Thematic Interpretation 2 - Al-Madinah University
التفسير الموضوعي ٢ - جامعة المدينة
Publisher
جامعة المدينة العالمية
Genres
-[التفسير الموضوعي ٢]-
كود المادة: IUQR٤٠٩٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Unknown page
الدرس: ١ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم)
التعريف بالتفسير الموضوعي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالتفسير الموضوعي:
هو علم يبحث في القرآن الكريم، من حيث استخراج ما في القرآن من موضوعات، وجمع الآيات المتعلقة بكل موضوع، وتقسيمها إلى عناصر يسميها الباحث فصولًا، أو يجعل الفصول أبوابًا، أو يقسمها إلى فقرات يعرضها، فينتقل من فصل إلى فصل، ومن باب إلى باب، ومن فقرة إلى فقرة، إلى أن يوفي الموضوع حقه من البحث، وهو في ذلك يستعين بما يتطلبه البحث من الأحاديث النبوية، وأقوال الأئمة، وما جاء في كتب اللغة، وما إلى ذلك مما يتطلبه الموضوع في تجلية جوانبه، وجمع الآيات في موضوع واحد لدراسته واستخراج فوائده منهج بدأ من عهد نزول القرآن؛ حين كانت تنزل الآية مجملة في موضع، ومفصّلة في موضع آخر، أو عامة في موضع مخصصة في موضع آخر، وهكذا.
وقد ألف العلماء في بداية القرن الثاني الهجري وما بعده كتبًا في موضوعات جمعوا فيها الآيات، فكانت بداية موفقة لدراسة موضوعات القرآن، كمن ألفوا في الناسخ والمنسوخ، وفي غريب القرآن، وفي إعجاز القرآن، وفي أسباب النزول، وفي أقسام القرآن، وفي أحكام القرآن، وفي هذه المؤلفات، ترى أن العلاقة التي تجمع بين أطراف الموضوع علاقة عامة، ولهذا اتجه التفسير الموضوعي نحو التحديد، ومن ذلك ما تراه من دراسة لموضوعات قرآنية محددة، كما ترى فيما كتبت في الإنسان في القرآن، والمرأة في
1 / 9
القرآن، والأخلاق في القرآن، في كتابي (شذرات من التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)، وكما ترى فيما كتبه المرحوم الدكتور أحمد الشرباصي، ومن ذلك ما كتبه عن الرجولة في القرآن، القلة والكثرة في القرآن، حديث الغرور في القرآن، إلى غير ذلك مما تراه في كتابات الإخوة الأساتذة، وما تلمحه في موضوعات كتب فيها، وما يزالون يكتبون طلاب الدراسات العليا في الجامعات الإسلامية، أثرت المكتبة القرآنية في جملة من البحوث القرآنية النافعة.
ولا بُدّ أن نفرق بين هذا النوع من التفسير وما نراها من كتابات إسلامية فيما يعرف بالدراسات الإسلامية، وفرق بين أن يقال: المرأة في الإسلام، والمرأة في القرآن، أو أن يقال: الأخلاق في الإسلام، والأخلاق في القرآن، وما إلى ذلك، فالموضوع إذا بحث من الناحية الإسلامية لا يعنيه جمع الآيات في الموضوع، إنما يدرسه دراسة عامّة، يستشهد في الفقرة التي يكتب فيها بما يراه من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة، وما كتبه من سبقوه في دراسة موضوعه، أمّا إذا كان البحث في التفسير الموضوعي فالاعتماد فيه أولًا على جمع الآيات من القرآن، وتقسيمها إلى فقرات أو فصول أو أبواب كما ذكرنا، ودراسة هذه الآيات دراسة متأنية، يقارن بين الآيات ويستنبط منها الأحكام والدروس والعبر، وما إلى ذلك مما يتضح من وضع الآيات بجوار بعضها، والنظر فيها لتكوين رؤية متكاملة عن الموضوع.
ويدخل في التفسير الموضوع ما يسمَّى أيضًا بالوحدة الموضوعية في السورة، بأن يجتهد المفسّر في تحديد الهدف والمحور الذي تدور حوله آيات السورة، وقد يكون للسورة أكثر من هدف، فيقسّم المفسر السورة إلى عناصر، ويعرض هذه العناصر من خلال هدف السورة ومحورها، ويبرز الأسرار العظيمة التي تدلّ
1 / 10
على إعجاز هذا القرآن حين يتحدث حين يتحدث عن سر اختيار حروف معينة تتكرر في الصورة التي يدرسها دون غيرها، وحين يتكلم عن السبب في بسط قصة من قصص الأنبياء في موضع، واختصارها في كلمات في موضع آخر.
