تمهيد
المقدمة المنحولة1
1 - المرائي
2 - المتملق
3 - كثير الكلام
4 - الريفي
5 - المجامل
6 - الأحمق
7 - الثرثار
8 - مروج الإشاعات
9 - الوقح
10 - النتن
11 - الفظ
12 - عديم الذوق
13 - المفرط في حماسه
14 - البليد
15 - المتعالي
16 - المؤمن بالخرافات
17 - المتذمر
18 - سيئ الظن
19 - المقزز
20 - الجلف
21 - الطموح (أو المغرور)
22 - الوضيع
23 - الفشار
24 - المتعجرف
25 - الجبان
26 - الأوليجاركي (أو المتسلط)
27 - المتعلم على كبر
28 - النمام
29 - الفاسد
30 - البخيل
هوامش وتعليقات
تمهيد
المقدمة المنحولة1
1 - المرائي
2 - المتملق
3 - كثير الكلام
4 - الريفي
5 - المجامل
6 - الأحمق
7 - الثرثار
8 - مروج الإشاعات
9 - الوقح
10 - النتن
11 - الفظ
12 - عديم الذوق
13 - المفرط في حماسه
14 - البليد
15 - المتعالي
16 - المؤمن بالخرافات
17 - المتذمر
18 - سيئ الظن
19 - المقزز
20 - الجلف
21 - الطموح (أو المغرور)
22 - الوضيع
23 - الفشار
24 - المتعجرف
25 - الجبان
26 - الأوليجاركي (أو المتسلط)
27 - المتعلم على كبر
28 - النمام
29 - الفاسد
30 - البخيل
هوامش وتعليقات
كتاب الطباع
كتاب الطباع
تأليف
ثيوفراسط
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
(1)
هذا الكتيب الذهبي!
هكذا وصفه أحد الكتاب في بداية عصر النهضة الأوروبية. واستمتع القراء على مدى ثلاثة وعشرين قرنا أو يزيد بلوحاته الحية التي ترسم بخطوط دقيقة ومرهفة طباع ثلاثين نموذجا أو نمطا من البشر العاديين الذين عاشوا في أثينا في السنوات الأولى من العصر الهليني المبكر، ولم تساعدهم ظروف نشأتهم وتربيتهم واستعداداتهم الطبيعية الموروثة على التخلص من رذائلهم ونقائصهم أو تغييرها والارتفاع فوقها، بل إن القراء على مر العصور قد وجدوا في هذه النماذج والأنماط من الأخلاق والطباع، أو في بعضها على الأقل، نظائر مشابهة لأناس من المحيطين بهم أو المتعاملين معهم، وربما وجدوا فيها أنفسهم أيضا.
ولقد تصور بعض القراء الذين أعجبوا بهذا الكتاب أنه ينتمي إلى فلسفة الأخلاق وينفع الآباء والمربين والمعلمين والمتعلمين. وتحمس له بعض المؤلفين المجهولين فتدخلوا في نصه الأصلي، وأضافوا إليه مواعظ وعبارات خطابية أثبت العلماء المحققون بعد ذلك أنها منحولة عليه، كما استوحاه وقت أن كان الفيلسوف نفسه وأفاد منه الكثيرون من ذوي الحساسية الأدبية والموهبة الفنية في أعمالهم المسرحية والقصصية والروائية أو في حكمهم وحكاياتهم الأخلاقية المكثفة كما سنرى بعد قليل. وبقي كتاب الطباع مصدر المتعة والإلهام والحيرة أيضا بسبب المادة النفيسة المفعمة بالحياة والظرف والمعرفة التي يضمها منجمه الذهبي الصغير، فضلا عن قيمته العالية التي يقدرها كل من يهتم بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، ويتتبع تطور العادات والتقاليد والأفكار والصراعات، بجانب الأضواء الكاشفة التي يلقيها على حياة الإنسان العادي - الرجل الصغير أو رجل الشارع كما نقول اليوم! - وعلى تصرفاته في المواقف المختلفة وردود أفعاله على الأحداث والوقائع متلاطمة الأمواج أمام عينيه ومن حوله. وفي كل الأحوال يتجاوب القراء مع النص الطريف اللطيف بصور متفاوتة تدفعهم للابتسام أو النفور والاستهجان، وللرضا أو السخط أو التعجب من «الطبيعة البشرية» المشتركة التي توحي أحيانا بأنها ثابتة ولا تكاد تتغير إلا في القشرة والسطح دون الجوهر والنواة.
ولا بد قبل الخوض في البحر الزاخر الذي تجيش تياراته الظاهرة والباطنة من داخل هذا النبع الضئيل المحدود، أو بالأحرى من قلب هذه القطرات العذبة من النثر اليوناني القديم؛ لا بد قبل الاتجاه لمضمون الكتاب نفسه وشكله اللغوي والفني، من التعريف بمؤلفه ثيوفراسطوس؛ تلميذ المعلم الأول أرسطو وصديقه ومساعده وخليفته في رئاسة اللوقيون لفترة أربت على الخمسة والثلاثين عاما، ولا بد كذلك من توضيح علاقة الكتاب بفلسفة أرسطو وتلميذه في الأخلاق، ومن الإشارة باختصار إلى تأثيره الممتد على أجيال عديدة من الأدباء والعلماء والمفكرين والدارسين. (2)
ولد ثيوفراسط في مدينة إريزوس بجزيرة لسبوس (موطن سافو أول وأرق شاعرة غنائية في تاريخ الشعر الغربي)
1
لأسرة يبدو أنها كانت ميسورة الحال (عاش من حوالي 371- 372 قبل الميلاد إلى حوالي 287 - 288). ويروى أن اسمه الأصلي الذي كان يدعى به هو تيرتاموس، وأن أرسطو هو الذي سماه ثيوفراسطوس (أي المتحدث الإلهي) إعجابا بقدراته ومواهبه الفائقة في الفصاحة وحسن الكلام. وبعد أن أتم تعليمه في مسقط رأسه ذهب إلى أثينا، وحقق حلمه وحلم كل شاب طموح للثقافة الجادة في أيامه بالدخول في أكاديمية أفلاطون وقت أن كان الفيلسوف نفسه لا يزال حيا، كما كان أرسطو - الذي يكبر ثيوفراسط باثني عشر عاما - يعمل في الأكاديمية ويشغل ما يمكن أن نسميه اليوم مهمة المعيد أو المدرس المساعد. وبعد موت أفلاطون (حوالي سنة 347 / 348) توجه ثيوفراسط مع أستاذه - الذي توثقت علاقة المودة والصداقة بينهما - إلى مدينة آسوس
2
في ضيافة الطاغية
3
هيرمياس الأتارنوسي الذي يبدو أنه كان قد أبدى رغبته في افتتاح فرع للأكاديمية الأفلاطونية في بلده. واضطر الفيلسوفان أن يغادرا المدينة، أو إذا أردنا الدقة أن يهربا منها بعد موت هيرمياس ونهايته الفظيعة (قتل عام 345ق.م.)، وأن يذهبا معا إلى مدينة ميتيلينة بجزيرة لسبوس للإقامة فيها فترة قصيرة حسب مشورة ثيوفراسط أو في ضيافته، ولكنهما لم يطيلا المكث هنا أيضا؛ إذ سرعان ما رافق صاحبنا معلمه وصديقه إلى مقدونيا بدعوة من ملكها فيليب والد الإسكندر الأكبر، حيث دامت إقامتهما في البلاط المقدوني قرابة ستة أعوام (من 341 / 342، إلى حوالي 335ق.م.) رجعا بعدها إلى أثينا. ولما مات الإسكندر الأكبر (323ق.م.)، واضطر أرسطو للفرار إلى مدينة خالقيس عاصمة جزيرة أيوبيا - من اضطهاد الوطنيين الأثينيين الذين اتهموه بممالأة المقدونيين والتواطؤ معهم - ثم عاجله الموت (في عام 322)؛ تولى ثيوفراسط رئاسة المدرسة المشائية (اللوقيون) التي كانت تقوم حتى ذلك الحين على الروابط الشخصية، وتفتقر إلى القدر الكافي من التماسك والرسوخ. واستعان ثيوفراسط بتلميذه ديمتريوس الفاليروني
4
في الحصول على قطعة أرض مزودة ببعض المباني الصالحة لتدبير شئون المدرسة المشائية وإضفاء الصبغة القانونية عليها. ومع أنه كان متحفظا بطبعه تجاه الصراعات السياسية الدائرة بين المقدونيين والحزب الأثيني المعارض لهم، كما حافظ على العلاقات الطيبة مع الحكام المقدونيين حرصا على المدرسة وضمانا لاستمرارها في أداء مهمتها؛ فإن هذا لم ينجه ولا أنجاها من الهجمات التي شنها الحزب الأثيني عليهما. وجه إليه شخص مريب يدعى هاجنونيدس تهمة التجديف على الدين، ولكن المحكمة برأته منها بأغلبية ساحقة، كما حاول شخص آخر - يسمى لسوء حظ مؤلف أوديب وأنتيجونا وإليكترا وغيرها من المسرحيات الخالدة باسم سوفوكليس! - أن يخضع المدرسة المشائية لإشراف الدولة، فغادر ثيوفراسط أثينا ومعه بعض فلاسفة المدرسة احتجاجا على هذا الإجراء الخطر الذي لم يلبث أن سقط بمساعدة أحد تلاميذه الأوفياء.
والظاهر مما بقي لدينا من معلومات أن ثيوفراسط كان معلما كفئا جمع بين الذكاء والبراعة والجدية والطيبة والإخلاص، وغيرها من المواهب التي تجذب المتعلمين إلى المعلم كما ينجذب الفراش إلى النور؛ ولذلك لا نعجب من الأخبار التي تقول إن تلاميذه زاد عددهم على الألفين، ومنهم أعلام مشهورون مثل مجدد الكوميديا ميناندر،
5
والسياسي سابق الذكر ديمتريوس الفاليروني، والخطيب داينارخوس،
6
والطبيب إيراسستراتوس،
7
والفيلسوفان ستراتون
8
وأركيزيلاوس.
9
أما عن حياته الخاصة، فالمعروف أنه آثر أن يبقى عزبا حتى لا يعطله الزواج أو تعوقه تكاليف الأسرة عن التفرغ للنظر والتأمل الفلسفي. وقد امتد به العمر وعاجلته متاعب الشيخوخة، فكان لا يتحرك في أخريات أيامه إلا على نقالة، وأغلب الظن أنه ظل متشبثا بالقيام بواجبه نحو مدرسته وتلاميذه حتى جاءت النهاية المحتومة بعد الخامسة والثمانين (حوالي 286 أو 287ق.م.)، فشيعه جمهور كبير من المواطنين إلى مثواه الأخير في أثينا. (3)
كان ثيوفراسط في العشرين من عمره عندما دخل أكاديمية أفلاطون، واختار أن يأخذ العلم على أرسطو الذي يكبره باثني عشر عاما - كما سبق القول - وتوثقت العلاقة بينهما على مدى ثلاثين سنة، فأصبح مساعده وزميله في البحث والدراسة وأقرب أصدقائه إليه، ثم كان عليه وهو في الخمسين من عمره أن يخلف المعلم والصديق في رئاسة مدرسته لمدة تربو على الخمسة والثلاثين عاما. ولا شك أن السؤال الذي يخطر على البال هو إلى أي حد تأثر في أعماله - التي فقد أغلبها ولم يبق من معظمها سوى شذرات متناثرة - بمعلمه الكبير، وهل استطاع أن يستقل بفكره وفلسفته ويكون لنفسه نسقا خاصا به، هذا إذا ثبت وجود مثل هذا النسق على الإطلاق؟ والجواب على هذا السؤال المركب يحتاج للنظر في أعمال ثيوفراسط ومنهجه في البحث والآراء المختلفة حول هذا الموضوع.
الواقع أننا لن نستطيع أن نحدد عدد البحوث التي تركها ثيوفراسط تحديدا دقيقا. وعلى الرغم من وجود ثبت قديم لأعماله يحتوي على أكثر من مائتي عنوان، فبعض هذه العناوين مكرر، وبعضها الآخر لا يخرج عن كونه فصولا من كتب أكبر.
10
ومع ذلك فإن هذا الثبت يظهرنا على ضخامة حجم البحوث التي كتبها وتنوع الميادين التي استوعبتها تنوعا مذهلا؛ فهي تكاد تغطي كل مجالات المعرفة البشرية؛ من المنطق والميتافيزيقا والمسائل الأساسية في الفيزياء وسائر العلوم الطبيعية كالفلك والطقس والهيدرولوجيا (علم المياه) والتعدين والزلازل، إلى النبات والحيوان والطب وعلم النفس، ومن الأخلاق والسياسة والاقتصاد والطب والتشريح إلى الخطابة وفن الشعر والأدب وتاريخ الحضارة وتاريخ العلم. وقسا الزمان (أو خرونوس الذي تؤكد أساطير اليونان أنه يبتلع كل شيء!) عليه وعلينا، فلم يحفظ من أعماله الكبرى سوى كتابيه عن النبات والميتافيزيقا، إلى جانب عدد من البحوث الصغيرة - التي تبدو مجتزأة من بحوث أكبر وأشمل في العلوم الطبيعية والفسيولوجيا، فضلا عن شذرات عديدة وتلخيصات ومقتطفات مختلفة وردت عند بعض المؤلفين المتأخرين.
11
وأخيرا بقي لنا هذا الكتيب الذهبي عن «الطباع»، وإن كان بعض المتأخرين يرجحون - كما سنرى - أن ثيوفراسط لم يقتصر على الطباع السيئة التي قدمها في ثلاثين نمطا أو نموذجا سيطرت عليهم الرذائل بصور مختلفة، وإنما قدم نماذج أخرى طيبة أو خيرة لم يبق لها أثر.
وإذا كانت الأعمال الأدبية بالمعنى الدقيق قليلة إلى حد الندرة في التراث الذي خلفه ثيوفراسط، فإن معظم أعماله لا يزال يحمل الخاتم الذي انطبع عليه بحكم نشأته وسبب وجوده، وأعني به طابع التعليم والمحاضرة التي تبتعد في أسلوبها وطريقة تأليفها عن الزخارف الخطابية والملاحظات الجزئية والتبسيط الذي يقصد به عامة القراء. وربما أمكن تقسيم كتابات ثيوفراسط إلى خمسة أنواع متميزة:
مواد متفرقة من تجميع المؤلف (ولم يصلنا أي كتاب من هذا النوع)، وملاحظات نقدية عن آراء فلاسفة آخرين (ومن أمثلة ذلك كتابه عن الإدراكات الحسية)، وكتابات «إشكالية»، أي تطرح مشكلة معينة وتعرف بالصعوبات التي تنطوي عليها من اقتراح الطريق أو الطرق الممكنة لحلها (ومن هذا النوع كتابه عن الميتافيزيقا)، وبحوث وصفية أو تقريرية عن وقائع معينة (مثل كتابه عن تاريخ النبات)، وأخيرا تأتي كتاباته عن الأسباب أو العلل الممكنة للوقائع المختلفة (ومن أمثلة ذلك كتابه عن علل النباتات). وغني عن الذكر أن هذه الأنواع بمناهجها المختلفة يمكن أن تجتمع في كتاب أو بحث واحد؛ فكتابته عن النار تشرح عللها وأسبابها، كما تقدم أوصافا وآراء نقدية مختلفة في الفقرة التي يتكلم فيها عن شكل اللهب، حتى ليذهب إلى حد الشك في كون النار أحد العناصر الأربعة الأولية كما قال بذلك القدماء؛ ومن ثم إلى حد الشك في أسس الفيزياء القديمة بأكملها. وعلى العكس من ذلك نجد أن بحثه عن الأحجار والأراضي مجرد تجميع لوقائع كثيرة، وإن كان لا يخلو تماما من النظرة في العلل والأسباب، ولا من الآراء النقدية النافذة. والمهم أن أعماله تكشف في جملتها عن براعته في تحديد المشكلة، وبيان صعوباتها، وقدرته على توجيه النقد لغيره، ودقة ملاحظته، وقدرته على التصنيف والتقسيم التي تتجلى قبل كل شيء في كتاباته عن النباتات والمعادن، وكل ذلك إلى جانب «منهجيته» ونزعته التجريبية التي تجعله - بعد أرسطو - أحد رواد المنهج العلمي الذي لا تنفصل فيه قوة الملاحظة عن النقد العقلي، ولا تجميع المادة عن الشك والتساؤل المستمر ومناقشة آراء السابقين ونقدها. (4)
ونأتي إلى السؤال العويص عن علاقته بأستاذه وصديقه، ومدى تأثره به أو استقلاله عنه. وهو سؤال عويص؛ لأن الباحثين والمؤرخين منذ القرن الأول قبل الميلاد قد درجوا على وضع ثيوفراسط في موضع الظل من أرسطو؛ أي إنهم رجعوا لأعماله لاستكمال الأجزاء الناقصة من النسق الأرسطي أو على الأقل لشرحه وتفسيره، ونظروا إليه في الحالين كأحد أتباعه، أو على أحسن الفروض باعتباره أوفى المحافظين على فلسفته. صحيح أنهم اعترفوا له بتعديل شيء أو إضافة أو تصحيح شيء هنا أو هناك من فلسفة المعلم الأول (مثل نظريته عن الأقيسة الشرطية التي أضافها - قبل الرواقيين ثم المناطقة العرب - لنظرية القياس عند أرسطو، ومثل رده لأحكام «الجهة» إلى الترجيح والاعتقاد الذاتي، ومعارضته لفكرة أرسطو المشهورة عن غائية الطبيعة بالرغم من دفاعه عن فكرته عن قدم العالم، بجانب كونه أحد رواد التاريخ الفلسفي من خلال عرضه لآراء الفلاسفة الطبيعيين قبل إبداء انتقاداته لها، وإدخاله لمفاهيم ومصطلحات عديدة (مثل مصطلح التكيف للبيئة والظروف المحيطة؛ الأويكيوزيس) من العلوم الطبيعية والبيولوجية المختلفة في اللغة الفلسفية، إلى جانب اهتمامه بدراسة الحياة الشعبية والأمثال والطباع نتيجة اهتمامه بالبحوث النفسية حتى عند الحيوانات).
12
استطاعت البحوث الحديثة عن ثيوفراسط أن تخرجه إلى حد كبير من ظل أرسطو الذي خيم عليه ما يقرب من عشرين قرنا، وهي الآن - كما يقول الأستاذ بيتر شتاينمتز الباحث في أعماله وناشر ومحقق ومترجم النص الأصلي لكتابه عن الطباع - في الطريق إلى بلورة فلسفته المستقلة التي بدأت معالمها في الوضوح بعد رحيل معلمه وصديقه.
والحقيقة أن القول بوجود فلسفة مستقلة لثيوفراسط أو إنكار ذلك ونفيه إنما يتوقف على تتبع العلاقة بين التلميذ والمعلم تتبعا تاريخيا يكشف عن الاستقلال التدريجي مع البقاء على الإخلاص والوفاء وإعلاء البناء على الأسس التي وضعها الأستاذ والصديق، ولا بد لتوضيح هذا من الكلام باختصار عن تطور كتابات ثيوفراسط وما طرأ عليها من تطور وتغير. (5)
في تقديري المتواضع أن العلاقة التي ربطت بين ثيوفراسط وأستاذه هي النموذج الأسمى لعلاقة التلميذ بالمعلم؛ فهو يأخذ عنه ويتعاون معه ويعمل بوحيه ومشورته، ولكن هذا لا يمنعه من الاستقلال برأيه، على الأقل في دقائق التفصيل والشرح والتفسير. وهو حين يمتد به العمر لا يجاهر بمعارضته ولا يرميه بالسهام بعد أن اشتد ساعده، وإنما يعلي البناء - كما سبق القول - على الأسس التي وضعها المعلم، ولا يكترث بعد ذلك أن ينسب البناء له أو لأستاذه. وعسى ألا أكون مبالغا إذا قلت إن القليل الذي قرأته لثيوفراسط أو قرأته عنه يؤكد أنه كان يتحلى بفضيلة التواضع والعرفان الذي يحمله التلميذ الوفي لأستاذه، وإن لم تحل هذه الفضيلة بينه وبين توجيه النقد للأستاذ كلما احتاج الأمر في تقديره لتوجيه النقد، ثم الاستقلال بالرأي الخاص الذي يعد في الحقيقة من تمام الوفاء للأستاذ الذي لا يسعده أن يكون تلميذه نسخة منه ولا لسانا ناطقا عنه ومرددا لأقواله، كما لا يسعده أن يتحول تلميذه إلى كلب يعضه في حياته أو بعد موته، أو إلى شاهد زور عليه وكاتب للعرائض ضده.
كتب ثيوفراسط في سنوات الطلب بعض البحوث والدراسات تحت إشراف أرسطو وتوجيهه، ولكن لم يصلنا للأسف شيء منها. ولما اكتسب ثقة المعلم الأول الذي أتاح له أن يعاونه في البحث وتجميع المادة اللازمة لدراساته العلمية والطبيعية المختلفة على طريقته الاستقرائية المعروفة، كتب دراسات «دوكسوجرافية» تتبع فيها آراء الفلاسفة الطبيعيين السابقين وشرحها وقيمها في لغة «مشائية»، ومن ذلك دراساته عن النبات التي لا أشك في أن أرسطو نفسه قد أفاد منها - حتى إذا بلغنا المرحلة التي تولى فيها رئاسة اللوقيون لم نجد بأسا من أن نفترض أنه كتب بعض بحوثه وفي ذهنه توجيهات المعلم الراحل وإرشاده، دون أن نستبعد مع ذلك أنه بدأ في الاستقلال بالرأي والشروع في إرساء معالم «نسقه» الخاص به. وربما جاز القول بأن العلاقة بينه وبين أستاذه خلال العشرين سنة الأخيرة من تعاونهما المشترك كانت علاقة أخذ وعطاء، وأن أستاذية المعلم الأول لم تقتصر على التوجيه والإرشاد، بل تعدتهما إلى التلقي من التلميذ والصديق الحميم، عل الأقل من خلال الحوار وتبادل الآراء.
وغني عن الذكر أن مهمة الباحثين المحدثين والمعاصرين في الكشف عن تأثير ثيوفراسط على أعمال أرسطو المتأخرة لا بد أن تكون شاقة بقدر ما هي شديدة الأهمية. وإذا كانوا قد قطعوا خطوات ملموسة على هذه الطريقة، فلم تزل أمامهم خطوات أخرى ينتظر منهم إنجازها ليمكن الكلام عن نسق فلسفي متبلور وواضح المعالم لثيوفراسط، وهو الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن بصورة كافية.
والحق أن هذه الطريقة «التاريخية» في الاستدلال تجعلنا نستبعد على ثيوفراسط أن يكون قد انزلق بعد موت أرسطو إلى الوقوع في خطأين لا نظن أن وفاءه لأستاذه من ناحية، وتكوينه العقلي والعلمي من ناحية أخرى، كان من الممكن أن يستدرجاه إليهما؛ أولهما: هو اتخاذ موقف الهجوم على أستاذه، أو على الأقل موقف المعارضة أو المناقضة الصريحة لآرائه ومذاهبه. وثانيهما هو محاولة وضع أفكار صديقه وأستاذه في قالب اعتقادي متزمت أو نهائي، لا سيما أنه - أي ثيوفراسط - قد تعلم من صحبته الطويلة لأرسطو أن هذا الأخير لم يكن يتوقف عن فحص آرائه ومراجعتها وتعديلها وتغييرها إذا لزم الأمر، شأن كل فيلسوف أصيل.
13
أي طريق بقي له إذن أن يسلكه لكي يكون نفسه من جهة، ولكيلا يتهم نفسه أو يتهمه أحد من جهة أخرى بالتنكر أو الجحود؟
لم يتبق إلا مواصلة البناء على الأسس التي أرساها المعلم والصديق كما سبق القول، مع الاستمرار في فحص هذه الأسس ومراجعتها واقتراح بدائل أخرى كلما اقتضى الأمر.
هذا هو الذي فعله ثيوفراسط ولم يكف عن فعله؛ فهو يطرح المشكلة كما وضعها أرسطو، ثم يناقش هذا الوضع بطريقته الإشكالية «أو النقدية المتسائلة»؛ إما لكي يقترح وضعا أو حلا آخر للمشكلة، أو لكي يواصل البحث فيها أو يشير على غيره بمواصلته. ومن الأمثلة التي تدل على هذا المنهج الذي سار عليه نذكر بحوثه في كتابه عن «الميتافيزيقا» عن مفاهيم مختلفة كمفهوم المكان والحركة، ومناقشته لنظرية العناصر الأربعة الشهيرة في بداية بحثه الذي أشرنا إليه من قبل عن النار إلى حد التشكك في النظرية نفسها. أضف إلى هذا عددا من دراساته وبحوثه في موضوعات جزئية لا تكاد تحصى، وإن كان معظمها يدور حول موضوعات متصلة بالعلوم الطبيعية التي انصب عليها معظم اهتمامه وجهده. إنه يصل في هذه البحوث إلى نتائج جديدة، تطرح بدورها أسئلة جديدة، وتجعله أثناء ذلك ينصرف عن بناء نسقه الخاص أو على الأقل يؤجله إلى أن يفرغ من بحوثه «النوعية» التي لا تنتهي، ولكن هذا لا ينفي أنه كان بصدد تأسيس أو إعلاء بناء مختلف عن بناء المعلم الأول. وما زالت مهمة الكشف عن معالم هذا البناء أو تحديد هذا النسق المتميز في بدايتها، وتحتاج إلى مزيد من البحث والجهد لإتمامها.
