمقراطي، لكنه مع ذلك قام بما تفعله الديمقراطية؛ فمن خلال القضاء التدريجي على النظام الإقطاعي الذي حكم فيه النبلاء المناطق التي كانت تحت سيطرتهم، ساوى الملوك الفرنسيون ورؤساء وزرائهم - من أمثال الكاردينالين مازاران وريشليو - أولا بين كل المواطنين، ثم أعادوا تنظيمهم في تسلسل هرمي جديد غير إقطاعي خاص بالدولة المركزية الحديثة، التي يعيش في ظلها اليوم الفرنسيون، وبدرجات متفاوتة كل الشعوب الديمقراطية.
كانت الثورة الديمقراطية التي حدثت في فرنسا في عام 1789 نتاجا مهما غير مقصود للسياسة التي اتبعها الملوك الفرنسيون وتراخي طبقة النبلاء الفرنسية، وهما الأمران اللذان ساهما معا في تحديث فرنسا دون قصد. كانت الديمقراطية في فرنسا ممثلة في نظام ملكي سقط نتيجة ثورة مفاجئة وعنيفة، بسبب منطق استراتيجيته الأساسية القائمة على التحالف مع الشعب ضد النبلاء. اندمجت الاستراتيجية السياسية لهذا النظام مع خطط المفكرين الخاصة بالإصلاح في نظام الإدارة العقلانية. لم يكن لدى هؤلاء المصلحين التجريديين اهتمام بالسياسة بالأساس، لكنهم فضلوا النظام الملكي باعتباره أداة للإصلاح، واستبعدوا الديمقراطية لأنها فجة وجاهلة ومعارضة للإصلاح؛ ومن ثم فإن الديمقراطية كانت نتاجا لقوتين متحالفتين - النظام الملكي والمصلحين - كانتا معارضتين للديمقراطية وتوحدتا فقط بسبب عداوتهما المشتركة للطبقة الأرستقراطية. حدث التحرك الكبير للعقل الإنساني ضد النظام الإقطاعي القائم على الامتيازات والتحيزات - الذي فسره الفيلسوف هيجل بأنه التأكيد الحاسم لسيادة فكر الإنسان - بالصدفة أو باعتباره نتيجة، لم تتوقعها كل الأطراف. تلك هي الفكرة الرائعة والمدهشة التي يقوم عليها كتاب توكفيل «النظام القديم والثورة».
كشف توكفيل لأول مرة عن فكرة كتابه في أواخر عام 1850 في خطاب إلى صديقه لوي دي كيرجورلي، وذكر أنها تتمثل في دراسة «الدراما الطويلة للثورة الفرنسية». وبعد ذلك بعامين، أشار إلى خطبته التي ألقاها في عام 1842 في الأكاديمية الفرنسية التي هاجم فيها حكم نابليون، معتبرا إياه «نموذجا مثاليا للاستبداد» في تاريخ العالم وشجب الأفكار المجردة التي قامت عليها الثورة. كانت هاتان النقطتان معا تشيران إلى ما نتج عن تلك الثورة وأصلها، وكان يعتزم البدء في بحثهما. وحتى قبل ذلك - في عام 1836 - وبينما كان يتمتع بالنجاح الذي حققه الجزء الأول من كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، كتب مقالة عن فرنسا قبل عام 1789 وبعده، وكان قد كلفه بكتابتها جون ستيوارت ميل، ونشرت في دورية «لندن آند وستمنستر ريفيو» التي كان ميل رئيس تحريرها. وانطلاقا من تصوره للكتاب الذي وضعه في عام 1850، تحول تركيزه زمنيا على نحو عكسي من نابليون إلى أول حكومة تكونت بعد قيام الثورة إلى النظام القديم، مستقرا على تناول النظام القديم في أغسطس من عام 1853.
بدأ توكفيل العمل في كتابه في يناير من عام 1852، وأخذ يقرأ السجلات التاريخية ويدون ملاحظات عنها، وفي يونيو من عام 1853، وجد أن هناك حاجة للرجوع إلى السجلات الخاصة بالنظام القديم، وقضى عاما كاملا في مدينة تور منكبا على السجلات الخاصة بكبار المسئولين في إدارتها. وقد أخفت العبارات الجذابة والبارعة والمنمقة الواردة في الكتاب وراءها عملية قراءة كتب وكتيبات وبحث في أرشيفات يعلوها التراب. كشف روبرت جانيت في كتابه الرائع «كشف النقاب عن توكفيل» عن الأدلة التي اعتمد عليها الكتاب، وأشار إلى «الأسلوب المتكتم» لمؤلفه. لقد كان غرض توكفيل من ملاحظاته واقتباساته المتعددة هو على نحو أساسي التوضيح، كما أنه لم يكن يذكر في الغالب المصادر التي اقتبسها منها. في نفس الوقت، كثيرا ما ذكر قراءه بالجهد الذي قام به، ويمكن أن نقول إنه كان يفتخر به، كما لو أنه كان يتحداهم أن يقوموا بالبحث عن حقيقة الأمور بأنفسهم دون توجيه من أحد.
بدأ توكفيل بوصف عمله بأنه «دراسة»، لكن ما نوع تلك الدراسة؟ إنها تاريخية على نحو مباشر أكثر من كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، الذي انطلق من «حقيقة إلهية»، متمثلة في الاتجاه المتعاظم نحو مزيد من الديمقراطية، ثم من افتراض يقضي بأن صورة الديمقراطية موجودة في أمريكا. وفي نهاية هذا الكتاب، أشار لشبح الاستبداد الهادئ، لكنه عرضه من منظور الشعب، مفسرا سبب ترحيب الشعب بالسلطة الخانقة للحكومة الكبيرة، ووصف الحلول التي طبقها الأمريكيون لمواجهة هذا الاستبداد. ثم أعلن أنه يقبل الديمقراطية على نحو مسئول، بالرغم من الأخطاء الموجودة بها، مدعيا أنه لا بديل لها في أي عصر ديمقراطي، وأنها إلى جانب ذلك أكثر عدالة من النظام الأرستقراطي. تناول كتاب «النظام القديم والثورة» نفس هذا الاستبداد الذي سماه هنا «استبداد الديمقراطية»، لكن من منظور الملك والنبلاء؛ فقد أنتجا ديمقراطية لم يكن أي منهما يسعى إليها، وجلبت عليهما ثورة صاحبها عنف شديد لم يكن أحد يتوقعها. يتحسر هذا الكتاب بشدة على ضياع النظام الأرستقراطي الذي نتج عنه «أمة » مكونة من حشد غير متماسك من المواطنين الخائفين أو الغاضبين. وهو يفصل الطمع الاستراتيجي للملوك ولامبالاة النبلاء، بينما يثني فقط على جوانب المجتمع الفرنسي التي تجاهل هذان الطرفان الاقتراب منها بتدخلهما الفاسد وغطرستهما.
كان كلا العملين سياسيين على اعتبار أنهما كانا يقدمان النصح لفرنسا ولكل الأمم الأخرى، لكن توكفيل في كتابه «النظام القديم والثورة» عبر عن سخطه بوضوح ولم يبد سوى القليل من الحياد الهادئ الذي كان يميز كتابه «الديمقراطية في أمريكا». لم يكن مستاء من الثورة بقدر ما كان مستاء من النظام الملكي القديم الذي حلت محله، ولم يكن غاضبا من هذا النظام بقدر ما كان غاضبا مما نتج عنه وعن الثورة من استبداد على يد نابليون. وحتى تتضح تلك النقطة، يجب أن نلاحظ أن السبب في استبداد حكم نابليون كان الضحالة البرجوازية لإمبراطورية ابن عمه لويس نابليون.
لقد تم تصنيف كتاب «النظام القديم والثورة» على نحو صحيح باعتباره أحد كتب «التاريخ السياسي»؛ لأنه جمع بين الحكم السياسي والتاريخ، مع تجنب استخدام أسلوب الجدل وعدم التزام الموضوعية العلمية. غير أن الاختلافات بين هذا الكتاب وكتاب توكفيل السابق تتعلق بالشكل لا بالمضمون؛ فهذا الكتاب يجب النظر إليه باعتباره عرضا لنفس القلق الأصيل بشأن توافر المتطلبات الخاصة بالحرية السياسية التي يمكن ملاحظتها في الكتاب الآخر ولكن فيما يتعلق بفرنسا؛ ففي حين أن كتاب «الديمقراطية في أمريكا» انطلق من اتجاه إلهي نحو الديمقراطية، ربما يكون أو لا يكون مؤيدا للحرية، لكن في تصدير الكتاب الثاني أعرب توكفيل أنه انطلق في تأليفه من شغفه بالدفاع عن الحرية ودعم الرغبات الأسمى المفعمة بالنشاط التي تطلقها الحرية أثناء الدفاع عنها. في باقي الكتاب، كان شغفه بالحرية مبررا باكتشافه أن فقدان الحرية في فرنسا نتج على نحو حتمي عن فقدان الحرية السياسية في ظل النظام الملكي؛ حيث إن السياسة والحرية لا يمكن الفصل بينهما. هناك نقطتان متعلقتان بعلم السياسة لم يتم التعرض إليهما بشكل واف في كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، وقد تم تناولهما في كتاب «النظام القديم والثورة»؛ وهما: الجذور الأرستقراطية للحرية السياسية، والخطر على تلك الحرية الناشئ من الإدارة العقلانية. لكن من الأفضل بدء تناول الكتاب باستعراض طرحه التاريخي الأساسي.
استمرارية الثورة
ظن الثوار الفرنسيون أنهم انفصلوا تماما عن الماضي وأنه ذهب بغير رجعة، وسعوا لتقسيم تاريخ بلدهم إلى قسمين مختلفين تماما، الأول قبل عام 1789 والثاني بعده، واعتقدوا أنهم نجحوا في ذلك. وحتى معارضو الثورة اعتقدوا ذلك أيضا؛ فقد أعلن إدموند بيرك، السياسي والفيلسوف البريطاني الشهير، الذي اختاره توكفيل ليكون غريمه ونقيضه طوال كتاب «النظام القديم والثورة»، أن الثورة الفرنسية كانت «أول ثورة مكتملة الأركان» في التاريخ؛ فقد كانت ثورة في المشاعر والسلوك والآراء الأخلاقية التي وصلت «حتى لبنية العقل البشري». عارض توكفيل نقطة الاتفاق هذه من قبل الجانبين، ورأى أن الثورة كانت ناتجة عن المجتمع الذي قامت بتدميره، وأن السبب فيها كان النظام الملكي القديم في فرنسا الذي انخرط في مهمة تدمير نفسه عن عمد، ولكن دون أن يعي ما كان يفعل تماما. لم تبدأ الثورة فقط في عام 1789 مع سقوط سجن الباستيل؛ فقد بدأت في عام 1439 (أو 1444) من اليوم الذي استطاع فيه الملك شارل السابع فرض ضريبة جديدة دون موافقة النبلاء.
