فرد عليه الحكيم وقال: «والله لقد أخطأت، ولقد نما هذا الرأي إلى فيليب ملك فرنسا، وهنري صاحب شمبانيا، وغيرهما من زعماء أحلاف رتشارد، ولم يصعق أحدهم للخبر، ووعدوا جميعا أن يسعوا ما وسعهم السعي في حلف قد تكون فيه نهاية هذه الحرب الضروس. وقد أخذ الرجل الحكيم كبير قساوسة «صور» على نفسه أن يزف هذا المقترح إلى رتشارد، ولا تداخله ريبة في أنه سوف يستطيع أن يسوق الخطة إلى خير غاية، وقد احتفظ السلطان - لحكمته - بهذا الأمر سرا، وكتمه على أمثال صاحب منتسرا ورئيس فرسان المعبد، لأنه يعلم أنهما وأمثالهما يسعون إلى الفلاح من وراء حتف رتشارد أو خزيه، لا عن سبيل حياته وشرفه. فهيا إذن يا سيدي الفارس، وامتط صهوة جوادك، وسأعطيك مكتوبا يرفع من شأنك لدى السلطان، ولا تحسبن أنك تارك بلادك أو قضيتها أو دينها ما دام صالح الملكين عما قريب سوف يتحد. إن مشورتك سوف تلقى من صلاح الدين خير القبول، ما دام في وسعك أن تخبره بالكثير عن الزواج لدى المسيحيين، وكيف يعاملون أزواجهم، وغير ذلك من أمور شريعتهم وعاداتهم، فإن السلطان يهمه كثيرا أن يعرف ذلك من أجل المعاهدة. إن السلطان يقبض على كنوز الشرق بيمناه، ومنها تنفجر عيون الجود والسخاء. ولن يتعسر على صلاح الدين - إن تحالف مع إنجلترا - أن يظفر من رتشارد لا بالعفو عنك وردك إلى حظيرة الرضا فحسب، وإنما يستطيع أن يحصل لك كذلك على قيادة شريفة بين من قد يتخلف من جنود جيش ملك إنجلترا للإبقاء على حكمهما المشترك في فلسطين. فهيا إذن واركب جوادك وأمامك الطريق واضحة.»
فأجابه الفارس الاسكتلندي وقال: «أيها الحكيم، إنما أنت رجل من رجال السلم، وإنك كذلك أنقذت حياة رتشارد ملك إنجلترا، بل وحياة خادمي المسكين «ستروخان»، ولذا فلقد أصغيت إليك حتى النهاية وأنت تتحدث في أمر لو أن رجلا مسلما غيرك تقدم به إلي لأوقفته بطعنة من خنجري! أيها الحكيم، إني أنصح لك - جزاء رأفتك - أن تنصح العربي الذي يتقدم إلى رتشارد يطلب وصل دم بلانتاجنت بدمه الكريه، بلبس خوذة تقوى على تلقي ضربة بالفأس كتلك التي دكت تحتها أبواب عكا، وإلا فلا ريب أنه سوف يضع نفسه موضعا ينأى حتى عن حذقك ومهارتك.»
فقال الطبيب: «إذن فلقد اعتزمت عامدا مصرا على ألا تفر إلى صفوف الأعراب؛ ولكن ألا فلتذكر أنك قد قلت إن في هذا قضاءك المحتوم، وحدود شريعتكم - كحدود شريعتنا - تحرم على المرء أن يعتدي على حرم حياته.»
فرسم الاسكتلندي علامة الصليب على نفسه وقال: «حاشا لله، ولقد حرم علينا كذلك أن نتحاشى ما يحق على ذنوبنا من جزاء. ولكن عقيدتك في الله ضعيفة أيها الحكيم، وإنه والله ليحفظني أني وهبتك كلبي الكريم، لأنه إن عاش فسوف يكون له صاحب جاهل بقدره.»
فقال الحكيم: «إن العطية إن ضن بها معطيها فكأنه يستردها، ولكنا معشر الأطباء قد أقسمنا ألا نرد مريضا بغير علاج. لئن شفي الكلب فلسوف يكون ثانية لك.»
فأجاب السير كنث وقال: «اذهب أيها الحكيم، إن المرء لا يتحدث عن البزاة والكلاب حينما لا يكون بينه وبين الموت غير ساعة من نهار، دعني أذكر ذنوبي وأتقرب إلى الله.»
فقال الطبيب: «إني أدعك لعنادك. إن الغيوم لتخفي وراءها المنحدر فلا يراه أولئك الذين كتب الله عليهم الهبوط من فوقه.»
ثم تسلل وئيدا، ولبث يتلفت وراءه الفينة بعد الفينة، كأنه يرقب عسى أن يستدعيه هذا الفارس المخلص بكلمة أو إشارة، وأخيرا اختفى هذا الرجل المعمم بين تيه الخيام التي كانت تمتد في أسفل الجبل وبياضها ينصع في ضوء الفجر الشاحب - وقد اندحر أمامه شعاع القمر.
ولم يكن لكلمات «أدنبك» الطبيب على السير كنث ذلك الأثر الذي كان يرمي إليه الحكيم، إلا أنها بعثت في الاسكتلندي حب الحياة، وقد كان منذ حين يود لو يفارقها كأنها ثوب ملوث لم يعد يليق به ارتداؤه، وذلك رغم أنه كان يحسب أنه يتسم بالخزي والهوان، وعاد إلى ذاكرته كثير مما دار بينه وبين الناسك، ومما شهد بين الناسك وشيركوه (أو الضريم)، ومال به ما ذكر إلى تأييد ما خبره به الحكيم عن الشرط الخفي الذي ورد بالمعاهدة.
ثم صاح محدثا نفسه: «يا له من محتال في ثياب الشرف!
Unknown page