ولاحقني الشعور نفسه بعد ذلك عندما اضطررت لنشرها في بيروت عام 1968م، في مجلة «شعر» التي كان يصدرها يوسف الخال عن جريدة النهار؛ فكلها جهات لا تعلو على الشبهات.
لكني لم أندم أبدا على أني كتبت هذه الرواية ونشرتها في تلك الظروف، ولا ندمت على النهج الذي اتخذته في التعبير، ولا فكرت في التراجع عنه. حقا، كثيرا ما خالجني الشعور بأني قد أجهضت عملا كبيرا، إلا أني لا ألبث أن أقنع بالقول إن تلك كانت حدود إمكانياتي حينذاك.
أما التوجه ذاته، الإنصات للصوت الداخلي، والاغتراف من صلب الواقع الحقيقي - دون مراعاة للمشاعر البرجوزاية الحساسة، أو لبعض الاعتبارات المرحلية - فما زلت أعتمده أساسا لعملي.
لم تفلح المصادرة في القضاء على الكتاب؛ فقد وجد. وهو درس يجب أن تعيه جيدا أجهزة الدولة في البلدان العربية.
وفي سنة 1969م، أثناء وجودي في الخارج، أصدرت دار النشر (التي تغير اسمها من «مكتب يوليو» إلى «دار الثقافة الجديدة»)، طبعة ثانية من الرواية بعد أن انتزعت منها - ودون إذن مني - كل ما تصورت أنه قد يثير غضب الرقيب. ولا أستبعد أن تكون قد لجأت إلى ذلك النوع من الرقباء الذي أفرزته الحياة في ذلك الحين، وهو رقيب «قطاع خاص» يقدم خبرته في الجهاز الرقابي لمن يشاء من المؤلفين أو الناشرين. ووفقا لاتفاق خاص بين الناشر وناشر آخر، وهو «كتابات معاصرة»، أعيد إصدار نفس الطبعة في القاهرة سنة 1971م.
وتعتبر الطبعة الحالية أول طبعة كاملة منذ مصادرة الطبعة الأولى (فلم تسلم طبعة مجلة شعر من المقص المعهود الذي اقتطع كل ما من شأنه أن يؤذي المشاعر الحساسة لقرائها). ومن الطبيعي أني قمت بتصحيح الأخطاء النحوية واللغوية التي وردت في الطبعة الأصلية، بالإضافة إلى حالات السهو، من قبيل الإشارة إلى طفل بصيغة المذكر ثم الإشارة إلى نفس الطفل في مكان آخر بصيغة المؤنث، كما صححت مصدر الاقتباس الذي صدرت به الرواية لجيمس جويس؛ ففي الطبعة الأصلية ذكرت أنه عن رواية «يوليسيز»، وكنت قد طالعت العبارة المقتبسة في مقال نقدي بالملحق الأدبي للتايمس اللندنية، ونسبتها - خطأ فيما يبدو - إلى الرواية الشهيرة. وأثناء إعداد الترجمة الإنجليزية، التي صدرت عن دار هاينمان اللندنية في 1971م، بحث المترجم دنيس جونسون ديفيز طويلا عن أصل العبارة في رواية «يوليسيز» دون أن يعثر لها على أثر. وبالالتجاء إلى الخبراء بأعمال جويس، أمكن الاستدلال على أصل العبارة في رواية «صورة الفنان في شبابه».
وكان دنيس جونسون ديفيز هو المسئول عن تعديل جوهري بهذه الطبعة؛ فقد اشتكت دار النشر الإنجليزية من قلة عدد صفحات الكتاب. وكنت قد أضفت إلى «تلك الرائحة» خمسا من القصص القصيرة، لكن دنيس لم يرض عن إحدى هذه القصص، وهي من قصص الطفولة وبعنوان «الشيكولاتة». وجعل يلح علي أن أكتب واحدة جديدة، لكني لم أتمكن. عندئذ فكرت في تضمين الموقف الأساسي لقصة «الشيكولاتة» بالرواية، وهذا ما تم بالفعل، وكسبت دار النشر أقل من صفحتين جديدتين. وعند إعداد هذه الطبعة رأيت من المناسب أن أفعل المثل، فأضفت إلى النص الأصلي الفقرة الواردة بين أقواس قرب نهاية الرواية.
صنع الله إبراهيم
القاهرة 1986م
«أنا نتاج هذا الجنس وهذه الحياة ..
Unknown page