غير أن توكفيل لم ينكر حدوث تغيير كبير؛ فقد أنكر فقط أنه حدث بسبب الإرادة البشرية، سواء من جانب الثوار أم ضد رغبة معارضيهم؛ فقد كان المؤرخون الديمقراطيون الذين هاجمهم توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا» لإنكارهم دور الإرادة البشرية في التاريخ، على حق في توقعهم قدوم الديمقراطية. يشير عنوان كتاب توكفيل «النظام القديم والثورة» إلى حجم هذا التغيير، غير أنه لم يصف تلك الثورة ب «الفرنسية» (كان توكفيل قلقا بشأن عنوان كتابه، ويبدو أنه قبل نشره مباشرة قد حذف صفة الثورة أو وافق على حذفها). وافق توكفيل على أن الثورة كانت مكتملة الأركان، كما قال بيرك، وأنها كانت بمنزلة نموذج لكل الأمم الأخرى وللإنسانية جمعاء، التي حذت حذوها الثورة الأمريكية. إنها لن تتكرر أو تمحى من جانب ثورات مستقبلية، وفي واقع الأمر كان مقدرا لها أن تكمل كل الثورات السابقة التي لم تكن مكتملة، وكانت من ثم بحاجة إلى ثورات أخرى لاستعادة الماضي. ما أصر عليه هو أن هذا التغيير الكبير كان قد بدأ قبل ذلك بقرون عديدة، فهو لم يكن حديثا؛ كان يجب ألا ينظر إليه باعتباره أمرا مفاجئا. أشار توكفيل في كتابه إلى الإجراءات التي أدت إلى إحداث هذا التغيير، والتي في ذات الوقت لم يلحظ معناها الكلي وهي تحدث. بعد عام 1789، اتضح معناها من خلال افتخار الثوار بما فعلوه وهجوم أعدائهم عليهم.
شكل 5-1: إدموند بيرك، السياسي والفيلسوف البريطاني. في كتاب «النظام القديم والثورة»، كان توكفيل يقارن دائما بين تحليل بيرك للثورة الفرنسية وتحليله لها.
بوجه عام، اعتقد مراقبو الثورة الفرنسية الذين استطاعوا الاستفاقة من صدمتهم، أنه كان من المفترض أن تدمر الدين، وأن تؤدي إلى الفوضى واللاسلطوية، أو على الأقل تضعف السلطة السياسية. وجه بيرك، الذي كان من أهم من تبنوا وجهة النظر هذه، سهام غضبه إلى إلحاد مدبريها، الذين قال عنهم إنهم كانوا يبدلون وجه البشرية بقضائهم على الاعتقاد بأنه توجد سلطة فوق البشر؛ مما يضعف السلطة الحاكمة بإنكار الرضا الإلهي عنها. بالنسبة إلى توكفيل، هذا خطأ في تقدير الأمور؛ فقد اعتبر خلطا بين ما هو عارض وما هو جوهري. ربما كانت الكنيسة أهم جزء في النظام القديم؛ فقد كانت تقاوم الإصلاح، وكان يجب الهجوم عليها، فيما يتعلق بتنظيمها واعتقادها، حتى يمكن إنتاج نظام جديد يحل محل النظام القديم. لقد كان هذا النظام الجديد - وليس تدمير الكنيسة - هو الشيء الأساسي الذي سيكون أقوى من النظام القديم وليس أضعف منه. لم تكن لدى فرنسا النية لتمزيق نفسها، وفي واقع الأمر أنشأت لاحقا جيشا أقوى من أي جيش كان لديها من قبل، وابتدعت دينا ثوريا جديدا يقوم على مفهوم «الكائن الأعلى» الذي تمنت أن يكون أكثر سلطوية من المسيحية؛ فقد كانت الثورة الفرنسية، بحسب قول توكفيل لاحقا في كتابه، تشبه حركة الإصلاح البروتستانتية أكثر من أي حدث آخر سابق عليها، وتوقعت أن تحصل من ذلك الدين الجديد على الدعم الذي حصل عليه النظام القديم من المسيحية وبحماس أكبر أيضا. وكما هو الحال أيضا في كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، أراد توكفيل التأكيد على أنه لا يوجد عداء حتمي بين الدين والحرية، ولا حتى بين الدين المبتدع والحرية الزائفة للثورة الفرنسية.
لم يذكر توكفيل على نحو مباشر السبب وراء كون الثورة الفرنسية أول ثورة تقوم بهذا الهجوم على الدين وتبتدع دينا جديدا وتتبعه. يبدو أن الأفكار التي اعتمدت عليها أصبحت أكثر قبولا لعدد أكبر من الناس، بحيث بدت النظرية في مرحلة معينة قابلة للتطبيق؛ فالثورة الفرنسية، باعتبارها ثورة كاملة تتجاوز كل الثورات السابقة، لم تكن معتمدة على فكرة أكثر صحة من أي فكرة كانت موجودة من قبل، وإنما بدت تلك الفكرة فجأة صالحة للتطبيق بخلاف النظام القديم. كان النظام القديم يعتمد على النظام الإقطاعي الذي بعد تطور معين سيصفه توكفيل بأنه لم يعد نظاما مستقرا ومتماسكا قادرا على البقاء. عند هذه المرحلة، وكما قد يقول الأمريكيون اليوم، لم يعد هذا النظام عمليا على ما يبدو. وفي كتاب توكفيل الذي يعد دراسة تاريخية سياسية، رفض محاولة المفكرين الثوريين اعتبار أن النظرية سبقت التطبيق؛ فلم يحاول الحكم على الأفكار المتعارضة التي تدعم وتهاجم النظام الإقطاعي، لكنه بدلا من ذلك درس ما إذا كان هذا النظام مثل كيانا كاملا يمكن أن يكون موضوع فكرة معينة أو نظرية معقولة. مرة أخرى، وكما في كتابه الأول عندما درس ممارسات الأمريكيين لاكتشاف صورة الديمقراطية، درس في هذا الكتاب ممارسات النظام القديم ليحدد إن كانت متماسكة ومترابطة أم لا.
في البداية، بدأ النظام الإقطاعي بمجموعة من القبائل الهمجية التي كانت تعيش منعزلة بعضها عن بعض، ومن هذا ظهر تشريع جيرماني، كان تشريعا أصيلا غير مستند إلى القانون الروماني، وقد شكل «جسدا مكونا من أجزاء» مترابطة جدا مثل القوانين الحديثة، منتجا قوانين حكيمة لمجتمع نصف همجي. لم يذكر توكفيل كيف نشأ النظام الإقطاعي ذو التسلسل الهرمي المعقد القائم على الامتيازات والواجبات؛ فقد قال فقط إن كلا من الجانب التشريعي والتسلسل الهرمي لم يختلف عما كان موجودا تقريبا في كل أنحاء أوروبا، ولم يكن لهما سبب يمكن تحديده، كما لو كانا يمثلان تطورا طبيعيا وتلقائيا. كان هذا النظام هو ما يمثل النظام القديم الحقيقي، وليس النظام الحاكم في فرنسا في القرن الثامن عشر، وهو ما أسقطته الثورة الحقيقية في واقع الأمر؛ فالثورة الحقيقية كانت هي مركزية الإدارة للنظام الملكي الفرنسي، الكيان الأساسي للنظام القديم والثورة الفرنسية.
ما المقصود بمركزية الإدارة؟ إذا ألقينا نظرة على الخطوة الأولى التي قام بها الملك شارل السابع، والتي ذكرناها من قبل، فسندرك أن الملك قد اكتسب سلطة فرض الضرائب دون موافقة النبلاء، في مقابل إعفائهم من تلك الضرائب. باع النبلاء - بحسب قول توكفيل - سلطتهم السياسية واشتراها الملك بسبب طمعه، لكن بالإضافة إلى ذلك، كانت لدى الملك «الغريزة التي تجعل كل نظام حكم يرغب في إدارة كل شئونه بمفرده، وهي غريزة لا تختلف أبدا على الرغم من اختلاف من يمتلكونها.» تجاوز هذا الدافع عامل الطمع والجشع؛ لأنه يغري أي نظام حكم على سحب السلطة من أي جهة ليست تابعة له. وبمرور الوقت، استمر النبلاء في فقدان سلطاتهم المتعلقة بأن تتم استشارتهم وأن يديروا شئون المناطق التابعة لهم، لصالح الملك الذي تعلم أن يحكم من خلال المحافظين، وهم المسئولون الإداريون الذين كانوا مندوبين للملك في مختلف المناطق، والذين كان يتم توجيههم من الإدارة المركزية بواسطة وزرائه.
أصبح المحافظون هم المسئولين الأساسيين في النظام القديم، وكان يتم اختيارهم بناء على جدارتهم، وتطورت لديهم مهارة «ابتكار عدد كبير من الوسائل للسيطرة.» لقد كان هؤلاء ينتمون للطبقة الوسطى؛ لأن النبلاء كانوا يكرهون وضع أنفسهم في وضع خاضع وتابع كهذا، مفضلين التنافس بعضهم مع بعض في البلاط على كسب تأييد الملك. كان المحافظون يحتفظون بسجلات دقيقة بكل ما كانوا يفعلونه وما كانوا يحاولون فعله، وقد درسها توكفيل بعناية في إدارات المحفوظات في باريس. لقد مثل هؤلاء المحافظون «الطبقة الأرستقراطية للمجتمع الجديد »، ولقد سماهم توكفيل «المسئولين المدنيين». وكما هو الحال بالنسبة إلى البيروقراطيين المعاصرين (وقد كتب تعليقا في ملاحظاته يشجب استخدام «رطانة المصطلحات الحديثة» هذه)، كان لديهم ميل لعمل الإحصائيات وإدارة الحسابات. ولإظهار الجانب الإنساني لديهم، تحول اهتمامهم من متابعة أرقامهم، إلى الشكوى من سوء أخلاق الفلاحين الكسالى الذين كانوا عادة لا يستمعون لنصحهم أو يقبلون توجيهاتهم. في القرن الثامن عشر، أبدوا بعضا من «التعاطف الزائف» الخاص بروسو وديدرو، في محاولة للتخفيف من حدة المعالجة الجافة للحسابات، وهي محاولات تشبه الوسائل العلاجية في علم نفس الإدارة اليوم. حكى توكفيل قصة مراقب عام مسئول عن برنامج حكومي خيري يقدم إعانات للأبرشيات، وكان يجب على سكان تلك الأبرشيات أن يدفعوا تبرعات مقابلة لجزء من تلك الإعانات. عندما يكون المبلغ المجمع كافيا، كان المراقب يكتب في الهامش: «جيد ومرض»؛ وعندما يكون كبيرا على نحو غير معتاد، كان يكتب: «جيد، ومرض للغاية.»
