The Siwak and the Sunnah of Fitrah - Al-Muqaddim
السواك وسنن الفطرة - المقدم
Genres
إعفاء اللحية علامة على محبة النبي ﷺ وتوقيره
كل ما سبق من الأحاديث -وغيرها كثير- تدل على عِظَم لحيته الشريفة ﷺ وطولها، فعجبًا ممن يدعي أنه يحب رسول الله ﷺ ثم لا يعفي لحيته؟! فكأن المحبة عندهم شيء لا يكلف، وبعضهم يدعي محبة الرسول ﷺ، وينكر عليك مثلًا إذا لم تصلّ على النبي ﵊ بعد الأذان، ويقول: أنت تبغض رسول الله ﵊، أنت لا تحب النبي، أنا أحب النبي وأنا أصلي عليه ﷺ، ففي مثل هذه الأشياء يُعتبر الإنسان مأجورًا، أما من يفعلون كثيرًا من البدع ويستدلون بمحبة رسول الله ﷺ ويتشدقون بها فإنما زيّن لهم سوء أعمالهم، فمن أحب رسول الله ﵊ أحب صورته وأبغض صورة أعدائه، ومن كان يصلي عليه مدّعيًا محبته فعليه أن يعفي لحيته إن كان صادقًا في هذه المحبة.
هذا كلّه بغضّ النظر عن حكم الوجوب، لكن هذه ثمرة المحبة، فالإنسان ينقاد لمن يحبه ظاهرًا وباطنًا، ويُرى ذلك في سلوكه، فيحب كل ما نُسب إلى محبوبه، كما يقول عنترة: وأهوى من الأسماء ما شابه اسمها أو مثله أو كان منه مقاربًا! فكل محبوب يحب ما كان منسوبًا إلى حبيبه من الصورة والسيرة واللباس والهيئة، حتى يحب داره وجداره وكساءه ورداءه، كما يقول بعض الشعراء في ذلك: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا فالذي يؤمن بالله ﷿ وبرسوله ﵌ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، هذه المحبة لا محالة إذا كانت صادقة يجد المحب نفسه مضطرًا اضطرارًا مدفوعًا بهذا الحب الصادق إلى اتباع رسول الله ﷺ في شئونه كلها، كما قال ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:٣١]، فالذي يظهر اللحية تدينًا بذلك وتشبهًا برسول الله ﷺ حقه أن يُعظّم ويُحترم ويُحب، لا أن يحارب ويُضطهد ويؤذى ويسجن.
فإن لم تدفع المحبة صاحبها إلى الاتباع فهي دعوى وليست محبة صادقة، وفي مثل هذا يقول الشاعر: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ.
يقول بعض الصحابة ﵃: (بينما أنا أمشي بالمدينة، إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك؛ فإنه أتقى وأبقى)، أي: أتقى لله؛ لأنه تواضع، وأبقى للثوب حتى لا يتلف بجرَّه على الأرض، (فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله! إنما هي بُردة مَلْحاء)، يعني: مُبتذلة لا اعتداد بشأنها ولا توجد شبهة في مثل هذه البردة القديمة أن تكون مَدّعاة للتكبر والخيلاء، وهذا تبرير لتساهله في طول هذه البردة، (فقال له النبي ﷺ: أما لك فيَّ أُسوة؟ فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه).
معناها: أنه مع وجود هذا العذر الذي ذكره، وهو أن هذه البردة مبتذلة ولا يخشى أن تكون مدعاة للتكبر أو الخيلاء، لكن النبي ﵇ بيّن له أن الصواب هو التأسي به ﷺ، فهو المحبوب عند الله ﷿ في كل الشئون، وإن كان اتباعه في بعض الأمور غير واجب، ولكن المحب لا ينظر إلى الفرق بين الواجب والسنة، فيبادر بالاقتداء بالنبي ﷺ.
بعض الناس يتساءل: هذا حرام أم مكروه؟ فإذا قيل له: مكروه.
كان ذلك سببًا للتمادي فيه، سبحان الله! أتسأل: هل اللحية سنة حتى تجتنبها أم واجبة حتى تتبعها؟ فهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟ فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بمحبوبه فإن المحبة تدفعه لذلك، والمحب في شغل شاغل عن البحث في الفرض والسنة، فإذا فَعَله الرسول عليه الصلاة السلام كان الصحابة يقولون: سمعنا وأطعنا، ويقتدون به، وهنا مع ما ذكره ذلك الصحابي من العذر، وأن هذه البردة مبتذلة ورثّة، ولا يحتمل فيها الفخر ولا الخيلاء ولا التكبر، لكنه مع ذلك أرشده النبي ﵊ إلى ما ينبغي أن يفكر به أهل الاتباع وأهل المحبة.