14 (6)
استدل الباحثون من القراءة المتأنية ل «الطباع»، والنظر في التاريخ الاجتماعي والسياسي والحضاري الذي يحيط به ويتغلغل أحيانا فيه (لا سيما في اللوحة الثامنة عن مروج الإشاعات، وفي اللوحتين السابعة عن الثرثار والسادسة والعشرين عن الأوليجاركي أو المتسلط وغيرهما بدرجة أقل)؛ استدلوا على أن ثيوفراسط قد كتبه بعد سنة 319 قبل الميلاد؛ أي بعد أن ناهز الخمسين من عمره وقضى في رئاسة «اللوقيون» ما يربو على الثلاث سنوات. وهو يقدم فيه كما سوف يرى القارئ ثلاثين لوحة (أو رسما تخطيطيا حيا) جمعها إلى جوار بعضها بغير نظام يربط بينها، ولا مقدمة تمهد لها. ويبدو أن أحد المعجبين المجهولين ب «الكتيب الذهبي» قد عز عليه ذلك، فتطوع بأن يضيف إليه - في العصر البيزنطي على أرجح الأقوال - مقدمة من عنده ثبت بعد مراجعة نص البردية الأصلية أنها منحولة - ولم يكتف بهذا، بل مر بقلمه على بعض اللوحات فدس عليها بعض المواعظ الفجة التي لم يجد الباحثون مشقة كبيرة في التحقق من زيفها واستبعادها.
سيلاحظ القارئ أن ثيوفراسط يقدم في هذه اللوحات ألوانا مختلفة من الضعف البشري أو من الخطأ الذي يقع فيه الناس خلال حياتهم اليومية، وكأن هذا الضعف في تقديره رذيلة فاحشة، أو كأن الخطأ عيب أخلاقي خطير، بينما تؤكد النظرة البسيطة المباشرة أنها مجرد زلات عادية يمكن أن ينزلق إليها الإنسان العادي بحكم طبعه أو ظروفه أو نقص تربيته وخبرته إلى غير ذلك من الأسباب، دون أن يتورط بالضرورة في جريمة تجعله يصطدم بالقانون الجنائي (ربما باستثناء حالتين تقتربان من حدود المحظور بحكم القانون السائد في ذلك الحين، وهما حالتا الجبان في اللوحة الخامسة والعشرين، وحالة النمام أو المفتري على الناس ظلما وقذفا في أنسابهم وأعراضهم في اللوحة الثامنة والعشرين). واللافت للنظر أن هؤلاء العاديين أو الأوساط - الذين لا ينتمون للصفوة أو علية القوم، ولا يمكن القول أيضا بأنهم من المنبوذين أو طريدي المجتمع - هم من أولئك الذين تخطوا سن الشباب وبلغوا منتصف العمر، أو تجاوزوه أحيانا إلى ما بعد الكهولة حتى شارفوا على الشيخوخة. والغريب أيضا أن أخطاءهم التي يصورها لنا ثيوفراسط تكاد تتطابق مع الأخطاء والتصرفات السلوكية المعيبة التي تصدر في رأي أرسطو عن المتوسطين وكبار السن.
ولكن من أي نبع واقعي استقى ثيوفراسط نماذجه وأنماطه التي يقدمها لنا برؤية الفيلسوف الذي «أدركته» لعنة الفن أو بركته كما تشاء؟
والجواب الذي لا شك في أن القارئ قد توصل إليه هو أنه قد التقط هذه اللوحات والصور من أصول أثينية كانت ماثلة أمام عينيه في أثينا، في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ومع بدايات العصر الهليني المبكر وحكم خلفاء الإسكندر المقدوني لعاصمة الثقافة والفكر الفلسفي، بكل ما كان يضطرب فيها من صراعات وأوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية أثرت على «أخلاق» هذه النماذج وعاداتهم ومواقفهم وردود أفعالهم، بل ربما تذكر القارئ المطلع على التاريخ اليوناني والأثيني بوجه خاص في أواخر القرن الرابع العجيب أثناء متابعته لأخلاق وطباع بعض هذه النماذج شخصيات محددة وأحداثا ووقائع تاريخية معينة سبق أن عرفها وتراءت لخياله، وسوف يزداد لديه هذا الشعور عندما يتابع أصحاب الطباع المتميزين، مثل مروج الإشاعات (8) والمؤمن بالخرافات (16) والأوليجاركي المتسلط والمتزمت لطبقته الثرية المستغلة ضد الفقراء وعامة الناس (26).
لا شك أن القارئ سيشعر بالحزن عندما يكتشف أن التجريد الفلسفي قد أضر برسم ثيوفراسط لأصحاب هذه الطباع وأخلاقهم إلى الحد الذي كادت معه أن تصبح صورا لأنماط كاريكاتيرية تعاني من فقر الدم واللحم أيضا، ويندر أن تقدم لنا شخصيات حقيقية بكل ما يميز الشخصية من حيوية وتفرد وغنى وتركيب معقد في السمات والخصائص الباطنة والظاهرة. وقد يأخذ عليه القارئ أيضا أنه يقعر ملاحظاته عن تلك الشخصيات - أو الأخلاق والطباع كما يسميها - على ما يصدر عنها من أفعال وتصرفات سلوكية يسخرها لخدمة غرضه من إبراز العيب أو الخطأ أو الضعف الذي يريد تركيز أضوائه عليه وحده دون غيره (وهذا من آفات الغلو في التصنيف الذي برع فيه المصنف الأول على الأصالة!) تاركا وراء ظهره ما يستلزمه رسم الشخصية الحية من تصوير الظروف العائلية، والأطر المكانية والزمانية، والأوضاع الطبقية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر عليها. ولكن كاتب هذه السطور - الذي أدركته كذلك لعنة الفن أو بركته لا أدري، ولمسته بعصاها السحرية المؤلمة! - لا يمكنه أن يعمم هذا الحكم على إطلاقه، ولا يستطيع ضميره الأدبي ولا العلمي أن يحرم الرجل من الحاسة الأدبية والرؤية الفنية، وذلك على الأقل في اللوحات التي يتطرق فيها لتلك الظروف والأوضاع لخدمة غرضه الذي أشرنا إليه من ناحية، ولأنه يطوي في نفسه - رغم أنف التعليم الفلسفي الذي أنفق فيه عمره وجهده! - روح فنان لا شك فيه. لو لم يكن الأمر كذلك لما أثرت شخصيات هذا الكتاب أو بعضها إذا شئنا الدقة على العديد من كتاب المسرح، ابتداء من تلميذه الفذ ميناندر - كاتب الكوميديا الجديدة - إلى موليير في القرن السابع عشر وكثيرين غيرهما من القصاصين والروائيين حتى عصرنا الحاضر كما سنرى بعد قليل. (7)
لعل النزعة التي غلبت على ثيوفراسط وجعلته يميل إلى التنميط الكاريكاتيري أن تكون راجعة إلى النزعة الشكلية أو الصورية التي تسلطت عليه ودفعته إلى وضع نماذجه في قالب محدد لا تخرج عنه (هل نلقي الذنب مرة أخرى على صاحب النظرية المشهورة عن الصورة والمادة أو الشكل والمضمون كما نقول اليوم؟!) فهو يرسم جميع الطباع وفق تخطيط واحد لا يتغير؛ إذ يبدأ بتعريف مفهوم الرذيلة أو الخطأ أو وجه الضعف والنقص الذي سيتكلم عنه، ثم يشرع خطوة خطوة في وصف الأفعال وسرد المواقف التي تبين طبع المبتلى بتلك الرذيلة أو الضعف في صورة عيانية حية تكاد تجعلنا نسير معه في شوارع أثينا، أو ندخل معه في بيوتها ودكاكينها وقاعات مجالسها الشعبية، أو نعايشه في تصرفاته مع زوجته وأولاده وأصحابه، وحتى في ميدان الحرب التي تشنها بلده على أعدائها أو تضطر لخوضها دفاعا عن نفسها ...
هل نقول إن التعريفات التي تتصدر اللوحات هي نتاج عملية منطقية بحتة لكي نلقي التهمة في هذه المرة على المنطق، أم نقول إن تلك التعريفات مع ما يترتب عليها من «أمثلة توضيحية» قد استخلصت من نسق محدد في فلسفة الأخلاق، سواء كان هذا النسق لأرسطو أو لثيوفراسط نفسه؟ الواقع أن الأمرين مستبعدان؛ فنحن لا نلمس من الكتاب أن صاحبه قد حاول في عرضه للرذائل والعيوب أن يستفيد على أي وجه من الوجوه من نظرية أرسطو المشهورة عن الفضيلة، بحيث تكون الرذيلة أو العيب الذي يصوره مجرد طرف متطرف للسلوك الوسط المعتدل الذي نطلق عليه صفة الفضيلة. أما التعريف الذي يلجأ إليه ، فهو ضرب من التبسيط والتحديد أو التثبيت الذي يعبر عن روح المنطق الصوري، كما يعد عنصرا من عناصر التفكير القديم خصوصا منذ عهد أفلاطون وأرسطو حتى قيام المنطق الجدلي الحديث.
ومهمة التعريف الذي تبدأ به اللوحة هي تحديد مضمون المفهوم أو التصور والمعنى الذي تدل عليه الكلمة التي يراد تعريفها على النحو الذي ترد به في لغة الكلام العادي، لا في لغة المنطق أو لغة المصطلح الفلسفي الدقيق. من أمثلة ذلك أن كلمة «دايزيدايمونيا»
15 - ومعناها الحرفي هو خشية الله - تعرف بالمعنى الشعبي الشائع الذي ينطوي على «الوسوسة» والاعتقاد الساذج في الخرافات بأنها هي الجبن في مواجهة القوى الإلهية (أو القوى الفائقة للطبيعة. راجع اللوحة رقم 16)، كما أن كلمة «أيسخروكرديا»،
16
أي السعي المشين إلى الكسب، تعرف كذلك بالمعنى الشائع بين الناس عن البخل الفظيع والبخيل الجشع المنفر (راجع اللوحة رقم 30)؛ فكأن المقصود بالتعريف هو تنبيه القارئ لمعنى الكلمة المعرفة، وتبرير الدوافع الكامنة وراء التصرفات والمواقف التي يتم سردها واحدا بعد الآخر، كأنها «حيثيات» الحكم الذي صدر منذ البداية!
والملاحظة أن هذه «الحيثيات» التي تعرض علينا الألوان المختلفة من السلوك المعيب أو المضحك أو المقزز إلخ، تأتي من ناحية البنية أو التركيب اللغوي الأصلي على هيئة جملة واحدة (هو من النوع الذي، أو هو ذلك الذي) تتبعها سلسلة طويلة من الصيغ المصدرية المتلاحقة. ولا يغير ثيوفراسط هذا القالب إلا في حالات نادرة نجده فيها يستعيض عنه بتعبيرات مقاربة، كأن يقول مثلا «ومن عادته أن يفعل كذا وكذا، أو أن لديه القدرة على كذا وكذا»، بحيث يستطرد في الأوصاف التي تؤيد التعريف الذي بدأ به. هذه الأوصاف التي يسردها للتصرفات السلوكية تأتي عادة على شكل تقديرات وصفية لمجموعة من العادات التي يتبعها «الطبع» الذي يتحدث عنه، كما تستلزم مجموعة أخرى من اللوازم التعبيرية والمواقف السلوكية التي يتفاعل معها صاحب هذا الطبع ويسجلها المؤلف بصورة نمطية مطردة. وهذا الأسلوب النمطي المطرد يخلو في معظم الأحيان من أي تنويع أسلوبي، كما يستغني عن أي زخرف بلاغي، بحيث نجد أنفسنا - كما سبق القول - أمام تقريرات موضوعية محايدة عن ألوان متفرقة من سلوك البشر العاديين في حياتهم اليومية، وبحيث نتصور أننا أمام عالم نفسي سلوكي حديث يرصد الظواهر، ولا يعطي نفسه الوقت ولا الفرصة لتحليل معانيها الباطنة أو دلالتها على الحالة النفسية للشخصية التي يتحدث عنها. ومع ذلك فلا يصح مرة أخرى أن نعمم الحكم؛ لأننا نشعر في بعض اللوحات أن الفيلسوف والعالم قد فك قيوده وترك نفسه للفنان أو للقاص الكامن في داخله، بل إننا لنلمس هذا أحيانا في تشكيل «المشاهد والمواقف المختلفة واللغة الدقيقة الحية المعبرة عنها». ويكفي في هذا الصدد أن يراجع القارئ بعض اللوحات (مثل مروج الإشاعات والجبان في اللوحتين رقم 8 و25 على الترتيب) ليرى كيف تحول القلم فجأة إلى ريشة ترسم موقفا حيا بالغ الطرافة والروعة لا ينقصه إلا أن يدخل في بناء قصصي أو مسرحي أكثر تركيبا وأقدر على تضفير خيوط «الحبكة» والوصول بها إلى الذروة ثم الحل. ولو ألقينا على سبيل المثال نظرة خاطفة على لوحة المجامل (اللوحة الخامسة) لأدهشتنا قدرة ثيوفراسط على تصوير المواقف المضحكة لهذا الإنسان العجيب الذي يتسول رضا السادة بكل وسيلة، فيكسب تعاطفنا معه ورثاءنا له، وربما التمسنا له الأعذار وفكرنا في الأسباب الاجتماعية التي ألجأته لإهانة نفسه بهذه الصورة المضحكة المبكية. هل نستغرب بعد ذلك أن يكون هذا الكتاب منبع وحي لا ينضب لكوميديا الموقف، وللسخرية القاسية أو الرحيمة من تفاهة «البرجوازي»، وغباء الإنسان العادي أو سذاجته أو ضيق أفقه، وإثباته على مر التاريخ أنه لا يتعلم أبدا من التاريخ؟ (8)
ذكرت من قبل أن كتاب الطباع ليس عملا فلسفيا بالمعنى الدقيق، ولا يندرج تحت فلسفة الأخلاق كما يفهمها المشتغلون بها. ومع ذلك فهو عمل كتبه فيلسوف تتلمذ على المعلم الأول وكتبه في الأخلاق، وله هو نفسه فلسفته الأخلاقية المستقلة من بعض الوجوه. فإلى أي حد تأثر بأستاذه في شكل هذا الكتاب وفي مضمونه؟ وكيف انعكست فلسفته في الأخلاق - ولو بصورة غير مباشرة! - على فهمه للطباع ورسمه لأنماطها الطريفة أو المقززة؟
من المعروف أن أرسطو يتوسع خلال وصفه لإحدى الفضائل أو الرذائل توسعا شديدا في عرضه لألوان السلوك والتصرفات التي تميز الشخص الذي تنطبق عليه تلك الفضيلة أو الرذيلة التي عني بتحديد ماهيتها؛ أي إن الجانب العملي أو الحياتي المتعلق بالممارسة لم يغب عن بال صاحب الأخلاق إلى نيقوماخوس أو الأخلاق الأويديمية وغيرهما. بيد أن الإنصاف للحقيقة يقتضينا القول بأن «طباع» ثيوفراسط لا تفهم من جهة الأخلاق الأرسطية، بل على أساس فلسفته هو نفسه في الأخلاق.
إن عنوان الكتاب لا يخلو في حد ذاته من دلالة هامة؛ (فثيوفراسط هو أول من استخدم كلمة «الطباع» (خاركتير
17
للتعبير عن النفس الإنسانية ووصف دخيلتها. وأخذت عنه اللغات الأوروبية هذه الكلمة مع المعنيين اللذين تتضمنهما: معنى «الطابع» الذي يدل عليه تركيبها اللغوي بما في ذلك الأداة المستعملة في الطبع أو الختم، ثم معنى «المطبوع» أو الهيئة الحاصلة من الطبع أو الختم (أو الصك عندما تكون بصدد طبع العملة أو صكها). ومن هنا يمتد المعنيان إلى الإنسان وطبعه الذي تكشف عنه ملامح وجهه أو سمات تعبيره ونطقه التي يمكن أن تتطبع بلهجة أو لكنة معينة. وفي الحالين يفهم من الطبع أنه ثابت لا يمكن تغييره، وإن أمكن تربيته وصقله وتهذيبه بوسائل مختلفة. ولا بد أن تطبيق الكلمة مع المعنيين المقترنين بها على الإنسان هو الذي حمل ثيوفراسط على أن يضيف إليها صفة شارحة، بحيث أصبحت هي الطباع الأخلاقية التي «تنطبع» على ذلك الجزء من أجزاء النفس الذي تمتد فيه جذور الدوافع التي تجعل الفرد يقدم على هذا الفعل أو ذاك، والذي لا دور للعقل فيه إلا بقدر طاعته لأوامره وإرشاداته. والواقع أن البنية اللغوية والشكلية للنماذج أو الأنماط الثلاثين ترتبط بالمعاني التي استخلصناها من كلمتي العنوان؛ فلا يكاد المؤلف ينتهي من تقديم تعريفه لمفهوم الطبع وللشخص الذي يتصف به حتى تتوالى الصيغ المصدرية التي تسرد علينا أنواع السلوك المختلفة من حيث هي نتائج مترتبة على ذلك الطبع الذي «تطبع» به الإنسان وانتهى الأمر. (ربما تتجلى هنا أيضا الطبيعية «القدرية» للعقل والوجدان اليوناني، على الرغم من حديث بعض الفلاسفة - مثل أرسطو وثيوفراسط نفسه - عن الأسس المادية والبيولوجية للأخلاق والطباع الثابتة.)
ولكن ما هو الأصل في هذه الطباع - أو الماهيات الأخلاقية والنفسية - الثابتة؟
يرى أرسطو أن الفضيلة والرزيلة ينشآن بتأثير ثلاثة عوامل متداخلة؛ هي طبيعة الإنسان، والتعود أو المران والممارسة، ودور العقل في الإرشاد والتوجيه؛ مع العلم بأن دور العاملين الأولين ووزنهما أكبر وأهم. وإذا كان أرسطو يتصور الطبيعة على أنها مجرد استعداد أو قدرة على اكتساب الفضيلة عن طريق التعود والتعلم، فإن تلميذه ينطلق من هذه البداية ليقيم الفضيلة والرذيلة، ومن ثم الأخلاق بأكملها، على أساس بيولوجي؛ فالإنسان مفطور بطبيعته على استعدادات معينة للسلوك يسميها ثيوفراسط «بذور الفضيلة». وهي استعدادات يمكن تنميتها من خلال الرعاية والتوجيه والرقابة والتهذيب؛ أي باختصار من خلال التربية (وكلمة التربية بمعناها اللغوي الأصلي عند الإغريق تدل على الصوغ أو التكوين أو التشكيل؛ أي على الطبع كما شرحناها من قبل). ويترتب على هذا أن الإنسان بحكم طبيعته ومولده لا يمكن أن يكون كائنا كاملا، وإنما يمكنه بلوغ الكمال عن طريق التربية. وإذا انعدمت التربية أو أسيء استخدامها أو انحرفت عن وسائلها وغاياتها الصحيحة، فلا بد أن يؤدي به ذلك إلى الانحراف. وطبيعي أن تكون التربية أبسط وأيسر في السنوات المبكرة من حياة الإنسان؛ لأن «ماهيته» أو «جوهره» يكون أكثر مرونة وطواعية للتشكيل و«الطبع». ولو تصورنا إنسانا ينشأ بغير تربية فاسدة، فإن الدوافع الجامحة التي تتحكم في أفعاله هي التي ستحدد ماهيته وتشكل «نواته» الباطنة، ومع الزمن تتصلب هذه النواة أو تتدرع كالسلحفاة بقشرة سميكة يصبح من المتعذر إن لم يكن من المستحيل اختراقها أو تغييرها إلا بتدمير صاحبها؛ لأن هذا الإنسان قد انطبع بطابع ثابت هو الذي يحدد أفعاله بإرادته أو في الأغلب الأعم بغير إرادته.
والطباع التي يقدمها هذا الكتاب بصور عيانية حية هي من النوع الأخير. وقد حفظ لنا ستوبايوس
18
في موسوعته (242) نصا مطولا بعض الشيء لثيوفراسط يمكن أن يوضح لنا رأيه في التربية، ولا بأس من ذكره لتدعيم الأفكار السابقة:
من الواضح أن التربية، وهذا أمر يتفق عليه من الجميع، تهذب النفوس، وذلك من خلال ما تقوم به من تخليصها من الانحراف، وتجنبيها الآثار المترتبة على غياب المبادئ والأصول الأخلاقية؛ وبهذه الطريقة يتم كذلك ملاءمة ماهية الإنسان للحياة في الجماعة وتطويعها. هنا لا يصح قطعا أن نوجه اللوم إلى الأوساط (أو الناس العاديين)؛ إذ تنقصهم الحرية الكاملة التي تمكنهم من تشكيل حياتهم. وعلى العكس من ذلك يصح أن نلوم أولئك الذين ينشئون حقا كبشر أحرار حرية حقيقية، ويملكون الوسائل الكافية التي تتيح لهم أن يتوصلوا لأي شكل من أشكال الحياة يحبونه، ولكنهم بالرغم من ذلك يهملون القيمة العليا. إن سلوكهم في الواقع سلوك متناقض؛ فهم إذا تركت لهم حرية الاختيار انتقوا أعظم المدن ليسكنوها، وأفضل البشر ليكونوا أصدقاءهم وجيرانهم. أما إذا ترك لهم أن يختاروا الحياة كما تتجلى في أفضل أشكالها، فإنهم يقللون من شأنها، ويصرفون أخص شئونهم تبعا للصدفة المحضة بغير أن يتأنوا في فحصها أو ينظروا فيها نظرة نقدية. وإذا اضطروا للقيام برحلة راحوا يتسقطون الأخبار من الآخرين، ويبحثون عن دليل يمكن أن يقودهم ويجنبهم الأخطار. ولكنهم، كما يقال، يرمون الزهر على الحياة كلها، ويقعون - بلا وعي أو خبرة وحسبما تشاء الصدفة - في أسوأ أشكال الحياة التي يمكن تصورها. ومع ذلك فإن الأسوأ والأشد خطرا من هذا الاختيار الذي وقعوا فيه هو العدول عن الطريق الخاطئة التي ساروا فيها بالفعل. إن الضرر في هذه الحالة كبير، والتراجع عنه عسير، بل يكاد أن يكون في حكم المستحيل؛ فلا الزمن يتيح الفرصة لإعادة التفكير، ولا طبيعة الإنسان تقدر على أن تتعلم شيئا أفضل إذا كانت قد نشأت على الشر. صحيح أنها تواصل اتخاذ القرارات والحكم على بعض الأمور الأخرى حكما أفضل، ولكنها تستمر في الحياة التي تعودت عليها. (9)
هكذا يتيح لنا كتاب «الطباع»، دون أن يجاريه في ذلك أي كتاب آخر وصلنا من العصور القديمة، أن نطل على حياة الناس وأعمالهم وأوجه نشاطهم في مجتمع الطبقة الوسطى الأثينية في مطلع العصر الهليني؛ فنحن نتجول - كما سبق القول - في الأسواق، وندخل دكان صانع الأحذية مع المتملق الذي يقرظ قدم سيده ويقول إنها أبدع من الحذاء الذي يريد أن يشتريه (راجع اللوحة رقم 2)، ونستمع إلى كثير الكلام الذي يغرق رجلا لا يعرفه في سيل كاسح من الأقوال والأحلام والتأملات والحسرات على سوء الأحوال، فضلا عن الطموحات الشخصية والآمال (اللوحة رقم 3)، ونرى كيف يقف الوقح وقليل الحياء في دكان الجزار بالقرب من الميزان، ولا يستحي من وضع قطعة لحم أو عظم في كفته، أو يخطف على الأقل شيئا من العفشة (كما تسمى المصارين في العامية المصرية!) ثم ينصرف ضاحكا (اللوحة 9)، وكيف يتسكع الفظ بين الدكاكين، ويفرض ظله الثقيل على الباعة، ويخطف أثناء ثرثرته معهم جوزة من هنا وقطعة فاكهة من هناك (رقم 11)، وكيف يختال الطموح المغرور في السوق بثياب الفرسان حتى بعد انتهاء موكب الاحتفال لكي يلفت إليه الأنظار (رقم 21)، ويخفي الوضيع مشترياته من اللحم والخضر في طيات ثوبه أثناء رجوعه إلى بيته (22)، ويتنطع الفشار في سوق الخيول مدعيا أنه يريد أن يشتري خيولا أصيلة 23).