يتضح من القصة السابقة أن مركزية الإدارة في النظام القديم لم تكن قاسية أو استبدادية، وكلما توسعت أكثر وزاد تأثيرها عمقا، أصبحت أكثر تجاوبا وإحاطة واعتدالا، وأصبحت بحسب قول توكفيل «تظلم أقل وتقود أكثر.» هذا هو الاستبداد الهادئ الذي حذر منه توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ إنه استبداد غير خطير ونافع، وتتصف سلطته بالوصائية لا بالخبث، وهي تتظاهر بأنها تعلم الفلاحين «فن الثراء»، وتوزع بعض الكتيبات الخاصة بفن الزراعة. لقد وجد توكفيل في هذا أصل ما سماه لاحقا في فرنسا «الإدارة الوصائية»، مشيرا إلى أنها تشبه رعاية الوصي أو توجيه المعلم. عندما يقرأ الأمريكيون كتاب توكفيل اليوم، فسيرد على خاطرهم وزارة الزراعة الأمريكية. كانت (وقد لا تزال) المشكلة تتمثل في أن الحكومة تعد بتحسن في الأوضاع أكثر مما يمكن أن تقدمه، فيصبح الناس متشككين فيما تقوله، وتبدو العقلانية المفترضة للطرق الجديدة التي تستخدمها مثيرة للسخرية، ويبقى كل الفرنسيين تحت الوصاية، محرومين من مزايا الحكم الذاتي. في هذا الوضع، عادة ما تكون الحكومة مترددة وخائفة من اتخاذ القرار؛ ولذلك كان النظام القديم يعتمد على قوانين حازمة مع تفعيل ضعيف لها يزداد ترهلا بسبب الامتيازات والإعفاءات.
كانت باريس مركز الدولة الإداري ورمز المركزية نظرا لهيمنتها على باقي فرنسا، وقد زاد حجم تلك المدينة بمرور السنين بالرغم من محاولات الملوك الحد من ذلك. ومع اختفاء النشاط السياسي والحريات المحلية في الأقاليم، أصبحت باريس المركز الوحيد للسلطة وكذلك للحكم على الذوق، وقد أصبحت مركزا متزايدا للصناعة أيضا؛ حيث إن الرقابة هناك كانت أقل منها في الأقاليم. وعندما قامت الثورة، حدثت في باريس، المدينة العاصمة التي كانت تقرر كل شيء لفرنسا؛ إلى حد أن هيمنة تلك المدينة كانت ضمن الأسباب الرئيسية للانهيار المفاجئ والعنيف للنظام الملكي القديم.
كانت تلك هي السمات الأساسية لمركزية الإدارة. والناتج النهائي - الذي أصبح بمرور الوقت هدف الحكومة، وذلك بحسب اعتقاد توكفيل - كان في واقع الأمر الابتعاد عن السياسة والاستعاضة عنها بالإدارة. بدا أسلوب إدارة النظام الملكي الفرنسي - الذي بدأ باعتباره ناتجا عن طمع الملوك والنبلاء، ثم تطور بفعل غريزة موجودة لدى كل نظم الحكم، وأخيرا باعتباره تغييرا كبيرا - ثورة في التاريخ السياسي، حتى إن لم يكن مخططا له. حل هذا النوع الجديد من نظم الحكم محل العناية الإلهية؛ حيث إنه أسس علاقة مع كل شخص باعتباره فردا لم يعد عضوا في طبقة، كما كان الحال في النظام الإقطاعي. يشبه هذا نظام الحكم الذي ظهر في العصر الحديث الذي يطبق نظام الرعاية الاجتماعية الذي يقدم إعانات على نحو مباشر للأفراد، متجاوزا كل الجماعات الوسيطة. هذا يعني أن الفرد يعتمد فقط على الحكومة في تلبية احتياجاته، كما لو أنها هي الرب، وليس أسرته أو وضعه في التسلسل الهرمي الإقطاعي؛ فلا توجد «سلطات فرعية» بين الحكومة والفرد يمكن أن تقف أمام السلطة المركزية للدفاع عن الحقوق والامتيازات الخاصة بالفرد باعتباره عضوا في جماعة، مثل النبيل أو التابع الذي يتبع أحد النبلاء. فلا توجد «جمعيات» مثل تلك التي صادفها توكفيل في أمريكا، تقوم بوظيفة النبلاء في أي نظام أرستقراطي، عن طريق مراقبة عمل السلطة التي تشبه على نحو غريب تلك الخاصة بالنظام الإقطاعي في العصور الوسطى، والتي بمقتضاها تم تقييد سلطات الملوك ومنع استبدادهم.
مع تطور النظام الملكي، تراجع النبلاء الفرنسيون، وكانوا جشعين مثل الملوك، ولكنهم كانوا أقل تبصرا. في البداية، استغنى النبلاء عن حقهم في الموافقة على فرض ضريبة ما في مقابل إعفائهم من تلك الضريبة بمجرد فرضها؛ لاحقا، تم فرض بعض الضرائب على الجميع، لكن مع بعض التساهل في الدفع بالنسبة إلى النبلاء. أدى هذا إلى وضع لم يكن الأغنياء يدفعون فيه أي ضرائب، وفقدوا إحساسهم بالمسئولية عمن توقفوا عن مساعدتهم، وقد فقدوا قدرا كبيرا من ثروتهم أيضا لأن الملك بدأ في بيع المناصب في البلاط لهم؛ فقد فضلوا على نحو أحمق امتيازات الانتماء للبلاط الملكي على امتيازات وواجبات حكم من يتبعون الأقاليم التي تحت سيطرتهم. ومع احتياجهم إلى مزيد من المال، أخذوا بعد ذلك يبيعون أرضهم للفلاحين التابعين لهم، الذين أصبحوا ملاكا للأراضي؛ ومن ثم أصبحوا خاضعين للضرائب التي كان النبلاء معفين من دفعها. وحيث إن النظام الملكي جعل نفسه مسئولا عن كل شيء، فقد كان دائما يعاني عجزا ماليا، وأخذ يجرب الوسائل المالية، الواحدة تلو الأخرى. لم يكن هدفه إضعاف النبلاء عن قصد بفرض ضرائب عليهم، وقال توكفيل إن السياسة المتبعة لم تكن خاصة بملك معين ولكن بمؤسسة الحكم؛ لكن كان من غير المنطقي أن يتم إضعاف النبلاء لدرجة أن تصبح امتيازاتهم لا مبرر لها؛ لأن الثورة عندما قامت، لم يستطع النبلاء الدفاع عن أنفسهم فحسب، وإنما أيضا عن النظام الملكي. إن سياسة النظام الملكي لم تكن بحق استراتيجية جيدة الإعداد، لكن الطموح والجشع خرجا عن السيطرة وأصبحا معتادين في مركزية عنيدة جعلت الحكومة تبدو أكثر عقلانية، ولكنها جعلتها في واقع الأمر أقل عقلانية. لم يدرك النظام الملكي أن سياسته المعادية للطبقة الأرستقراطية ستحول النبلاء إلى طبقة لها امتيازات وليس إلى طبقة أرستقراطية عاملة؛ وهو تمييز كان توكفيل مصرا عليه؛ فذلك النظام لم يدرك أن سياسته كانت في واقع الأمر ديمقراطية، وقد تؤدي فعليا إلى نظام ديمقراطي.
وعلى الرغم من أن تناول توكفيل كان مركزا على طبقة النبلاء، فقد دعم وصفه للنظام القديم بتعليقات عن الطبقة الوسطى التي كانت تحاكي طبقة النبلاء، وعن الفلاحين الذين كانوا يكرهون النبلاء، وعن رجال الدين الذين لم يكونوا على وفاق مع النبلاء. وأقر توكفيل أن النبلاء الفرنسيين، بالرغم من كل فسادهم، كانوا يحافظون على كبريائهم، وبسبب «الفضائل الرجولية» التي كانوا يتمتعون بها لم يكونوا خاضعين ولا ميالين للشغف الشديد للرفاهية المادية، الذي كان سائدا في عصره. لقد استطاع النبلاء، بالرغم من ولائهم القديم للملك، أن يصفوا أرواحهم بأنها حرة؛ وهي حقيقة قال إنها غير مفهومة تماما للعقل الحديث؛ فقد كان لديهم نوع معين من العظمة، لكن لم تكن لديهم حرية سياسية. لم يكن الملوك الذين يتبعونهم قساة، ولكنهم كانوا يفعلون ما في وسعهم من أجل مصلحة فرنسا، وكانت تجاوزاتهم تحدث دون قصد منهم، وبعدائهم للحرية السياسية حرموا أنفسهم من الوسيلة التي يعرفون من خلالها ما كانوا يفعلونه.
أراد توكفيل من خلال هذا التحول في تناوله للموضوع أن يترك نموذج النبلاء، حتى بعد انتقادهم، باعتباره شيئا إيجابيا لعصره، بإمكانه إلهام أو إلقاء اللوم على الناخبين الذين وضعوا لويس نابليون في السلطة، لكنه هاجم بيرك لافتراضه أن النبلاء الفرنسيين ما زالوا قابلين للاستمرار، إذا تم إصلاحهم، في وقت الثورة. يمكن القول إن بيرك في دفاعه عن النبلاء كان لديه نفس دافع توكفيل للثناء عليهم، ولكن بدرجة أكبر؛ افترض بيرك أن النبلاء الإنجليز ما زالوا قابلين للاستمرار في عصره، ولم يرد الطعن في قابلية النبلاء للاستمرار في حد ذاتها؛ فقد ألف كتابه «تأملات حول الثورة في فرنسا» لوأد أي تعاطف مع الثورة الفرنسية في بريطانيا، ولإحباط رغبة الراديكاليين البريطانيين في نقلها عبر القنال الإنجليزي إلى بريطانيا. إن بيرك بالتأكيد لم يكن يريد الموافقة على وجهة نظر توكفيل القائلة بأن عالم الديمقراطية الجديد لا يمكن مقاومته، ولم يفعل ذلك، غير أنه أيضا كان يرى ، في عبارة شهيرة له، أن «عصر الفروسية قد انتهى»، وهو العصر الذي كان النبلاء فيه يهبون للدفاع عن ماري أنطوانيت. ربما أفضل خيار له، في كتابه عن التاريخ السياسي المقابل لكتاب توكفيل، أن يبالغ في الحديث عن مدى استقامة النبلاء وقابليتهم للاستمرار، تماما كما كان على توكفيل المبالغة في الحديث عن فسادهم، وأنهم في طريقهم للزوال، وإنكار أنه كان بالإمكان إصلاحهم. إن وجود إعجاب محدود بالنبلاء دون وجود حنين لوجودهم على الساحة السياسية يمكن أن يلخص وجهة نظر توكفيل.
ختم توكفيل تناوله للنظام القديم بأن قرر أنه لم يكن كيانا كليا، وأنه لم يكن يمثل «أمة». كان النظام الإقطاعي في أوج ازدهاره بمنزلة أمة لأنه كان يمثل كيانا كليا؛ فقد كانت له وحدة عبر أجزائه، لكن النظام القديم كانت له وحدة من نوع مختلف، دون أجزاء متنوعة ولكنه كان مكونا من أفراد متشابهين. مرة أخرى، ربما لم يكن هذا هو قصد النظام الملكي وإنما كان النتيجة؛ فسياسته جعلت فرنسا تتحول إلى «جسد متجمد»، «حشد منظم» من «المتشابهين»، كل مجموعة منهم منفصلة ومنعزلة عن المجموعات الأخرى. أطلق على هذا الوضع «الفردية»، وهو المفهوم الذي استخدمه بهذا المعنى في كتابه عن الديمقراطية، وأضاف قائلا إن النظام القديم كان «شكلا من أشكال الفردية الجماعية، التي جهزت الأنفس للفردية الحقيقية التي نعرفها.»
