156

Tibb Nabawi

الطب النبوي لابن القيم - الفكر

Publisher

دار الهلال

Edition Number

-

Publisher Location

بيروت

وَإِلَيْهِمَا يَدْعُو، وَبِهِمَا يُهْلِكُ بَنِي آدَمَ، فَالنَّارُ وَالشَّيْطَانُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ، وَكِبْرِيَاءَ الرَّبِّ- ﷿ تَقْمَعُ الشَّيْطَانَ وَفِعْلَهُ. وَلِهَذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللَّهِ- ﷿ لَهُ أَثَرٌ فِي إِطْفَاءِ الْحَرِيقِ، فَإِنَّ كِبْرِيَاءَ اللَّهِ- ﷿ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَإِذَا كَبَّرَ الْمُسْلِمُ رَبَّهُ، أَثَّرَ تَكْبِيرُهُ فِي خُمُودِ النَّارِ وَخُمُودِ الشَّيْطَانِ الَّتِي هِيَ مَادَّتُهُ، فيطفىء الْحَرِيقَ، وَقَدْ جَرَّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا، فَوَجَدْنَاهُ كذلك، والله أعلم. فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ لَمَّا كَانَ اعْتِدَالُ الْبَدَنِ وَصِحَّتُهُ وَبَقَاؤُهُ إِنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الرُّطُوبَةِ الْمُقَاوِمَةِ للحرارة، فالرطوبة مادة، وَالْحَرَارَةُ تُنْضِجُهَا، وَتَدْفَعُ فَضَلَاتِهَا وَتُصْلِحُهَا وَتُلَطِّفُهَا، وَإِلَّا أَفْسَدَتِ الْبَدَنَ وَلَمْ يُمْكِنْ قِيَامُهُ، وَكَذَلِكَ الرُّطُوبَةُ هِيَ غِذَاءُ الْحَرَارَةِ، فَلَوْلَا الرُّطُوبَةُ، لَأَحْرَقَتِ الْبَدَنَ وَأَيْبَسَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ، فَقِوَامُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبَتِهَا، وَقِوَامُ الْبَدَنِ بِهِمَا جَمِيعًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَادَّةٌ لِلْأُخْرَى، فَالْحَرَارَةُ مَادَّةٌ لِلرُّطُوبَةِ تَحْفَظُهَا وَتَمْنَعُهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ، وَالرُّطُوبَةُ مَادَّةٌ لِلْحَرَارَةِ تَغْذُوهَا وَتَحْمِلُهَا، وَمَتَى مَالَتِ احْدَاهُمَا إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْأُخْرَى، حَصَلَ لِمِزَاجِ الْبَدَنِ الِانْحِرَافُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَالْحَرَارَةُ دَائِمًا تُحَلِّلُ الرُّطُوبَةَ، فَيَحْتَاجُ الْبَدَنُ إِلَى مَا بِهِ يُخْلَفُ عَلَيْهِ مَا حَلَّلَتْهُ الْحَرَارَةُ- لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ- وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، وَمَتَى زَادَ عَلَى مِقْدَارِ التَّحَلُّلِ، ضَعُفَتِ الْحَرَارَةُ عَنْ تَحْلِيلِ فَضَلَاتِهِ، فَاسْتَحَالَتْ مَوَادَّ رَدِيئَةً، فَعَاثَتْ فِي الْبَدَنِ، وَأَفْسَدَتْ، فَحَصَلَتِ الْأَمْرَاضُ الْمُتَنَوِّعَةُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ مَوَادِّهَا وَقَبُولِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِعْدَادِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا «١»، فَأَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى إِدْخَالِ مَا يُقِيمُ الْبَدَنَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِوَضَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَمَتَى جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ إِسْرَافًا، وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنَ الصِّحَّةِ جَالِبٌ لِلْمَرَضِ، أَعْنِي عَدَمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوِ الْإِسْرَافَ فِيهِ.

(١) الأعراف- ٣١.

1 / 158