وقد بذل قسم التفسير في كلية أصول الدين جامعة الأزهر جهدًا مشكورًا حين كلّف طلاب الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه بالكتابة في سور القرآن، تحت عنوان: سورة كذا والأهداف التي ترمي إليها، فتناول معظم سور القرآن بهذه الطريقة بالبحث والدراسة، وقد بدأ العمل في هذا المشروع في بداية عام ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين، واستمر لفترة طويلة من الزمن، وهو جهد مشكور وعمل مبرور، جزا الله الجميع خير الجزاء.
الأخلاق في القرآن الكريم
عرفها الإمام الغزالي في (الإحياء) فقال: "الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلًا وشرعًا، سُمّيت تلك الهيئة خلقًا حسنة، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا، فما يصدر عن النفس البشرية من أفعال دون تكلّف، هو الذي يطلق عليه بأنه خلق، وما يكون من الإنسان بتكلف وتحت أي ظروف لا يعد خلقًا؛ كمن طبعه السخاء والكرم، لكنه بخل في موقف من المواقف، بسبب من الأسباب، فلا يقال عنه بأنه بخيل، والعكس صحيح، فمن كان خلقه البخل، ولكنه لأمر ما، ساعد محتاجًا أو تبرع بمبلغ من المال، لا يقال عنه بأنه كريم".
1 / 11
وليس معنى قولهم: "الأخلاق في القرآن" أن يستقصي الباحث في كتاب الله كل خلق حثّ عليه القرآن، وكل خلق نفّر منه؛ ليجمع فيه الآيات لدراستها دراسة موضوعية، فهذا يستغرق كما نرى زمن طويلًا، وقد يقع في مجلدات تشكل موسعة في أخلاق القرآن، مما تصعب الإحاطة به، وإنما يعني هذا القول أنّ يؤصِّل من يكتب في التفسير الموضوعي للأخلاق في القرآن، بأن يبيّن ما تعنيه الأخلاق في لغتتنا العربية، وعند العلماء الذين اعتنوا بدراسة الأخلاق، وأن يبيّن الأسس التي أقيمت عليها أخلاق القرآن، وكيف دعا القرآن لمكارم الأخلاق، وكيف نفّر من الأخلاق السيئة، ثم له أن يختار بعض الأخلاق في القرآن ليتحدث عنها وفق منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ندرس هذا الموضوع من خلال العناصر التالية:
أولًا: ورود كلمة المعروف في القرآن الكريم وما تدل عليه.
ثانيًا: ورود كلمة المنكر في القرآن الكريم وما يقصد بها.
ثالثًا: ما ورد في السنة وأقوال السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعًا: بواعث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامسًا: من له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
سادسًا: أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح المجتمعات.
وقد وردت مادة العين والراء والفاء عدة مرات في كتاب الله، كما وردت مادة النون والكاف والراء عدة مرات كذلك، وهي غالبًا تأتي مقترنة بالمعروف، وأحيانًا تنفرد كلّ منهما فتذكر وحدها، والذي يعنينا منها ما له صلة بموضوع
1 / 12
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالنظر في كتاب الله، نجد أنها قد وردت بهذا المعنى في سورة "آل عمران"، في ثلاثة مواضع، في سياق الحديث عن واجب الأمة المسلمة تجاه مجتمعها، بل والمجتمع البشري، في قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٤).
فهذا أمر من الله لأمة الإسلام أن تكون بكامل أفرادها قائمة على قدم وساق، لا يغفلون ولا يتهاونون ولا يتوانون في الدعوة إلى الخير، وفي الأمر بالمعروف والنهي عنه، كما دلّ على ذلك استعمال الفعل المضارع في قوله: ﴿يَدْعُونَ﴾ و﴿يَأْمُرُونَ﴾ و﴿يَنْهَوْنَ﴾ وقد حكم الله بأنّ الفلاح مختص بهذه الأمة وحدها إن هي فعلت ذلك، كما يفهم من أسلوب القصر في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وإنها قد بلغت الغاية التي لا تدرك، كما يرشد إليه استعمال اسم الإشارة البعيد في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ﴾ ويجوز أن تكون "من" في قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ﴾ للتبعيض، وهذا يعني أن يكون في الأمة أناس هم أعمدة الأمة وحداتها والحراس لدينه، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولو خلت الأمة من هؤلاء انفرط عقدها، وانتشر الفساد في أرجائها، وكانت عرضة للزوال، ولذلك قال الضحاك في هذه الفرقة: "هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة" يعني المجاهدين والعلماء، وهذا لا يتعارض مع أن تكون أمة الإسلام بأكملها قائمة على شريعة الله حامية لحوزة الدين، وليقم كل واحد بدوره، حسب موقعه وظروفه.