إن الفردية الحقيقية ديمقراطية، بينما الشكل الجماعي منها يعدها بتوجيه الأفراد في المجموعات الصغيرة العديدة في النظام القديم للتفكير في أنفسهم فقط. ربما نفترض أن كلا النوعين من الفردية يقعان تحت نطاق «حكم الفرد المطلق»، سواء أكان ملكا أم المفهوم المجرد للدولة المتمثل في الحكومة الكبيرة. يذكرنا هذا المفهوم بمفاهيم مماثلة لمونتسكيو ومكيافيلي، تشير للحاكم المستبد أو الأمير الذي يفرض النظام بالقوة في بلده. بالنسبة إلى توكفيل، الاستبداد أمر خاطئ، نظام مفروض بالقوة على نحو غير مترابط. لكي تكون أي أمة كيانا كليا على النحو الصحيح، يجب أن يكون لدى شعبها الحرية السياسية للتعبير عن أجزائها المختلفة وتشكيلها. إن الحرية السياسية ليست عدوة للوحدة والنظام؛ بل هي على العكس بمنزلة شرطها الضروري؛ فهي تقاوم الحكم لكنها في نفس الوقت تدعي أنها تحكم. إن الوحدة الزائفة المفروضة من قبل كيان موجود في قمة السلطة، وهي السمة الأساسية للحكومة الكبيرة الديمقراطية وكذلك للنظام الملكي المطلق، معرضة لاندلاع ثورات تطيح بها، وهي تستحق ذلك بالفعل. بالنسبة إلى توكفيل، الثورة الفرنسية كانت علامة على التعافي وبلوغ المرض ذروته؛ بحيث تمثل التعافي في محاولة إنشاء كيان كلي وتمثل المرض في الفشل المحتم لتلك المحاولة. لقد كانت بالتأكيد تتعلق بإنشاء سلطة أكثر من إسقاطها، لكن السلطة التي تم إنشاؤها من قبل الثورة لم تكن شرعية؛ لأنها لم تنجح في إنشاء كيان كلي.
المفكرون
يتحدث الجزء الثالث والأخير من كتاب توكفيل «النظام القديم والثورة» عن الحقائق الأكثر خصوصية وحداثة، التي حددت مكان وميلاد وطابع «الثورة العظيمة»، كما أصبح يطلق عليها توكفيل آنئذ. يمكن أن تكون تلك الحقائق السبب المباشر وليس السبب الأساسي، الذي كان يتمثل في السياسة الإدارية للنظام الملكي الفرنسي. إن تلك الحقائق اتضح أنها حقيقة واحدة، وهي المفكرون الذين هيمنوا على السياسة الفرنسية من منتصف القرن الثامن عشر، إلى جانب تأثيرهم على النبلاء ورجال الدين والملك. إن دورهم المهم يثير ثانية مسألة دور الأفكار في السياسة بالنسبة إلى توكفيل، وهي المسألة التي بدت أساسية في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكنها تركت دون أن تحسم في الكتاب. إن مسألة «الفعل أم الكتابة» هي أهم مسائل الحياة الشخصية لتوكفيل، والسبيل لحسمها يتمثل في إقرار ما إذا كانت الكتابة شكلا من أشكال الفعل، وما إذا كانت الأفكار المكتوبة من قبل كاتب يمكن أن يكون لها تأثير سياسي أم لا. وقد تناول تلك النقطة في عمله «النظام القديم والثورة».
كانت فرنسا على الدوام أكثر الأمم في أوروبا إنتاجا للمفكرين والأدباء، لكن قبل الثورة كان مفكروها لديهم اهتمام من نوع جديد بالسياسة. صحيح أنهم لم ينخرطوا في السياسة، كما فعل نظراؤهم في إنجلترا؛ فهم لم تكن لديهم سلطة أو وظيفة عامة، لكنهم شغلوا أنفسهم باستمرار بالأمور السياسية؛ فقد كانوا دائما يفكرون على نحو مجرد ويناقشون مسائل مثل: أصل المجتمعات، والحقوق الأصلية للمواطنين في مقابل السلطة، والعلاقات الطبيعية في مقابل العلاقات المصطنعة بين البشر، ومشروعية العادات، ومبادئ القوانين. لقد اعتقد جميعهم أنه سيكون من المناسب استبدال قواعد بسيطة وأساسية مأخوذة من العقل والقانون الطبيعي بالعادات التقليدية المعقدة السائدة في المجتمع في عصرهم. ولا توضح تلك الموضوعات المجردة والنتيجة المبسطة للغاية نقص الخبرة السياسية وحسب، وإنما أيضا ازدراء لها؛ وهو الأمر الذي كان يبغضه توكفيل.
لم يسع توكفيل لتفسير هذا السبب الحديث بالنظر إلى تاريخ الفلسفة السياسية الحديثة؛ حيث يمكن - كما كان يعرف جيدا - أن يجد أن البحث عن البساطة في السياسة كان قد بدأه هوبز ولوك، إلى جانب ديكارت الذي ذكره في كتابه «الديمقراطية في أمريكا». بدلا من ذلك، سأل عن السبب في ظهور تلك الفكرة، التي قال إنها لم تكن جديدة، وإنها ظهرت منذ ثلاثة آلاف عام، على وجه الخصوص في عصره. للإجابة عن هذا، ذكر رأي المفكرين في المجتمع الذي به امتيازات غير عادلة «أدت بطبيعة الحال» إلى الرغبة في إعادة بناء المجتمع، بناء على خطة جديدة بالكامل يتبعها كل فرد فيه مستخدما عقله. اعتقد توكفيل أنه كانت تنقصهم تجربة السياسة الحرة التي قد تكون حذرتهم من قدرة الحقائق الحالية على إعاقة أكثر النظم المرغوبة؛ حيث إن الغياب الكامل لكل أشكال الحرية السياسية كان خافيا عنهم، ولم يكن بإمكانهم معرفة ما كانوا يجهلونه. وبدا توكفيل مهتما بجعل السلطة السياسية مسئولة عن الصعود الفكري لمثل هذه الحماقة، بدلا من إلقاء اللوم على المفكرين لأنهم أصبحوا حمقى بهذا الشكل.
من المفكرون الذين كان توكفيل يتحدث عنهم؟ ذكر توكفيل بالطبع فولتير، مشيرا إلى أنه كان يقدر إنجلترا على حرية التعبير التي كانت سائدة فيها، وليس لتمتع مواطنيها بالحرية السياسية. ولم يذكر روسو هنا، بالرغم من أن روسو كان مشهورا مثل فولتير، وكانت تقتبس كلماته أكثر من فولتير من قبل الثوار أنفسهم، كما أنه كان من الكتاب المفضلين لدى توكفيل. لقد ركز على الدور الأساسي الذي لعبه «الاقتصاديون» أو الفيزوقراطيون، الذين قدموا على نحو غير مسئول علاجات سياسية ساذجة، مبدين شغفا بالمساواة ورغبة غير متحمسة للحرية. كان أبرزهم تيرجو، الذي لم يقدم مثل تلك العلاجات، لكنه كان رجلا لديه «روح عظيمة» و«سمات عبقرية نادرة» ميزته عن كل الآخرين، غير أنه كان هو الذي بحماقة نصح لويس السادس عشر في عام 1775، بأنه يمكن بأمان أن يعطي الأمة لمحة من الحرية في شكل مجلس منتخب دون أن يعطي لهذا المجلس أي سلطات. لقد روج الاقتصاديون لحدوث «استبداد ديمقراطي» وألهموا الاشتراكية التي عرفها توكفيل في عصره، وبجعل الحرية وسيلة لتحقيق غرض آخر مثل المساواة أو الثروة، ساعدوا الفرنسيين على فقدان رغبتهم فيها. قال توكفيل في الفصل المخصص للاقتصاديين إن «تلك الرغبة السامية» هي الميزة التي تتميز بها «القلوب العظيمة» بخلاف «الأرواح العادية» التي لم تحس بها قط.
لقد سبق هؤلاء الاقتصاديين اقتصاديون آخرون في القرن السابع عشر، وهوبز هو أبرزهم على الإطلاق، لكن توكفيل تعامل معهم على أنهم اقتصاديون جدد؛ ربما تكون أفكارهم غير جديدة، ولكنها أصبحت مناسبة لعصره. ذكر توكفيل أن المفكرين أصبحوا مؤثرين جدا، لدرجة أنهم شكلوا نظرة الفرنسيين للحياة، معطين إياهم «تعليما فريدا». لقد أصبحت الأمة الفرنسية مغتربة جدا عن شئونها، ومحرومة بشدة من التجربة السياسية بحيث استسلمت بسهولة لتأثير هؤلاء. وحتى النبلاء أفسحوا المجال للكتاب الذين أصبحوا القوة السياسية الأساسية، آخذين المكان الذي عادة ما يشغله رؤساء الأحزاب في الدول الحرة. وعندما ظهر الثوار على الساحة، رددوا صدى نفس النظريات المجردة التي علق عليها توكفيل قائلا إن «ما يعد فضيلة في الكاتب يكون عادة رذيلة في رجل السياسة.»
تنطبق تلك الملحوظة على نحو خاص على الهجوم الذي شنه هؤلاء المفكرون على الكنيسة، وهو أبرز سمة للتعليم الذي كانوا يقدمونه. لقد كانت الكنيسة تمثل التقليد والسلطة والتسلسل الهرمي؛ كل شيء كان يعارضه المفكرون في السياسة. فهم لم يروا الكنيسة على أنها حليف محتمل للحرية ، كما فعل توكفيل، وإنما باعتبارها العقبة الأساسية أمام الثورة والإصلاح السياسيين، لكن الكنيسة كانت بحلول القرن الثامن عشر قد فقدت كثيرا من قوتها؛ فلم تكن تقمع الكتاب وإنما كانت تضيق عليهم فقط من خلال الرقابة التي لم تكن فعالة، ومن خلال الاضطهادات البسيطة التي كانت تخيفهم فقط ولا تسكتهم. في واقع الأمر، في ذلك الوقت كان المؤمنون، بحسب قول توكفيل، هم من يتم إسكاتهم؛ فالمفكرون كانوا يريدون صحافة حرة من أجلهم هم فقط، حتى يعرضوا من خلالها أفكارهم الإصلاحية المبسطة للغاية، وليس من أجل توفير الحرية للجميع؛ الحرية السياسية التي قد تعيق أو تؤدي إلى معارضة خططهم. لقد كان هؤلاء ثوريين فقط في فكرهم ولم يؤمن أحدهم بالعنف، ولم يكن لديهم مؤشر على أنه قد يحدث في المستقبل، ولم يكن يجول بخاطرهم أنهم قد يكونون مسئولين عنه. لكن توكفيل اعتبرهم مسئولين عن الطابع الذي تميزت به الثورة التي حدثت، ليس باعتبارهم أشخاصا أصحاب فكر، ولكن باعتبارهم سياسيين غير بارعين وجدوا أنفسهم في فراغ سياسي وكان سمتهم الاندفاع غير عابئين، في الوقت الذي كان يتعين عليهم القلق وتوخي الحذر.
