فقال «أدنبك» مجيبا: «الدرويش إما حكيم أو مجنون، وليست هناك طريق بين بين لمن يلبس «الخرقة» ويسهر الليل ويصوم النهار، ولذا فهو إما حكيم يستطيع أن يتأدب، ويحرص وهو في حضرة الأمراء، أو رجل لا يحمل تبعة ما يفعل لأن الله لم يمنحه نعمة العقل.»
فقال رتشارد: «يخيل إلي أن أكثر رهباننا قد اتخذوا لأنفسهم هذه الصفة الأخيرة، ولكن دعنا من هذا ولنتكلم فيما أتيت من أجله. كيف لي أن أدخل السرور على نفسك أيها الطبيب العالم؟»
فامتثل الحكيم للملك امتثاله الشرقي الخاشع، وقال: «أيها الملك العظيم، اسمح لخادمك أن ينبس بكلمة واحدة لا يموت بعدها، إني أذكرك أنك مدين للوسطاء من الكواكب، ولا أقول لي؛ فما أنا إلا أداة لها خاضعة، أفيد منها وأنفع الأحياء وأرد لهم حياة ...»
فعارضه الملك قائلا: «وأنا أكفل لك أن أجازيك حياة بحياة، فهل هذا ما تريد؟»
فقال الحكيم: «هذي ضراعتي المتواضعة للملك رتشارد العظيم؛ هي حياة هذا الفارس الكريم، الذي قضي عليه بالموت من أجل إثم كذلك الذي ارتكب آدم أبو البشر.»
فعبس الملك قليلا وقال: «وهلا ذكرتك حكمتك أيها الحكيم أن آدم قد مات من أجل خطيئته.» ثم شرع ينقل الخطى في حيز فسطاطه الضيق، وقد غلبه الانفعال وأخذ يحدث نفسه، ثم قال: «رحماك اللهم، لقد عرفت فيم أتى حينما دخل الفسطاط! هنا حياة واحدة بائسة حكم عليها عدلا بالإعدام، وأنا ذلك الملك المقاتل الذي قتل الألوف بأمر منه، والعشرات بيده، ليس لي سلطان على تلك الحياة، مع أن شرف سلاحي وبيتي ومليكتي قد لوثته جريمة الآثم، وحق القديس جورج إن هذا ليضحكني! وبحق القديس «لويس» إنه ليذكرني بقصة «بلندل والقصر المسحور» حيث وقفت في وجه الفارس البائس أشكال وجسوم متتابعة لا شبه بين بعضها وبعض، ولكنها جميعا تناصبه فيما أراد العداء، ما إن اختفى واحد منها حتى بدا له آخر؛ زوجة، ثم قريبة، ثم ناسك، ثم حكيم، إذا ما انهزم منهم واحد تصدى للدفاع آخر. ماذا؟ والله إني إذن لفارس أوحد ينازل حشدا بأسره في ساحة الوغى. ها! ها! ها!» ثم أخذ رتشارد يضحك ضحكات عالية، وبدأ فعلا يبدل من حال نفسه حالا أخرى، لأنه كان في حنقه عادة شديدا عنيفا بحيث لا يستطيع أن يبقى كذلك طويلا.
وإذ ذاك رنا إليه الطبيب بنظرة دهشة لا تخلو من الازدراء والاستخفاف، لأن أهل الشرق لا يتسامحون في مثل هذه التغيرات المتقلبة في المزاج، ويظنون الضحك الصراح - مهما كان الظرف - محطا بكرامة الرجل، ولا يليق إلا بالنساء والأطفال. وأخيرا لما أن استقرت نفس الملك، خاطبه الحكيم وقال: «إن حكم الموت لا يصدر عن شفتين ضاحكتين، وما يخال خادمك إلا أنك قد منحت الرجل حياته.»
فقال رتشارد: «لك أن تنال الحرية لألف أسير عوضا عنه، ولك أن تعيد من شئت من بني جلدتك إلى خيامهم وأهلهم، وسوف أمنحك هذا بغير توان، ولكن حياة هذا الرجل لا تجديك شيئا، وقد صدر فيها القضاء وانتهى الأمر .»
فقال الحكيم وقد مد يده إلى قلنسوته: «إن حياتنا جميعا إلى الضياع ولكن الإله الأعظم الذي وهبنا الحياة بنا رحيم، وهو لا يسلبنا ودائعه عنوة وبغير أوان.»
فقال رتشارد: «وهل لك صالح خاص في التوسط بيني وبين إنفاذ العدالة التي أقسمت لها كملك على رأسه تاج؟»
Unknown page