وإذا غادرنا السوق وما يجري فيه، ودخلنا أحد الحمامات العامة، شاهدنا وسمعنا الريفي وهو يغني (4)، والفظ الذي يضن على صاحب الحمام ب «البقشيش» الذي يستحقه (9)، والمقزز الذي يستعمل زيتا قذرا بحجة أنه يريد أن يرفع نبضه أو ينتعش (19)، والمتعلم على كبر وهو يتبختر ويهز عجيزته مقلدا اللاعبين في حلبة المصارعة، ويحاول أن يتدارك ما فاته من العلم والمعرفة ومباهج الشباب وألعابه (27)، والبخيل وكيف يتطيب بزيت مستعار، ويتجمل بثياب غيره من الناس، ويتفنن في الشح والدناءة (30). ثم نذهب إلى المسرح أيضا فنرى كيف يرتب المتملق وسائد المقعد للشخصية المهمة التي يتملقها بدلا من أن يترك ذلك للخادم أو العبد، كما يتعمد الجلوس في الصفوف الأولى مع الشخصيات المرموقة (5)، وكيف يطلق الفظ نكاته السخيفة (11)، وينعس البليد أثناء العرض المسرحي (14)، ويرفض البخيل دخول المسرح إلا إذا ضمن ألا يكلفه ذلك ثمن التذكرة (30). وأخيرا نجد أنفسنا في المجلس الشعبي، حيث نستمع إلى بعض الخطب، ونلاحظ تأفف الغني المتعالي من جلوس الفقير إلى جواره، كما نتابع تصرفات الناس، سواء كانوا ضيوفا أو مضيفين، وأصدقاء أو معارف، ومشاركين في تقديم الأضاحي أو عالة عليها. وتسقط الأضواء على الحياة السياسية والاقتصادية والدينية التي يضطرب فيها الناس فنعرف آراءهم، ونسمع تعليقاتهم وإشاعاتهم، ونفهم أوضاع السادة والعبيد، والأزواج والزوجات، والمواطنين والأجانب، ونلتقط مشاهد ومسامع من اللغة الجارية والعبارات والشعارات السائدة، ونخرج من الكتاب كما نخرج من دار السينما بعد مشاهدة عرض ممتع لحياة زاخرة متلاطمة بأمواج من البشر والأفكار والعادات والأخلاق والطرائف والغرائب التي يصعب نسيانها. (10)
ربما أكون قد أسرفت على القارئ في تصوير «الخلفية» الفلسفية لهذا الكتاب إعمالا للدقة والإحاطة على قدر الطاقة، لكن الكتاب نفسه يمكنه أن يغني القارئ عن أي تمهيد طال أو قصر عن مدى أهميته من الجوانب التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ فهو قادر بنفسه على مخاطبة القارئ مباشرة، والحديث الشيق معه بلا مقدمات فلسفية أو غير فلسفية. ولا يرجع هذا للشكل البسيط الذي صيغ به على هيئة «تقارير عن الأحوال» كما قد نقول اليوم، ولا إلى المواقف وردود الأفعال المضحكة التي تبعث فينا الرغبة في الابتسام، بل ولا ترجع للبراعة الفائقة في رسم «الطبع» بخطوط مرهفة سريعة وشديدة الدقة والإيحاء. إن تأثرنا به - ميلا أو نفورا - يرجع إلى المادة ذاتها؛ أعني إلى نماذج الشخصيات أو الطباع التي تتمثل أمام أعيننا وهي تفيض بالحيوية وتضطرب وتتعثر تحت ثقل الهموم والمشكلات، أو تختال وتتبختر مزهوة بنفسها وحظها وكأنها مخلدة، أو تمشي بطيئة محنية الظهور تحت وطأة الطبيعة الموروثة التي تقهرها قهر القدر «الإغريقي» المتهجم كأنها دمى عاجزة سلبت منها الإرادة والعقل بعدما حرمت من التربية والصقل.
وليس غريبا بعد هذا - كما سبق القول - أن يجد القارئ المعاصر في هذه النماذج والأنماط مرايا تعكس بعض معارفه وأصدقائه وأهله، وليس عجيبا أن يصل به الأمر إلى حد أن يجد فيه نفسه أو جزءا من أجزائها على الأقل (إذا أخذنا بالمفهوم السائد في ذلك الحين ومنذ أفلاطون عن أجزاء النفس وقواها، لا بالمفاهيم الحديثة عن النفوس المتصارعة في داخلنا. تذكر فاوست وفرويد والمواكب المتلاحقة لعلماء النفس والطب العقلي). ولا يستبعد أيضا أن يلاحظ التناظر الشديد بين بعض هذه الطباع - حتى في حركاتهم وإيماءاتهم وتعبيراتهم ولازماتهم اللغوية ... إلخ - وبين بعض المحيطين به إلى الحد الذي ينسيه الهاوية الزمنية التي تفصله عنها، وتبلغ كما أشرنا مرارا ما يزيد على الألفين وثلاثمائة عام (من حسابنا البشري للحاضر الأبدي الممتد الذي يتحدى حدودنا الهشة وتقسيماتنا العاجزة). ولا يتصور القارئ أنني أجره إلى أوهامي وأحلام يقظتي؛ لأنه لن يكون أول من مر بهذه التجربة ورأى نفسه وناس عصره في «الطباع»؛ يكفي القول بأن أحد الرهبان في العصر الوسيط قد تعرف - أثناء قيامه بنسخ الكتاب - على بعض زملائه الذين يعيشون معه في الدير من خلال عدد من أصحاب الطباع، وأنه قد استبدل - سهوا أو عمدا لا ندري! - بكلمة «الورش» أو «المصانع الصغيرة» التي وردت في بعض اللوحات كلمة «الأديرة».
19
وهذا شبيه بما صنعه مترجم الكتاب إلى الفرنسية (1688)، وهو لابرويير (1640-1696)، الذي لم يكتف بترجمة الأصل - ترجمة فقيرة وغير دقيقة! - وإنما أسقط شخصياته وطباعه على شخصيات عصره وبلده التي لم يرحمها قلمه الساخر سخرية مرة.
هل نستدل من هذا - كما سبق أن فعلنا - على الجانب «الثابت» من الطبيعة الإنسانية؟ وهل يوافقنا أحد اليوم على هذا التعميم عن طبيعة إنسانية أو عن «ثبات» التغير والتحول المستمر في كل شيء؟ الواقع أن الذي نقصده أبسط من ذلك بكثير؛ فالوحدة التي نتحدث عنها بين أبناء البشر لا تتجلى فحسب في اشتراكهم في الآمال والأحلام والمخاوف والآلام، وإنما تؤكد نفسها قبل ذلك في أخطائهم الصغيرة وجوانب ضعفهم الكثيرة، وتعثر خطواتهم على طرق طموحهم الذي يفلت عادة من كل الحدود. ذلك فيما أظن هو الجانب الذي يمكن القول بأنه مشترك بين البشر، أو أنه يوحد بينهم على الرغم من بعد الشقة بينهم في المكان والزمان واللغات والأديان والألوان. وهذا الجانب المشترك هو الذي عجزت أساليب التربية في أيام ثيوفراسط أن تغير منه شيئا. ولعل ذلك العجز كان أحد الأسباب التي حفزت فيلسوفنا الأديب على تقديم «شواهده» على سوء التربية والتعليم وفساد الطباع والأخلاق - ترى، ماذا كان يمكن أن يفعل لو عايش أو حتى سمع عن «مافيا» التعليم الفاسد عندنا، وقبح بعض «المعلمين» الذين حولوا العلم إلى سمسرة حقيرة وتجارة رخيصة وإرهاق وحشي للتلاميذ المساكين ولآبائهم المظاليم؟! - وهل يعزينا قليلا أن نعاين نفس الوجوه القبيحة قبل ثلاثة وعشرين قرنا، وإن كان قبح الوجوه المعاصرة أشد ضراوة وخبثا وبشاعة مما كانت عليه الطباع القديمة، التي تبدو بالقياس إليها كالأطفال السذج المساكين أمام عمالقة الشر والغدر ووحوش الجشع والأنانية والانتهازية المفترسين؟! (11)
ونصل إلى تأثير «الطباع» على العصور والكتاب والقراء، فنجد أنه يحقق المقولة التي يبدئ فيها النقد الحديث ويعيد من أن العمل الواحد تختلف تفسيراته باختلاف القراء الذين يتلقونه، و«يبدعه» كل واحد منهم على طريقته أو على الأقل يشارك في إبداعه؛ فقد تراوح «التلقي» للكتيب الذهبي بين التحمس له والإضافة إليه من فرط الإعجاب به، وبين إهماله والسكوت عنه طوال عصر أو قرن كامل.
وكما شعر كل عصر - وربما كل قارئ! - بأن «الطباع» يخاطبه من زاوية معينة، فكذلك وضع فيه كل عصر أو قرأ فيه مشاعره وأفكاره وهمومه.
بدأت رحلة التأثر من أيام ثيوفراسط نفسه التي ازدهرت فيها الكوميديا الجديدة على يد تلميذه النابغة «ميناندر» الذي استفاد أكبر الفائدة من فكرة «ثبات» الطبع واستحالة تغييره، وقد تأكد هذا بعد العثور على مسرحيته «الديسكولوس» التي ألقت الضوء على تغلغل هذه الفكرة وغيرها في مسرحه.
ومن الكوميديا الجديدة امتدت خيوط التأثير على كتاب الكوميديا الرومان، وبالأخص بلاوتوس وتيرينس اللذين «اقتبسا» (بالمعنى الشائع اليوم في حياتنا المصرية والعربية!) أعمال ميناندر إلى حد النقل الحرفي الذي سماه النقاد بعد ذلك «إعادة إبداع» أو محاكاة خلاقة.
وعندما بدأت الفلسفة تتحول منذ النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد - كما يقول برتراند راسل في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية - إلى عربة إسعاف، وأدركت أن واجبها ومهمتها الملحة (في زمن الكساد والبؤس والأوبئة والصراعات بين خلفاء الإسكندر وضياع استقلال المدن والأفراد ... إلخ) هي هداية النفوس إلى طريق الحياة السعيدة، وشفاؤها من الرذيلة والخطأ والضعف التي كان الناس يعتبرونها من أمراض النفس التي لا يشفيها إلا الفيلسوف! ازدهرت المدارس والأفكار والكتابات الأخلاقية، سواء من جانب الأبيتوريين والرواقيين أو من الأكاديميين (نسبة إلى أكاديمية أفلاطون التي غلبت عليها المذاهب الشكية منذ ذلك الحين) أو المشائين أنفسهم.
وأصبحت «الطباع» هي النموذج والمثل الأعلى من ناحية الشكل والمضمون لكل من يكتب عن الأخلاق السائدة، ويستعين بلوحاتها أو «بورتريهاتها» في تشخيص أمراض العصر. وعلى هذه الصورة فهمت «الطباع» في مدرسة ثيوفراسط نفسه، كما تدل على ذلك بعض كتابات تلميذيه ليكون
20
وأرستون الكيوسي.
21
ومن هذين اتصلت بعض خيوط التأثير المباشرة أو غير المباشرة إلى الفيلسوف الأبيقوري فيلوديم،
22
والفيلسوف والكاتب الرواقي سينيكا.
23
ومن هنا أيضا تسللت بعض الخيوط إلى أدب السخرية والهجاء عند الرومان (راجع، على سبيل المثال، الثرثار ضمن هجائيات هوراس التي تميزت ببراعة رسم الشخصيات والمواقف وقوة الملاحظة؛ الثرثرات 1-9). وفي أواخر العصر القديم اتجهت الأنظار إلى «الطباع» بوصفه كتابا في الأخلاق يمكن أن يشفي الناس من الرذائل ويجنبهم الوقوع في الزلل. وتدخلت فيه بعض الأقلام، فمهدت له بمقدمة وألحقت به بعض التعليقات الأخلاقية. ثم ضم الكتاب بعد ذلك بقليل إلى مجموعة الكتابات والشروح المدرسية في الخطابة والبلاغة، وتركز الاهتمام على المادة التي يحتويها، كما اعتبر نموذجا يحتذى في رسم الشخصيات.
وامتد هذا الاهتمام إلى أواخر العصر البيزنطي، فأقبل القراء على الاطلاع عليه في شغف شديد. يشهد على ذلك العديد من مخطوطاته التي وصلتنا من ذلك العصر، بالإضافة إلى «مقتطفات ميونخ» التي تحوي إحدى وعشرين لوحة من لوحاته (من المتملق إلى الطموح)، وإلى الجهود التي بذلها ماكسيموس بلانوديس لإصلاح النص الذي أصابه التشوه الشديد.
ولم يعرف كتاب الطباع في العرب إلا في أوائل عصر النهضة عندما ترجمه «لابودا كاستيليونكيو» (1430) إلى اللاتينية، وتمت مراجعة الترجمة بعد ذلك أكثر من مرة. وأخيرا طبع الكتاب (من اللوحة الأولى إلى الخامسة عشر) وظهر سنة 1527 في مدينة نورنبرج. وقد ارتبط ظهور هذه الطبعة بأسماء بعض أعلام عصر النهضة (مثل فيليبالد بيركهيمر 1470-1530 من رواد النزعة الإنسانية، وكان له الفضل في الحصول على مخطوطة الكتاب من بيكوديلا ميراندولا،
24
وفي إعداده للنشر وإهدائه إلى فنان عصر النهضة الكبير ألبرشت دور)، غير أن الكتاب لم يعرف على نطاق واسع إلا بفضل الشروح الدقيقة التي أضافها إسحق كازاوبونوس إلى طبعته التي صدرت في لندن سنة 1592 وأعيد نشرها بعد ذلك مرات عديدة.
والظاهر أن هذه الشروح ظهرت في وقتها المناسب؛ فقد تزايد الاهتمام في أوروبا بأخلاق البشر وطباعهم، وصحا الوعي صحوة جديدة على الخصائص التي يتفرد بها كل واحد منهم، وعلى جوانب الضعف والنقص التي تعتريهم، وأصبح النقد الاجتماعي مطلبا ملحا عند الجميع، ووصل الشغف بمعرفة طباع الناس وتحديد سماتهم الأخلاقية إلى الحد الذي غدا معه رسم اللوحات (أو البورتريهات) لعبة اجتماعية يشارك فيها العلماء وغير العلماء. ولقي «الكتيب الذهبي» في أوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر من الحماس والانتشار ما فاق كل تصور، وانعكس كذلك على بعض الأعمال المتميزة؛ ففي إنجلترا انهمرت الكتابات الأدبية المختلفة عن الطباع في القرن السابع عشر إلى الحد الذي يمكن معه القول بأن أصحابها استطاعوا أن يؤسسوا نوعا أدبيا خاصا بها. ويكفي أن نذكر أسماء بعض هؤلاء الكتاب الذين أوشك عددهم أن يفوق الحصر: جوزيف هال، وجون ستيفنز، وسير توماس أوفربري، ونيوكلاس بريتون، وبن جونسون، وجون إيرل، وتوماس فلر، وصمويل بتلر.
25
واستجابت بعض الصحف الأسبوعية في بداية القرن الثامن عشر لعطش القراء لهذا النوع المحبوب من الكتابة، فخصصت التاتلر والإسبيكتاتور والجارديان
26
صفحات منها لوصف الطباع ورسم الشخصيات (وربما بدأت من هنا رحلة هذا الفن البديع الذي نسميه فن الكاريكاتير).
27
وفي فرنسا تفوق جان دولا برويير (1645-1696) الذي سبق ذكر ترجمته للطباع في سنة 1688 وإضافاته إليها من واقع ملاحظاته الحادة لشخصيات عصره والمدينة التي كان يعمل بها (وهي كايين). ويكفي للتعبير عن الترحيب الذي لقيه هذا الكتاب أن تسعين كتابا آخر ظهر في فرنسا وحدها بين عامي 1688 و1917 تقليدا له ونسجا على منواله. واخترقت موجة التقليد حدود إنجلترا وألمانيا، فصدر كتاب ثيوفراسط الإنجليزي لمؤلفه «بوير» سنة 1692، كما قلدته في ألمانيا هجائيات مختلفة وضعها ج. و. رابينر (1716-1771) لينتقد فيها مظاهر الشطط والبذخ والادعاء لدى بعض شخصيات عصره، وكذلك بعض أعمال كرستيان جيللرت (1715-1769) التعليمية والوعظية التي اشتهر بها، كالمحاضرات الأخلاقية (1770)، والقصص والحكايات الخرافية على لسان الحيوان (1746). ويصعب متابعة جميع الأعمال التي حاكت كتاب ثيوفراسط في شكله ومادته محاكاة مباشرة أو غير مباشرة؛ لأن معظم هذه الأعمال مزيج من التقليد والأصالة، وفيها تنويعات وإضافات «وإسقاطات» من وحي العصر تجعلها خليطا غريبا من النقد الاجتماعي والوعظ والإرشاد الديني والأخلاقي والهجاء الكاريكاتيري، بحيث يمكن أن تعد مساهمة مبكرة فيما سمي بعد ذلك بعلم الطباع.
28
لكن الحظ لم يحالف الكتاب في رحلته الطويلة على الدوام؛ فقد بدأ اهتمام القارئ العام بالأصل والنسخ المقلدة أو الأصلية في التراجع الشديد منذ أوائل القرن التاسع عشر، وحل عالم اللغويات والمؤرخ والناقد الأدبي والاجتماعي ومحقق النصوص المخطوطة ... إلخ محل الأديب والقارئ العادي؛ وذلك لإضاءة النص وتحديد قيمته ومكانه من «نسق» ثيوفراسط الفلسفي الذي ما يزال العلماء عاكفين على بلورته والتغلب على صعوباته ومشكلاته. وزحفت موجات النقد الاجتماعي فأيقظت الاهتمام به عند بعض أدباء العصر الحاضر، مثل إلياس كانيتي على سبيل المثال في كتابه البديع الذي جمع فيه خمسين طبعا أو شخصية تحت هذا العنوان: «شاهد الأذنين». ولست أدري إن كان أديبنا العظيم نجيب محفوظ في «مراياه» قد استلهم هذا الكتاب العجيب أو لم يستلهمه؛ فالمهم أنه قدم فيه لوحات رائعة رصدها خياله الخصب وقلمه الفياض من واقع الحياة والناس من حوله، وأضافها إلى رصيد متحفه الرائع من الطباع والشخصيات شديدة التنوع والحيوية والتأثير. (12)
استبعدنا على الصفحات السابقة أن يكون «الطباع» كتابا أو جزءا من كتاب في الأخلاق. وإذا كنا قد توقفنا قليلا عند كتب ثيوفراسط الأخرى وفلسفته الأخلاقية وجهوده في كل ميادين «العلم» المعروفة في عصره، فقد حاولنا من وراء ذلك أن نضع الكتاب في السياق العام لتفكير صاحبه وحياته وظروف عصره المضطرب؛ لأن الكتاب في نهاية الأمر قد خطه قلم فيلسوف.
ونسأل أنفسنا الآن عن حقيقة هذا الكتاب وطبيعته بعد أن عرضنا باختصار لتأثيراته عبر العصور التي قرأته قراءات مختلفة.
يؤكد الأستاذ «فيلاكوت» مترجم الكتاب إلى الإنجليزية
29
أن الكتاب لم يقصد به على الإطلاق أن يكون عملا أدبيا مستقلا. ويعلل ذلك بجفاف لغته واطراد أسلوبه على نمط (متكرر) لا تنوع فيه، وخلوه من الرشاقة والجمال وروعة البيان التي اشتهرت عن صاحبه في العصور اليونانية والرومانية القديمة، وأشاد بها شيشرون على وجه الخصوص. وإذا كان قد أثر على الأدب الأوروبي الحديث، وساعد على خلق نوع أدبي بأكمله للكتابة عن الطباع، فلا يزال الغرض من تأليفه غير واضح، على الرغم من التسليم بأنه كتاب فريد ولا نظير له في العالم القديم.
ويرجح المترجم الإنجليزي أن الكتاب كان «ملحقا توضيحيا» لكتاب لم يصلنا عن فن كتابة الكوميديا.
30
وهو يوضح هذا بقوله إن كوميديا ميناندر (343-291ق.م.) - وهو لا يذكر ثيوفراسط إلا ويذكره معه في نفس واحد! - كانت تفصلها في ذلك الحين عن كوميديا أرسطوفان فجوة زمنية واسعة تقدر بثلاثة أجيال، وإن الناس في تلك الفترة المتأخرة كانوا مشغولين بالتفكير في طبيعة الكوميديا، ويحتمل أن تجاربهم في هذا الصدد لم تؤد بهم إلى شيء حتى بزغت الكوميديا «الواقعية» الجديدة على يد تلميذ ثيوفراسط الرائع. ولما كان كلاهما قد سجل بقلمه الكثير من ملامح الحياة اليومية وعادات الناس في أواخر القرن الرابع؛ بدليل أننا نجد أن بعض ما رصده ثيوفراسط من قسمات شخصياته وطباعها قد أخذه ميناندر بنصه تقريبا في عدد من مسرحياته وفي تصرفاته وعادات بعض شخصياته (مثل عادة «السلف» التي لا ترحم شيئا، من الملابس إلى الشعير والدقيق إلى أدوات الطبخ). وهذا كله يرجح عنده (أي عند المترجم الإنجليزي) وجود علاقة قوية بين طباع ثيوفراسط وكوميديا تلميذه الذي يستبعد تماما ألا يكون قد اطلع عليها وتأثر بها تأثره بأستاذه و«أحاديثه» الإلهية كما وصفها أرسطو على نحو ما عرفنا من قبل، بل إنه ليرجح أيضا وجود علاقة قوية بين «الطباع» وبين أرسطوفان (من حوالي 445 إلى حوالي 386ق.م.)، فهل يمكن القول إن ثيوفراسط قد تأثر بشكل من الأشكال بسيد الكوميديا القديمة أثناء رسمه ل «طباعه»؛ ومن ثم انتقل هذا التأثر إلى تلميذه الذي كان أكثر توازنا وواقعية من أرسطوفان، كما أن شخصيات ميناندر - على خلاف شخصيات ثيوفراسط النمطية التي يخيم على أغلبها الاطراد والملل والتزمت! - شخصيات فردية متفجرة بالحيوية والتنوع والتناقض أيضا؛ لأنها ببساطة أكثر إنسانية وأكثر فنية؟ ومما يقوي من علاقة الارتباط الوثيق بين «الطباع» وكوميديات ميناندر أن كليهما قد كتب أعماله إبان الفترة المضطربة التي جاءت بعد ضم المقدونيين - على عهد فيليب والد الإسكندر - لبلاد اليونان بأكملها، أي بعد سنة 338ق.م.؛ فقد انصرف الناس في الطباع وفي الكوميديات إلى حياتهم اليومية ومشاغلها ومشكلاتها الآنية من تسوق وبيع وشراء وثرثرة ورفع دعاوى قضائية وزواج وحب وشجار وترويج إشاعات (انظر على سبيل المثال اللوحة الثامنة عن مروج الإشاعات التي تعكس بعض أحداث العصر وصراعاته). وليس عجيبا بعد ذلك أن يصور الكاتبان أو يسجلا كل منهما على طريقته تلك الحياة العادية التافهة التي لا تخلو بطبيعة الحال من التنوع والحيوية. وهي حياة يعيشها أحفاد الأثينيين الذين عاصروا يوريبيدز وأرسطوفان، كما عاصروا المعارك الضاربة بين أثينا وإسبرطة خلال الحرب البيلوبينيزية الطويلة التي انتهت سنة 404ق.م. بهزيمة أثينا وإذلالها. ربما لم يكن الأحفاد أسوأ من أجدادهم، ولكن الصراع والتضحية في سبيل الحرية أو في سبيل مجد أثينا كان قد أصبح جزءا من الماضي ولم يبق لهم فرصة للبطولة، ولا بقيت فرصة للتراجيديا (المأساة) إلا بعرض المآسي القديمة على خشبة المسرح؛ ومن ثم شجع كل شيء على ازدهار الكوميديا الجديدة التي اهتمت بتصوير عواطفهم ومشاكلهم في البيت والشارع، وحياتهم مع زوجاتهم وعلاقتهم بأصدقائهم وجيرانهم وعبيدهم وعشيقاتهم، وأحلامهم في الثراء والسلطة، وتطلعاتهم وهمومهم وصغائرهم. وهذا على وجه الدقة هو الذي فعله ثيوفراسط وتلميذه ميناندر - كل على طريقته كما سبق القول - أولهما في «طباعه» وفي فلسفته الأخلاقية التي ورث الكثير منها بغير شك عن المعلم الأول، والثاني بالأسلوب المتفجر بالحيوية والحوار الشيق الممتع والشخصيات العادية والمتفردة في آن واحد. ولا شك أيضا أن البحث الطويل منذ سقراط وأفلاطون على الأقل وحتى أرسطو وثيوفراسط - عن ماهية القيم المختلفة ومعايير السلوك الصحيح والتمييز بين الأنماط المختلفة للعدالة والخير والشر والصواب والخطأ ... إلخ في الكتابات الفلسفية قد انعكست بصورة حية على كوميديات ميناندر، وهو ما يحتاج إلى بحوث مستقلة لتوضيحه بشيء من التفصيل (يكفي أن نذكر هنا قول الشاب كاريزيوس في مسرحية التحكيم أنه تلميذ درس الأخلاق، أو خواطر أونيزيموس - العبد الذي يعمل في خدمته - عن نظريته في الأخلاق).
31
وليت هذا وغيره يعلمنا الاهتمام بالأساس الفلسفي الظاهر أو الكامن للأعمال الأدبية التي تستحق هذه التسمية. (13)
ويتشكك المترجم الإنجليزي أيضا في أصالة التعريفات التي يبدأ بها مؤلف الطباع وصف سمات كل صاحب طبع يقدمه، ومن رأيه - الذي ينقله عن الأستاذ ج. أوشر في كتابه عن طباع ثيوفراسط، 1960،
32
ويناقش في مقدمته مختلف الاحتمالات عن أصل الكتاب - أن مجهولا قد أضافها من عنده لظنه أن الطباع كتاب في الأخلاق، ولم يخطر على باله أن أمثال هذه التعريفات ليس لها مكان في كتاب عن فن الكوميديا (إذا صح الفرض الذي ذكرناه قبل قليل)، وأنها لا تضيف شيئا إلى الأوصاف التي يوردها الكتاب عن كل طبع على حدة.