عند الحديث عن المفكرين ونظرياتهم المجردة، اتفق توكفيل مع إدموند بيرك في الهجوم عليهم، لكن موقفه تجاه الفلسفة كان مختلفا على نحو كبير، وغامضا في نفس الوقت، مقارنة بموقف بيرك تجاهها؛ ففي حين أن بيرك هاجم الفلسفة في حد ذاتها في ذلك الوقت حتى يعارض هؤلاء الذين كانوا يسمون أنفسهم مفكرين، ويستبدل بها بعد ذلك إيمانا مجددا بالحكمة العملية، لزم توكفيل الصمت تجاه الفلسفة والأفكار الفلسفية في حد ذاتها، وكان من آن لآخر يهاجمها نظرا لعدم جدواها العملية، مع تقديم إضافة جيدة للحكمة العملية. كانت هذه الإضافة تتمثل في «العلم العظيم الخاص بالحكم»، الذي يعلمنا كيف نفهم الحركات العامة التي تحدث في المجتمع، ونحكم على عقل الحشود ونتنبأ بما قد يحدث. وقد قال إن أي أمريكي يمكن أن يقابله في الشارع سيعرف أن الدين مهم لأي مجتمع حر؛ لأن هؤلاء الأقل معرفة ب «علم الحكم» يعرفون هذا جيدا، غير أنه لم يشرح مطلقا تلك الإشارات المدهشة لعلم السياسة، تماما كما فعل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، عندما لم يسهب في الحديث عن «علم سياسة جديد ... لعالم مختلف تماما»، بدا أنه سيبشر به في البداية. إن الإسهاب في عرض علم السياسة الجديد سيقلل من قدر ممارسة السياسة أو يسرق المشهد منها، وقد يتعدى على حرية القارئ في التفكير بنفسه في الأمر. إن «الممارسة الخاصة بالمؤسسات الحرة» هي التي تعلم بحق السياسيين فن السياسة. إن علم السياسية الخاص بتوكفيل أبى بتواضع أن يكشف عن نفسه أو يبرزها بأي حال من الأحوال باعتبارها معلما للسياسة.
في الجزء الثالث من كتاب «النظام القديم والثورة»، أعطى توكفيل لمحة عن علم السياسة الخاص به، حينما عرض فرضيته الشهيرة التي تقول إن «أخطر لحظة بالنسبة إلى أي حكومة سيئة، تأتي عادة عندما تبدأ في إصلاح نفسها.» فأي شعب سيتحمل الظلم دون اعتراض عندما يبدو أنه لا مهرب منه، لكن عندما يرى فرصة للتحرر، سيصبح عديم الصبر ويتحول للعنف. فقط في عام 1780، عندما كان هناك إصلاح يلوح في الأفق، ظهرت للنور «نظرية قابلية الإنسان المستمرة وغير المحدودة لبلوغ الكمال.» جعلت تلك النظرية الشعب غير مبال بالمتع الحالية، ودفعته باتجاه «أشياء جديدة». تبرز هنا نفس النظرية اللاعقلانية الخاصة بالتقدم التي تم تناولها في كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، والتي اعتبرت الآن سببا للثورة في فرنسا. أثنى توكفيل على الثوار لإيمانهم «المدهش» بقوة الإنسان وقابليته لبلوغ الكمال؛ فهم لديهم شغف بعظمة الإنسانية وإيمان بفضيلتها. لكن على الرغم من أن قلوبهم كانت مخلصة، فإن عقولهم كانت مرتبكة بسبب إسقاط القوانين الإلهية والانقلاب على القوانين المدنية. إن التقدم باتجاه القابلية لبلوغ الكمال يمكن أن يكون ملهما، لكنه لا ينتهي أبدا؛ فالبشر بحاجة إلى علم سياسة ينظر للمجتمع باعتباره كيانا كليا يكون للإنسان فيه مكان إذا أرادوا أن يستمتعوا بالحرية.
الفصل السادس
فخر توكفيل
في ضوء انتقادات توكفيل للفلسفة، ربما يبدو وصفه بالفيلسوف أمرا ينطوي على نوع من التناقض والتجاوز، لكنه وصف نفسه بأنه «ليبرالي من نوع جديد»، وأوضح معالم الليبرالية الجديدة التي توصل إليها؛ ففي كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، انتقد الفلسفة المادية لتشجيعها على عادة الديمقراطية المتمثلة في عدم السعي وراء أي شيء سوى المتعة المادية، كما انتقدها لحرمانها الديمقراطية من الإحساس بالفخر الذي يثيره الدين. في كتاب «النظام القديم والثورة»، انتقد الفلسفة العقلانية لسعيها وراء نظم الإصلاح دون الاهتمام بالحرية. ليس من الصعب النظر لهاتين الفلسفتين باعتبارهما جانبين من الفلسفة السياسية الحديثة التي تعد أصل الليبرالية: المادية من أجل الإصلاح وليس الاستسلام لما هو حتمي، والعقلانية من أجل التطور المادي للحياة بدلا من التأمل. استعرض توكفيل في كتابه «ذكريات» الإحساس بالفخر الذي أراد أن يضيفه لليبرالية، إحساسه هو بالفخر الحزين بعض الشيء، أثناء تناوله للثورة التي اندلعت عام 1848 في فرنسا، والتي شهدها وشارك فيها. إنه تناول لفشل الثورة، وليس انتصارا للفخر. لكنه أيضا عرض تعليمي للفلاسفة الذين يظنون أنفسهم سياسيين، وللمواطنين الذين سمحوا لهؤلاء الفلاسفة أن يكونوا مصدر إلهام بالنسبة إليهم.
هل كتب توكفيل كتابه «ذكريات» لنفسه فقط؟
اختلف عمل توكفيل «ذكريات» عن عمليه الكبيرين السابقين اختلافا بينا، وقد تم تأليفه فيما بين هذين العملين في عامي 1850 و1851. في البداية، قال إنه «أبعد مؤقتا عن مسرح الشئون السياسية»، وإنه لم يعد قادرا على الاستمرار في أي دراسة بسبب متاعب صحية. في أكتوبر من عام 1849، أجبر على الاستقالة من منصبه باعتباره وزيرا للشئون الخارجية، وهو أعلى وآخر منصب تقلده في مجال السياسة؛ استمر فيه لمدة خمسة أشهر فقط، ثم في مارس من عام 1850، تقيأ دما للمرة الأولى، وكانت هذه علامة على المرض الذي أودى بحياته بعد ذلك بتسعة أعوام. لقد أصبح وحيدا في تلك الفترة «وسط حالة من العزلة»، وذلك بحسب تعبيره الدرامي مستخدما أسلوب روسو، وقد قرر استعراض أحداث ثورة عام 1848 وتصوير الأشخاص الذين رآهم يشاركون فيها. لم يكن من المفترض أن يكون هذا العمل «عملا أدبيا» مثل عمليه الآخرين اللذين كانا مكتوبين للجمهور ؛ فقد كان عملا بحسب قوله مخصصا لنفسه فقط . لم يعرض توكفيل في واقع الأمر عمله هذا إلا على بعض الأصدقاء، ولم ينشر في حياته، لكنه نشر فقط في عام 1893 من خلال الإذن بذلك الذي نص عليه في وصيته.
قال توكفيل إن هذا العمل سيكون بمنزلة «مرآة» يرى من خلالها معاصريه ونفسه، ليس باعتباره «لوحة» مقدمة للناس يمكنهم الاطلاع عليها؛ فقد كان هدفه الوحيد هو الحصول على «متعة فردية» لنفسه، و«التأمل المنفرد» للوحة حقيقية للمجتمع، ورؤية «الإنسان من خلال حقيقة فضائله ورذائله من أجل فهم طبيعته والحكم عليها.» وحتى تكون كلماته صادقة، يجب أن يجعلها «خفية بالكامل». هذا تمييز واضح بين نظره في المرآة، وهو الأمر الذي سيفعله، وبين تصوير الآخرين، وهو الأمر الذي لن يفعله. وعلى الرغم من ذلك، قال بالفعل إنه سوف يصور الرجال الذين رآهم، وفي الفقرة التالية تحدث ثانية عن الأحداث التي أراد تسليط الضوء عليها. علاوة على ذلك، في باقي الكتاب، أخذ «يصور الرجال والأحداث مستخدما أسلوبه الشديد البراعة، ولم يكن يكتب على الإطلاق لمتعته الشخصية فقط.» وعلى الرغم من أنه في أحد الخطابات وصف عمله بأنه نوع من «أحلام اليقظة»، فقد تحدث بالفعل مع آخرين شاركوا في الثورة، وراجع الوثائق حتى يتأكد من صحة عمله. السؤال: لماذا تلك المراوغة في الحديث عن الجمهور المستهدف من عمله؟
يعد عمل توكفيل «ذكريات» في واقع الأمر لوحة، لكن للجيل التالي؛ فسمته المميزة تتمثل في تصويره الرائع للعديد من الشخصيات، بخلاف عمليه الآخرين، اللذين درسا الأسباب وذكرا الشخصيات فقط لتوضيح التعميمات. هنا، وبدءا من التحليل اللاذع للملك لويس-فيليب، يستعرض القارئ لوحات بارزة وساخرة، واحدة بعد الأخرى للشخصيات ليس باعتبارهم متحكمين في سير الأحداث، وإنما باعتبارهم ضحية لأخطائهم، وفي بعض الأحيان لفضائلهم؛ ولم يسلم من العرض أسرته (أخت زوجته)، ولا صديقه (جيه جيه أمبير)، وقرب نهاية الكتاب انتقد بشدة الرئيس لويس نابليون (الذي سرعان ما أصبح الإمبراطور)، معتبرا إياه متآمرا قديما ومحبا شديدا للمتع السهلة. إن نشر تلك الأشياء أثناء حياته يعد نوعا من الطيش الذي ربما كلفه حريته، لكنه بتسجيله لها للأجيال التالية استطاع أن يوضح كيف تكون طبيعة السياسة العملية. في عمليه «الديمقراطية في أمريكا» و«النظام القديم والثورة»، أثنى على ممارسة الحرية السياسية؛ إنه يوضحها هنا وهي محل التطبيق، أو بالأحرى يشير إلى عدم تحققها في فرنسا.
