Al-ṭibb al-nabawī li-Ibn al-Qayyim - al-Fikr
الطب النبوي لابن القيم - الفكر
Publisher
دار الهلال
Edition Number
-
Publisher Location
بيروت
وَعَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا وَجِعٌ لَا يَطْعَمُ الطَّعَامَ، قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ فَحَسُّوهُ إِيَّاهَا»، وَيَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا تَغْسِلُ إِحْدَاكُنَّ وَجْهَهَا مِنَ الْوَسَخِ» «١»
التَّلْبِينُ: هُوَ الْحِسَاءُ الرَّقِيقُ الَّذِي هُوَ فِي قِوَامِ اللَّبَنِ، وَمِنْهُ اشْتُقَّ اسْمُهُ، قَالَ الهروي: سُمِّيَتْ تَلْبِينَةً لِشَبَهِهَا بِاللَّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقَّتِهَا، وَهَذَا الْغِذَاءُ هُوَ النَّافِعُ لِلْعَلِيلِ، وَهُوَ الرَّقِيقُ النضيج لَا الْغَلِيظُ النِّيءُ، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ فَضْلَ التَّلْبِينَةِ، فَاعْرِفْ فَضْلَ مَاءِ الشَّعِيرِ، بَلْ هِيَ مَاءُ الشَّعِيرِ لَهُمْ، فَإِنَّهَا حِسَاءٌ مُتَّخَذٌ مِنْ دَقِيقِ الشَّعِيرِ بِنُخَالَتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَاءِ الشَّعِيرِ أَنَّهُ يُطْبَخُ صِحَاحًا، وَالتَّلْبِينَةُ تُطْبَخُ من مَطْحُونًا، وَهِيَ أَنْفَعُ مِنْهُ لِخُرُوجِ خَاصِّيَّةِ الشَّعِيرِ بِالطَّحْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْعَادَاتِ تَأْثِيرًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ، وَكَانَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ أَنْ يتخدوا مَاءَ الشَّعِيرِ مِنْهُ مَطْحُونًا لَا صِحَاحًا، وَهُوَ أَكْثَرُ تَغْذِيَةً، وَأَقْوَى فِعْلًا، وَأَعْظَمُ جَلَاءً، وَإِنَّمَا اتَّخَذَهُ أَطِبَّاءُ الْمُدُنِ مِنْهُ صِحَاحًا لِيَكُونَ أَرَقَّ وَأَلْطَفَ، فَلَا يَثْقُلُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ، وَهَذَا بِحَسَبِ طَبَائِعِ أَهْلِ الْمُدُنِ وَرَخَاوَتِهَا، وَثِقَلِ مَاءِ الشَّعِيرِ الْمَطْحُونِ عَلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ:
أَنَّ مَاءَ الشَّعِيرِ مَطْبُوخًا صِحَاحًا يَنْفُذُ سَرِيعًا، وَيَجْلُو جَلَاءً ظَاهِرًا، وَيُغَذِّي غِذَاءً لَطِيفًا. وَإِذَا شُرِبَ حَارًّا كَانَ جَلَاؤُهُ أَقْوَى، وَنُفُوذُهُ أَسْرَعَ، وَإِنْمَاؤُهُ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ أَكْثَرَ، وَتَلْمِيسُهُ لِسُطُوحِ الْمَعِدَةِ أَوْفَقَ.
وَقَوْلُهُ ﷺ فِيهَا: «مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ» يُرْوَى بِوَجْهَيْنِ. بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ، وَبِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَالْأَوَّلُ: أَشْهَرُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا مُرِيحَةٌ لَهُ، أَيْ: تُرِيحُهُ وَتُسَكِّنُهُ مِنَ الْإِجْمَامِ، وَهُوَ الرَّاحَةُ. وَقَوْلُهُ: «تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ»، هَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِأَنَّ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ يُبَرِّدَانِ الْمِزَاجَ، وَيُضْعِفَانِ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ لِمَيْلِ الرُّوحِ الْحَامِلِ لَهَا إِلَى جِهَةِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَنْشَؤُهَا، وَهَذَا الْحِسَاءُ يُقَوِّي الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ بِزِيَادَتِهِ فِي مَادَّتِهَا، فَتُزِيلُ أَكْثَرَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ.
وَقَدْ يُقَالُ- وَهُوَ أَقْرَبُ-: إِنَّهَا تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ بِخَاصِّيَّةٍ فِيهَا مِنْ جِنْسِ خَوَاصِّ الْأَغْذِيَةِ الْمُفْرِحَةِ، فَإِنَّ مِنَ الْأَغْذِيَةِ مَا يُفْرِحُ بِالْخَاصِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قُوَى الْحَزِينِ تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى
(١) أخرجه الإمام أحمد
1 / 90