ولم يقتصر الأمر على دس هذه التعريفات على الكتاب، فالمقدمة المنحولة التي نقلناها عن الترجمة الإنجليزية تجعلنا نتحسر على ضياع نصف الكتاب الذي تطفلت عليه أياد وأقلام كثيرة من العصر القديم والعصر البيزنطي كما رأينا من قبل. لقد كان الكتاب الأصلي - إذا صدقنا كاتب المقدمة المنحولة - يحتوي بجانب الطباع السيئة على مجموعة مساوية من الطباع الخيرة. وهذا احتمال وارد لا أريد ولا أستطيع أن أنفيه؛ إذ لا يعقل أن يكون الفيلسوف العاقل الطيب قد اكتفى بعرض الشخصيات الشاذة والطباع السيئة على قارئه العام الذي أراد أن يمتعه ويسليه، وأن يكون قد أغفل أضدادها الذين لا شك في وجودهم في كل عصر على الرغم من طغيان الأشرار والمجرمين على الأخيار والطيبين. وهل كان الناس في زمنه المضطرب المنغص بالصراعات الدموية والمجاعات والأوبئة - كما ذكرنا آنفا - ينقصهم المزيد من الهم والنكد فوق ما هم فيه؟
إن الحسرة على ضياع هذا القسم المفقود من الكتاب لا تقل في تقديري عن الحسرة التي لا تنقضي على ضياع الجزء الخاص بالكوميديا من كتاب الشعر لأرسطو. هل تستحق الابتسامة والضحكة والفرحة أن تعلن عليها كل هذه الحروب الشعواء على مر العصور؟! (14)
وأخيرا فقد اعتمدت على الترجمة الألمانية للنص، واستعنت بالترجمة الإنجليزية التي لم تخل من التصرف، ورجعت بقدر ما وسعتني الطاقة إلى الأصل اليوناني للتثبت من الفروق بين الترجمتين المذكورتين في الهوامش السابقة. وقد حاولت أن أقدم للقارئ العربي نصا مقروءا وممتعا بقدر الإمكان، وزودته بالهوامش والشروح التي استفدت فيها فائدة لا تقدر من شروح المترجم الألماني وتعليقاته، ومن التعقيب الشامل والعميق للأستاذ بيتر شتاينمتز، وكذلك في المقدمة القيمة والمكثفة للمترجم الإنجليزي الذي نشر الطباع مع الشذرات الباقية من مسرحيات ميناندر في كتاب واحد. وأملي أن يستمتع القارئ العربي بهذا النص الفريد، ويتعاطف مع شخصياته الحية، ويعايش تجاربها وأحزانها وأفراحها ومشكلاتها وجوانب ضعفها وعجزها أو غرورها وطموحها، بحيث يبتسم ويتعجب ويتلفت حوله أيضا. ومن يدري؟ ربما استطاع الكتاب أن يلهم كاتب الكوميديا عندنا فيقرأ بالإضافة إليه كوميديات ميناندر، ويبذل جهده لإبداع كوميديا راقية وصافية وعميقة الإنسانية، بدلا من سيول الفجاجة والبذاءة التي تغرقنا بها المسارح التجارية وأجهزة الإعلام البشع كما أغرق الطوفان قوم نوح.
أشكره سبحانه على توفيقه، وأسأله المغفرة والصفح عن الخطأ والسهو والتقصير، إليه وحده ألجأ، وإليه المصير.
القاهرة، يوليو، 1998
عبد الغفار مكاوي
المقدمة المنحولة1
عزيزي بوليكليس!
لقد طالما تعجبت، كلما تفكرت في هذا الأمر - ولعلي لن أكف أبدا عن التعجب - لماذا لا يكون لنا نحن الإغريق نفس الطبع، مع أننا نعيش في بلد ذات مناخ واحد، ونتلقى جميعا نفس التعليم؟ لقد عكفت على دراسة الطبيعة البشرية زمنا طويلا، وبلغت الآن من العمر تسعة وتسعين عاما، وفضلا عن ذلك فقد اختلطت بكثير من الناس من جميع الجنسيات، وقارنت مقارنة دقيقة بين الطباع الخيرة والطباع السيئة؛ ولهذا السبب شعرت أن من واجبي أن أسجل العادات المختلفة للحياة كما يعرضها أصحاب هذين النوعين من الطباع. وسوف أضع أمامك، واحدا بعد الآخر، جميع الأنماط المتنوعة التي ينقسم إليها الرجال، وأبين كيف يدبرون شئونهم؛ ذلك لأني أعتقد، يا عزيز بوليكليس، أن أبناءنا سيكونون رجالا أفضل لأننا تركنا لهم مثل هذه الدروس العينية التي يمكنهم أن يتدارسوها كنماذج، والتي ستعلمهم أن يختاروا صحبة ذوي المبادئ السامية والتحدث معهم، كما تعلمهم ألا يهبطوا عن مستواهم. سأرجع الآن إلى موضوعي، وعليك أن تتابع حجتي وتحكم بنفسك إن كنت محقا في رأيي. سوف أستغني عن التقديم والتمهيد، وسوف أبدأ بالرياء، وبأولئك الذين يجعلون من الرياء هدفهم وغايتهم، وسوف أقدم تعريفا له، ثم أصف المرائي، مبينا نوع شخصيته ونوع الحياة التي تفرضها عليه طبيعته، وفي النهاية سأحاول أن أوضح ظروف الأنماط الأخرى واحدا واحدا، وذلك على نحو ما فعلت في البداية.
الفصل الأول
المرائي
(1)
قد يكون الرياء، بحسب تعريفه، هو تكلف تفسير سلبي للأعمال والأقوال بما يجعلها أسوأ (مما هي عليه). أما المرائي فهو ذلك الذي: (2)
اعتاد أن يلتقي بأعدائه ويثرثر معهم دون أن يظهر كراهيته لهم. إنه يمتدح وجها لوجه أولئك الناس الذين اغتابهم من وراء ظهورهم، كما يبدي تعاطفه معهم عندما يلم بهم سوء الحظ ويخسرون قضية في المحكمة. وهو يتسامح مع الذين يتكلمون عنه بالسوء، بجانب تجاوزه عما يقال ضده. (3)
وهو يتلطف في كلامه مع أولئك الذين يعانون الظلم ويشعرون بالسخط عليه. وإذا أراد أحد الناس أن يتكلم معه على وجه السرعة، طلب منه أن يرجع إليه مرة أخرى. (4)
وهو لا يصرح أبدا بشيء عن أي شيء يشغله، وإنما يقول إنه ما يزال يفكر في الأمر، كما يدعي أنه قد «وصل على الفور» أو «تأخر كثيرا » أو «كان مريضا». (5)
وهو يجيب من يسألونه قرضا أو معونة بقوله إنه ليس غنيا، وإذا باع «شيئا» مما لديه قال إنه لا يبيع، وإذا لم يكن يبيع شيئا بالفعل قال إنه يبيع. وإذا سمع شيئا ادعى أنه لم يسمع، وإذا رأى شيئا أنكر أنه رأى، وبعد أن يصدق على شيء (أو يقر به) يقول إنه لا يتذكر ذلك. مرة يقول إنه سوف يفكر، ومرة أخرى إنه لا يعلم، وحينا يزعم أن الأمر يدهشه، وحينا آخر أنه سبق له التوصل إلى نفس الفكرة. (6)
ومن دأبه على العموم أن يستخدم أمثال هذه العبارات: «لا أعتقد هذا»، «لا أفهم»، «هذه مفاجأة لي»، أو «إنك تقول عنه إنه تغير»، و«ليست هذه هي القصة التي رواها لي»، و«لا أظن أن الموضوع كله غير معقول»، «قل هذا لشخص آخر»، «لا أدري إن كان علي أن أكذبك أم أن أدينه (وأتهمه بالوقوع في الخطأ)» أو «المهم أن تكون حريصا ولا تتسرع بتصديق ذلك».
الفصل الثاني
المتملق
(1)
يفهم من التملق أنه في حد ذاته تصرف مشين، ولكنه يعود بالنفع على المتملق. أما المتملق (نفسه) فهو ذلك الشخص الذي: (2)
يصحب إنسانا (أثناء سيره) ويقول: «هل تلاحظ كيف يتطلع الناس إليك؟ إن هذا لا يحدث لأحد غيرك في المدينة. لقد أثنوا عليك بالأمس في القاعة.» إذ تجمع هناك أكثر من ثلاثين شخصا، وتطرق الحديث بينهم إلى السؤال عن أفضل المواطنين، فأجمع الكل منذ البداية «عليه» و«على اسمه». (3)
ومع استطراده في هذا الكلام يلتقط خيطا (لمحه) على ثوب «الآخر»، أو ينتزع قشة ألقتها الريح في شعره بينما يقول ضاحكا: «لأني لم أرك لمدة يومين امتلأت ذقنك بالشعر الأبيض، ومع ذلك فما زلت بالرغم من سنك تفوق أي شخص آخر في الاحتفاظ بالشعر الأسود.» (4)
وعندما يقول «هو» شيئا، فإنه يأمر الآخرين بأن يسكتوا، ويقرظه ويثني عليه عندما «يلاحظ» «أنه» يسمعه، ويعقب بقوله «هذا صحيح» عندما ينهي كلامه، ويضحك على مزحة باردة (أو هزيلة) يطلقها ويحشر طرف ثوبه في فمه ، وكأنه لا يستطيع أن يمسك نفسه من الضحك. (5)
ويطلب من المارة أن ينتظروا حتى يعبر «هو» الطريق. (6)
ويشتري التفاح والكمثرى للأطفال ويأخذها معه، ويهديها لهم عندما يرى «هو» ذلك، ثم يقبلهم قائلا: «أبوكم رائع يا صغار.» (7)
وحين يصحبه لشراء أحذية يقول إن «قدمه» أبدع من الحذاء. (8)
وإذا ذهب «هو» لزيارة بعض أصدقائه سبقه إليهم وقال (للواحد منهم): «إنه قادم لزيارتك.» ثم يستدير إليه قائلا: «لقد بلغتك!» (9)
ومن عادته بطبيعة الحال أن يذهب إلى سوق النساء - ليتسوق من هناك - وهو لاهث الأنفاس. (10)
وعندما يحضر مأدبة غداء (أو عشاء) يكون أول من يثني على النبيذ، ويظل يردد باستمرار: «ما ألذ طعامك!» ثم يقول وهو يلتقط شيئا من المائدة: «ما أطيب هذا!» كذلك يسأله (أي يسأل صديقه أو سيده) إن كان يشعر بالبرد، وهل يحب أن يضع عليه شيئا ويلفه بغطاء. وفي أثناء ذلك ينحني عليه ويهمس بشيء في أذنه، كما يحرص على التطلع «إليه» أثناء انشغاله بالكلام مع ضيوفه. (11)
وفي المسرح يأخذ المساند من الخادم ويرتبها بنفسه (على المقعد الذي سيجلس عليه). (12)
ويقول إن «بيته» مبني بناء جميلا، و«حقله» منسق الزرع، وصورته ناطقة بالحياة (وطبق الأصل).
الفصل الثالث
كثير الكلام
(1)
كثرة الكلام هي (الإمعان في) سرد أقوال (وأحاديث) مطولة وخالية من التدبر. أما كثير الكلام فهو ذلك الذي: (2)
يقترب من شخص لا يعرفه، ويبدأ (الحديث معه) بإنشاد قصيدة مدح في زوجته الخاصة، ثم يروي قصة الحلم الذي رآه في الليلة السابقة، ويستطرد في وصف تفصيلي للطعام الذي تناوله (في العشاء). (3)
وبعد ذلك يلاحظ وهو يسارع بالتدريج من إيقاع «كلامه»، أن الناس اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه القدماء، وأن سعر القمح رخيص جدا في السوق، وأن عدد الأجانب قد ازداد في المدينة (أي في أثينا)، وأن البحر منذ انتهاء الأعياد الديونيزية أصبح صالحا لإبحار «السفن»، وأنه لو تلطف زيوس بإرسال المزيد من المطر لتحسن الحصاد (وتحسنت أحوال الفلاحين ). ويضيف أنه سوف يزرع حقلا في العام المقبل، وأن الحياة أصبحت صعبة، وأن «داميبوس» قد أوقد أضخم شعلة في احتفالات الأسرار، وأن عدد الأعمدة في «الأوديون» يبلغ كذا وكذا عمودا، و«كنت أمس مريضا جدا وتقيأت»، و«أي يوم من أيام الشهر هو هذا اليوم؟» (ويواصل كلامه قائلا) إن «موعد» احتفالات الأسرار يحين في شهر سبتمبر، و«الأباتوريات» في أكتوبر، وأعياد ديونيزيوس الريفية في ديسمبر. وإذا صبر عليه أحد، فلن يتوقف أبدا (ولن يتركه ينصرف لحاله).
الفصل الرابع
الريفي
(1)
يمكن النظر إلى السلوك الريفي بوصفه نوعا من الجهل غير المهذب. أما الريفي فهو ذلك الذي: (2)
يشرب «الكيكيون» ثم يذهب إلى المجلس «الشعبي». (3)
ويؤكد أن رائحة «المر» ليست أذكى من رائحة الصعتر. (4)
ويلبس أحذية أوسع بكثير من قدميه. (5)
وإذا تكلم راح يجأر حوله بصوت عال. (6)
ويسيء الظن بأصدقائه وأقاربه، ولكنه يطلع الخدم على أهم أخباره، ويقص على الأجراء الذين يعملون في حقله كل ما جرى في المجلس الشعبي. (7)
ويجلس هناك مشمرا ثوبه حتى الركبة، بحيث يعرض عريه على الناظرين. (8)
وهو في العادة يتابع سيره في الطريق دون توقف؛ إذ لا يثير دهشته (أو اهتمامه) شيء، حتى إذا رأى ثورا أو حمارا أو كبشا، توقف في مكانه وأخذ ينظر إليه. (9)
ومن عادته (أيضا) أن يأخذ شيئا من غرفة الطعام فيقضمه (أو يبتلعه) على الفور ثم يتجرع قدرا وفيرا من النبيذ القوي. (10)
وهو يلاحق الخبازة خفية، ثم يساعدها في طحن الحبوب للبيت كله ولنفسه أيضا. (11)
ويلقي العلف للبهائم أثناء تناول فطوره. (12)
ويفتح بنفسه الباب، وينادي على كلبه، ويمسكه من خطمه وهو يقول: هذا هو حارس الحوش والبيت. (13)
وإذا رد إليه أحد الناس «مبلغا من» المال، رفض أن يأخذه منه بحجة أنه «رث» وماسح، وطلب تغييره على الفور. (14)
وإذا أعار أحدا محراثا أو سلة أو منجلا أو جوالا، طالب ب «استردادها» في نفس الليلة، وذلك إذا خطر له ذلك في لحظة أرق. (15)
وإذا نزل المدينة سأل أي إنسان يقابله عن سعر اللحم والسمك المدخن ، واستفسر منه عن الاحتفال بالبدر الجديد، وهل سيحل موعده اليوم، ثم يضيف على الفور أنه ينوي أن يحلق شعره، وأن يدخل الحمام ويغني فيه، وأن يمسمر كعب صندله ويمر في طريقه على أرخياس ويطلب منه سمكا مملحا.
الفصل الخامس
المجامل
(1)
يمكن تعريف «التلهف على» المجاملة بأنه شكل من أشكال التعامل الذي يقصد به جلب السرور، وإن كان لا يترك انطباعا حسنا «عن صاحبه». أما «المتلهف» على المجاملة فهو ذلك: (2)
الذي يحيي إنسانا من بعيد، يدعوه «أفضل الناس»، ويعبر عن إعجابه الشديد به. إنه يمسكه بكلتا يديه ولا يريد أن يتركه (ليمضي في حاله)، وبعد أن يصحبه على الطريق قليلا يسأله متى سيراه في المرة القادمة، ثم يبتعد وهو يردد عليه «عبارات الثناء» والمجاملة. (3)
وإذا دعي للتحكيم (في إحدى القضايا)، فإنه لا يكتفي بإرضاء الطرف الذي يقف في صفه، وإنما يحرص أيضا «على إرضاء» خصمه حتى يبدو في موقف الحياد. (4) «وإذا ثار خلاف بين الأجانب والأثينيين» قال إن الأجانب أعدل حكما من مواطنيه. (5)
وإذا دعي لمأدبة طعام طلب من مضيفه أن يستدعي أطفاله، فإذا دخلوا قال إنهم يشبهون أباهم أكثر مما تشبه التينة تينة أخرى، ثم يجذب بعضهم إليه ويقبلهم ويجلسهم بجواره ويلعب معهم لعبة «الخرطوم والبلطة»، أما البعض الآخر فيتركهم ينامون على بطنه؛ مما يضايقه بطبيعة الحال ويشعره بأنهم يضغطون عليه. (6)
وهو يبالغ في التردد على الحلاق، ويحرص على بياض أسنانه، ويبدل ثوبه ليظهر دائما في مظهر نظيف، ويضمخ «جسده» بأنواع الدهان المختلفة. (7)
وفي السوق يتردد على موائد الصرافين، ويختلف على الملاعب الرياضية حيث يتدرب الصبية، أما في المسرح فإنه يتخذ مجلسه - حين يكون هناك عرض مسرحي - إلى جوار القادة «العسكريين». (8)
وهو لا يشتري لنفسه شيئا، وإنما يشتري الزيتون لأصدقائه في بيزنطة، والكلاب الإسبرطية لأصحابه في كيزيكوس، والعسل «الهيميتي» لخلانه في رودوس، ثم يدور في المدينة ويحكي هذا «لكل إنسان». (9)
وهو يحب بطبيعة الحال أن يحتفظ بقرد، «كما يحلو له» أن يحصل على طائر نادر، وحمام صقلي، وقطع زهر من عظام الغزلان، وزجاجات دهان صغيرة من «توري»، وعصا ملوية من إسبرطة، وبساط بزخارف فارسية، ومساحة صغيرة مفروشة بالرمل للتدريب على الرقص، وملعب لكرة اليد. (10)
وهو يعيرها جميعا بالتناوب للفلاسفة، والسفسطائيين، والمدربين على المبارزة، والموسيقيين؛ ليعرضوا عليها ألعابهم، أما هو فيحضر متأخرا لكي يقول أحد النظارة الذين تجمعوا لمشاهدتها: «هذا هو صاحب الملعب.»
الفصل السادس
الأحمق
(1)
الحمق هو الإصرار على الأقوال والأفعال المشينة. أما الأحمق فهو ذلك الذي: (2)
يسارع بحلف الأيمان، ويعرف عنه سوء السمعة، ويسب الكبار ويغتابهم، وهو بطبعه صائح في السوق، واستعراضي «مجرد من كل مبدأ»، وعلى استعداد لاقتراف أي فعل. (3)
ومن عاداته كذلك أن يرقص - وهو في حالة وعي وبغير قناع - رقصة الكورداكس مع إحدى الجوقات الكوميدية «المترنحة من السكر». (4)
وفي العروض «التي تقام على منعطفات الشوارع» تجده «يدور هنا وهنا» ليجمع قطع النقود النحاسية من كل فرد على حدة، ويتعارك مع أولئك الذين يبرزون تذكرة دخول، ويريدون أن يتفرجوا على العرض بغير أن يدفعوا شيئا. (5)
وهو لا يتورع أيضا عن القيام بدور المضيف (صاحب النزل) ودور القواد، ومحصل الضرائب، ولا يرفض أي مهنة سيئة السمعة، بل لا يجد حرجا في تأجير نفسه كمناد وطباخ، والانغماس في لعب القمار. (6)
وحرمان أمه من الرعاية «وتركها للجوع»، وتعريض نفسه للقبض عليه في جريمة سرقة والإقامة في السجن زمنا أطول من إقامته في بيته. (7)
أضف إلى هذا أنه يبدو واحد من أولئك الذين يحشدون الجماهير حولهم، ويقومون بإثارتهم وتحريضهم برفع أصواتهم الخشنة المنكرة بالسباب والجدال، وينضم إليه بعض الناس، وينصرف بعضهم عنه قبل أن يستمعوا إلى نهاية كلامه، ويلتقط منه بعضهم بداية «كلامه المطول المضطرب»، ويحصل بعضهم الآخر على مقطع واحد، والبعض الثالث على شذرة ناقصة «من الموضوع الذي يتحدث عنه»، وهو لا يختار هذا النوع من الاستعراض الذي يكشف عن فساد عقله إلا في الوقت الذي يتجمع فيه سكان المدينة للاحتفال بمناسبة معينة. (8)
ولكن لديه القدرة على الظهور في المحاكم، إما كمتهم وإما كمدع أو منكر لمعرفة أي شيء وهو يقسم اليمين على ذلك، أو على الظهور ببساطة وهو يحمل معه ملفا من الوثائق التي يخفيها في طيات ثوبه أو مجموعة من المذكرات التي يحملها بين يديه. (9)
وهو لا يتحرج من أن يقود عددا كبيرا من الصائحين في السوق، وأن يقرضهم على الفور ويتقاضى منهم كل يوم عن كل دراخمة فائدة تقدر بثلاث أوبولات ونصف أوبولة، وأن يدور «هنا وهناك» بين دكاكين قلي اللحم والسمك المدخن، ويحصل الفوائد ويجمعها في فمه.
الفصل السابع
الثرثار
(1)
لو أراد أحد أن يعرف الثرثرة لبدت «في صورة» الشطط «وعدم الانضباط» في الكلام. أما الثرثار فهو: (2)
ذلك الذي يبادر بمخاطبة كل من يصادفه، وعندما يرد هذا عليه «أو يبدي أي ملاحظة»، يقول له إن كلامه خطأ ولا قيمة له، وإنه يعلم كل شيء، وإذا أصغى إليه فسوف يعرف «الحقيقة». فإذا اعترض ذلك الرجل بشيء قاطعه قائلا: «ألم تخبرني بهذا بالفعل؟ لا تنس ما تريد أن تقوله»، أو «أحسنت إذ ذكرتني!» أو «ما أفيد هذا الحديث!» أو «لقد فاتني أن أذكر»، أو «لقد فهمت المسألة على الفور»، أو «لقد انتظرت طويلا لأرى إن كنت ستتفق معي في الرأي»، إلى غير ذلك من التعبيرات المشابهة التي يسوقها بحيث لا يملك محدثه أن يلتقط أنفاسه. (3)
فإذا فرغ من تجريد ضحاياه واحدا بعد الآخر من أسلحتهم، لم يوقفه شيء عن المضي أيضا إلى الناس في تجمعاتهم «المختلفة»، فيضطرهم وهم في غمرة الانشغال بأعمالهم أن يلوذوا منه بالفرار. (4)
بل إنه ليذهب إلى المدارس وإلى الملاعب الرياضية فيعوق الأولاد عن التعلم؛ إذ لا تنتهي ثرثرته من المدربين والمعلمين. (5)
وإذا قال له أحد الناس إنه مضطر للانصراف فإنه يصحبه «على الطريق» ويوصله إلى بيته. (6)
وإذا سمع شيئا عما يجري في المجلس الشعبي فإنه ينشر الخبر، ويضيف إليه قصة المعركة الخطابية «التي دارت» أثناء رئاسة أرسطو فون، «وقصة انتصار إسبرطة على عهد ليزاندر»، والخطب التي ألقاها هو نفسه ذات مرة وحظيت بالتصفيق من الشعب، وفي خلال ذلك ينثر بعض الاتهامات و«الملاحظات المهيمنة » عن الجماهير؛ مما يجعل المستمعين ينسون الموضوع الذي يتكلم عنه، أو يجعلهم ينامون أو ينصرفون أثناء كلامه و«يختفون». (7)
وإذا جلس «في المحكمة» مع المحلفين، عطل «زملاءه» عن التوصل إلى الحكم، وإذا تفرج على عرض «في المسرح» منع «غيره» من متابعة العرض، وإذا دعي لمأدبة حال بينه وبين تناول الطعام؛ ذلك أنه يقول إن من الصعب على الثرثار أن يصمت؛ لأن اللسان يتحرك من تلقاء نفسه، ومن العسير عليه أن يسكت حتى ولو اعتبر الناس أنه يفوق في ثرثرته «عشا» من العصافير. (8)
بل إنه ليترك أطفاله يتهكمون عليه، وذلك عندما يشعرون أنهم يريدون أن يناموا ويقولون له: «بابا! نرجوك أن تثرثر قليلا حتى يجيء النوم.»
الفصل الثامن
مروج الإشاعات
(1)
إن اختلاق الإشاعات نوع من التأليف بين روايات وأفعال كاذبة يراد من ورائها أن يصدقها الناس. أما مختلق (أو مروج) الإشاعات فهو الذي: (2)
إذا التقى بصديق تخلى على الفور عن تحفظه، وابتسم «في وجهه» قائلا: «من أين جئت؟ ما قولك «عن هذا»؟ ما رأيك؟ هل يمكنك أن تقدم أخبارا جديدة «عن هذا الموضوع»؟ حقا، هذه أخبار جميلة!» (3)
ودون أن ينتظر رده يقول: «ماذا تقول؟ ألم تسمع شيئا؟ أعتقد أنني أستطيع أن أقدم لك أنباء جديدة.» (4) «ثم يزعم» أن جنديا أو عبدا لعازف الناي «آستايوس» أو المقاول «ليكون» قد حضر مباشرة من «ميدان» المعركة، وأنه قد سمع منهم كل هذه «الأخبار». والواقع أن مصادره «من النوع الذي» لا يمكن أن يوثق به. (5)
وهو يقرر (اعتمادا على هذه المصادر) أن «بوليبير خون» والملك قد كسبا معركة، وأن «كاساندروس» قد أسر. (6)
وإذا سئل «أتصدق أنت نفسك هذا؟» «رد» عليه بقوله إن الخبر قد أعلم في المدينة كلها، وإن الحكاية تدور «وتنتشر في كل مكان»، وإن الجميع متفقون «على هذه التقارير»؛ لأنهم يروون الخبر نفسه عن المعركة، وقد «تمخض هذا» عن طبخ حساء جميل. (7)
ومما يؤكد «صدق الخبر» في رأيه أنه استنتجه من «النظر في» وجوه المسئولين التي يلاحظ عليها التغير الكامل، ثم يقول أيضا إنه سمع «من يقول» في السر إنهم يخفون شخصا في بيتهم، وإن هذا الشخص قد وصل من مقدونيا قبل خمسة أيام ويعرف كل شيء معرفة دقيقة. (8)
وهو يذكر جميع التفصيلات، ويظل يشكو «ويستدر الدموع من المستمعين إليه» حتى يصدقوه وهو يقول: «يا كاساندروس المسكين! كم أصابك الحظ الفاجع «وعجل بنهايتك»! هل اكتشفت الآن ما يدبره القدر؟ وما جدوى عظمتك و«قوتك» التي كنت «تتمتع بها» ذات يوم؟» (9)
ثم يضيف قائلا: «أنت الوحيد الذي يجوز له أن يعلم هذا!» لكنه «يقول هذا» بعد أن يكون قد أشاع الخبر في كل مكان بالمدينة.
