فجثا الفارس على إحدى ركبتيه، كأنه القديس أمام المذبح إخلاصا وتقديرا، ثم قال: «ليس بي حاجة إلى سؤال.» وأطرق ببصره نحو الأرض خشية أن يزيد بمرآه ما كانت عليه السيدة من حيرة وارتباك.
فقالت أديث جازعة: «هل سمعت كل ما دار. يا كرام الأولياء، إذن فلماذا أنت باق هنا، وأنت تعلم أن كل دقيقة تنقضي معبأة بالخزي وامتهان الكرامة؟»
فأجابها كنث وقال: «سمعت منك يا سيدتي أن الخزي قد أصابني، فلست أبالي أن يحل بي الجزاء بعد هذا، إنما لي لديك مطلب واحد، لا أعبأ بعده أن أسير خلال سيوف الكفرة علني أمحو الخزي بالدماء.»
فقالت السيدة: «كلا، لا تفعل ذلك. كن حكيما ولا تلبث هنا. ولئن هممت بالعودة فلربما ينتهي الأمر بخير العواقب.»
فقال الفارس وما برح جاثيا : «إنما أنا أنتظر العفو منك عن جرأتي في الاعتقاد بأن خدماتي القليلة ربما سدت لديك حاجة أو لاقت منك تقديرا.» «لقد عفوت عنك - يا إلهي، ليس لدي ما أعفو عنه! - لقد كنت السبيل إلى أذاك، ولكن بربك انصرف! لسوف أعفو عنك، ولسوف أقدر خدمتك، وذلك بمقدار ما أقدر كل صليبي مقدام، ولن تنال مني ذلك إلا إن انصرفت!»
ثم عرض الفارس الخاتم على أديث، وهي تبدي من الشارات ما ينم عن الجزع، وقال: «خذي أولا هذا الميثاق النفيس القاتل.»
فقالت وهي معرضة عن تناوله: «كلا، كلا، احتفظ به. احتفظ به دليلا على تقديري، بل على أسفي. أواه، هلا انصرفت من أجلي، إن لم يكن من أجل نفسك!»
فهب السير كنث من جثوه، ورمق أديث بنظرة عجلى، وانحنى كثيرا، وهم بالانصراف وكأنه قد أثيب - بما بدا عليها من لهفة على سلامته - عن كل ما افتقد، حتى عن ضياع شرفه الذي افتضحته بنبرة صوتها. وفي تلك اللحظة عينها غلب على أديث ذلك الحياء العذري، الذي تمكنت حتى آنئذ بشدة انفعال مشاعرها من أن تكبح جماحه، فخفت من الغرفة، وأطفأت المصباح وهي تنصرف، وخلفت في خواطر السير كنث من بعدها اكتئابا في حسه ونفسه.
وكان أول خاطر واضح أيقظ السير كنث من هواجسه وجوب طاعتها، فسارع إلى المكان الذي ولج منه السرادق؛ ولكنه إن انزلق تحت السور كما دخل فإنه يحتاج لذلك إلى الوقت والحذر، فثقب بخنجره السور الحائط، وأصبح له بذلك مخرج ميسور. وما إن خرج إلى الهواء الطلق حتى هاجمته المشاعر المتنازعة، فتبلد حسه وغلب على أمره، ولم يستطع أن يستوثق من كنه ما مر به ومن حقيقة الأمر، واضطر أن يحفز نفسه للعمل حينما ذكر أن أمر السيدة أديث يتطلب العجلة؛ وحتى بعد هذا كان لا بد له - وهو مشتبك بين الخيام وحبالها - أن يسير حذرا حتى يبلغ الطريق الجانبية التي سلكها القزم وإياه من قبل، كي يتحاشى أعين الحراس الواقفين لدى سرادق الملكة، واضطر إلى أن يسير وئيدا حريصا ، كي لا ينبه الأذهان إن هو خر على الأرض أو صلصل سلاحه؛ وفي تلك اللحظة عينها التي فصل فيها السير كنث عن الفسطاط، غشيت القمر سحابة رقيقة، واضطر الفارس أن يواجه هذه المشقة في وقت لا يكاد يبقي له دوار رأسه وخفقان قلبه من نفاذ البصيرة ما يكفي لأن يدبر به مسيره.
ولكن سرعان ما طرقت أذنيه الأصوات على حين غرة، فثاب توا إلى رشده وإلى قواه العقلية كاملة، وكان جبل سنت جورج هو مبعث هذه الأصوات، وكان أول ما سمع نباحا منفردا همجيا غاضبا متوحشا تبعه على الفور صراخ الكرب والألم، وما كان الظبي ليثب فازعا من صوت «رزوال» كما وثب السير كنث، إذ خشي أن يكون ذلك الصوت هو نزع الموت يصيح منه ذلك الكلب النبيل، الذي ما كان لأذى مألوف أن يستخلص منه أدنى شكاية من الألم، فذلل الفارس المدى الذي كان يفصل ما بينه وبين الطريق، وما إن بلغها حتى شرع يجري نحو الجبل، ورغم أنه كان مثقلا بالزرد فما كان لرجل أن يلحق به، حتى وإن كان مجردا عن السلاح؛ ولم يتراخ في خطاه وهو يصعد جوانب الرابية المصطنعة الشديدة الانحدار، ولم تمض بضع دقائق حتى كان فوق قمة الجبل.
Unknown page