السنة الحادية عشر من الهجرة
وفاة النبي ﷺ
واشتكى رسول الله ﷺ بعد عودته من حجة الوداع، حتى اشتد وجعه وهو في بيت ميمونة ﵂، فدعا نساءه فاستأذنهن في أن يُمرَّض في بيت عائشة ﵂. وكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي (^١) مِنْ ذَلِكَ السَّمِّ". واستغرق مرضه عشرة أيام. حَتَّى دَخَلَتْ أُمُّ بِشْرِ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ تَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ: "يَا أُمَّ بِشْرٍ، مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مَعَ ابْنِكِ بِخَيْبَرَ، تُعَاوِدُنِي كُلَّ عَامٍ، حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ". (^٢)
وأنفق ما عنده من مال، وخلا بعثمان وأوصاه وضرب منكبه وهو يوصيه. وهَمَّ أَنْ يَكتُبَ كِتَابًا، وَأَوْصَى بإِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَحَذَّرَ مِنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَثَنًا يُعْبَدُ، وأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ﵁ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ. وأمرهم أن يَصُبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنْ آبَارٍ شَتَّى، ثم تحامل وصعد المنبر وخطب آخر خطبة وأثنى على أبي بكر، وأوصى بالأنصار خيرًا، وبيّن أن أسامة بن زيد أهل للإمارة على الجيش الذي جهزه. ولمَا دنا أجله وهو في حجرة عائشة ﵂ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ الشَّدِيدُ، حَتَّى تَأَذَّتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ ﵂، مِنْ شِدَّةِ مَا يَلْقَى، فَقَالَتْ: وَاكَرْبَ أَبَتَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ، إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا، الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وكَانَ آخِرُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا كَانَ يُفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
(^١) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: (الْأَبْهَرُ) عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ بِالظَّهْرِ مُتَّصِلٌ بِالْقَلْبِ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ.
(^٢) فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ اللهُ ﷺ مَاتَ شَهِيدًا، مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللهُ مِنَ النُّبُوَّةِ.
وَلَمَّا احْتَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ احْتَجَمَ فِي الْكَاهِلِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الْحِجَامَةُ إِلَى الْقَلْبِ، فَخَرَجَتِ الْمَادَّةُ السُّمِّيَّةُ مَعَ الدَّمِ لَا خُرُوجًا كُلِّيًّا، بَلْ بَقِيَ أَثَرُهَا مَعَ ضَعْفِهِ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ كُلِّهَا لَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَهُ بِالشَّهَادَةِ، ظَهَرَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْأَثَرِ الْكَامِنِ مِنَ السُّمِّ الذي وضعه له يهود خيبر لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَظَهَرَ سِرُّ قَوْلِهِ تَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ فَجَاءَ بِلَفْظِ كَذَّبْتُمْ بِالْمَاضِي الَّذِي قَدْ وَقَعَ مِنْهُ وَتَحَقَّقَ، وَجَاءَ بِلَفْظِ " تَقْتُلُونَ " بِالْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَتَوَقَّعُونَهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ.
وهو ﵊ يبلغه سلام الناس عليه بعد موته، ومن صلى عليه صلاة واحدة؛ صلى الله بها عليه عشرًا، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا، ورزقنا شفاعته وورود حوضه والشرب من يده، وحشرنا في زمرته.
1 / 369