الأكثر من ذلك أن توكفيل أظهر نفسه وهو يعمل، أو بالأحرى وهو يفشل؛ فهو نفسه كان مفكرا في مجال السياسة، تماما مثل المفكرين الذين هاجمهم في كتابه «النظام القديم والثورة». إنه يوضح الآن إلى أي مدى يمكن أن يذهب المفكر في محاولته توجيه السياسة، ومقدار اعتماده على الصدفة، ومدى اعتماده الكبير على التعاون مع الأشخاص العاديين الذين يجب أن يعمل معهم. هذا هو جانب «المرآة» في العمل الذي يعمل في تناغم، لكن أيضا في تعارض، مع جانب تصويره للشخصيات والأحداث؛ فهو عندما ينظر لنفسه، يرى رساما منخرطا في السياسة ويعلوها باعتباره معلما. في نهاية كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، قال إنه سعى للنفاذ إلى وجهة نظر الرب حتى يوازن بين النظامين الديمقراطي والأرستقراطي. لكنه قال أيضا إن الرب، بخلاف البشر، يرى الأحداث الفردية والتعميمات أيضا. إن توكفيل ينظر هنا إلى الإنسانية من منظور الفردية؛ حيث إن الأحداث فردية لأن الأفراد مختلفون؛ فالفيلسوف السياسي، شأنه شأن المفكرين في فرنسا في القرن الثامن عشر، يميل للاعتقاد بأن الحقائق العامة يمكن تطبيقها على نحو منهجي لإحداث تطور دائم في شئون البشر؛ لذا فإن حقيقة عامة يمكن أن توجب الطاعة من ظروف معينة، وتجبر هذه الظروف على تنفيذ ما تريد.
شكل 6-1: لوحة رسمها توكفيل لنفسه عندما كان وزيرا للشئون الخارجية، وزميله لونجوينيه عندما كان وزيرا للتجارة، وهما مقيدان بنير الوزارة.
أشار توكفيل في كتابه «ذكريات» إلى أن تلك الطاعة لن تحدث، وقد ضرب مثالا على هذا من واقع ثورة عام 1848 في فرنسا؛ حيث أراد باعتباره مفكرا أو فيلسوفا أن يسيطر على الأحداث، لكنه لم يكن قادرا على ذلك. بالطبع، عارض توكفيل المنظرين، وفي مقدمتهم الاشتراكيون، الذين كانوا يريدون تلك الثورة، ولم يزعم أنه كان يمثل «الفلسفة» أو أي شيء آخر في واقع الأمر غير نفسه، لكنه بمعارضته للثورة، اضطلع بدور المعارض للفيلسوف، الذي يكشف عن ضلال الفلاسفة المتغطرسين. أسقطت ثورة عام 1848 النظام الملكي للويس-فيليب، وهي نتيجة عارضها توكفيل عبثا، ثم تم إنشاء جمهورية أضعفها التحزب، وقد انضم لحكومتها بدافع المسئولية ولكن دون حماس. بعد ذلك، تم إسقاط تلك الجمهورية على يد لويس نابليون في عام 1851، الذي أعاد تأسيس إمبراطورية نابليون، التي أصبحت حينها استبدادا ديمقراطيا هادئا يجمع بين مركزية الإدارة والغطرسة البرجوازية. لم يحقق ثوار ثورة عام 1848 ما كانوا يريدونه، وهكذا الحال بالنسبة إلى توكفيل؛ فقد رأى أسوأ المخاوف التي توقعها وقد تحققت أمام عينيه، وكان قريبا على نحو كاف من الأحداث الحاسمة، بحيث لم يستطع تقديم النموذج الخاص به المتعلق بعجز المفكرين. وبعدم نشر توكفيل ذكرياته هذه عن تلك الأحداث إلا بعد فترة طويلة، سمح لنا بالنظر داخل عقله وبإصدار حكم مثله؛ حيث تتكشف أمامنا تلك الأحداث من خلال تعليقات بديهية هدفها إرضاء جمهور من المعاصرين.
أعطى توكفيل مثالا جوهريا على فشل نصحه، وعلى الرغم من أنه كان بالكاد مناصرا للنظام الملكي، فإنه كان يعتقد أنه من الأفضل لفرنسا أن تبقي على نظام ملكي دستوري بمجلس تشريعي منتخب، من أن تخاطر بإنشاء جمهورية برئيس منتخب؛ الأمر الذي سيمهد الطريق لوجود خليفة لنابليون، وهو الشيء الذي حدث بالفعل، وقد تم إسقاط النظام الملكي من خلال هجوم عنيف على المجلس التشريعي (مجلس النواب) من قبل حشد مسلح من الغوغاء في 24 فبراير من عام 1848. أعطى هذا الحدث شرعية لحق أي حشد في باريس في القيام بأعمال عنف باسم الشعب الفرنسي، واستخدام العنف الثوري ضد الدستور، وهذا ما دفع لاحقا الطبقة الوسطى والفلاحين - كرد فعل لهذا - لدعم لويس نابليون من أجل حماية أملاكهم من هذا التهديد.
شكل 6-2: حشد من الناس يقتحمون حصنا أثناء ثورة عام 1848 في فرنسا. تنبأ توكفيل بتلك الثورة وعارضها أيضا، لكنه لم ينجح في منعها.
كان توكفيل، الذي كان عضوا في مجلس النواب، هناك في ذلك اليوم، وحكى القصة في كتابه «ذكريات»؛ قائلا إنه مع احتشاد جمع من الناس، بحث حوله عن شخص يمكن أن يحاول تهدئة هذا الجمع، ووقع اختياره على ألفونس دي لامارتين، الشاعر والمؤرخ، الذي كان في تلك اللحظة أشهر سياسي في المجلس. ذهب توكفيل إليه وهمس في أذنه، وقال له إنهم سيهلكون إذا لم يخطب في الناس، لكن لامارتين رفض؛ فلم يكن ليفعل شيئا يمكن أن ينقذ النظام الملكي أو يضر بشعبيته، لكنه تحدث لاحقا لكن بعد فوات الأوان، وكانت فرصة إنهاء الأزمة قد ضاعت؛ فقد وصلت مجموعة صغيرة من أفراد الحرس الوطني، وذلك بحسب قول توكفيل، متأخرة أيضا نصف ساعة. كان توكفيل في المكان الذي كان يجب أن يكون فيه، لكن لم يؤخذ بنصيحته، والنتيجة التي ترتبت على ما حدث «غيرت مصير فرنسا». ربما تكون هذه القصة مختلقة على نحو ما، لكن لغرض معين؛ فهي تكشف القيود على النصائح الخاصة بعلماء السياسة، ومحاولات الإصلاح الممكنة وفضائل الحرية السياسية. في كتابي توكفيل الآخرين المنشورين، أثنى على إنجازات السياسة في أمريكا واستنكر عدم حدوثها في فرنسا، لكن العمل الذي لم ينشر في حياته انتهى بعبارة ساخرة تقول إنه بعد تحقيق نجاحين صعبين في مجال الشئون الخارجية، سقطت الوزارة التي كان وزيرا بها. في هذا العمل، كشف توكفيل عن القيود المفروضة على السياسة وأهمية الحرية السياسة، لكن بعد فترة طويلة.
الاشتراكية
لم يترك توكفيل الحديث عن الديمقراطية في كتابه «ذكريات»، وذكر أنه بكتابته هذا العمل كان يريد أن «يحتفظ بحرية التصوير (الرسم) دون تملق»، وحيث إنه لم يثن على عدالة الديمقراطية في هذا العمل كما فعل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، فربما نستنتج أنه كان يتملق الديمقراطية في هذا العمل. وعندما كشف عن الأسلوب المنمق التافه للحوار السياسي في أمريكا، قارنه بقوة «خطيب عظيم يناقش أمورا عظيمة في مجلس ديمقراطي»، لكنه اعترف في هذا العمل قائلا:
أعرف دائما أن الأشخاص العاديين، وكذلك الأشخاص ذوو المكانة، لهم أنف وفم وعينان، لكنني لم أستطع قط أن أثبت في ذاكرتي الشكل المحدد لتلك الملامح لكل واحد منهم؛ فأنا أسأل باستمرار عن أسماء هؤلاء الأشخاص غير المعروفين لي، الذين أراهم كل يوم وأنساهم باستمرار ... أنا أحترمهم لأنهم يقودون العالم، لكنهم يشعرونني بملل شديد.
هذا ليس موقف سياسي راغب في إرضاء الآخرين أو قادر على ذلك؛ فوراء هذا الازدراء غير المقصود يكمن حكم توكفيل المتمثل في أن «الاشتراكية ستظل الطابع الأساسي وأكثر الذكريات المخيفة» لثورة عام 1848؛ فلفترة طويلة، كان الناس يكتسبون قوة، وكان من المحتم، إن عاجلا أو آجلا، أنهم سيدخلون في مواجهة مع امتياز الملكية باعتباره العائق الأساسي أمام المساواة. سيبدو أن الاشتراكية تمثل المرحلة التالية للثورة الديمقراطية التي جعلها توكفيل الموضوع الأساسي في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ فتقييمه لثورة عام 1848 على أنها اشتراكية، يتعارض على نحو ملحوظ مع حكم كارل ماركس في كتيبه «الانقلاب الثامن عشر من برومير للويس نابليون» (1852)؛ حيث أدان ماركس الثورة باعتبارها مهزلة برجوازية رخيصة. كان ماركس مجبرا على تضمين خيبة أمله في نظريته عن التاريخ، وهو الأمر الذي فعله بملاحظة أن التاريخ عندما يكرر نفسه (كما قال مرجعيته هيجل)، يكون الأمر بمنزلة مهزلة بعد مأساة. لقد كانت المأساة هي الثورة الفرنسية التي قامت في عام 1789، ولم يقصد ماركس بالمأساة عهد الإرهاب في عام 1793، وإنما أحداث ثيرميدور التي كانت رد فعل لها. أتبع توكفيل تقييمه بتأمل معاكس عن الازدراء العام للاشتراكية في عام 1848، قائلا إنها قد تعود ثانية لأن المستقبل منفتح أكثر مما يتخيل الناس الذين يعيشون في كل مجتمع. لقد كان بالطبع يعتبر الملكية، خاصة الملكية البرجوازية العادية، ضرورية للحرية السياسية، في حين كان ماركس ضدها، فقط لأنها كانت تدعم وهم الحرية السياسية.
إن الاشتراكية بالنسبة إلى توكفيل مزيج من شغف لدى الناس وأوهام لدى مفكرين، لديهم «معتقدات بارعة وخاطئة»، وسيهاجم توكفيل جيلا لاحقا منهم في كتابه «النظام القديم والثورة». تتمثل الروح الأدبية في السياسة في تحديد ما هو بارع وجديد أكثر مما هو حقيقي، وتفضيل الشيء الجذاب على الشيء المفيد، وإبداء التأثر بالأشخاص الذين يتصرفون ويتحدثون على نحو جيد، بغض النظر عن عواقب تصرفاتهم، واتخاذ القرار على أساس الانطباعات وليس الأسباب؛ كل الأمور التي وجدها في صديقه عالم الأدب أمبير، وربما كان سيراها في شخصية ماركس الأكثر فظاظة.