ومما يؤيد ذلك ما جاء في الموضع الثاني في السورة -سورة آل عمران- من بيان سبب خيرية الأمة الإسلامية، كما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: ١١٠)
1 / 13
يقول ابن كثير بعد أن ذكر بعض الأحاديث والأقوال: "والصحيح أنّ هذه الآية عامّة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذي بعث فيه رسول الله ﷺ، ثم الذين يلوونهم، ثم الذين يلوونهم".
والموضع الثالث في سورة "آل عمران" جاء في ذكر صفة فئة من أهل الكتاب، عرفوا الحق فاتبعوه؛ كعبد الله بن سلام، وغيره ممّن أسلموا من أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: ١١٣، ١١٤)، فذكر من صفاتهم التي تميزوا بها، وكانوا بها من الصالحين، أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وفي سورة "النساء" في قوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ (النساء: ١١٤) ترى أنّ الله حصر خير الكلام في ثلاثة، في الأمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، ومع أنّ الأمر بالصدقة أمرٌ بالمعروف، وأن الأمر بالإصلاح بين الناس أمر بالمعروف، إلّا أن الأمر بالمعروف أعمّ وأشمل، فقد ذكر أمرًا خاصًّا ثم عامًّا ثم خاصًّا؛ ليكون هذا الأمر العام -وهو المعروف- واسطة العقد؛ إزهارًا لمنزلته وأهميته.
وفي سورة "المائدة" في بيان ما كان من أمر بني إسرائيل، يقول تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: ٧٩)، وقد ذكر الله ذلك؛ ليبين لماذا استحق بني إسرائيل اللعنة على لسان داود وعيسى بن مريم، كما قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (المائدة: ٧٨)،
1 / 14
ثم قال: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ (المائدة: ٧٩) ومعنى ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ﴾ أي: لا ينهي بعضهم بعضًا عن المنكر الذي يشيع بينهم، وهذا يعني أنّ أي إنسان لا يسلم من النقص، ولا يخلو من الوقوع في خطأ، فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون، وإذا كان المجتمع نابضًا بوحي الله، مشرقًا بنور ما أنزل الله، لم يقبل أن يرى أحد أفراده غارقًا في بحار المعاصي، ملوثًا بالخطيئة، فينبري كل واحد يأخذ بيد أخيه يدله على الطريق الصحيح، فإن لم يحدث هذا، واستمرأ الناس المعاصي، وسكت الآخرون فلم ينكروا المنكر، وإنما كما سنرى في الحديث «آكلوهم وشاربوهم» وكأنّ هؤلاء العصاة لم يرتكبوا منكرًا يستحق الإنكار، إن حدث هذا غرق الجميع وضاع الجميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي سورة "الأعراف" نرى ذلك في بيان صفة رسول الله ﷺ، وأن أهل الكتاب يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، كما قال ربنا: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: ١٥٧).
وفي أمر رسول الله ﷺ بأن يأخذ العفو، ويأمر بالعرف -أي المعروف، وأن يعرض عن الجاهلين، قال تعالى: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: ١٩٩).
وفي سورة "التوبة" في ذكر صفات المنافين والمنافقات، وأنهم كما قال تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ (التوبة: ٦٧).
1 / 15
وفي بيان صفات المؤمنين والمؤمنات، وأنهم كما قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: ٧١).
ثالثًا: في جعلها صفة من صفات المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله وجاهدوا في سبيله، فكانت لهم البشرى من الله بالنعيم المقيم في جنات النعيم، قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة: ١١٢).
وفي سورة "النحل" يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: ٩٠).
وفي سورة "الحج" في ذكر عمل المؤمنين إن نصرهم الله ومكّن لهم في أرضه، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: ٤١).
في سورة "النور" حيث يحذّر الله من اتباع خطوات الشيطان؛ لأنه كما قال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (النور: ٢١).