الفصل التاسع
الوقح
(1)
يمكن تعريف الوقاحة بأنها عدم الاكتراث بالسمعة الطيبة في سبيل (الحصول على) كسب حقير. أما الوقح فهو ذلك الذي: (2)
يسعى للاقتراض من شخص سبق له (أي للوقح) أن غشه ونصب عليه، وعندئذ ... (هنا فجوة تقطع النص.) (3)
وبعد أن يقدم القرابين للآلهة، يذهب لتناول الطعام مع شخص آخر، أما لحم الأضحية فيقوم بتمليحه وتخزينه. وأثناء جلوسه إلى مأدبة مضيفه، يستدعي عبده ويعطيه من اللحم والخبز الموضوع على المائدة، ويهتف (بصوت مرتفع) ليسمعه الجميع: «بالهناء والشفاء يا تيبايوس!» (4)
وعندما يذهب لشراء اللحم يذكر الجزار بالمعروف الذي سبق أن أسداه إليه، ويقف بجانب الميزان محاولا أن يلقي فيه بقطعة من اللحم أو على الأقل بعظمة للحساء، فإذا نجح في ذلك كان بها، أما إذا فشل فإنه يخطف من المائدة (شيئا من) المصارين، وينصرف لحاله وهو يضحك. (5)
وعندما يكون لديه ضيوف (من مدينة أخرى) يشتري (من مالهم) تذاكر لدخول المسرح؛ وبهذا يشاهد العرض معهم دون أن يدفع نصيبه، وفي اليوم التالي يحضر معه أولاده بالإضافة إلى المعلم (الذي يقوم على تربيتهم). (6)
وإذا وجد شخصا يحمل شيئا اشتراه بثمن مناسب، طلب منه أن يعطيه نصيبه منه. (7)
وهو يطرق باب أحد الجيران ويقترض منه الشعير مرة، والقش مرة أخرى، ثم يلزم الشخص الذي أقرضه إياها أن يستردها بعد ذلك بنفسه. (8)
ومن عادته أيضا أن يتوجه إلى «المكان الذي توضع فيه» القدور النحاسية في الحمامات (العامة)، فيملأ منها إبريقا (إلى حافته)، ويصبه (على رأسه)، بينما يصرخ صاحب الحمام ويحتج، ثم يقول إنه قد أخذ حمامه، ويضيف أثناء انصرافه: «أتسب وتلعن؟! لن تأخذ بقشيشا!»
الفصل العاشر
النتن
(1)
النتانة هي الشح المفرط في كل شيء يتعلق بما يملكه المرء أو يقتنيه. أما النتن فهو ذلك الذي: (2) «يطالبك» في منتصف الشهر بنصف «أوبول»، «ويصل به الأمر» إلى أن يأتي إلى بيتك خصيصى لهذا الغرض. (3)
وعندما يجلس في مأدبة مشتركة (تجده) يحصي عدد الكئوس التي شربها كل شخص، كما يقل ما يسكبه ل «أرتميس» عما يقدمه لها جميع الضيوف (الحاضرين). (4)
وإذا اشترى له أحد شيئا بسعر بخس (من السوق) وقدم له الحساب، أكد له أن السعر غال جدا (وأنه قد كلفه آخر بنس معه). (5)
وإذا كسر أحد العبيد وعاء قديما جدا أو طبقا، خصم ثمنه من راتبه (أو من حصته من الطعام). (6)
ولو حدث أن أضاعت زوجته قطعا نقدية «من ذوات القرش أو البنسات الثلاثة»، لقلب الأثاث رأسا على عقب وأخذ يفتش الكتب وصناديق الملابس، ويرفع البسط (عن الأرض) ليفحص «ما تحتها». (7)
وإذا باع لأحد شيئا بالغ في سعره إلى الحد الذي يضر بالمشتري. (8)
وهو لا يسمح لأحد بأن يأكل التين من بستانه، أو يتمشى في حقله، أو يلتقط الزيتون أو البلح الذي يسقط على الأرض. (9)
وهو يفحص أحجار الحدود كل يوم ليتأكد من أنها لا تزال في نفس أماكنها. (10)
ومن عادته أن يحصل الفوائد على التأخير «في الدفع»، وأن يطالب بالفائدة «المركبة» على الفوائد. (11)
وإذا «جاء عليه الدور» واستضاف بعض رفاقه، قطع اللحم قطعا صغيرة قبل تقديمه لهم. (12)
وإذا ذهب السوق ليشتري لحما، رجع إلى بيته خالي اليدين. (13)
كما أنه يحظر على زوجته أن تقرض الملح، أو فتيلة المصباح، أو الأعشاب، أو البرغل، أو الأوراق (والزهور التي تصنع منها الأكاليل)، أو العجين الذي يعد منه كعك القرابين، قائلا لها: «إن هذه التوافه، كما تعلمين، تكلف الشيء الكثير على مدار السنة.»
الفصل الحادي عشر
الفظ
(1)
ليس من الصعب تعريف الفظاظة؛ فهي نوع من الاستهتار المنفر واللافت للنظر. أما الفظ هو الذي: (2)
يرفع ثوبه في الطريق العام أمام النساء المحترمات، ويعرض عريه عليهن. (3)
ويصفق (بكلتا يديه) في المسرح عندما يكون الآخرون قد توقفوا عن التصفيق، كما يطلق الصفير على الممثلين الذين يحب بقية النظارة أن يشاهدوهم. وعندما يخيم الصمت على المسرح ينهض واقفا ويتكرع (بصوت مرتفع) لكي يستدير (جمهور) النظارة نحوه (ويلتفتوا إليه). (4)
وحين يكون السوق مزدحما (بالناس)، يتجه إلى الدكاكين التي يباع فيها الجوز والتوت والفواكه، ويقف بجوارها وهو يقضم منها في الوقت الذي يثرثر فيه مع البائع، ثم ينادي على أحد الحاضرين باسمه على الرغم من أنه لا يعرفه. (5)
وإذا رأى شخصا مسرعا في سيره، أوقفه (في الطريق). (6)
وإذا وجد شخصا يغادر المحكمة بعد أن خسر قضية مهمة، اتجه نحوه وهنأه. (7)
وهو يخرج (من بيته) لكي يتسوق لنفسه ويؤجر عازفة على الناي، ثم يعرض ما اشتراه على الذين يقابلونه، ويدعوهم للحضور معه ومشاركته فيه. (8)
ويدخل دكان حلاق أو محلا لبيع العطور، ويعلن أنه يريد أن يسكر.
الفصل الثاني عشر
عديم الذوق
(1)
إن عدم ملاءمة الوقت المناسب خاصية مزعجة «تجعل صاحبها» يختار اللحظة الخاطئة. أما عديم الذوق «في اختيار هذا الوقت» فهو ذلك الذي: (2)
يذهب إلى إنسان لا وقت لديه لكي يستشيره (في أمر معين ويسأله النصيحة). (3)
وهو يغازل حبيبته عندما تكون مصابة بالحمى. (4)
ويتوجه إلى شخص حكم عليه بدفع غرامة لأنه خسر قضية كفالة (لشخص آخر)، ويطلب منه أن يضمنه. (5)
وإذا توجب عليه أن يدلي بشهادة حضر إلى المحكمة بعد صدور الحكم (في القضية). (6)
وإذا دعي إلى حفلة عرس، راح يوجه الاتهامات «المهينة» لجنس النساء. (7)
وعندما يرى شخصا رجع إلى بيته بعد رحلة طويلة، يدعوه للتنزه معه. (8)
ومن عادته أن يحضر شاريا يقدم سعرا أعلى بعد أن يكون البائع قد فرغ من البيع. (9)
وأن ينهض واقفا ويشرح الموضوع من البداية بعد أن يكون الناس قد استمعوا إليه وفهموه فهما تاما. (10)
وأن يهتم اهتماما شديدا بتقديم خدمة لإنسان لا يريدها، ولكنه يخجل من التصريح بذلك. (11)
ويذهب إلى جماعة تحتفل بتقديم قربان وتنفق عليه (من مالها) لكي يطالب بالفوائد «التي يتصور» أنه يستحقها. (12)
وعندما يجلد أحد العبيد يتقدم منه ويحكي له كيف كان له عبد شنق نفسه ذات يوم بعد أن تم جلده بهذه الطريقة. (13)
وإذا شارك في مجلس للتحكيم (كواحد من المحلفين)، جعل يثير الخصمين ضد بعضهما في الوقت الذي يكونان فيه على استعداد للتصالح. (14)
وإذا أراد أن يرقص جذب شخصا لم يسكر بعد لكي يراقصه.
الفصل الثالث عشر
المفرط في حماسه
(1)
من الطبيعي أن يبدو الإفراط في الحماس كنوع من الغلو - الصادر عن حسن النية - في القول والفعل. أما المفرط في الحماس فهو الذي: (2)
ينهض واقفا ويعد بما لا يستطيع أن يفي به. (3)
وإذا تم الإجماع على عدالة أمر ما، فإنه يثير الاعتراضات «التي تقابل» بالدحض والتفنيد. (4) «ويصر على أن» يأمر عبده بأن يمزج من الخمر أكثر بكثير مما يستطيع الضيوف أن يشربوه. (5)
ويفصل بين أناس يتعاركون، ولو كان لا يعرفهم. (6)
ويقدم لك نفسه ليدلك على طريق مختصر، ولكنه لا يستطيع أن يهتدي إليه. (7)
ويتوجه إلى القائد «العسكري» ويسأله متى ينوي أن يأمر قواته بالزحف، وما هي كلمة السر «التي سيحددها» بعد غد. (8)
ويذهب إلى أبيه ويقول إن أمه ما تزال نائمة في حجرة نومها. (9)
وعندما يحظر الطبيب إعطاء خمر للمريض، يقول إنه سيجرب أن يشفيه عن طريق الشرب. (10)
وإذا ماتت امرأة دون على شاهد قبرها اسم زوجها، وأبيها، وأمها، واسمها هي نفسها، ومحل ميلادها، ثم أضاف إلى ذلك أن هؤلاء جميعا كانوا أناسا محترمين. (11)
وإذا تعين عليه أن يحلف يمينا، قال للواقفين حوله: لقد طالما حلفت الأيمان (مرات لا حصر لها).
الفصل الرابع عشر
البليد
(1)
إذا أردنا أن نعرف البلادة «قلنا إنها» هي الخمول، سواء في الكلمات أو في الأفعال. أما البليد فهو ذلك الذي: (2)
يحسب «بعض الأرقام» بواسطة الأحجار، ويستخلص الناتج، ثم يسأل جاره قائلا: ما هو الحاصل (في رأيك)؟ (3)
وعندما تقام عليه الدعوى في إحدى القضايا، ويكون في نيته أن يحضر (الجلسة التي ستنظر فيها)، فإنه ينسى ذلك ويذهب إلى الريف (لقضاء يوم فيه). (4)
وإذا ذهب إلى المسرح (للفرجة)، بقي وحده «في الصف الخلفي» مستغرقا في النوم. (5)
وإذا تعشى عشاء ثقيلا، واستيقظ بالليل من نومه لكي يذهب إلى المرحاض، فإنه يتوه (عن الطريق)، ويعضه كل الجيران. (6)
وإذا حصل على شيء ووضعه جانبا (بحرص شديد)، فإنه يظل يبحث عنه (بعد ذلك) دون أن يتمكن من العثور عليه. (7)
وإذا أبلغه إنسان بأن أحد أصدقائه قد مات، وأن عليه أن يذهب «لحضور الجنازة»، فإنه يقول له والحزن الشديد على وجهه والدموع في عينيه: «تهنئتي القلبية!» (8)
وإذا استرد «مالا من مدين، أصر» على وجود شهود على ذلك. (9)
وفي (عز) الشتاء يتشاجر مع عبده لأنه لم يشتر خيارا من السوق. (10)
ويجبر أولاده على أن يتصارعوا مع بعضهم، وينطلقوا في الجري إلى حد الإعياء. (11)
وعندما يكون في الريف ويريد أن يطبخ البسلة بنفسه، فإنه يضع الملح مرتين في الوعاء، ويجعل الوجبة ممجوجة الطعم. (12)
وعندما يأذن زيوس بنزول المطر يقول: ما أبدع النجوم الساطعة! فإذا كانت تلمع (في السماء) كان من رأيه، بصرف النظر عن آراء الآخرين، أن الليل أسود من القطران. (13)
وعندما يسأله أحد: كم عدد الجثث التي تعتقد أنها حملت عبر البوابة المقدسة؟ فإنه يرد عليه قائلا: «هو عدد كبير بالقدر الذي أتمناه لك ولنفسي.»
الفصل الخامس عشر
المتعالي
(1)
التعالي سلوك فظ يتبدى في الكلمات. أما المتعالي فهو: (2)
الذي يجيب من يسأله «أين هذا أو ذاك؟» «بقوله»: دعني في حالي (ولا تضايقني)! (3)
وإذا خاطبه أحد، لم يرد عليه. (4)
وإذا كان لديه شيء يباع لم يخبر «المشترين» بالسعر الذي سيتنازل به عنه، وإنما سألهم قائلا: «ما الذي سأحصل أنا عليه؟» (5)
وإذا جامله أحد وأرسل إليه الهدايا بمناسبة احتفال يقوم به، قال إنه مستغن عن هداياهم. (6)
وإذا اتفق عن غير قصد أن لوث أحد «ملابسه» أو دفعه أو داس على قدمه، لم يسامحه أبدا. (7)
وإذا طلب منه صديق أن يساهم في تقديم هبة، بادر بقوله إنه لن يقدم شيئا، ولكنه يسلمها بعد ذلك وهو يقول: «وهذا مبلغ آخر من المال يضيع علي!» (8)
وإذا تعثرت قدمه في الشارع عمد إلى صب لعنته على الحجر. (9)
وهو لا يطيق أن ينتظر (أحدا) لمدة طويلة. (10)
ولا يميل إلى الغناء ولا الإلقاء ولا الرقص. (11)
ولعله كذلك لا يصلي للآلهة.
الفصل السادس عشر
المؤمن بالخرافات
(1) يبدو أن الإيمان بالخرافات هو «نوع من» الجبن في مواجهة ما يعلو على الطبيعة. أما المؤمن بالخرافات فهو ذلك: (2) الذي يغسل يديه بعد أن يصادف جنازة «على الطريق»، ويرش نفسه بالماء المقدس «من المعبد»، ويضع من ورقة من أوراق الغار في فمه، ويظل يتجول «على هذه الحال» طوال النهار. (3) وإذا مرقت أمامه عرسة لا يتقدم خطوة واحدة في سيره حتى يعبر أحد المارة من نفس الموضع، أو حتى يرمي ثلاثة أحجار على الطريق. (4) وإذا رأى ثعبانا في بيته استغاث بسابا زيوس (أي زيوس) لو كان ثعبان غير مؤذ. أما إذا كان ثعبانا «ساما» ومقدسا، فإنه يقيم على الفور هيكلا للبطل هرقل «في نفس الموضع». (5) وإذا مر على الأحجار الملساء عند مفرق طرق، صب عليها الزيت من زجاجة صغيرة «يحملها معه»، وركع على ركبتيه وقبل الحجر، ثم غادر المكان. (6) وعندما يقرض فأر جوالا مملوءا بالدقيق، يذهب إلى مفسر العلامات ويسأله عما ينبغي عليه أن يفعله. فإذا أجابه هذا بأن عليه أن يرقع الجوال «الجلدي» عند السراج لم يهتم بهذه النصيحة، بل رجع إلى بيته وقدم أضحية ل «التكفير عن ذنوبه». (7) وهو يحب أن يكثر من تنظيف بيته، بينما يزعم أن سحرا قد وقع بتأثير هيكاتيه. (8) وإذا سمع البوم تنعب «بصوت عال» أثناء سيره، فإنه لا يواصل طريقه قبل أن يقول هذه الكلمات: إن أثينا أعظم. (9) وهو ليس على استعداد للاقتراب من قبر ولا من جثة ولا من امرأة في حالة وضع، وإنما يقول إن الشيء المهم بالنسبة له هو ألا يلوث نفسه. (10) وفي اليوم الرابع والسابع من كل شهر (أي في الأيام التي توافق الرابع والسابع والرابع عشر والسابع عشر من الشهر)، يكلف أهل بيته بأن يغلوا النبيذ، ويمضي بنفسه ليشتري «أوراق» الآس والنجور وكعك الأضاحي، ثم يرجع إلى بيته ويقضي بقية اليوم منشغلا بوضع الأكاليل على «صور وتماثيل» الهيرمافروديت. (11) وإذا رأى حلما انطلق مرة أخرى إلى مفسري الأحلام والعرافين وراصدي الطير؛ لكي يسألهم عن الإله أو الآلهة التي ينبغي عليه أن يقدم لها الصلاة. (11أ) وعندما يريد أن يتلقى بركات التكريس، يذهب كل شهر إلى كهنة أورفيوس مع زوجته، فإذا لم يكن لديها الوقت الكافي أخذ معه المربية والأطفال. (12) كذلك يبدو أنه واحد من أولئك الذين يحرصون كل الحرص على أن يرشوا أنفسهم بماء البحر المالح. (13) وإذا حدث أن وقع بصره على أحد المكللين بالثوم (في القرابين التي تقدم لهيكاتيه على مفارق الطرق)، سارع بالرجوع إلى بيته، واستحم من رأسه إلى قدمه، واستدعى كاهنة وطلب منها أن تطهره «وهي تدور حوله» ببصلة البحر أو بجرو صغير. (14) أما إذا رأى رجلا مختل العقل أو مصابا بالصرع، فإن الفزع يتملكه ويبصق في طيات ثوبه.
الفصل السابع عشر
المتذمر
(1)
التذمر هو السخط غير اللائق على العطايا التي وهبها المرء. أما المتذمر فهو ذلك الذي:
يقول ل «العبد» الذي «جاء» يحمل له نصيبه الذي أرسله إليه أحد أصدقائه من مأدبة أقامها: «أبلغه أنه» قد ضن علي بملعقة حساء وقطرة خمر، كما استكثر علي «أن يدعوني للطعام». (2)
وبينما تعانقه حبيبته وتقبله يقول لها: «ليتني أعرف إن كنت تحبينني أيضا من صميم قلبك «كما يبدو عليك»!» (3)
وهو ساخط على زيوس، لا لأنه أرسل المطر، بل لأنه تأخر في إرساله. (4)
وإذا عثر في الشارع على محفظة قال: «في الحقيقة لم يسبق لي أبدا أن وجدت كنزا.» (5)
وعندما يشتري عبدا بثمن بخس بعد فصال طويل مع البائع يتعجب قائلا: «ليتي أعرف إن كان هذا الذي اشتريته بسعر رخيص شيئا يستحق الحصول عليه!» (6)
وعندما يأتيه من يبلغه الخبر المفرح «لقد رزقت ابنا»، يرد عليه بقوله: لو أضفت لهذا «ونصف ثروتي قد ضاع»، لقلت الحقيقة. (7)
وإذا كسبت قضية (دعوى قضائية) بإجماع الأصوات، عاب على المحامي (الذي قام بكتابة الدعوى وإلقائها) أنه أغفل عددا كبيرا من الحجج القوية. (8)
وعندما يشترك أصدقاؤه في إقراضه «مبلغا من المال» ويقول له أحدهم «يمكنك الآن أن تفرح»، فإنه يقول له: ماذا؟ ألأن علي أن أرد المال لكل منكم على حدة، ثم يكون علي فوق ذلك أن أقدم لكم الشكر وكأنكم صنعتم في معروفا؟!
الفصل الثامن عشر
سيئ الظن
(1)
الواقع أن سوء الظن هو الاشتباه في انعدام الصدق «والإخلاص» لدى الجميع. أما سيئ الظن فهو ذلك: (2)
الذي يرسل عبدا لشراء مواد التموين، ثم يرسل وراءه عبدا أخر تكون مهمته هي أن يعرف كم دفع ثمنا لها. (3)
وهو يحمل بنفسه ماله معه، «وكلما سار» بضع مئات من الأمتار جلس «على الأرض» وأخذ يحصي ما معه. (4)
ويسأل زوجته، بعد أن يكون قد رقد بالفعل في فراشه، إن كانت قد أغلقت الخزانة، وإن كان الخوان (الذي تحفظ فيه الأكواب) قد أحكم قفله، وباب الحوش أوصد بالمزلاج. فإذا ردت بالإيجاب نهض مع ذلك من فراشه عاريا وحافي القدمين، وأخذ يتجول، والمصباح في يده، هنا وهناك لكي يتأكد من كل شيء. وبهذه الطريقة لا يكاد يعود للنوم «إلا بصعوبة». (5)
وهو يحصل الفوائد من المدينين له في حضور الشهود؛ وذلك «لكي يطمئن» إلى أنهم لن يستطيعوا إنكار ذلك. (6)
وإذا أراد أن يرسل ثوبه للتنظيف، لم يرسله لذلك الذي سينظفه على أفضل وجه، بل إلى ذلك الذي يضمنه شخص موثوق به. (7)
وإذا جاءه أحد يستعير منه «عددا من» أكواب الشرب «الفضية»، فإنه يفضل أن يرفض ذلك. فإن كان أحد أقاربه أو معارفه المقربين، لم يعره الأكواب إلا بعد أن يختبرها ويزنها (على سبيل الاحتياط)، أو حتى بعد أن يجد شخصا موثوقا به ليعطيها له على ضمانته. (8)
وهو لا يسمح للعبد الذي يرافقه بأن يمشي خلفه، وإنما يأمره بأن يسير أمامه؛ «لكي يراقبه» ويمنع هروبه منه. (9)
وإذا اشترى أحد شيئا منه وقال له «كم المبلغ ؟ سجله «على حسابي»؛ فليس لدي وقت الآن!» فإنه يرد عليه بقوله: «لا تتعب نفسك بإرساله إلي، فسوف أصحبك إلى أن تجد الوقت!»
الفصل التاسع عشر
المقزز
(1)
إن «خاصية إثارة» التقزز هي إهمال الجسد بصورة تبعث على عدم الارتياح. أما المقزز فهو ذلك الذي: (2)
يمشي «في الشارع» وعليه «مظاهر» الطفح الجلدي والجرب وأظافره طويلة، ويدعي أن هذه الأمراض ولدت معه، وأن أباه وجده كانا مصابين بها، وليس من السهل أن يدس أحد على عائلتهم. (3)
ومن الطبيعي (بالنسبة لأمثاله) أن يكون مصابا بالقروح في قصبتي الساقين، والدمامل في أصابع قدميه، وألا «يفعل شيئا» لعلاجها، وإنما يتركها تستشري بشكل فظيع. والشعر الكثيف ينمو تحت إبطيه وحتى فخذيه بحيث يبدو كالحيوان المتوحش، كما أن أسنانه سوداء ومتآكلة إلى الحد الذي يجعله غير مريح ولا يطاق. (4)
وفضلا عن ذلك فإنه يتمخط في أصابع يديه أثناء تناول الطعام، كما يهرش «جلده» إبان «الاحتفال» بتقديم القرابين، «ويبصق» وتسيل من فمه السيول عندما يتكلم، ويتجشأ «ويتكرع» عندما يشرب. (5)
وهو ينام مع زوجته تحت أغطية قذرة. (6)
ويستعمل في الحمام الزيت الزنخ لكي يرفع من نبضه. (7)
ويذهب إلى السوق وهو يرتدي قميصا تحتيا سميكا ومعطفا شفافا «مهلهلا» ومملوءا بالبقع. (8)
وإذا رجعت أمه من زيارة الراصد للطير أخذ يسب ويلعن. (9)
وعندما «ينشغل الناس» بالصلاة وسكب السكائب (أثناء تقديم القربان)، فإنه يقذف بكوبه بعيدا، وينفجر ضاحكا وكأنه قد قام بشيء عجيب «ومذهل». (10)
وهو وحده من بين الحاضرين يصفق بيديه أثناء العزف على الناي، ويوقع بأصابعه (أو يدندن في مصاحبة العزف) ثم يوبخ عازفة الناي وهو يسألها لماذا توقفت (عن العزف) بهذه السرعة. (11)
وإذا أراد أن يبصق، فإنه يقذف بصقته عبر المائدة في وجه النادل (أي العبد الذي يصب الخمر للضيوف).
الفصل العشرون
الجلف
(1)
إن الجلافة - بحسب تعريفها - سلوك يسبب الضيق دون أن يحدث ضررا مباشرا. أما الجلف فهو ذلك الشخص الذي: (2)
يدخل «إنسان» ويوقظه من نومه بعد أن بدأ ينعس لكي يثرثر معه «على راحته». (3)
وإذا وجد شخصا يستعد للسفر عطله عنه . (4)
وإذا زاره أحد طلب منه أن ينتظره حتى يقوم بنزهته «اليومية». (5)
ويأخذ طفله من يد المربية، ويلوك طعامه (أو يفتته في فمه)، ويناوله له بنفسه، كما يظل يدلله وهو يتمطق ويسميه «عفريت بابا الصغير». (6)
ويحكي أثناء الطعام كيف تناول شراب «الحربق» الذي طهره من أعلى إلى أسفل، وكيف كانت الصفراء في إفرازه أشد سوادا من الصوصة على المائدة. (7)
ويسأل أمه أمام الأهل والأقارب: «أخبريني يا ماما، كيف كان حالك في ذلك اليوم الذي جاءك فيه المخاض وولدتني؟!» (8)
ويقول عن نفسه إنه إنسان لطيف وغير لطيف، ولكن من الصعب العثور على شخص لا يجمع بين الصفتين. (9)
وإن لديه (في بيته) الماء البارد في الخزان، والخضروات الطازجة الناعمة في البستان، ولديه طباخ بارع في إعداد الطعام، وإن بيته «أشبه» بالنزل؛ إذ يزدحم دائما ب «الضيوف»، وإن أصحابه أشبه بوعاء بغير قاع، فرغم أنه ودود ومجامل إلا أنه لا يستطيع أن يشبعهم. (10)
وعندما يقيم مأدبة لضيوفه، فإنه يجذب انتباههم للمتطفل «الذي يتملقه ويشرح لهم فضائله»، كما يحثهم على الشراب ويقول إن كل شيء قد أعد «لإمتاع الضيوف. وإذا شاءوا ذهب العبد على الفور لإحضار الفتاة من المبغى لكي تعزف لنا جميعا على الناي وتهيئ لنا الفرح والسرور.»
