ويحطم فيهم أنبل الأغراض.
من «الحرب الصليبية»
لا يشك القارئ بعد هذا إلا قليلا في من كان ذلك العبد الأتيوبي في حقيقته، ولأي غرض سعى إلى معسكر رتشارد، ولماذا وبأي رجاء وقف على كثب من شخص ذلك الملك الذي أحاط به أمراؤه الشجعان من الإنجليز والنورمان؛ على كثب من قلب الأسد وهو على قمة جبل سنت جورج، وإلى جواره راية إنجلترا يرفعها خير رجال الجيش جميعا، أخوه الطبعي، وليم صاحب السيف الطويل إيرل سالزبري سليل هنري الثاني من محبوبته «روزامند» الشهيرة ابنة «ودستك».
وقد دار بين الملك ونفيل في اليوم السابق حديث تبين للنوبي من خلال الكثير من عبارته ما أدخل في نفسه الشك والقلق على أن تنكره قد انكشف، وبخاصة حينما بدا على الملك أنه يدرك الأسلوب الذي سوف يكشف به الكلب الوسيط عن اللص الذي سرق الراية، وذلك رغم أن الظروف التي أدت إلى جرح الكلب في حادث العلم لم يكد يرد لها ذكر في حضرة رتشارد، ولكن الملك لبث - رغما عن كل هذا - يعامل الرجل المعاملة التي يتطلبها مظهره، فبقي النوبي في شك من اكتشاف أمره، واعتزم ألا يطرح زي التنكر عنه طوعا.
وإذ ذاك توالت على سفح الجبل الصغير جيوش الأمراء الصليبيين المتعددين في خط طويل، مصطفين خلف زعمائهم من الملوك والأمراء. وبينما كانت جنود الدول المختلفة تسير متتابعة، تقدم زعماؤهم خطوة أو خطوتين إلى أعلى التل، وقدموا دلائل المجاملة لرتشارد وللراية الإنجليزية «إشارة إلى الاحترام والمحبة.» كما جاء النص صريحا في الاتفاق الذي عقد بشأن هذا الحفل «لا إلى الخضوع أو التبعية.» أما رجال الدين الروحانيون - وكانوا في تلك الأيام لا يطأطئون الرءوس لمخلوق كائن - فقد خلعوا على رتشارد وعلى شارة زعامته بركاتهم بدلا من أن يقدموا له ولاءهم وطاعتهم.
وهكذا أخذت الصفوف الطويلة تسير، ورغم تناقص عديدها لأسباب عدة، كان ظاهرها ظاهر الجيش المسلح الذي ليس غزو فلسطين له إلا عملا يسيرا. وكانت تسري بين الجند روح الإحساس بوحدة القوى، فيجلسون منتصبي القامة على سروجهم الصلبة، وينفخون في الأبواق بأنغام طروبة. أما الخيول فبعد أن انتعشت بالراحة والعلف، أخذت تفرك أزمتها، وتضرب في الأرض مرحا؛ وسار الجميع فيلقا إثر فيلق، والأعلام تخفق والرماح تتألق، والريش يرقص وهم يسيرون صفا صفا، وكان جيشا يتألف من أمم مختلفة وبشرات متباينة ولغات عديدة وأسلحة متنوعة ومظاهر متلونة، ولكنهم كانوا جميعا إذ ذاك يشتعلون حماسة لذلك الغرض المقدس الخيالي، وهو إنقاذ ابنة صهيون المنكوبة من ذل الاستعباد، وتخليص الأرض المقدسة، التي وطأتها أقدام الأنبياء، من نير الوثنيين المنافقين. وينبغي لنا هنا أن نذكر أنه إن كان في الطاعة يقدمها إلى ملك إنجلترا - في ظرف غير هذا الظرف - مثل هذا العدد العديد من المحاربين الذين ما كان له عليهم حق الخضوع الطبعي، نقول إنه إن كان في طاعتهم له شيء من الذلة والخنوع، فإن طبيعة الحرب التي هم فيها وبواعثها كانت تلائم صفة الفروسية الممتازة فيه، كما تتفق ومآثره المعروفة في القتال، حتى إنه لو كان لأحد في وقت غير هذا أن ينازعه أو يدينه فما كان له إذ ذاك إلا أن يتناسى أسباب الإدانة والنزاع؛ فتقدم الشجاع طوعا بالولاء إلى من هو أشجع منه في حملة يتطلب نجاحها إقداما لا يفتر ولا يلين.