إن أوهام المعتقدات، السخيفة في حد ذاتها، ضارة في الواقع العملي، غير أن توكفيل كان لديه إعجاب كبير بهؤلاء الذين قد يثورون أكثر من منظري الثورة غير المكترثين؛ فبجانب الشخصيات العديدة التي «رسمها» في كتابه «ذكريات»، قدم لوحة من بيته رسم فيها حارس بيته (لم يذكر اسمه) وخادمه أوجين. كان حارس بيته جنديا سابقا ذا سمعة سيئة في المنطقة، وكان شخصا مخبولا صغير الحجم، لا فائدة منه، وكان الوقت الذي لا يضرب فيه زوجته يقضيه في الحانة؛ باختصار، كان اشتراكي المولد أو الطبع. وفي أثناء ثورة يونيو 1848، أخذ هذا الرجل ذات يوم يتجول في المنطقة وبيده سكين مهددا أن يقتل بها توكفيل عندما يراه، لكن عندما عاد توكفيل في المساء، لم يفعل الحارس أي شيء، وأوضح أنه لم يكن ينوي أي شيء مطلقا. أشار توكفيل إلى أن الناس في أوقات الثورات يفتخرون بجرائمهم المتخيلة تماما كما يفتخرون في الأوقات العادية بأفعالهم الخيرة المتخيلة. على الجانب الآخر، كان أوجين جنديا في الحرس الوطني، وقد استمر بهدوء شديد في أداء مهام عمله باعتباره خادما أثناء الخدمة في الجيش الذي قام بقمع الثورة؛ لم يكن أوجين فيلسوفا، لكن كانت لديه رصانة الفلاسفة؛ ولم يكن كذلك اشتراكيا، لكن لو كانت الاشتراكية انتصرت، لكان سيصبح واحدا من أتباعها بسبب اتزانه وسهولة تكيفه. إن تحقيق الاشتراكية يحتاج إلى جرأة ستختفي في كنف هذه الاشتراكية.
إن قيام ثورة عام 1848 لم يكن مقصودا من قبل المنظرين الذين دعت نظرياتهم لإصلاح لم يكن من الممكن تحقيقه إلا من خلال الثورة، ولم يتوقعها حتى أحد سوى توكفيل في بيان في أكتوبر من عام 1847، وفي خطاب تحذيري في مجلس النواب في 27 يناير من عام 1848، قبل شهر من وقوع الثورة . تعجب توكفيل قائلا: «ألا تشعرون - لنقل - بنسيم الثورة في الهواء؟» ميز توكفيل - متناولا في هذا الكتاب أحد الموضوعات التي استعرضها في كتابيه الآخرين - بين الأسباب العامة والحوادث العارضة الخاصة، ووجد ستة من كل منهما فيما يتعلق بتلك الثورة. ركز المفكرون على الأسباب العامة، خاصة تلك «المعتقدات المطلقة» التي قال إنه يبغضها، والتي وصفها بأنها «محدودة في عظمتها المزعومة، وخاطئة فيما يتعلق بحقيقتها الرياضية.» وعلى النقيض، أرجع السياسيون الذين كانوا يعيشون وسط الأحداث اليومية، كل شيء للحوادث العارضة التي كانوا جزءا منها؛ ذكر توكفيل أن العديد من الحقائق التاريخية حدث بالصدفة أو بمزيج من الأسباب الثانوية التي ترقى للصدفة، لكنه أكد أن الصدفة لا تصنع أي شيء لم يتم إعداده مسبقا. ربما يمكن توقع هذا الإعداد فيما يتعلق بالأسباب العامة، فقط من قبل عبقري مثل توكفيل، ليس بسبب تبصره الخارق، ولكن بسبب أن بصيرته المدهشة لم يشوش عليها وهم أي معتقد يختصر كل الأسباب والصدفة في نظرية خاصة به، كما لو كان هو مسئولا عن الكون. إن الروح الأدبية في السياسة هي روح مستبد، وأفضل شيء لمواجهتها هو عناد الحقيقة مدعوما بعدم قابلية الصدفة للتنبؤ.
الصدفة والعظمة
يمكن للفضيلة البشرية أن يكون لها دخل في أفعال الإنسان بقدر ما تسمح به الصدفة، حيث إن الصدفة تكون السبب في كل الأفعال فيما عدا تلك التي تكون نتاج الفضيلة البشرية، والتي تتطلب نطاقا للفعل؛ فعندما يقوم الشخص الفاضل بفعل، فإنه يستبدل ما قام به بما كان سيحدث بالصدفة أو بالأفعال العادية للأشخاص غير الفضلاء؛ لذا، فإن الفضيلة لديها هدف «إبعاد» عامل الصدفة، وذلك كما قال توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا». لكن الفضيلة تقتضي ضمنا وجود الصدفة حتى يمكن أن تحل محلها؛ في النظريات العلمية الحتمية التي رفضها توكفيل، لا يوجد مجال للفضيلة ولا للصدفة؛ فالفضيلة لا تصبح فضيلة إذا كان الشخص مجبرا على القيام بها، بل يجب أن يقوم بها طوعا؛ فالشخص الفاضل يجب أن يكون حرا؛ فالفضيلة أفضل مؤشر على الحرية لأن الاستخدام السيئ للحرية - على سبيل المثال: فساد الحكومة الفرنسية تحت حكم لويس-فيليب - من المرجح أنه كان مفروضا ولم يتم طوعا، كما هو الحال في نفس هذا المثال فيما يتعلق بالشغف بالمتع المادية الذي اتسم به هذا النظام.
غير أن توكفيل لم يكن أحد دعاة الفضيلة، الذين يروجون لها باعتبارها الحرية الحقيقية الوحيدة؛ فليبراليته الجديدة لم تتبع الاعتقاد الذي اعتنقه كانط، والمتمثل في وجود قانون أخلاقي عام ومطلق يوفر الحرية ويضمنها. فعندما تأمل توكفيل أشخاصا فعليين في عمله «ذكريات»، انبهر بحدود الفضيلة البشرية؛ فهي في المقام الأول فريدة ومنقسمة إلى فضائل عامة وخاصة بحيث قد يتحلى الفرد بمجموعة منهما دون أخرى، حتى لو تعارضت إحداهما مع الأخرى. تعد الأمانة أكثر الفضائل توافرا، لكن عندما تكون هناك حاجة إلى الفعل، قد يصبح «وغد جريء» أفضل من شخص أمين. إن الديمقراطيين كثيرا ما يمزجون بين «الهراء» وأمانتهم. اكتشف توكفيل أن السيدة دي لامارتين امرأة ذات «فضيلة حقيقية»، لكنها إلى جانب فضيلتها «أضافت تقريبا كل النقائص التي يمكن أن تكون متضمنة فيها، والتي إن لم تتغير فإنها ستجعلها أقل قبولا.» في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، قال إن «فكرة الحقوق ليست سوى فكرة الفضيلة» في السياسة، لكنه لم يتناول مسألة الحقوق في عمله «ذكريات».
بدلا من ذلك، تناول توكفيل التمييز بين ما هو عادي وما هو عظيم؛ فقد كان النظام الملكي البرجوازي الذي تمت الإطاحة به، والجمهورية الاشتراكية التي كانت بمنزلة مصدر تهديد ولم تتحقق قط، والإمبراطورية النابليونية الثانية كلها أمثلة على انتصار ما هو عادي على ما هو عظيم. تعد العظمة عبر كل أعمال توكفيل مصدر إلهام للحرية، ويمكن القول إنها هي السمة الأساسية لليبراليته التي «من نوع جديد». إن الرغبة في العظمة هي الدافع الذي يبرر ويعلي من شأن الوطنية الديمقراطية، وحتى النظم الإمبريالية والاستعمارية الديمقراطية.
لقد زاد الاهتمام مؤخرا بكتابات توكفيل عن الجزائر التي تؤيد الإمبريالية الفرنسية، وهو موقف يعتقد أنه أساء لسمعته باعتباره صديقا للديمقراطية؛ لكنه أيد الاستعمار الفرنسي للجزائر (بالطبع دون استخدام أسلوب الرق)، باعتباره تعبيرا عن رغبة في العظمة تعد ضرورية للإعلاء من شأن الديمقراطية فوق ادعاء المساواة العالمية العادية. اتفق توكفيل مع صديقه جون ستيوارت ميل على أن «الحضارة» أفضل من «الهمجية»، على الرغم من أنهما ربما قد يختلفان حول ما إذا كانت تلك الأفضلية يمكن أن تذهب إلى حد تبرير الاستبداد، كما قال ميل في كتابه «عن الحرية». غير أن علو مكانة الأمم الديمقراطية والعظمة الناتجة الخاصة بالوطنية الديمقراطية يشيران لاحتمال حدوث الاستعمار، إذا كان أي من تلك الأمم تسعى ل «نشر التحضر» (وهي عبارة ليست خاصة بتوكفيل). يتمثل الحل اليوم في إسقاط الفارق بين الحضارة والهمجية؛ ومن ثم تحويل الحضارة إلى «ثقافة»؛ فالثقافات كلها متساوية؛ ومن ثم فإن فكرة التعددية الثقافية اليوم ليست لديها ما تقوله عن العظمة. وهي بذلك تصبح قريبة من العولمة، وهما مفهومان غير سياسيين في سعيهما لتجاوز التقسيمات السياسية؛ ومن ثم معارضان لإصرار توكفيل على الحرية السياسية؛ حيث إنهما يتطلبان كيانات سياسية مختلفة. وبقدر ما تكون الرغبة في العظمة هي مصدر إلهام للحرية السياسية، فإنها تخاطر ببدء مشروعات هدفها صالح الآخرين في الوقت الذي قد يفضل فيه المنتفعون منها السعي من أجل صالحهم هم فقط.
إذا كان توكفيل ليبراليا من نوع جديد لأن عينه كانت تركز دائما على العظمة الإنسانية، فما الداعي لاعتباره ليبراليا من أي نوع من الأساس؟ أليست العظمة أرستقراطية الطابع على نحو حتمي بحيث لم يكن هو بالفعل ليبراليا على الإطلاق مع وضع العظمة دائما في اعتباره، فضلا عن مدى كونه ديمقراطيا من عدمه؟ للإجابة على هذا السؤال، يمكن أن نقارنه بأرسطو الذي لا يمكن أن نتهمه بأنه كان ليبراليا؛ فتوكفيل اتفق مع أرسطو على أن الإنسان بطبيعته حيوان سياسي. إنه لم يكرر قط تعريف أرسطو، لكنه على نحو واضح لم يشر للبديل الليبرالي له، الذي ذكر أولا في أفكار هوبز الذي قال إن الإنسان بطبيعته حر، ويدخل السياسة بموافقته فقط على الخضوع لحاكم مصطنع. كيف اختلف إذن عن أرسطو؟
يمكن رؤية اختلافه على وجه الدقة في فكرة العظمة الإنسانية التي طورها باعتبارها مختلفة عن الفضيلة والخيرية الإنسانية عند أرسطو. يرى أرسطو أن الفضيلة هي السائدة؛ لأن أي شيء نسعى إليه نحن البشر «نعتقد» أنه فضيلة، ووسع أرسطو تلك النظرة الإنسانية لتشمل كل الطبيعة. لكن سيادة الفضيلة هي الأمر الذي أنكره هوبز، أول المفكرين الليبراليين؛ فهو يفترض أننا جميعا نرغب في الحفاظ على الذات، وهي الفضيلة التي نشترك فيها جميعا، لكننا نستخدم تلك الفضيلة بطرق مختلفة لنسعى وراء فضائل نختلف في اعتقادنا بفضيلتها؛ فلا توجد فضيلة تعد أسمى الفضائل، ولكن هناك تمييزا فقط بين الفضيلة الأدنى العامة - وهي الحفاظ على الذات - والفضائل المختلفة التي نسعى وراءها بحسب اعتقادنا. في السياسة، يؤدي هذا إلى التمييز الليبرالي الجوهري بين الدولة من جهة، التي تضمن فضيلة حفظ الذات، وبين المجتمع من جهة أخرى حيث نختلف ونعيش في وضع نطلق عليه اليوم التعددية.