وفي سورة "العنكبوت" في موضعين، في ذكر ما كان من فعل قوم لوط ﵇ يقول ربنا على لسان لوط: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ (العنكبوت: ٢٩) وفي بيان أثر الصلاة في
1 / 16
السلوك: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ (العنكبوت: ٤٥).
وفي سورة "لقمان" في قوله وصايا لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (لقمان: ١٧).
وفي سورة "المجادلة" في بيان أن من يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، يقول منكرًا من القول وزورًا، كما ذكر ربنا ذلك فقال: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ (المجادلة: ٢).
وفي سورة "الممتحنة" فيما بايع عليه رسول الله ﷺ النساء، قال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الممتحنة: ١٢).
هذه معاشر الأبناء هي الآيات التي وردت فيها كلمة المعروف وكلمة المنكر في كتاب الله، ومن سياق الآيات نستطيع أن نفهم المعنى المقصود بكلٍّ منهما؛ فليس المعروف أو المنكر ما تواضعت عليه المجتمعات، ورضيه الناس طريقًا لحياتهم، فكثيرًا ما يختار الناس ما فيه ضرر بهم، فقد يرى بعضهم أنّ الخمر لذة للشاربين، فيشربها ويستمتع بها، وينكر على من لا يحضر مجلسها، ويشارك الآخرين في شربها، مع أنها أم الخبائث، وقد قدر بعض الأمم أنّ الزنا لا حرمة فيه؛ لأنه متعة مشتركة بين الرجل والمرأة، وأمر يرجع إلى حرية الفرد في اختياره، وإنما يمنع ويعاقب المجتمع على ذلك، إذا ما كان هذا الأمر على فراش الزوجية، أو كان عن طريق الإجبار والإكراه، والحرمة هنا -كما نرى- لا لذات الزنا، وإنما للاعتداء على حرية الفرد.
1 / 17
وهكذا لو تتبعنا عادات الشعوب والأمم، وما وضعته من قوانين تحكم حياتها، لوجدنا أمورًا لا يصدقها عقل راجح وفكر صائب، ولا يرتضيها دين، ولذلك لا بُدّ من أن تكون المرجعية أولًا لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، في تحديد ما يُفعَل وما لا يفعل، وما يفعل قد يكون واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، وما لا يفعل قد يكون نهي تحريم أو نهي تنزيه، وهكذا، وما يأتي به دين الله في التحريم والتحليل، وما يذكره من أنّ مِن المعروف وهذا من المنكر، لا يتعارض مع ما ترتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة، ولعلكم لا ترضون معي ما ذكره الراغب في مفرداته، وذكره غيره، من أن المعروف اسم لكل فعل يعرَف بالعقل أو الشرع حسنه، وأن المنكر ما ينكر بهما؛ لأنّ الشرع هو الأصل، ولأن العقل تابعًا له، والعقل لا ينفرد بالحكم على الفعل بالحسن أو القبح؛ لأنه لا يستطيع ذلك، إنما يهديه ويرشده نور وحي الإلهي.
ومن نور الوحي الإلهي ما جاء في السنة المطهرة، من ترغيب وحثٍّ على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وردت جملة من الأحاديث في ذكر ذلك، فلنذكر بعضها:
روى الإمام البخاري بسنده، عن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلّا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر» وروى بسنده عن أسامة بن زيد ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقطابه في النار فيدور كما يدور
1 / 18
الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتم آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
وروى الإمام مسلم بسنده، عن أبي ذر، عن النبي ﷺ أنه قال: «يصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتين يركعهما من الضحى» وروى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» وروى بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطة الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة».
وروى بسنده عن حذيفة بن اليمان عن النبي ﷺ قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» وروى بسنده عن ابن مسعود ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنَّكُمْ مَنْصُورُونَ وَمُصِيبُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ منكم فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ».
1 / 19
وروى بسنده عن أبي أمية الشعباني قال: «أتيت أبي ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أي آية؟ قلت: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة: ١٠٥) قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوًى متبعًا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجل يعملون مثل عملكم» قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: «قيل يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم، قال: بل أجر خمسين منكم».
وروى النسائي بسنده عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من والٍ إلّا وله بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالًا، فمن وقي شرها فقد وقي، وهو من التي تغلب عليه منهما» وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل له» وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن مسعود ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ (المائدة: ٧٨) إلى قوله: ﴿فَاسِقُونَ﴾ ثم قال: كلّا والله، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا» وفي رواية أخرى زاد: «أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم».