الفصل الحادي والعشرون
الطموح (أو المغرور)
(1) «من المألوف» أن يبدو الطموح «في صورة» تطلع «غير كريم» إلى الشرف، وغير لائق بالإنسان الحر. أما صاحب الطموح «الدنيء» فهو ذلك الشخص: (2)
الذي يحرص أشد الحرص، إذا دعي إلى مأدبة طعام، أن يجلس أثناء الأكل بجوار المضيف (نفسه). (3)
ويأخذ ابنه معه إلى دلفي لكي يحلق شعره. (4)
مع الحرص على أن يكون في صحبته أحد العبيد السود. (5)
وإذا تعين عليه أن يدفع ما قيمته «مينة» فضية واحدة، فإنه يأمر (عبده) بأن تكون من النقود الجديدة. (6)
ولما كان بالطبع يحتفظ في بيته بطائر (من نوع الغراب)، فإنه يكون على استعداد لأن يشتري له سلما صغيرا، ويصنع له لوحا برونزيا دقيقا يمكنه (أي أنثى الغراب) من التسلق على السلم الصغير. (7)
وعندما يضحي بثور فإنه يقوم بتثبيت جلدة الرأس مع القرنين (بالمسامير) داخل بيته وفي مواجهة الباب (الخارجي)، مع إحاطتها بأكاليل ضخمة (من أوراق الغار)؛ وذلك لكي يرى كل من يدخل من الباب أنه قد ضحى بثور. (8)
وبعد الاشتراك في موكب الاحتفال مع الفرسان، يأمر عبده بأن يحمل بقية الأدوات (ويرجع بها) إلى البيت. أما هو فيتمشى في السوق «محتفظا» بالمهاميز «في قدميه، وحريصا على» طرح معطفه باستمرار حول كتفيه. (9)
وعندما يموت كلب الصيد الملطي الصغير (الذي كان يملكه)، يقيم له قبرا ولوحا تذكاريا ينقش عليه (هذه الكلمات): «كلادوس من مالطة.» (10)
وإذا قدم في الاحتفال بعيد «أسكليبوس» خاتما برونزيا صغيرا، فإنه يلبسه (في إصبعه) ويصقله ويدهنه بالزيت كل يوم. (11)
وهو يحصل بالطبع من زملائه الرؤساء على تفويض منهم بإبلاغ الشعب (بأخبار) الأضحية (أو القربان)، فيتقدم وهو يختال بمعطف ناصع الوميض وأكاليل (حول جبينه) ويقول: «يا رجال أثينا! لقد قدمنا نحن البيرات (أي رؤساء المدينة) الأضحية لأم الآلهة، وهي أضحية قيمة ومشرفة (ومصحوبة بفأل طيب)، أما أنتم فتلقوا عطاياها (وبركاتها).»
وبعد أن يعلن هذا (للشعب) يمضي إلى بيته ويحكي لزوجته (بالتفصيل) كيف كان يومه يوما رائعا ولا نظير له.
الفصل الثاني والعشرون
الوضيع
(1)
الوضاعة هي انعدام الرغبة في الشرف حيثما تعلق الأمر بالإنفاق. أما الوضيع فهو الشخص الذي: (2)
يكرس لزيوس لوحة خشبية ينقش عليها اسمه وحده، وذلك بعد أن يحرز نصرا كرئيس للجوقة في إحدى التراجيديات. (3)
وإذا دار الحديث (في المجلس الشعبي) حول التطوع بالتبرع للصالح العام (أو للخزانة العامة)، نهض واقفا وتسلل خارجا في هدوء. (4)
وإذا زوج ابنته، باع لحم الأضاحي كله باستثناء الحصص «المخصصة» للكهنة، ولم يستأجر للخدمة في «حفلة» العرس إلا أولئك الخدم أو العبيد الذين يتعهدون بإطعام أنفسهم بأنفسهم. (5)
وإذا تولى قيادة سفينة حربية فرش أغطية الشخص الممسك بالدفة على ظهر السفينة لينام عليها. أما الأغطية الخاصة به فيضعها جانبا. (6)
وفي الأيام التي يحتفل فيها بعيد ربات الفنون، يمنع أولاده من الذهاب إلى المدرسة حتى لا يضطروا للمساهمة (بمبلغ من المال)، ويزعم أنهم مرضى. (7)
وهو يحمل بنفسه اللحم والخضروات التي اشتراها من السوق ويضعها في طيات ثوبه أثناء رجوعه إلى بيته. (8)
ويلازم بيته عندما يسلم ثوبه للمغسلة. (9)
وعندما يرى صديقا يجمع التبرعات وقد سبق له أن أبلغه بذلك، فإنه ينحرف عن الطريق عندما يراه قادما، ويرجع إلى بيته من طريق جانبي. (10)
ولا يشتري خادمة لزوجته التي أحضرت معها جهاز العرس (البائنة) عندما تزوجته، وإنما يستأجر لها أمة من سوق النساء لكي ترافقها عند خروجها من البيت. (11)
ويلبس بصفة مستمرة حذاء مرقعا، ويقول إنه صلب صلابة القرون. (12)
وعندما يستيقظ من نومه يكنس البيت (ويرتبه)، وينفض الحشرات من الفرش. (13)
وإذا جلس شمر ثوبه البالي الذي لا يلبس شيئا غيره.
الفصل الثالث والعشرون
الفشار
(1)
من الواضح أن الفشر يبدو كنوع من التمويه (أو الادعاء) بوجود مزايا «لا يملكها المرء». أما الفشار فهو ذلك الشخص: (2)
الذي يقف على رصيف الميناء، ويحكي للأجانب عن المبالغ المالية الضخمة التي يستثمرها في البحر. وهو يصف بدقة شديدة حجم الفوائد التي يحصلها (من التجارة البحرية)، وكم كسب وكم خسر (بالتفصيل). وبينما يملأ فمه بهذا الكلام، يرسل خادمه (أو عبده) إلى المصرف، حيث يبلغ حسابه «دراخمة» واحدة. (3)
وهو يستطيع أن يضحك على ذقن شخص يصحبه (في سيره) على الطريق؛ إذ يروي له كيف شارك في حروب الإسكندر (الأكبر)، وكيف وقف معه، «كما يحكي له» عن عدد الأكواب المزينة بالأحجار الكريمة التي جلبها معه عند عودته إلى بلده، ثم يؤكد أن الصناع الحرفيين في آسيا أفضل من الصناع في أوروبا، مع العلم بأنه لم يغادر مدينته أبدا. (4)
ويدعي أنه تلقى ثلاثة خطابات من «أنتيباتروس» يدعوه فيها للحضور إلى مقدونيا، ومع أنه قد حصل منهم على إعفاء من الضرائب الجمركية (التي تحصل) على تصدير الخشب، فقد رفض «استيراده» حتى لا يشهر به أحد، و«على المقدونيين أن يكونوا أحكم من هذا». (5)
ويزعم أنه أنفق أثناء المجاعة ما يزيد على خمسة «تالنتات» (تبرع بها على شكل هبات) للمواطنين الفقراء؛ إذ لم يكن من الممكن أن يقول لا. (6)
وعندما يطلب من أحدهم أن يحسب بنفسه «قيمة» النقود التي يحصيها بعناية من ذوات الآحاد والآلاف (أي من المينات والدراخمات)، وبعد أن يختلق اسما محترما أمام كل هبة «أو تبرع» قدمه، يصل بإحصائه إلى عشرة تالنتات، ثم يؤكد أن هذا هو المبلغ الذي تصدق به لمساندة «المواطنين»، وأنه لم يحسب معه المبالغ التي تبرع بها (على نفقته الخاصة) لتجهيز السفن الحربية أو للصالح العام. (7)
وإذا ذهب إلى سوق الخيول تظاهر أمام التجار بأنه يريد أن يشتري خيولا جيدة (أو أصيلة). (8)
وفي دكاكين تجار الأقمشة (تجده) يبحث عن ملابس بما يبلغ قيمته «تالنتين»، ثم يعنف عبده لأنه جاء في صحبته دون أن يحضر معه شيئا من عملاته الذهبية. (9)
وعلى الرغم من أنه يسكن في بيت بالإيجار، إلا أنه يزعم لشخص لا يعلم «هذه الحقيقة» أنه قد ورثه عن أبيه، وأنه ينوي أن يبيعه لأنه أضيق من أن يتسع لضيوفه.
الفصل الرابع والعشرون
المتعجرف
(1)
العجرفة هي التقليل من شأن سائر الناس فيما عدا المتعجرف ذاته. أما المتعجرف فهو الشخص الذي: (2)
يقول لمن يريد أن يتكلم معه على عجل إنه يستطيع أن يقابله بعد تناول الغداء أثناء قيامه بنزهته. (3)
وإذا صنع في أحد معروفا، قال له إنه ينبغي عليه ألا ينسى ذلك. (4)
وإذا طلب منه عابر سبيل أن يفصل في خلاف أصدر الحكم في التو واللحظة. (5)
وإذا انتخب لمنصب عام فإنه يرفضه ويقسم أنه لا وقت لديه. (6)
وهو لا يبادر أبدا بزيارة أي إنسان. (7)
ويفرض دائما على المتعهدين والمستأجرين أن يحضروا إليه في صبيحة اليوم التالي. (8)
وفي الشارع لا يكلم أي إنسان يقابله، بل يمشي محنيا (ومطرق الرأس)، أو مشدود القامة (ومرفوع الرأس) إذا راق له ذلك. (9)
وإذا دعا أصدقاءه (لضيافته) فإنه لا يأكل معهم، وإنما يكلف أحد الخدم (العاملين عنده) بالقيام على خدمتهم. (10)
وإذا ذهب لزيارة أحد أرسل من يسبقه ليبلغه أنه قادم إليه. (11)
وهو لا يسمح لأحد بأن يدخل عليه أثناء التطيب أو الاستحمام أو تناول الطعام. (12)
وإذا قام بمحاسبة أحد كلف عبده بأن يرتب قطع الحجارة، ويستخرج جملة المبلغ ، ويسجل «قيمة الدين» في حسابه. (13)
وإذا أرسل في طلب «طلبيات» (معينة)، فإنه لا يقول: «سأكون شاكرا لو تفضلت ...»، بل يقول: «أريد أن يتم هذا»، و«لقد أرسلت إليك لتحضرها»، و«هكذا يجب أن تنفذ تعليماتي بدقة» و«بأقصى سرعة ممكنة».
الفصل الخامس والعشرون
الجبان
(1)
الواقع أن الجبن يبدو «على هيئة» تخاذل للنفس مبعثه الخوف. أما الجبان فهو الشخص الذي يؤكد: (2)
عندما يكون في رحلة بحرية، أن الصخور (التي بدأت تتراءى للعين) هي سفن قراصنة، وإذا ارتفع الموج ارتفاعا طفيفا سأل إن كان هناك أحد على ظهر السفينة لم يكرس في عبادة الأسرار، ثم يتجه إلى «الشخص» الممسك بالدفة ليعرف منه إن كان يتابع الاتجاه الصحيح، وما هي في رأيه حالة الطقس، ويقول لجاره إن «سبب» الخوف الذي يشعر به يرجع للحلم الذي رآه، ثم يخلع سترته ويناولها لعبده، ويتوسل المساعدة على الوصول للشاطئ. (3)
وفي أثناء الحرب، عندما يبدأ المشاة في الزحف، ينادي على جميع المواطنين (من بلده) ويطلب منهم أن يلتفوا حوله، وأن يقوموا باستطلاع «المنطقة المحيطة بهم»، ويقول إن من الصعب تحديد الأعداء «أو تمييزهم». (4)
وإذا سمع ضجة ورأى البعض يسقطون «قتلى»، قال للمحيطين به إنه نسي «أن يحضر» سيفه بسبب اللهفة (والسرعة)، ثم يجري إلى خيمته ويأمر عبده بأن يخرج ويرصد مواقع الأعداء، وفي هذه الأثناء يخفي سيفه تحت المخدة، ويضيع وقتا طويلا في بحثه المزعوم عنه. (5)
عندما يرى من «مكانه في» الخيمة أنهم يحضرون أحد الجرحى من أصدقائه، فإنه يسرع بالذهاب إليه ويشجعه، ويساعد في حمله، ثم يقوم برعايته، ويغسل جرحه وينظفه، ويجلس إلى جواره ويهش الذباب عنه، ويفعل كل شيء (ممكن) فيما عدا «الاشتراك» في الحرب ضد الأعداء. وحين يطلق نافخ البوق إشارة «الهجوم» يبقى ملازما لخيمته وهو يقول: «داهية تأخذك! إن صوته المدوي لا يترك الإنسان ينام «لحظة»!» (6)
ثم يقابل الرجال العائدين من المعركة وهو مخضب بدم الجريح، ويحكي لهم عن الخطر العظيم الذي تعرض له: «لقد أنقذت أحد الأصدقاء.» ويأخذ رفاقه من نفس القبيلة (أو العشيرة) إلى داخل الخيمة «لكي يروا» الجريح، ويصف كل واحد منهم على حدة كيف أحضر الرجل بنفسه وحمله بيديه إلى الخيمة.
الفصل السادس والعشرون
الأوليجاركي (أو المتسلط)
(1)
يمكن أن توصف الأوليجاركية بأنها هي الولع بالسلطة والنزوع الشديد للقوة والكسب. أما الأوليجاركي فهو الشخص الذي: (2)
ينضم للمجلس الشعبي أثناء التشاور حول الرجال الذين سيتم انتخابهم لمساعدة «الأرخون» في تنظيم موكب الاحتفال ب «الأعياد الديونيزية»، ويوضح (للجميع) أن هؤلاء «الرجال المنتخبين» ينبغي إعطاؤهم سلطة مطلقة. وإذا اقترح البعض عشرة «مساعدين» قال لهم: «واحد يكفي، ولكن يجب أن يكون رجلا!» «ويلقي على أسماعهم» بيتا واحدا من أشعار هوميروس:
لا يأتي خير من حكم الكثرة، فليكن الحكم لشخص واحد.
وهو البيت الوحيد الذي لا يزال يحفظه. (3) «ومما يدل على شخصيته» أن يلقي أمثال هذه الخطب الأوليجاركية: ينبغي علينا أن نتضامن ونتشاور معا (في هذه الأمور) بعيدا عن الرعاع وعن السوق، ولا يصح بعد اليوم أن نجري وراء الوظائف المهمة (أو الموظفين المهمين)، أو نسمح لهم بأن يحطوا من شأننا أو يجاملونا (ويثنوا علينا)، كما يقول أيضا في مثل هذه الخطب: «إما هم وإما نحن في هذه المدينة!» (4)
وعند الظهيرة يخرج من بيته بثوبه (أو معطفه) الملفوف «حول جسده»، وشعره المشذب (نصف المقصوص)، وأظافره المقلمة بعناية، ويظل يتبختر في سيره (في شارع الأوديون) وهو يقول: (5)
لم يعد أحد يستطيع الحياة في هذه المدينة (أي أثينا) بسبب الوشاة (أو المبتزين للأموال)! كما يقول: «إن «المحلفين» الفاسدين يسيئون معاملتنا في المحاكم، وإنني لأعجب مما يريده هؤلاء الذين يقحمون أنفسهم في السياسة! وإن التبرع وتوزيع الهبات توزيعا عادلا «عمل» لا يقابل إلا بالجحود.» وإنه «يخجل أثناء حضوره اجتماع المجلس الشعبي عندما يجلس بجانب واحد من أولئك الجائعين القذرين». (6)
ويقول «متى يتوقف «نزف دمائنا» أو تخريب بيوتنا بسبب التبرعات والهبات الخاصة وتكاليف تجهيز السفن (التي تطلب منا)؟» «وهؤلاء الرعاع الغوغائيون، كم أمقتهم!» ثم يذكر اسم ثيسيوس مؤكدا أنه هو أول من جلب المصائب على المدينة؛ إذ حشد سكان اثنتي عشرة مدينة في واحدة، كما ألغى نظام الحكم الملكي، ثم يؤكد أنه لقي العقاب الذي يستحقه؛ لأنه كان أول ضحية لهم (أي للديمقراطيين). ويضيف الكثير من هذه المزاعم التي «يلقيها على أسماع» الأجانب والأثينيين المتفقين معه في المزاج، أو على زملائه في الحزب.
الفصل السابع والعشرون
المتعلم على كبر
(1)
يبدو أن التعلم على كبر هو نوع من العشق للمهام الشاقة بصورة لا تتناسب مع السن. أما المتعلم على كبر: (2)
فهو الذي يحفظ، في الستين من عمره، أبياتا (من الشعر) عن ظهر قلب، ولكنه يتعثر عندما يحاول إلقاءها في مأدبة «عامة». (3)
ويتعلم من ابنه «إلى اليمين در» وإلى الشمال در، وإلى الخلف در. (4)
وفي «الاحتفال» بأعياد الأبطال يساهم بمبلغ يتيح له أن يشترك مع الشبان في سباق المشاعل. (5)
وعندما يدعى في مكان ما إلى أحد أعياد هرقل، فمن الطبيعي أن يخلع معطفه ليشارك في رفع الثور إلى أعلى للتمكن من لي رقبته. (6)
ويمضي إلى مدارس المصارعة حيث يقوم ببعض التدريبات. (7)
ويجلس في أكشاك العجائب (أو المنوعات) للتفرج على ثلاثة عروض أو أربعة، ويحفظ الأغاني عن ظهر قلب. (8)
وأثناء التدريب على الدخول «في أسرار» طقوس سابازيوس، تجده يحرص حرصا شديدا على أن يبدو أمام الكاهن في أجمل صورة ممكنة. (9)
وإذا أحب فتاة واندفع ليفتح بابها عنوة بعتلة (يحملها في يده)، ضربه منافسه «في حبها» ضربا مبرحا، وشده إلى المحكمة. (10)
وعندما يذهب إلى الريف يركب «على ظهر» حصان مستعار، ويحاول أن يقوم ببعض الألعاب (التي تدل على البراعة والفروسية) فيسقط على الأرض ويشج رأسه. (11)
وفي نادي العشرة ينظم احتفالات ل «تكريم» المساندين للنادي (أو الاتحاد). (12)
ويلعب مع خادمه (أو عبده) لعبة «الأعمدة الكبيرة». (13)
ويتنافس مع مربي أطفاله في رمي السهم والرمح، وينصحه في نفس الوقت بأن يتعلم منه، وكأن ذلك المربي لا يفهم شيئا. (14)
وعندما يقوم في الحمام بتنظيم عرض للمصارعة، فإنه يهز عجيزته «بشدة» ليوحي بأنه متمكن «من فنه». (15)
وحين يقام حفل نسائي راقص في مكان قريب، فإنه يجرب إحدى الرقصات بينما يدندن لنفسه «بلحن ما».
الفصل الثامن والعشرون
النمام
(1)
النميمة ميل في النفس ل «التفوه» بالكلام السيئ. أما النمام فهو الذي يرد على السؤال (التالي) «من هو هذا أو ذاك؟» على طريقة النسابين فيقول: (2)
سأبدأ أولا بالكلام عن أصله. لقد كان أبوه في الأصل يسمى سوسياس، وعندما دخل الجيش أطلق عليه اسم سوسيستراتوس، وبعد التسجيل في قائمة المواطنين وفي الديمة التابع لها سمي سويديموس. بيد أن أمه نبيلة ثراقية؛ فهذه السيدة تحمل على الأقل اسم كرينوكوراكا. ويقال إن المرأة التي يطلق عليها هذا الاسم تكون في بلادها من أصل نبيل. أما الرجل نفسه، كما هي العادة في مثل هذا النسب، فهو رجل خائب، وإنسان سيئ الخلق. (3)
وهو بطبعه السيئ يقول لأحد الناس: «إنني أعرف هذا معرفة كافية، ولن يمكنك أن تؤثر على رأيي فيه.» ثم يمضي في ذكر التفاصيل قائلا: «إن النساء من هذا النوع يسحبن الرجال من الطريق عند مرورهم أمام الباب، وفي هذا البيت تجدهن دائما رافعات أفخاذهن! ليست هذه نكتة كما يقال، ولكنهن يمارسن هذا كما تمارسه الكلاب في الشارع. وإنهن، باختصار، فخاخ «منصوبة» للرجال، ويجلسن بالقرب من باب البيت لكي يلبين الطلبات.» (4)
وإذا وجد أناسا يغتابون غيرهم، انضم إليهم بطبيعة الحال قائلا: ولكنني أكره هذا الإنسان أكثر من أي إنسان آخر. إن منظره نفسه يجعله شخصا منفرا، كما أن حقارته لا نظير لها. والدليل على هذا أن زوجته التي أحضرت له مع جهاز العرس عددا من «التالنتات» لا تأخذ منه منذ أن ولدت له ابنا «سوى ثلاث» دراخمات «لنفقات» الطعام، كما أنه يفرض عليها أن تستحم بالماء البارد يوم الاحتفال بعيد بوزيدون (الذي يحل عادة في عز الشتاء)! (5)
وعندما يكون جالسا مع غيره، فمن عادته أن يتكلم عن شخص غادر المجلس لتوه. وإذا شرع في كلامه عنه لم يستطع أن يتوقف، ولا أن يمسك (لسانه) حتى عن اغتياب أقاربه. (6)
وهو في الغالب ينم على أقاربه هو نفسه وأصدقائه، بل ينم على الأموات أيضا. أما النميمة فيسميها «الكلام الصريح»، والديمقراطية، والحرية، ويرى أنها أعظم متعة في الحياة.
الفصل التاسع والعشرون
الفاسد
(1) «الفساد» هو النزوع إلى الشر. أما «المفسد» فهو الذي: (2) يتعامل مع أناس خسروا قضاياهم (في المحاكم) أو ثبتت إدانتهم (في جرائم معينة)، ويتصور أنه سيصبح بذلك أكثر (3) ويقول أمام «جمع» من الطيبين إنه لا يوجد إنسان يولد طيبا بالفطرة، وإن جميع الناس في هذا متساوون. أما القول بأن فلانا طيب، فإنه يعتبر أن «هذه الطيبة» عيب يؤخذ عليه، «أو أن القول بهذا شيء مضحك». (4) وهو يصف الفاسد (أو المجرم) بأنه إنسان حر ومستقل، وذلك إذا اختبرناه (ونظرنا إليه نظرة منصفة)، كما يعترف بأن الكثير مما يقال عنه يمكن بوجه عام أن يكون حقيقيا، ولكن لا بد له أن يعارض بعض ما يقال عنه؛ ففي رأيه أنه بطبيعته طيب «أو موهوب»، وأنه صديق وفي وذكي، ثم يقف في صفه مؤكدا أنه لم يعرف إنسانا يفوقه «كفاءة» واستقامة. (4أ) وهو يساند المتهم الذي يتكلم (أو يدافع عن نفسه) في المجلس الشعبي، أو الذي يقف (في قضية) أمام المحكمة، ومن عادته أن يقول للقضاة (أو المحلفين) إنه ينبغي عليهم ألا يحكموا على الرجل بل على القضية، كما يقول «عن المتهم» إنه هو الكلب الوفي للعشب؛ لأنه يضع عينه على الأشرار «والمجرمين». ثم يقول: لن نجد أحدا يحرص على الصالح العام لو استبعدنا أمثال هذا الرجل، «أو لم نقدرهم حق قدرهم». (5) ومن عادته بطبيعة الحال أن يؤازر الأشخاص المنحطين (الفاسدين)، وأن يظهر أمام القضاء كمحام في قضايا مشبوهة. وإذا تولى هو نفسه مهمة القاضي، فإنه يأخذ عبارات الأطراف المتنازعة على أسوأ معنى.