اتبع توكفيل هذا المسار الليبرالي، مقتديا بهوبز ومختلفا عن أرسطو والفكر السياسي التقليدي بوجه عام، لكنه اتفق مع أرسطو فيما يتعلق بالروح، وتحدث عن «الأرواح المنحطة»؛ فالليبرالية تهاجم الروح لأنها تجمع بين الفضيلة الأدنى المتمثلة في حفظ الذات، والهدف الأسمى المتمثل في عيش حياة خيرة. إن الروح المنحطة ستكون تلك التي على مسافة كبيرة من الحياة الخيرة، وتلك رؤية مختلفة تماما عن الرؤية الليبرالية التي ترى أن النفس قد اتخذت فحسب اختيارها بالعيش بحسب ما ترغب، وأن قيمتها لا يمكن قياسها من خلال تصور واحد يزعم أنه صحيح ويتمثل في الحياة الخيرة. لكن بدلا من الحديث عن «الحياة الخيرة»، تحدث توكفيل عن «العظمة». ما الفارق الذي يحدثه هذا؟
لا توجد العظمة في الطبيعة لكنها تنسب خصوصا للبشر من جانب البشر أنفسهم؛ فهي تشير للعظمة من وجهة نظر البشر، أو كما سماها توكفيل «العظمة الإنسانية». إنها جزئيا متغيرة واختيارية، لكن التطلع للعظمة وحبها متأصلان في الطبيعة الإنسانية؛ فالبشر فقط هم الذين يصدرون أحكاما تتعلق بما أو من هو مهم ، والعظمة تمثل ما يعتقد البشر أنه مهم. وهي تختلف عن العديد من الأشياء التي هي مفيدة فقط، وتعد خيرة؛ ومن ثم تمثل جزءا من «الفضيلة»، لكن ربما تكون غير مهمة. إن العظمة ممكنة دون فضيلة، كما قال توكفيل عن نابليون إنه «كان عظيما بالرغم من أنه كانت تنقصه الفضيلة.» لكن مع امتلاك المرء الفضيلة، يمكن أن يصبح أكثر عظمة، لكن الفضيلة نادرة، والعظمة كذلك نادرة جدا، ولكن نظرا لكونها تمثل ما يعتقد البشر أنه مهم، وهو الأمر الذي يفعلونه بطرق متعددة وأحيانا متعارضة، فهي أكثر تنوعا من الفضيلة؛ ومن ثم هي تتناسب أكثر مع الحرية السياسية؛ فكل البشر لديهم تصور عما هو عظيم، وهو الشيء الذي يطمحون إليه. لكن لا يوجد توحد أو اتفاق ضروري فيما يتعلق بما هو «عظيم»، كما هو الحال فيما يتعلق بما هو «فضيلة»؛ وهذا هو السبب في رفض سيادتها من قبل المفكرين الكلاسيكيين. والعظمة هي أيضا نتاج التطبيق وليس النظرية؛ فعندما وصف أرسطو الرجل ذا الروح العظيمة، كان يتحدث عن مجال الفضيلة الأخلاقية في الجانب التطبيقي منه، في مقابل الفضيلة الفكرية الخاصة بالفلاسفة؛ فالفلاسفة ربما يكون لديهم تصور متعلق بالعظمة الخاصة بكل الطبيعة، لكنهم قد يستخدمونه في التقليل من شأن الأشياء التي يعتبرها معظم الناس عظيمة. لم يختلف توكفيل مع رأي معظم الناس فيما يتعلق بتلك النقطة؛ فعدم ثقته في الفلسفة تظهر في إصراره على العظمة؛ فربما كانت لديه فلسفة خفية قريبة على نحو ما من فلسفة أرسطو لتبرير تجاهله الفلسفة، وربما يكون هدف هذه الفلسفة الدفاع عن السياسة، لكنه في الغالب كان يعتقد أنه من الضروري الدفاع عن السياسة من خلال الهجوم على الفلسفة؛ حيث إن الفلسفة الليبرالية التي كان يعرفها كانت تعد في ذلك الوقت الخطر الأكبر على الحرية والليبرالية.
المراجع
المقدمة
For the phrase “new kind of liberal,” see AT’s letter to Eugène Stoeffels, July 24, 1836, and for analysis of it, see Roger Boesche,
The Strange Liberalism of Alexis de Tocqueville (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1987). On AT’s influence, see Raymond Aron,
Main Currents in Sociological Thought,
vol. 1 (New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, 1998, orig. 1967), François Furet,
In the Workshop of History,
chap. 10 (Chicago: University of Chicago Press, 1984). Translations of AT’s
Democracy in America , (hereafter
DA ): Harvey C. Mansfield and Delba Winthrop, trans. and eds. (Chicago: University of Chicago Press, 2000), and Arthur Goldhammer, trans. (New York: Library of America, 2004). Many of his letters can be found translated in Roger Boesche, ed.,
Alexis de Tocqueville: Selected Letters on Politics and Society (Berkeley: University of California Press, 1985). A sampling of current scholarship on AT is in
The Cambridge Companion to Tocqueville , Cheryl B. Welch, ed. (New York: Cambridge University Press, 2006).
الفصل الأول
The soundest biography of AT is André Jardin,
Tocqueville, A Biography (New York: Farrar, Straus and Giroux, 1988); more recent is Hugh Brogan,
Alexis de Tocqueville, A Life (New Haven, CT: Yale University Press, 2007). On the “great lottery of paternity,” see AT’s letter to his brother Edouard, September 2, 1840, and the somewhat different view in his letter to Louis de Kergorlay, November 11, 1833. On his own ambition, see AT’s letter to Mme. Swetchine, February 26, 1857. On AT’s trip to America, see his notes in
Journey to America , ed. J. P. Mayer (London: Faber & Faber, 1959), and the classic study of George W.
Tocqueville and Beaumont in America (New York: Oxford University Press, 1938). On mixing history and philosophy, see AT’s letter to Kergorlay, December 15, 1850.
الفصل الثاني
Quotations follow the text in
Democracy in America
from the introduction through pt. 1 of vol. 1, then into pt. 2. The quotation on trading small virtues for the vice of pride is at
DA
vol. 2, pt. 3, chap. 19, and the one on the “two distinct humanities” is at
DA
vol. 2, pt. 4, chap. 8. On the writing of
Democracy in America , see James T. Schleifer,
The Making of Democracy in America,
2nd ed. (Indianapolis, IN: Liberty Fund, 2000). Pierre Manent,
Tocqueville and the Nature of Democracy (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 1996), is the best overall study of the book, and Sheldon S. Wolin,
Tocqueville between Two Worlds (Princeton, NJ:
readers will want to verify in the original texts the generalizations offered in this chapter about the liberalism of Hobbes and Locke, and in particular to explore the function of mores as argued in two of AT’s favorite predecessors, Montesquieu (in the
Spirit of the Laws , bk. 3, chap. 19) and Rousseau (in the
Social Contract , bk. 2, chap. 12).
الفصل الثالث
Quotations are from pt. 2 of vol. 1. On AT’s liberalism, see Pierre Manent,
An Intellectual History of Liberalism,
chap. 10 (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1996). On AT’s discussion of restlessness and its connection to Pascal, see
The Restless Mind: Alexis de Tocqueville on the Origin and Perpetuation of Human Liberty (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 1993).
الفصل الرابع
Quotations follow the four parts of vol. 2 of
DA . The phrase “immense being” can be found at
DA
vol. 2, bk. 1, chap. 7 and vol. 2, bk. 4, chap. 3. The argument for “two Democracies” can be found in Seymour Drescher, “Tocqueville’s Two
Democracies ,”
Journal of the History of Ideas
25 (1964): 201-16, and Jean-Claude Lamberti,
Tocqueville and the Two Democracies (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1989); the argument against, in Schleifer,
The Making of Tocqueville’s Democracy,
2nd ed. On religion, see Sanford Kessler,
Tocqueville’s Civil Religion (Albany: State University of New York Press, 1994), and Joshua Mitchell,
The Fragility of Freedom; Tocqueville on Religion, Democracy and the American Future (Chicago: University of Chicago Press, 1995). On women, see Delba Winthrop, “Tocqueville’s American Woman and 'the True Conception of Democratic Progress,’ ”
Theory
14, no. 2 (1986): 239-61, and Cheryl Welch,
De Tocqueville (Oxford: Oxford University Press, 2001).
الفصل الخامس
Quotations follow
The Old Regime and the Revolution (hereafter
OR ) through its three parts. For the sources and analysis of
OR , see especially Robert T. Gannett Jr.,
Tocqueville Unveiled (Chicago: University of Chicago Press, 2003). For analysis, see François Furet,
Interpreting the French Revolution (Cambridge: Cambridge University Press, 1981), also Ralph Lerner,
Revolutions Revisited (Chapel Hill: University of North Carolina
Review of Politics
43 (1981): 88-111. Burke’s most powerful attack on the French Revolution is his first analysis of it,
Reflections on the Revolution in France (1790).
الفصل السادس
Quotations from the
Recollections
again proceed from beginning to end of AT’s text. For analysis, see Lawler,
The Restless Mind.
On Algeria, see Jennifer Pitts, ed.,
Alexis de Tocqueville: Writings on Empire and Slavery (Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 2001), and Michael Hereth,
Alexis de Tocqueville: Threats to Freedom in Democracy (Durham, NC: Duke University Press, 1986).
مصادر الصور
(1) Versailles, Châteaux de Versailles et de Trianon/photo Réunion des Musées Nationaux/Art Resource, NY. (1-1) Comte d’Hérouville. (1-2) Mrs. George W. Pierson/photo Profile Books. (1-3) Comte d’Hérouville/photo Archives départementales de la Manche. (2-1) George W. Pierson,
Tocqueville and Beaumont in America (Oxford University Press, 1938)/photo Beinecke Rare Book and Manuscript Library, Yale University. (3-1) Beinecke Rare Book and Manuscript Library, Yale University. (4-1) Beinecke Rare Book and Manuscript Library, Yale University. (5-1) Hunterian Museum and Art Gallery, University of Glasgow. (6-1) Comte d’Hérouville/photo Archives départementales de la Manche. (6-2) © Musée Carnavalet/Roger-Viollet/The Image Works.
Unknown page