1 / 20
وروى ابن ماجه بسنده عن عائشة ﵂ قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم» وروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقّن الله عبدًا حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس» وروى الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وروى النسائي بسنده عن طارق بن شهاب قال: قال أبو سعيد الخدري ﵁: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيّره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيّره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان».
من هذه الآيات والأحاديث نستطيع أن نعرف الدوافع التي تدعو أيّ إنسان ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما نستطيع أن نعرف من له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما للقيام بهذا الواجب من أثر في إصلاح المجتمع، فالذي يدعو أيّ إنسان ليكون مما أكرمهم الله واختارهم، ووصفهم في قوله: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ (التوبة: ١١٢) هو الإيمان بالله، وعلى قدر إيمان المؤمن يكون جهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك رأينا في الحديث المرحلة الأخيرة وهي التغير بالقلب، وفيها يقول الرسول ﷺ: «وذلك أضعف الإيمان».
1 / 21
كما أنّ الظروف الاجتماعية لها أثرها في ذلك، فالمجتمع المتكافل في ضبط خطى أبنائه على طريق الثبات، وفي محاربة كل مظاهر الفساد، يساعد أفراده على القيام بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين ينبري أحد الناس آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، فيجب بجانبه مجتمعًا يؤازره، وحكومة تحميه بقوانينها وسلطانها، فلا يخشى ظلم الظالمين وجهل الجاهلين، ولعل مما يصوّر هذا، أنّ الآيات التي جاءت تدعو إلى ذلك، جاءت تتحدث عن أمة وعن جماعة، فأتى الفعل فيها مستندًا إلى ضمير الجمع: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، أو جمعًا كما في قوله: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ولم يرد الفعل مسندًا إلى المفرد إلّا فيما كان خطابًا لرسول الله ﷺ: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ أو جاء ذلك إخبارًا عنه، كما في قوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (الأعراف: ١٥٧) أو نصيحة يوجهها لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ (لقمان: ١٧).
ولهذا جاء توجيه رسول الله ﷺ لأمته، وهو يضرب لها مثلًا للعلاقة بين القائمين على حدود الله والواقعين فيها، فيقول: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوما استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا».
كما أنّ هذا الأمر يحتاج إلى تربية إيمانية ونفسية، تجعل كل فرد في الأمة واثقًا من نفسه، يدرك أنه قادر على رد القافلة الشاردة ورأب الصدع في مجتمعه، وأنه إذا
1 / 22
قال: استمع الناس لقوله؛ لما يرون فيه من صدق اللهجة وحسن الأدب وقوة البيان والقدرة على الإقناع، إنها عوامل مشتركة، تؤدي في النهاية إلى القيام بهذا الأمر على أحسن الوجوه، وهذا يجعلنا نتساءل عمّن له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهناك فرق بين من له الحق في ذلك ومن يجب عليه القيام به، وهذا شأن ما جاء من تكاليف شرعية، تراها واجبة على أناس تحققت فيهم شروط الوجوب، وبقي الباب مفتوحًا لغيره؛ كما ترى في وجوب الصلاة على المسلم البالغ العاقل، فلو أداها صبي دون البلوغ صحّت منه، وهكذا في الصيام والحج وغير ذلك.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم مكلف قادر على ذلك، كل بحسب قدرته، كما بيّن ذلك رسول الله ﷺ في قوله: «من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده» إلى آخر الحديث، واشترط قوم العدالة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، والواقع في المعاصي كيف تقبل نصيحته لغيره في ترك المعاصي، وقد عاب الله على المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: ٣).
وقال مؤنّبًا أهل الكتاب من بني إسرائيل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: ٤٤). وقال ﷺ: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفهاهم بمقاريض من نار، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون» والواقع أنّ هذا شرط كمال. ومن الأدب أن يكون من يأمر غيره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، هو أول من يأتمر بما أمر به وينتهي عما نهى عنه، وما عاب الله على هؤلاء أنهم يأمرون بالمعروف
1 / 23
وينهون عن المنكر، وإنما عاب عليهم هذا التناقض بين قولهم وفعلهم، ولو أنّ كل من يريد أن يأمر غيره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، لا يفعل ذلك إلّا إذا ضبط سلوكه واستقام على الجادة، لما وجدت أحدًا يؤدي هذا الواجب؛ ولذا قال سعيد بن جبير: "إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلّا من لا يكون فيه شيء، لم يأمر أحد بشيء".