الفصل الثلاثون
البخيل
(1)
البخل هو السعي وراء الكسب المشين. والبخيل هو الذي: (2)
لا يضع الخبز الكافي أمام ضيوفه. (3)
ويقترض «مالا» من الغريب الذي يأوي إلى بيته «للمبيت عنده». (4)
وعندما يقوم بتوزيع حصص الطعام (في وليمة أو حفل غداء أو عشاء)، فإنه يقول إن من العدل أن يأخذ الموزع حصة مضاعفة، ثم يتولى بالفعل أخذ حصته بنفسه. (5)
وإذا باع نبيذا (أو خمرا)، فإنه لا يتورع عن بيعه مغشوشا (بالماء) حتى لصديقه. (6)
ولا يأخذ أبناءه معه إلى المسرح إلا إذا سمح القائمون على النظام بالدخول المجاني. (7)
وإذا سافر في مهمة رسمية، ترك المبالغ التي صرفتها له الجماعة (أو الدولة) في بيته وأخذ يقترض من زملائه، وحمل خادمه فوق ما يستطيع حمله، وأعطاه أقل حصة من الطعام «الذي يوزع» على بقية أفراد المجموعة، وطالب بنصيبه من الهدايا (التي يقدمها المضيفون) وقام ببيعها. (8)
وفي الحمام يدهن «جسده ويمسح عليه»، ويقول لخادمه (أو عبده): «الزيت الذي اشتريته زنخ يا ولد!» ويستعمل الزيت الذي يستعيره من شخص آخر. (9)
وإذا عثر خدمه في الطريق على «بعض» العملات النحاسية طالبهم بنصيبه منها؛ لأن اللقية (أي ما يعثر عليه بالصدفة) ملك عام. (10)
ويسلم معطفه (أو عباءته) للتنظيف، ويستعير عباءة من أحد معارفه، ويظل يدور بها (وهو يجرجرها وراءه) عدة أيام إلى أن يطالبه صاحبها بردها. (11)
وهو يكيل بمكيال «فيدوني» - قاعه متورم (أو منتفخ) من داخله - حصص الطعام «التي يوزعها» على أهل بيته، في الوقت الذي يزيح فيه الكثير عن السطح. (12)
وهو يدلس عند الشراء من صديق يعتقد أنه يبيع بالحق (والقسطاس)، «ثم يبيع ما اشتراه منه بمجرد الحصول عليه». (13)
وحين يكون عليه أن يريد دينا مقداره ثلاثون «مينة»، فإنه يدفعه منقوصا بمقدار أربع دراخمات. (14)
وعندما يتغيب أولاده شهرا كاملا عن المدرسة بسبب المرض، فإنه يخصم المبلغ (الذي يدفعه في الشهر) من المصاريف. وخلال شهر فبراير، الذي تكثر فيه أيام الأعياد، لا يرسلهم على الإطلاق لتلقي دروسهم لكي يوفر المصاريف. (15)
وإذا أجر عبده (للعمل خارج البيت) وجاءه العبد ليسلمه الفائدة المستحقة له، خصم منه كذلك قيمة تحويل العملة النحاسية، وفعل نفس الشيء بصورة معكوسة مع الكفيل (الذي اشتغل العبد عنده) الذي يقدم له كشف الحساب. (16)
وعندما يولم (وليمة) لإخوانه (في العشيرة أو الجماعة)، فإنه يطالب «بدفع قيمة» حصص الطعام التي يقدمها لعبيده من خزينة الجماعة، ويسجل قائمة بعدد أنصاف «حزم» الفجل المتبقية على المائدة حتى لا يستولي عليها الخدم (أو الندل). (17)
وإذا سافر في رحلة مع بعض معارفه فإنه يستخدم خدمهم، ويؤجر خدمه دون أن يورد الحصيلة لخزينة الجماعة. (18)
وإذا أقام في بيته مأدبة (لإخوانه وزملائه في الجماعة)، أضاف إلى قائمة الحساب كل ما ساهم به من الخشب، والعدس، والخل، والملح، والزيت. (19)
وإذا تزوج أحد أصدقائه أو زوج ابنته، «يتعمد» أن يسافر (للخارج) قبل ذلك بوقت كاف؛ لكيلا يضطر لإرسال هدية. (20)
ثم إن الأشياء التي يستعيرها من معارفه هي من ذلك النوع الذي لا يطالب أصحابه باسترداده، ولا يقبلونها حتى لو ردها إليهم.
هوامش وتعليقات
(1) المرائي
الكلمتان الأصليتان، وهما
Eironia
و
Eiron ، لا يقصد بهما المعنى المألوف من الكلمتين المقابلتين لهما في اللغات الأوروبية الحديثة، وهو التهكم أو الدعابة والسخرية
Irony
و
Ironie ، ولا المعنى «السقراطي» الذي ينطوي على التهكم المعروف المنسوب للفيلسوف مع التواضع والسعي لطلب الحقيقة عن طريق الحوار. فالمراد هنا أقرب إلى معنى التخفي أو التنكر، وربما يكون النفاق أو الكذب والتكلف والافتعال وعدم الإخلاص أنسب وأقرب إلى التعبير عن الكلمة التي وضعها المؤلف عنوانا لهذه الفقرة، وهي كلمة الرياء التي يوحي بها السياق. (1) أو هو تكلف الأسوأ والتظاهر به في القول والفعل. (2) المتملق (2) الكلمة الأصلية تعني الرواق المسقوف
Stoa . والمقصود هنا بالقاعة هو مكان تجمع الناس. (9) يحيط الغموض بتعبير «سوق النساء»، والظاهر أن الأدوات المنزلية كانت تباع في هذا السوق، وأن العبيد هم الذين كانوا يكلفون بشرائها وحملها إلى بيوت السادة. (3) كثير الكلام
يلاحظ ابتداء من السطر الثالث من الفقرة الثالثة أن النص غير مؤكد، وأن الناشرين مختلفون فيما بينهم حول ترتيب عباراته، وإن كنت لحسن الحظ لاحظت أن التطابق شبه تام بين الترجمتين الألمانية والإنجليزية، والمعروف أن ديونيزيوس هو إله الخصب، وقد سمي في وقت متأخر بإله الخمر (باخوس في اللاتينية وعند الرومان)، وهو في أصل ثراقي وفريجي، وتروي الأساطير قصص الصراع في سبيل إدخال عبادته العنيفة وطقوسها الصارخة بالنشوة والوجد إلى بلاد الإغريق وانتشارها حتى الهند، وكانت الأعياد الديونيزية تقام في الربيع (شهر مارس) احتفالا بديونيزيوس، ولا سيما في منطقة أتيكا، كما أن الأغاني التي كانت تنشد في طقوس الاحتفال به، وهي المعروفة باسم الديثيرا مبوس، هي التي نشأت عنها الدراما اليونانية.
وعبادات الأسرار - المقصورة على أعضائها «المدشنين» فيها والملزمين بالصمت وعدم إفشاء شعائرها ورموزها الخفية - وجدت منها أنواع كثيرة تقوم كلها على عقائد الخلاص والتكفير والبعث وضمان الخلود. ومن أهم العبادات الإغريقية الصميمة تلك العبادات الإيلويزية (نسبة إلى مدينة الويزيس إحدى المدن الأتيكية إلى الشمال الغربي من أثينا) التي كانت تقام طقوسها للربات ديميتر وبرسيفون وكوري. أما الأوديون فهو المسرح المسقوف الذي تقام فيه العروض والاحتفالات الموسيقية. وقد أقام بركليس أقدم أوديون في عام 442 قبل الميلاد على المنحدر الجنوبي الشرقي من الأكروبوليس في أثينا، واشتهر بزخارف أعمدته البديعة. وأما الأباتوريات أو الفراتريات، أي التجمعات الأخوية، فكانت في الأصل اتحادات ذات طابع اجتماعي وسياسي وأملاك مشتركة وطقوس دينية خاصة بها وبأعضائها المحددين والمؤلفين من أنساب وأعراق مختلفة، ولكنها فقدت منذ القرن السادس قبل الميلاد أهميتها السياسية، ولم يتبق منها سوى الأعياد الدينية. (4) الريفي (1) المقصود هو الريفي الذي تتسم طباعه بالفظاظة والخشونة و«الغشم»، ويفتقد إلى التهذيب والتحضر والمعرفة. (2) هو نوع من الشراب المتخمر، مزيج من النبيذ والعسل والدقيق، وكان يستخدم أيضا ضد الإمساك. (3) هكذا في الأصل وفي الترجمة الألمانية. أما الترجمة الإنجليزية فتقول إن الريفي يؤكد أن الثوم رائحته زكية مثل رائحة أي نبات عطري آخر. (6) أو يستشير العبيد ويأخذ رأيهم في أخص أموره ومشاغله العملية، وذلك كما تقول الترجمة الإنجليزية. (10) الكلمة الأصلية تفيد معنى الخبازة والطباخة معا. (13) يلاحظ أن هذا المبلغ المالي عبارة عن قطعة أو قطع من الفضة يمكن أن توصف بأنها ماسحة. (14) أي إنه يتذكر ما أعاره لغيره وهو راقد في فراشه، فيجفو النوم عينيه، ويسارع بالمطالبة برده في منتصف الليل. (5) المجامل
الكلمة الأصلية
Areskeias
و
Areskos
تعني الحرص والحريص على مجاملة الآخرين إلى حد القلق والتلهف على إظهار الإعجاب الشديد بهم ، وذلك على الرغم من أن هذا السلوك لا يكون له وقع حسن على النفوس، وربما يؤدي - على عكس المقصود منه - إلى ترك انطباع سيئ عن صاحبه. (5) لا يعرف شيء عن مضمون هذه اللعبة التي يرد ذكرها في هذا النص وفي نصوص أخرى عديدة. ويلاحظ أن بعض الناشرين يتشككون في أصالة الفقرات التالية، ابتداء من الفقرة السادسة إلى العاشرة، وذلك بحجة أنها تقطع وحدة النص ولا تدخل بصورة واضحة في دائرة التعريف الذي وضعه المؤلف للمجامل؛ الأمر الذي حدا بالمترجم الإنجليزي إلى إسقاطها تماما من ترجمته متذرعا بأنها يمكن أن تكون منحولة (ص37). والواقع أن هذا لا يبرر الشك في وحدة النص المأثور. (8-9) من الواضح أن هذه كلها تذكارات ثمينة ونادرة كان «البرجوازيون» الأثينيون يحرصون على اقتنائها.
وكيزيكوس (التي تسمى اليوم بلكيز) هي إحدى المستعمرات الملطية على الساحل الأيوني، وكانت عضوا في الاتحاد الأتيكي الذي تكون تحت قيادة أثينا، ودارت بالقرب منها معركة بحرية في سنة 410ق.م. استطاع فيها الأسطول الأثيني بقيادة ألكيسياديس أن يدمر الأسطول الإسبرطي عن آخره.
أما هيميتوس فهي سلسلة جبال تقع إلى الجنوب الشرقي من أثينا، وكانت في العصر القديم منطقة غابات اشتهرت بالعسل. وأما «توري» فهي إحدى المستعمرات التي أسسها الإغريق في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد في جنوب إيطاليا، ثم تحولت في القرن الثاني ق.م. إلى مستعمرة رومانية باسم كوبيا.
والمهم أن بعض البيوت الأثينية كانت تحرص على الاحتفاظ بالقرود ضمن حيواناتها المنزلية، وأن الحمام الصقلي كان مشهورا بجماله، كما كانت قطع الزهر المصنوعة من عظام الغزلان الليبية والزجاجات «التورية» الصغيرة المتميزة بأشكالها البديعة والعصي الإسبرطية أشياء محببة ومرغوبا فيها لاستكمال مظاهر الترف. (6) الأحمق
الكلمة الأصلية
Aponoia
تعني كذلك الجنون واللامعنى، وربما دلت كذلك على اليأس أو الطيش. (3) الكورداكس
Kordax
هي إحدى الرقصات المنفردة التي كانت تعرض أحيانا في الكوميديا القديمة أو خلال بعض المآدب، ويلاحظ أن سيد الكوميديا القديمة، وهو أرسطوفان، لم يلجأ إليها، ولم يرد أي ذكر لها في مسرحياته. (8) المقصود أنه يمكن أن يمتنع عن الشهادة بأن يقسم أنه يجهل كل شيء عن القضية، أو بأن يعتذر عن الإدلاء بشهادته دون أن يتردد أيضا عن حلف اليمين.
أما عن ملفات الوثائق التي كانت توضع في مغلف خاص، فكانت تحتوي على نتائج التحقيقات الأولية في القضية المطروحة. (9) أي إن الفائدة تعادل ربع قيمة القرض. والملاحظ أن الفم أو الفك كان يوصف بأنه «محفظة الفقراء»، وقد ورد هذا الوصف في بعض الكوميديات القديمة. ولا يختلف وضع النقود في الفم اختلافا كبيرا عن وضع القلم وراء الأذن كما يفعل في أيامنا بعض الحرفيين كالنجارين، أو بعض الموظفين والكتبة سهوا أو بحكم العادة. (7) الثرثار (6) الإشارة هنا إلى المعارك الخطابية الحامية التي نشبت بين آيسخينيس (من 389 إلى حوالي 314ق.م. وممثل الحزب المقدوني في أثينا لصالح الملك فيليب) وديموستينيس السياسي والخطيب الأثيني الأشهر، ولا سيما حول موضوع الإكليل الذي طالب كتيزيفون أن يتوج به رأس ديموستينيس عرفانا وتقديرا لإنجازاته السياسية وكفاحه في سبيل حرية أثينا واستقلالها. وقد ألقى أيسخينوس بهذه المناسبة خطبة جعل عنوانها «ضد كتيزيفون»، ولكن خصمه العظيم «ديموستينيس» رد عليه وهزمه شر هزيمة؛ مما اضطره في سنة 330ق.م. للذهاب إلى المنفى.
أما عن أريسطفون فقد كان - كما يدل النص الأصلي - أحد كبار الموظفين التسعة (أو الأرخون) الذين كانوا ينتخبون كل سنة وتوزع عليهم الوظائف والمهام الكبرى، وقد كان المشرع والسياسي والشاعر الأثيني الشهير صولون من أوائل الذين أعلنوا سخطهم على هذا النظام، كما أن النظام نفسه بدأ في التحلل مع زحف الموجات الديمقراطية وزحزحة النبلاء والطغاة عن مراكز الحكم والتأثير، وذلك من أواخر القرن السادس قبل الميلاد، خصوصا على عهد كلايستنيس الذي كان له أكبر الفضل في نشر الديمقراطية. (8) مروج الإشاعات (2) أو إذا قابل أحد الناس واجه نظرته العابسة بالابتسام وسأله ... (عن الترجمة الإنجليزية). (4) الإشارة هنا إلى الصراعات الدامية التي دارت على مدى عشر سنوات في مقدونيا (من سنة 319 إلى سنة 309ق.م.)، وربما أمكننا أن نستنتج من هذا تاريخ تأليف ثيوفراسطوس لهذا الكتاب . (5) عاش ثيوفراسطوس (371-287ق.م.) في شبابه ذروة الصراع الأخير بقيادة ديموستينيس للحفاظ على استقلال أثينا وحريتها من أطماع فيليب وولده الإسكندر الأكبر التوسعية. وفي حوالي سنة 338 استطاع فيليب المقدوني أن يضم بلاد الإغريق برمتها تحت سيطرته. وعندما مات الإسكندر في بابل سنة 323ق.م. كان أحد قادته، وهو أنتيباتر، هو الذي يتولى حكم مقدونيا وبلاد الإغريق أثناء غيبته الطويلة في الشرق. تربع أنتيباتر على عرش الملك بعد وفاة الإسكندر، وعقب وفاته هو نفسه في سنة 319ق.م. نشب صراع مسلح بين ولده كاساندر وبين بوليبرخون الذي كان أنتيباتر قد رشحه لخلافته. والمهم أن من الضروري أن نأخذ هذه الخلفية المضطربة بعين الاعتبار عندما نفكر في الشخصيات والطباع المختلفة التي قدمها ثيوفراسطوس ونفخ فيها أنفاس الحياة أثناء هذه الاضطرابات، ولا بد من تذكرها أيضا إذا اطلعنا على كوميديات ميناندر، وتوقفنا عند النساء والرجال والعبيد والتجار ... إلخ الذين صورهم قلمه الرائع (راجع التمهيد). (8) استدرار الدموع من الأعين لإقناع المستمعين بصدق ما يقوله مروج الإشاعات إضافة من المترجم الإنجليزي الذي يلجأ في كثير من الأحيان إلى التصرف لإبراز المعنى وبث الحياة في تضاعيف النص لكي تستساغ قراءته من جانب القراء المعاصرين. وقد تابعته في بعض هذه التصرفات مع الحرص على وضعها بين قوسين. (9) يضيف المترجم الإنجليزي بعد هذه الفقرة فقرة أخرى - لم ترد في النص الذي حققه ونشره الأستاذ بيتر شتاينتز واعتمد عليه المترجم الألماني - وقد رأى (أي المترجم الإنجليزي) أن يثبت هذه الفقرة الختامية بعد انتهاء النص المحقق للفقرة الثامنة عن مروج الإشاعات، مع إغفال غيرها من الإضافات التي انتحلها كتاب متأخرون، وألحقوها بفقرات عديدة أخرى (هي الأولى، والثانية، والثالثة، والسادسة، والعاشرة، والثامنة والعشرون، والتاسعة والعشرون)، وذلك عندما تصوروا أنهم أمام كتيب ثمين في فلسفة الأخلاق، واعتقدوا أن لديهم ما يضيفونه إليه بزيادة في الموعظة والاعتبار.
وإليك هذه الإضافة المتأخرة لنص الفقرة الثامنة عن مروج الإشاعات: «إن الشيء الذي لا أفهمه عن أمثال هؤلاء الناس هو السبب الذي يجعلهم يفعلون هذا؛ فلا يقتصر الأمر معهم على التورط في الكذب، وإنما يتعداه إلى الخسارة في أعمالهم اليومية. إن البعض منهم، هذا شيء يتكرر حدوثه، قد سرقت معاطفهم في الوقت الذي كانوا فيه يخطبون أمام جمهور من المستمعين في الحمامات العامة، والبعض الآخر خسر الدعوى المقدمة منه للقضاء بسبب تغيبه عن حضور الجلسة، بينما كان يحرز الانتصارات في البر والبحر في الاجتماع الشعبي تحت سقف الرواق، فضلا عن فريق آخر منهم فاتته وجبة الغداء أو العشاء لأنه كان في نفس الوقت مشغولا بفرض الحصار الكلامي على المدن. والواقع إن انشغال هؤلاء الناس «بمثل هذه الأعمال» أمر يدعو إلى الرثاء الشديد؛ فهم مشغولون طول اليوم في جميع الأماكن العامة وفي كل مصنع وكل ركن من السوق بإثارة الملل المميت في نفوس المستمعين إليهم، واستنفاد جهودهم وطاقاتهم بالأخبار والإشاعات الكاذبة التي يلفقونها.» (9) الوقح
الوقاحة
Anaixuntia
هنا تدل على معان أخرى تدور في فلكها وإن بدت غير وثيقة الصلة بها، كالغش، والخداع، والرغبة في الإثراء بأي وسيلة، وإدمان التطفل على موائد الآخرين وممتلكاتهم، وذلك بجانب المعاني السلبية الأخرى الأعم من ذلك، والتي تلتصق عادة بالسلوك الوقح. (3) كان من المعتاد في هذه المناسبة أن يدعى الأصدقاء لحضور الاحتفال بتقديم الأضاحي والقرابين للآلهة، غير أن وقاحة صاحبنا تحمله على أن يدعو نفسه للطعام على موائد الآخرين، ويستأثر باللحم فيملحه أو «يخلله» ويخزنه للمستقبل. (7) أو يذهب إلى بيت غريب (كما تقول الترجمة الحرفية في النص الألماني). كذلك تحتمل العبارة الأخيرة أن تؤدى على هذا النحو، كما فعل المترجم الإنجليزي: ثم يلزم الشخص الذي أقرضه إياها أن يحملها بنفسه إلى بيته. ولا شك أن هذا الطلب ألصق بالوقاحة. (8) كان الماء الدافئ يحفظ في القدور النحاسية، ويطلب المستحمون من العامل أو صاحب الحمام أن يصب منه على رأسه وجسده بما يعادل «أوبولين» (كان الأوبول عملة إغريقية قديمة من الفضة، ثم صارت نحاسية، وهي على العموم ذات قيمة متواضعة). (10) النتن
الكلمة الأصلية
Mikrologia
تعني الصغار، كما تعني الشح الشديد إلى حد الوضاعة. ولأن كلمة «الصغير » لا تؤدي المعنى تماما، فقد فضلت كلمة النتن، التي تحتفظ بظلال المعنى العامي عندما يوصف شخص بأنه «قليل» أو نتن (دون أن تفوح منه بالضرورة رائحة منفرة). والمعروف على كل حال أن النتانة يمكن أن تنصرف إلى كل شيء - حتى إلى الكلام والتفكير! - ولا تقتصر على الإمساك عن الإنفاق إلى حد الوضاعة. (1) أي إنه يتحاشى الإنفاق فيما يملك، ويبالغ في ذلك إلى حد الشطط. (2) ربما يكون المعنى أنه يذهب إليك أو إلى غيرك، فيزعجك في منتصف الشهر بأن يطلب منك فائدة صغيرة على الحساب، وتقدر قيمتها المتدنية بنصف أوبول (راجع الهامش الأخير - رقم 8 - في التعليقات على الفقرة السابقة في الوقح والوقاحة). (3) من المعروف في الأساطير الإغريقية أن أرتميس هي ابنة زيوس وليتو، والشقيقة التوءم للإله أبولو، وأنها ولدت في جزيرة ديلوس. وقد توحدت في شخصها خصائص عدد من الآلهة المعبودة عند الإغريق؛ فهي إلهة الصيد والطبيعة العذراء، وهي سيدة الحيوانات التي ارتبط اسمها بوجه خاص بالغزال والدب، وتعودت حوريات الماء أن تسير في ركابها، وارتبطت كذلك بالقمر ارتباط شقيقها بالشمس. وإذا كانت قد اشتهرت بأنها إلهة العفة والطهر، فقد عرفت كذلك كإلهة لخصوبة في النبات والحيوان؛ تبارك الزواج، وتتضرع النساء باسمها إذا جاءهن المخاض. وكثيرا ما صورت في الأعمال الفنية وهي تحمل السهم والقوس والحربة وتتبعها الغزلان والحوريات، ولها تمثال في متحف اللوفر يطلق عليه اسم «أرتميس فرساي»، وهو نسخة رومانية من تمثال برونزي يرجع للنصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد، وتبدو فيه وهي تنتزع سهما من جرابها أثناء انشغالها بالصيد. (4) ما بين قوسين زيادة للتوضيح، وهي مأخوذة عن الترجمة الإنجليزية (ص41). (5) لا أعلم هل كان العبيد يتقاضون عن خدماتهم الشاقة مالا أم كان السادة يكتفون بإطعامهم. لهذا وضعت الاحتمالين معا. (6) الكلمة الأصلية معناها القرش (أو البنسات الثلاثة، كما نجد في الترجمة الإنجليزية الأوبرا القروش الثلاثة المشهورة للكاتب المسرحي الألماني برشت الذي أخذ فكرتها بدوره عن أوبرا بالاسم نفسه للإنجليزي جون جاي). (7) الضرر هنا يرادف إتمام صفقة خاسرة. (9) أي الأحجار التي تعين بها الحدود الفاصلة بين أرضه وأراضي غيره. ومن الواضح أن كل هذه الأعمال تكشف عن صغار صاحبنا وشحه إلى حد «النتانة ». (11) الفظ
الكلمة التي وضعها المؤلف عنوانا لهذه الفقرة، وهي
Bdeluria ، تدل في الأصل على نوع من السباب المقذع، كما تتصل بكل ما يثير النفور والتقزز في النفس، ويكاد وصف المواقف المختلفة لصاحب هذه الشخصية أن يقتصر على الجوانب المضحكة من سلوك هذا الإنسان المقزز والكريه الفظ. (7) أو هو نوع من المزاج الخشن. (8) بعد هذه الفقرة التي ينتهي بها النص الأصلي وترجمته الألمانية، يورد المترجم الإنجليزي أربع عبارات أخرى أوردها المترجم الألماني في الفقرة التاسعة عشرة المخصصة لشخصية المقزز أو الكريه. وإذا دل هذا على شيء فإنما يدل على الاختلاف في ترتيب فقرات النص بين ناشر وآخر، وذلك كما نلاحظ هنا بين نشرة أوشر الإنجليزي وشتاينمتز الألماني. (12) عديم الذوق
الكلمة الأصلية في عنوان هذه الفقرة، وهي
Akairia ، تدل على تفويت اللحظة المناسبة للقول أو الفعل، أو عدم اختيار «مقتضى الحال» والظرف بال
Akairos
أو عديم الذوق. ومما يذكر أن لكلمة الكايروس
Kairos
أو اللحظة المواتية تاريخا عريقا في الأدب والفلسفة منذ عهد الحكماء السبعة الإغريق إلى الفلاسفة المحدثين والمعاصرين من كيركجارد إلى هيدجروباسبرز وباول تليش (راجع إن شئت مقالا لكاتب هذه السطور عن اللحظة الخالدة ضمن كتابه شعر وفكر، هيئة الكتاب، القاهرة، 1995، ص189 وما بعدها). (1) هكذا في الترجمة الإنجليزية، أما الألمانية فتقول ما معناه أن عدم ملاءمة الوقت المناسب هي توافق زمني مؤلم للواقعين تحت تأثيره أو ضاربهم. (3) في الترجمة الإنجليزية أنه ينشد لها أغنية حب عندما تكون مصابة بنزلة برد. (8) في الترجمة الإنجليزية: بعد أن تكون قد انتهيت من بيع بيتك. (13) المفرط في حماسه (5) أي يفصل بين اثنين مشتبكين في شجار أو عراك حتى ولو كان لا يعرفهما. (6) أو يتطوع ليدل غيره على طريق مختصر، وإن لم تكن لديه أدنى فكرة عن الطريق الذي يسير فيه (عن تصرف المترجم الإنجليزي). (10) كان من عادة الإغريق عند وفاة امرأة أن يقتصروا على نقش اسمها مع اسم الأب والزوج، كما أن صفة المحترم أو الفاضل أو الطيب
Xrestos
لم تكن تنسب لكل من يدون اسمه على شاهد القبر. والمفارقة هنا تكمن في أن صاحبنا «المفرط في حماسه» ليس ملزما على الإطلاق بإقامة شاهد قبر لامرأة لم يتضح لنا من النص أنها تمت إليه بصلة قرابة. دع عنك أن يجشم نفسه عناء تدوين الأسماء على هذا الشاهد، ولكن المؤلف يحاول فيما يبدو أن يؤكد أن صاحبنا المغالي في عواطفه يظهر الشهامة في غير موضعها. (14) البليد