وكان الملك الصالح على صهوة الجواد في منتصف الطريق إلى قمة الجبل، وعلى رأسه خوذة مفتوحة يعلوها تاج، وملامح الرجولة فيه بادية لعين الرائي، وهو بنظرة، فيها استهانة وفيها إمعان، يطالع صفوف الجيش وهي تمر به، ويرد للقواد التحية؛ وقميصه من المخمل، لونه لون السماء، تغطيه صفائح الفضة، وجواربه من الحرير القرمزي المحلى بالذهب، وإلى جواره يقف الرجل الذي كان ظاهره ظاهر العبد الأتيوبي ممسكا الكلب النبيل بمقود، كذلك الذي كان يستخدم وفقا لقواعد الصيد في تلك العصور. ولم يكن في وجود هذا الرجل ما يلفت النظر، إذ إن كثيرا من الأمراء الصليبيين كان يستخدم الرقيق الأسود في حاشيته محاكاة لأبهة العرب الوحشية.
وكانت ثنايا العلم الكبير ترفرف فوق هامة الملك، وهو ينظر إليها الفينة بعد الفينة وكأنه يرى في خفقاتها احتفاء لم يوجه إليه، ولكنه ذو خطر لأنه كان بمثابة التكفير عن المهانة التي لحقت بالمملكة التي يسود عليها. ووراء هذا كله، على رأس الجبل وفوق قمته، أقيم برج من الخشب لهذا الظرف كي تأوي إليه الملكة برنجاريا وكبريات سيدات البلاط، وكان الملك يتطلع إلى هذا البرج حينا بعد الآخر، ثم يوجه بصره من وقت لآخر صوب النوبي والكلب كلما دنا قائد، ممن عرف فيهم من قبل سوء الطوية فارتاب في مساهمتهم في سرقة العلم، أو رأى فيهم القدرة على مثل هذا الجرم الوضيع.
وعلى ذلك لم يرفع بصره إلى قمة الجبل حينما دنا فيليب أغسطس ملك فرنسا على رأس جنده الباهر من فرسان الغال، كلا، بل لقد كان يرتقب مجيء ملك فرنسا فهبط من الجبل وفيليب يصعده، حتى التقيا في منتصف الطريق، وتبادلا التحية بلطف، حتى إن الرائي ليحسب أن في المقابلة مساواة الإخاء. وهذا المنظر، منظر أعظم أميرين في أوروبا مرتبة وسطوة وهما يعلنان للملأ الوئام بينهما، دفع بالجيوش الصليبية على بعد أميال إلى أن تنفجر بهتاف كهزيم الرعد، كما جعل كشافة الصحراء من العرب الجوالة تسارع إلى معسكر صلاح الدين تنذره بزحف جيوش المسيحيين، ولكن من غير ملك الملوك يستطيع أن يعلم ما تخفي أفئدة الملوك؟ وتحت هذا المظهر الرقيق من الملاطفة كان رتشارد يكن لفيليب السخط والريبة، وفيليب يفكر في الانسحاب بجنوده من جيش الصليب، مخلفا بعده رتشارد كي يتم المشروع أو يفشل فيه بجيوشه وحدها من غير معين.
وتغيرت ملامح رتشارد حينما دنا رجال المعبد ذوو الأسلحة السوداء من فرسان وأتباع، وهم رجال اسمارت بشرتهم حتى باتوا بسواد أهل آسيا على شبه عظيم، وذلك من أثر الشمس في فلسطين، وخيولهم الباهرة وأزياؤهم الفاخرة تفوق كثيرا ما لخيار الجنود الفرنسية والإنجليزية. وحينئذ رنا الملك جانبا بنظرة عجلى، ولكن النوبي لبث صامتا، وقبع كلبه الأمين لدى قدميه، يرقب بعين مستبشرة حكيمة، تلك الصفوف التي كانت تسير تحت بصره، ثم عرج الملك ببصره ثانية صوب رجال المعبد الفرسان حينما مر به كبيرهم واستغل صفته المزدوجة - الدينية والحربية - وحبا رتشارد ببركاته كقس بدلا من أن يقدم له الولاء كقائد من قواد الحرب.
Unknown page