ولو قام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بواجبهم وفق الضوابط الشرعية، بأن يجعلوا لكل حالة ما يناسبها من الوعظ أو الزجر أو التخويف أو التغيير باليد، وهكذا، لو فعلوا ذلك كلٌّ في موقعه الاجتماعي أو العلمي أو السياسي، وتعاون الجميع في ذلك، لما وجدت مقصرًا أو منحرفًا أو متهاونًا في أداء فرائض الله، أو مفسدًا في أرض الله، حين ذاك تكون الأمة في مجموعها جديرة بشرفي الخيرية، كما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: ١١٠).
ولعلكم تلاحظون معي أنّ الواو لا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا، إلّا أنّ ذكر أمر قبل أمر آخر له أسراره في تعبيرات القرآن الكريم، وهنا جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سابقًا للإيمان بالله، فدل على مكانته ومنزلته، ولذلك قال الإمام الغزالي في (الإحياء) في مقدمة كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "أمّا بعد، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربة البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلّا يوم التناد".
ثم أخذ الإمام الغزالي يشكو من فساد زمانه، وما آل إليه حال الناس في تقصيرهم في أداء هذا الواجب، ومدى عظم أجر من قام به آن ذاك، فكان مما
1 / 24
قال: "فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتّباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق، لا تأخذه في الله لومة لائم"، ثم يقول: "فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلًا بعملها، أو متقلدًا لتنفيذها، مجددًا لهذه السنة الدائرة، ناهضًا بأعبائها، ومتشمّرًا في إحيائها، كان مستأثرًا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدًّا بقربة تتضاءل القرب دون ذروتها".
ولا أدري ماذا كان سيقول الإمام أبو حامد الغزالي، المتوفّى عام خمس وخمس مائة من الهجرة، وبعد أكثر من تسعة قرون، حين يرى ما آل إليه حال الدنيا من الفساد والانحراف عن دين الله، وعلى قدر انتشار الفساد وقوته، يكون أجر من يقاومه ما يستطيع من ألوان المقاومة، حتى يستقيم الناس على طريق الحق، فيعود الأمن والسلام والسعادة لبني الإنسان.
والله المستعان، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
1 / 25
الدرس: ٢ مفهوم العلة
1 / 27
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(مفهوم العلة)
"الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنتحدث عن الأمر بالصفح كما جاء في كتاب الله:
أولًا: الصفح والعفو في معالم اللغة:
ذكر ابن منظور في (لسان العرب) عدَّة معاني للصفح: منها الجنب، وعرض الوجه، وعرض السيف، وعرض صدر الرجل. والمصافحة: الأخذ باليد، وصفح عنه يصفح صفحًا أعرض عن ذنبه، والصفوح الكريم؛ لأنه يصفح عمن جنى عليه، واستصفحه ذنبه استغفره إيَّاه، وطلب أن يصفح له عنه. وأما الصفوح من صفات الله فمعناه: العفو، يقال: صافحت عن ذنب فلان، وأعرضت عنه فلم أءخذه به، وضربت عن فلان صفحًا إذا أعرضت عنه، وتركته، فالصفوح في صفة الله العفوّ عن ذنوب العباد، معرضًا عن مجازاتهم بالعقوبة تكرمًا.
أما العفو فقد ذكر ابن منظور كلامًا كثيرًا خلاصته: أن العفو هو محو الشيء حسيًّا ومعنويًّا، فيقال: عفت الرياح الآثار إذا درستها ومحتها، وعفا عن ذنبه إذا تجاوز عنه ولم يؤاخذه به، والعفو في أسماء الله فعول من العفو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، وهو من أبنية المبالغة، وكل من استحقَّ عقوبة فتركتها؛ فقد عفوت عنه.
فإذا ما انتقلنا إلى صاحب (القاموس المحيط) لنرى ماذا يقول، يقول: الصفح الجانب، وصفح أعرض وترك، وصفح عنه عفا، والصفوح الكريم والعفو، ويقول في بيان معنى العفو: العفو عفو الله -جلّ وعزَّ- عن خلقه، والصفح، وترك عقوبة المستحق، عفا عنه ذنبه، وعفا له ذنبه وعن ذنبه، والمحو والإمحاء، وأحل المال وأطيبه، وخيار الشيء وأجوده، والفضل والمعروف.
1 / 29