الكلمة الأصلية
Anaisthesias
و
Anaisthetos
تدل أساسا على توقف الإدراك الحسي، وانعدام الشعور أو التبلد. وواضح من النص أن المقصود هو غياب الحضور الذهني أو بطء الفهم والافتقاد للفطنة والوعي. (1) حرفيا خمول النفس أو بطؤها في الفهم والوعي. (7) أو هذا من بخته أو من حسن حظه! (12) هذه الفقرة مضطربة في النص الأصلي، وقد صاغها المترجم الإنجليزي على هذه الصورة: «وعندما يسقط المطر يقول ما أزكى هذه الرائحة التي تهب من السماء.» وذلك في الوقت الذي يقول فيه غيره «من الأرض». (15) المتعالي
تحتمل كلمة ومنها الصفة معاني كثيرة، من أهمها الزهو أو العجب بالنفس الذي ينطوي بالضرورة على الادعاء والغرور والتكبر واحتقار الغير والتقليل من شأنهم. وقد أداها المترجم الإنجليزي بالعدواني، وفضلت عليها المتعالي. (16) المؤمن بالخرافات
عنوان هذه الفقرة، وهو
Oeisidaimoia ، يدل بمعناه الإيجابي على توقير الآلهة وإجلالهم والخشوع لهم، فإذا زاد كل هذا عن حده أمكن أن يؤدي إلى الإيمان بالخرافات والأوهام. وقد فكرت في اختيار كلمة الموسوس - على الرغم من ظلالها النفسية والمرضية - للتعبير عن طباع هذه الشخصية التي تسكنها الهواجس وتتسلط عليها الخرافات، ثم عدلت عنها واستقر رأيي على المعنى المباشر. (2) كان لأوراق الغار، في تصور قدامى الإغريق، القدرة على طرد القوى الشريرة. (4) كانت الثعابين غير السامة مقدسة لدى ساباسيوس (زيوس أو جوبيتر عند الرومان)، كما كانت تعتبر رموزا للأبطال الراحلين. (5) يبدو أن هذه الأحجار المباركة كانت متوافرة بكثرة، غير أن التكريم والتوقير الذي تحظى به من المؤمن بالخرافات لا يخلو من مبالغة مضحكة. (6) كان هؤلاء المفسرون يتمتعون بما يشبه السلطة الرسمية، ولكن معرفة رأيهم في مثل هذا الفأر العدواني لا تخلو كذلك من سخرية. (7) كانت هيكاتيه إلهة قديمة جدا، وربما جاءت في الأصل من آسيا الصغرى. وقد عرفت منذ القرن السادس قبل الميلاد؛ إذ ورد ذكرها في أنساب الآلهة (الثوجونيا) بهزيود، ثم في كثير من المسرحيات التراجيدية والكوميدية منذ القرن الخامس. وتعتبر إلهة «شعبية» للسحر والأشباح، تظهر للبشر بالليل فيفزعون من منظرها. وهي تقود الأرواح على ضوء المشاعل بينما الكلاب تنبح في موكبها، وتقيم في المدافن وعلى مفارق الطرق. ومن هنا جاءت تسميتها بتريفيا أو إلهة الطرق الثلاثة، وبأنتيا أو إلهة السحر. (8) لم تكن البومة علامة شؤم، ولكن المؤمن بالخرافات كما يوصف في هذه الفقرة يتوجس شرا من كل شيء. (10) لا يعرف شيء مؤكد عن دلالة هذه الأعمال والطقوس، كما أن النص في هذا الموضع مضطرب ولا يساعد على الاتفاق على رأي موحد بشأنها. وهيرما فرود يتوس هو الابن الجميل الذي أنجبه الإله هرميس (رسول الآلهة إلى البشر) من أفرويت، وهو يرمز للجنسية المزدوجة في شخص واحد، وكانت صوره وتماثيله التي بدأت تقام له في البيوت منذ القرن الرابع قبل الميلاد تحظى بالتكريم وتقدم لها الطقوس. (11أ) التكريس هنا بمعنى «التدشين»، أو الدخول في جماعة سرية ذات عبادة خاصة وطقوس سرية يحظر ممارستها أو معرفة شيء إلا للأعضاء المنتمين إليها. ولا يتضح من النص أي شيء عن طبيعة هذا التكريس وطقوسه، بالإضافة إلى أن كهنة أورفيوس لم يكونوا يتمتعون بسمعة طيبة، ولم يكن لهم أي طابع رسمي. (12) من المعروف عند الإغريق وغيرهم من الشعوب القديمة أن للماء المالح في البحار قدرة على التطهير. (23) وهذه السطور أيضا موضع خلاف بين الناشرين والشراح. وكان يعتقد أن للثوم قدرة على التطهير ومقاومة الشر. ويلاحظ أن هيكاتيه تعود هنا أيضا للظهور، حيث يحاول المؤمن بالخرافات أن ينجو من سحرها وشرها. (14) يسود الاعتقاد حتى اليوم بأن البصق يحمي من سوء الحظ. ولا شك أن هذه الخرافات تنتمي للفولكلور والمعتقدات الشعبية، وتعبر عن تصورات الرجل العادي وعن مخاوفه وآماله منذ القدم. (17) التذمر
التذمر
Mempsimoiria
بمعنى السخط على الحظ المقدور بجانب الميل المستمر إلى الشكوى والتظلم. (1) أو السخط على حظه من الحياة ونصيبه الذي قسم له في هذه الدنيا. (4) في صياغة أخرى: لا لأن السماء تمطر، بل لأن المطر تأخر كثيرا. ويلاحظ أن الطباع التي يتسم بها المتذمر تتداخل إلى حد كبير مع طباع سيئ الظن أو المتشكك وعديم الثقة في الناس كما سنجدها في الفقرة التالية. (18) سيئ الظن
Apistias
و
Apistios
تعني سوء الظن والتشكك في كل شيء وعدم الثقة في الجميع. (1) أو بتعبير أبسط هو افتراض أن كل الناس تغشك وتظلمك. (4) أو أغلقت صندوق النقود. (5) لعل المقصود من وراء ذلك أنه حتى ولو لم يحصل منهم شيئا فسيكون على الأقل قد أنذرهم أمام الشهود. (6) للتنظيف أو الرفي والترقيع. (19) المقزز
عنوان هذه الفقرة
Quesxereia ، والصفة منها
dusxeres ، يمكن أن يفهم منها تلك الحالة المزرية التي تظهر الإنسان في مظهر كريه ومنفر ومثير للتقزز في نفس كل من تقع عينه عليه، كما هو مثير للاستغراب من القذارة التي وصل إليها (حتى الفقر والظلم الاجتماعي وغيبة التكافل الحقيقي لا يمكن أن تبرر أو تغفر قذارة المواطنين الذين نراهم في شوارع مدننا وعلى أرصفتها بصورة مهينة للمجتمع كله وللإنسان والإنسانية!) (3) وبالطبع يجعل الاقتراب منه أو محاولة الكلام معه شيئا لا يطاق. (5) هكذا في الأصل، ولكن الترجمة الإنجليزية تتصرف فيها على هذه الصورة: وهو لا يغتسل قبل أن ينام مع زوجته. (6) الفعل الوارد في الأصل، وهو
Sfusesthai ، يعني رفع النبض أو إثارة النشاط في الجسم إلى حد الجيشان، والمقزز يصب الزيت الزنخ على الماء الذي يستحم به لكي يحدث هذا الأثر فيما يبدو من ظاهر النص. ومع ذلك فإن الترجمات تتفاوت في أداء العبارة الأصلية. والمهم أن استعمال الزيت الزنخ يجعل رائحة المستحم مقززة ولا تحتمل، وبخاصة عندما يسيل منه العرق. (8) أي يقرأ البخت عن طريق رصد حركة الطيور، وربما كانت كلمة «التطير» ذات صلة بهذا النوع من قراءة الحظ. (9) يلاحظ أن ترتيب العبارات الثلاث التالية (من التاسعة إلى الحادية عشرة) أمر مختلف عليه بين الناشرين. (20) الجلف
يمكن فهم الكلمة الأصلية، وهي
Aedia ، ومنها الصفة
Aedes ، بأنها سلوك سقيم ينم عن قلة الذوق ويبعث على الضيق، ولكنه لا يؤذي. ومن هنا يكون القائم بهذا السلوك هو الشخص المتعب أو المزعج أو غير المريح. وقد فضلت أن أسميه الجلف لقدرته على التعبير بجدارة عن كل هذه المعاني والظلال غير المستحبة. (5) أو الوغد الصغير الطالع لأبيه. (6) يبدو أنه شراب يعد من أعشاب معينة ويخلط بالنبيذ ليساعد على الإسهال الشديد. (8) النص مضطرب ويتعذر فهمه؛ ولهذا تتفاوت ترجماته عن بعضها تفاوتا شديدا. ولعل المقصود أن كل إنسان ينطوي على الخير والشر والسرور والألم على السواء، ولا يمكن تصور بشر لم يجربهما معا. والمهم على كل حال أن الجلف يبدأ هنا في الكلام عن نفسه. (10) راجع الشخصية الثانية (وهي شخصية المتملق) في هذه المجموعة من أصحاب الطباع المختلفة، وقارن وهذه الفقرة بما يقال في الفقرة العاشرة. (21) الطموح
الكلمة الأصلية
Mikrofilotimias
تعني كذلك الغرور والعجب بالنفس، والتطلع الحقير للظهور في الصورة - كما يقال في أيامنا - أي الطموح الرخيص الذي يتعارض مع الشرف والكبرياء، ويؤكد به صاحبه أهميته المزعومة. وقد فكرت أن أستخدم كلمة المتطلع، ثم استبعدتها واستبدلت بها كلمة الطموح، بشرط ألا يغيب عن ذهن القارئ أن المقصود هو الطموح الانتهازي الذي يقوم في تقديري على «الشطارة» و«الفهلوة» والجري وراء العلاقات العامة، ولا شأن له بالطموح الحقيقي المتدفق كالشلال الجياش من نبع البذل والعطاء والعمل الجدي والإحساس بالكرامة وعزة النفس. ولا حاجة للقول بأن حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بوجه خاص قد أصبحت اليوم كالمدن القديمة والوسيطة المحاصرة بهذا الوباء الكاسح أو بطاعون العصر. (3) وذلك احتفالا بوصوله إلى سن البلوغ بتقديم شعره إلى أبولو (في معبده المشهور في دلفي) الذي حلق شعره في سن الخامسة عشر. (4) وهو بطبيعة الحال نوع من الحرص على المظاهر وتأكيد الوجاهة والأبهة لدى الطبقة البرجوازية الصغيرة التي كانت في القرن الرابع قبل الميلاد وفي أثينا بوجه خاص في ذروة صعودها، مع العلم بأن اقتناء العبيد من الزنوج أصبح «موضة» (بدعة منتشرة) في بلاد الإغريق منذ حروب الإسكندر الأكبر. (5) ربما يكون هذا حرصا من «الطموح» على رد دين سابق (لاحظ قيمته المتدنية!) بالعملة الفضية الجديدة؛ حتى لا يحس أحد بأن له فضلا عليه. (6) يقحم المترجم الإنجليزي هنا عددا من الجمل التي وضعها الناشر والمترجم الألمانيان - اللذان سبقت الإشارة إليهما والإشادة بجهدهما - في الفقرة الخامسة المخصصة ل «المجامل»، وتجدها في الفقرات ابتداء من الرقم 6 إلى الرقم 10. ولا شك أن هذا يعطينا فكرة واضحة عن الاختلافات بين الناشرين حول ترتيب فقرات النص الأصلي وإصلاح بعض الثغرات، والتفاوت بينهم تبعا لذلك في ترجمته إلى لغاتهم. والطائر النادر الذي يحتفظ به صاحبنا الطموح إلى المظاهر هو نوع من الغربان يسمى في المعاجم العربية (المورد!) بالعقعق أو غراب الزيتون. (9) كلادوس معناها فتى أو شاب من مالطة. (10) يبدو أن مثل هذا الخاتم الذي يتخذ شكل إصبع صغير كان يصنع من معدن صلب ويقدم في الاحتفال بعيد إله الطب والشفاء أسكليبيوس؛ تبركا به وحمدا له لأنه شفى إصبع صاحبنا الطموح من مرض أصابه. (11) البيراتيون هم كبار الموظفين أو الرؤساء الذين يشغلون أهم المناصب في المدينة، كما ينتخبون أعضاء في المجلس الشعبي. (22) الوضيع
في الأصل
Aneleutheria
و
Aneleutheros ، وتدل على السلوك الذي لا يشرف الإنسان الحر، بخاصة فيما يتعلق بالشح المهين في الإنفاق. (2) أي اسم زيوس وحده. ويلاحظ أن هذا الوضيع - أي الشحيح بماله إلى حد الوضاعة - يحتفل على طريقته بالنصر أو الجائزة التي استحقها كرئيس للجوقة، أو مسئول عن إعدادها وتزويدها بالملابس والزخارف؛ وذلك من حيث المادة التي اختارها ليصنع منها اللوح الذي سيهبه لزيوس، ومن حيث الاختصار الشديد في النقش على هذا اللوح. (6) كانت المدارس تتمتع برعاية ربات الفنون، ولا يزال عيد المدارس في بلاد الغرب مرتبطا بالعيد القديم. (23) الفشار (1) الفشر هو المبالغة في الادعاء والكذب، وهي من الكلمات العامية التي سمح لها المجمع اللغوي بالدخول في المعجم الوسيط . (3) أي لم يغادر أثينا أو منطقة أتيكا بوجه عام. (4) راجع الهامش رقم (5) من الفقرة الثامنة عن مروج الإشاعات: و«أنتيباتر» هو - كما سبق القول - أحد قواد الإسكندر، وتولى حكم مقدونيا أثناء غيبته في الشرق. وبعد وفات الإسكندر في سنة 323ق.م. نصب نفسه ملكا، ومات سنة 319ق.م. وقد كانت مقدونيا من أهم البلاد التي تورد الخشب لأثينا وتحصل الجمارك على تصديره. ويلاحظ أن الفشار يدعي أنه رفض صفقة استيراد الخشب لكيلا يتهم بأنه من أنصار المقدونيين في وقت كان الصراع فيه محتدما بين هؤلاء وبين المدافعين عن حرية أثينا واستقلالها بزعامة السياسي والخطيب المشهور ديموستينيس. (5) التالنت عملة نقدية عالية القيمة، وتقدر التالنتات الثلاثة بما يساوي اليوم أربعين ألف جنيه مصري، أو عشرين ألف مارك ألماني. (6) كان يطلب من الأثرياء أن يتطوعوا على نفقتهم الخاصة بتجهيز سفينة حربية، أو التبرع بتكلفة جوقة مسرحية من ملابس وإكسسوارات وتدريبات ... إلخ، وذلك مشاركة منهم في العمل في سبيل الصالح العام. (8) يكفي لتأكيد هذا الفشر أن نقول إن العملة السائدة في أثينا كانت فضية. (24) المتعجرف (4) يبدو أن المتعجرف يشارك كأحد المحلفين في القضايا التي تتطلب التحكيم فيها. ومما يدل على عجرفته أنه يصدر قرار التحكيم بغير تأن أثناء سيره في الطريق. وقد حاولت التوفيق بين الترجمتين الألمانية والإنجليزية. (6) أي إن عجرفته تأبى عليه أن يكون البادئ بالتعرف على إنسان أو التقرب منه. (7) أو الموردون الذين لديهم شيء يبيعونه له، ويمكن أن يكون المستأجرون هم الذين يستخدمهم في العمل لديه. (11) أي التطيب بالمسح على أعضاء الجسد بدهان أو بلسم معين. (12) ربما كانت هذه قطعا من الحجارة تستخدم في العد والإحصاء، كما كان الحال لدى شعوب كثيرة في البدايات الأولى لتاريخ الرياضيات (وهذا ترجيح لا أجزم به ولا أفتي فيه). (25) الجبان (1) الكلمة الأصلية الانكماش أو التضاؤل أو حالة النكوص والتراجع التي تصيب النفس إزاء الخطر، والمهم أنه نوع من الضعف أو التخاذل كما وصفته. (2) كان الاعتقاد الشائع أن كل من يدخل في عبادات الأسرار الساموثراكية (نسبة إلى جزيرة ساموثراكي الجبلية أمام الشاطئ الجنوبي لثراقيا، واشتهرت بالمعبد المقدس لكبار الآلهة الذي كان مخصصا للجماعات السرية لعبدة الأسرار) ينجو من أخطار البحر. (26) الأوليجاركي (أو المتسلط) (1) الأوليجاركي
Oligarxikós
هو الوصف الذي يطلق على الشخص (أو الشيء) المتعلق بالأوليجاركية؛ أي حكم الأقلية الثرية. وطبيعي أن يكون التحيز لهذا الشكل من أشكال الحكم مرتبطا بالمزاج الرجعي وبالوضع الطبقي والاقتصادي، وأن ينعكس على طباع صاحبه كما ينعكس الميل إلى الحكم الديمقراطي على خلق وشخصية من يؤيد الديمقراطية. لهذا يمعن المؤلف في سرد المواقف الأنانية المتزمتة للثري - أو الرأسمالي القديم - الذي يحتقر الفقراء ويسميهم الرعاع، ويخجل من وجود المحرومين والجائعين بجانبه، ويشكو مر الشكوى من النفقات التي يطالب بالتبرع بها للصالح العام (كالمساهمة في تكاليف الحرب البرية والبحرية، وتدعيم المسرح، والمعاونة في تجهيز الأعياد الوطنية والاحتفالات الدينية والشعبية). (2) كان الأرخون إيبونيموس - رئيس المدينة - يتولى الإشراف على الأعياد والاحتفالات، ويوصف بصاحب السلطة المطلقة
Autokrataor
في هذا الشأن. وهو وصف لا يخلو من السخرية بالقياس إلى هذه المهمة. (5) يضيف المترجم الإنجليزي بعد العبارة السابقة التي يستنكر فيها الأوليجاركي تدخل المتطفلين في الأمور السياسية عبارة لم ترد في الأصل الذي بين يدي، ولا بأس من ذكرها لدلالتها على أنانيته وكراهيته للفقراء والطبقات العاملة: «إن الطبقات العاملة لا تتغير؛ فهي دائما جاحدة ومستعدة لطاعة كل من يقدم الرشوة أو البقشيش.» راجع ما يقوله بعد ذلك عن الغوغائيين الذين يتصور أنهم يزدهرون في ظل الديمقراطية التي يكرهها كما كرهها من قبله كل من سقراط وأفلاطون؛ ربما لأن الديمقراطية على عهدهما كانت فاسدة؛ لأنها انتقمت من سقراط الذي شجع الناس - وأولاد الأغنياء والحكام بوجه خاص! - على التساؤل والتفكير في كل شيء؛ الأمر الذي جعلهم يشعرون شعورا حادا بتهديد «التفلسف الحر» لوجودهم ومناصبهم، فارتكبوا جريمة إعدام سقراط التي لم يغفرها لهم تلميذه أفلاطون. (6) يعد ثيسيوس مؤسس الديمقراطية الأثينية وأول ضحاياها. وقد أدين للسبب الذي ذكر في هذه الفقرة من أول محكمة قضت عليه في شيخوخته بالنفي إلى جزيرة سكيروس التي ألقى بنفسه من فوق صخورها أو سقط عليها، ويضيق المجال عن ذكر مغامراته (ومن أهمها الانتصار على ثور الماراتون، وقتل ثور المينوتاوروس في المتاهة المشهورة التي خرج منها بمساعدة أريادمة ابنة ملك كريت). والمهم أنه اعتبر منذ القرن الخامس ق.م. بطلا قوميا لأثينا، ومؤسس الديمقراطية فيها، وأول ضحاياها. الجدير بالذكر أن أرسطو يعبر عن هذا الرأي أيضا في كتابه نظام الأثينيين (41-2، راجع ترجمة طه حسين)، ولكن بصورة أكثر تحفظا من تلميذه وصديقه ثيوفراسط. (27) المتعلم على كبر (1) الكلمة المستخدمة، وهي
Opsimathia ، تدل على التعلم في سن متأخرة أو على كبر. وأفضل نموذج معبر عن هذه الشخصية في الأدب اليوناني القديم هو «فيديبيديس» في مسرحية السحب لأرسطوفان. أما في الأدب الأوروبي الحديث فإن شخصية البرجوازي النبيل - في مسرحية موليير المعروفة بهذا الاسم - هي التي تخطر على البال بغير استئذان. وربما ابتسمنا ونحن نتذكر أن هذا المواطن الفرنسي لم يعرف إلا بعد أن بلغ أرذل العمر. إنه كان طول حياته يتكلم نثرا، وذلك بعد أن تعلم على كبر أن الكلام ينقسم إلى نثر وشعر! (2) يمكن أن تكون أبيات الشعر المذكورة جزءا من إحدى المسرحيات التراجيدية. (5) كان من عادة الشباب في الاحتفال بتقديم الأضاحي في معابد هرقل أن يحملوا الثور إلى أعلى ويشدوه من قرنيه ليلووا عنقه قبل الذبح. (8) لا يعرف شيء مؤكد عن تفاصيل هذه الطقوس أو طبيعة الأحداث التي كانت تتم أثناء تأديتها. (11) ولا نعرف كذلك شيئا عن أمثال هذه النوادي أو الاتحادات، ولكن يفهم من السياق أن الشباب كانوا ينظمون الاحتفالات ل «كبار السن». ويتصرف المترجم الإنجليزي بعض التصرف، فيؤدي العبارة على هذه الصورة: وهو في الاحتفال بالأيام العشرة يؤلف مجموعة للغناء معه. (12) يبدو أن هذه اللعبة كانت مجهولة في وقتها كما هي مجهولة لنا. (28) النمام (2) يكشف تغير الأسماء في هذه الفقرة عن التحويلات الطبقية التي تمت في الفترة التي وضع فيها هذا الكتاب، أو على الأقل في عصر ثيوفراسط، وسوسياس اسم يطلق كثيرا على العبيد. أما المقطعان «ستراتوس» و«ديموس» فيدلان بالترتيب على الجيش والشعب. وأما عن «كوينوكوراكا» - وهو اسم السيدة التي تنحدر من أصل نبيل - فيبدو أنه صياغة يونانية لاسم أجنبي، وإذا جاز أن يترجم أصلا فربما يدل على نوع من الغربان. (3) الترجمة الحرفية هنا مستحيلة، إذ تتصل الكلمات بلغة البغايا والعاهرات ومصطلحاتهن في ذلك العصر القديم. (4) كان جهاز العرس (أو الدوطة) يبقى في البيت بعد إنجاب طفل. أما الاحتفال بعيد بوزيدون - إله البحر - فكان يتم في فصل الشتاء، ولكننا لا نعرف شيئا يذكر عن هذا العيد. (29) الفاسد (أو المجرم)
الكلمة الأصلية، وهي
، ومنها الصفة
، تعني بوجه عام حب الشر، أو الميل المتأصل للفساد والجريمة والانحراف. والجدير بالذكر أن كلمة المفسدين أو الأشرار كانت تطلق في العصر الذي وضع فيه هذا الكتيب (أي في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد) على الديمقراطيين. ولا شك أن وصف المؤلف للفساد والمفسدين ينطوي على معان وإشارات سياسية غير خافية، ويمكن أن يعد وصفه للديمقراطيين بمثابة الطرف المقابل لوصفه للأوليجاركيين أو المناصرين لحكم الأقلية الثرية (راجع الفقرة 26 الخاصة بالأوليجاركي). ويلاحظ أخيرا أنني حاولت التوفيق بين الترجميتن الألمانية والإنجليزية ابتغاء الوضوح وتقديم نص مقروء بقدر الإمكان، وذلك مع وضع كل إضافة لهذا الغرض بين قوسين. (30) البخيل
تدل الكلمة الأصلية
Aisxrokerdeia
بحسب تركيبها على الجري المخزي وراء الكسب. (9) كانت العملة السائدة في أثينا هي العملة الفضية؛ ولذلك تحول إليها العملات النحاسية الزهيدة القيمة. وقد ورد ذكر التالنت والمينة والدراخمة في النص وفي التعقيبات، وكان التالنت يعادل مائة مينة، والمينة تساوي مائة دراخمة. (10) «يجرجرها أو يسحبها وراءه» إضافة تنطوي عليها الكلمة الأصلية
Ephelkusai . والظاهر أن المعطف أو العباءة كانت من الطول بحيث يتدلى طرفها على الأرض. (11) الفيدوني نسبة إلى فيدون الأجواسي (حوالي سنة 750ق.م.) الذي كان ملكا أو طاغية على أرجوس، ووحد سكانها وأمنها من هجمات الإسبرطيين بالدخول في حلف كورنثة وإيجينا، بحيث أصبحت على عهده أهم دولة في البيلوبينيز (شبه جزيرة المورة). واشتهر فيدون بأنظمة القياس الجديدة التي أدخلها في بلده. والمهم في هذا السياق أن هذا المقياس المنسوب إلى فيدون الأرجوسي كان أصغر من نظيره الذي نسب بعد ذلك للمشرع والشاعر والسياسي المشهور صولون. ويرجح بعض علماء اللغة أن الفعل
- ومعناه يوفر - ربما يكون متصلا بصاحب المقاييس والمكاييل الشحيحة! (12) النص الأصلي هنا غامض، والمعنى غير مؤكد، ولكن المترجمين يتفقان على أن صاحبنا البخيل يحتال على صديقه البائع الذي يعتقد أنه يبيع بضاعته بأسعار معقولة، وبمجرد أن يحصل البخيل عليها يتصرف فيها بالبيع بسعر أعلى. (14) كان يحتفل في شهر فبراير بعيد الأنثيستيريون تكريما للإله ديونيزيوس وللأموات، وكذلك بعيد الدياريون الذي كان العيد الرئيسي للاحتفال بكبير الآلهة زيوس. (15) الظاهر أن تحويل العملة النحاسية المتدنية القيمة إلى عملة فضية لم يكن يتم بدون تحصيل «نسبة» معينة. (16) كان المألوف في الولائم الجماعية التي تمول من خزانة جماعة أو ناد أو اتحاد معين ألا يضيف رب البيت - الذي تقام فيه المأدبة - أجرة خدمة على الحساب. ولو فعل صاحبنا البخيل هذا لما وصف بالبخل!
Unknown page