فالسؤال الآن موجه لحليق اللحية: ماذا يكون جوابك إذا قال لك رسول الله ﷺ أما لك فيَّ أسوة؟! بل ماذا يمكن أن يكون شعورك؟! تخيل أن الرسول عليه الصلاة السلام قد رآك، وإذا رأى وجهك لا لحية فيه أبغض هذا المنظر، وكَرِهَ النظر إليه، فحوّل وجهه غضبًا وكراهية إلى الجهة الأخرى، وهو يقول لك: ما حملك على هذا؟ أو وهو يقول لك: ويلك! من أمرك بهذا؟ وهذا السؤال قد ورد عن النبي ﷺ أنه قاله لمن حلق لحيته، فقد روى ابن أبي شيبة: (أن رجلًا من المجوس جاء إلى النبي ﷺ وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي ﷺ: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، فقال رسول الله ﵌: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية).
وهذه الحالة التي استنكرها الرسول ﷺ لعلّها أهون مما يحصل الآن من بعض الناس، حيث يحلقون اللحية والشارب، وهذا تشبه واضح بالنساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجزّ لحيته، فقال له رسول الله ﷺ: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يشير إلى ربه كسرى- فقال رسول الله ﷺ: إن الله أمرني أن أوفّر لحيتي وأُحفي شاربي)، هذا واضح في أنه أمر من الله، فيضاف إلى الأدلة في قائمة الأمر بإعفاء اللحية.
ولما كتب رسول الله ﷺ كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث به عبد الله بن حذافة ﵁، فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزّقه، فدعا عليهم رسول الله ﷺ أن يُمزّقوا كل مُمزّق، فما قامت للفرس بعدها قائمة، ولم يكن للدولة الكسروية مُلْك بعد ذلك.
ثم كتب كسرى بعد تمزيق الكتاب إلى باذان -وهو عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جَلْدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه -وهو بابويه، وكان كاتبًا حاسبًا- مع رجل آخر من الفرس، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله ﷺ، ولما دخلا عليه ﷺ وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كَرِهَ رسول الله ﷺ النظر إليهما، وقال: (ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا)، يعنيان: كسرى، فقال رسول الله ﷺ: (ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي) رواه ابن جرير الطبري عن يزيد بن أبي حبيب مرسلًا، وحسّنه الألباني.
فأخبرهما النبي ﷺ بهذا الخبر الذي جاءه من السماء: (إن ربي قتل ربكما الليلة)، حيث عاجل الله كسرى -لعنه الله- بالعقوبة، وسلّط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجع الرسولان حتى قدما على باذان إلى آخر الحديث.
فالذي يظهر من هذه القصة أن النبي ﵌ كره النظر إلى ذينك الرجلين، وهذا الموقف يُحرّض كل مؤمن على ألا يفعل فعلًا يؤذي رسول الله ﵌، سواء كان حلق اللحية أو غير ذلك مما يخالف السنة.
فانظر إلى الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية، تجد كل واحد من هؤلاء الأفراد يحرص على أن يرضي زعيم الحزب، وألا يؤذي شعوره أو يفعل شيئًا يكرهه، ويتبعه في سيرته وصورته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه.
فالعجب من هؤلاء الذين يحلقون لحاهم؛ كيف يزعمون محبة رسول الله ﵌ ثم يأتون هذا الفعل الذي يتأذى منه النبي ﵌ ولا يجد أحدهم من ذلك حرجًا في نفسه؟! نذكر هنا قصة رجل من الشعراء يسمى: مرزا قتيل، كان يكتب شعرًا في الحكمة والمعرفة، وهناك رجل إيراني كان يقرأ كتابات هذا الشاعر، فأُعجب به جدًا، واعتقد في قلبه أن هذا الرجل الذي يكتب هذه الأشعار الدينية والمواعظ والحكم هو رجل عظيم جدًا في دينه، فزكى روحه وجسده، فرحل إليه وسافر من بلده حتى يتشرف بلقائه، فلما وصل إلى بابه رآه يحلق لحيته، فقال مستنكرًا ومتعجبًا: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟! فقال مرزا قتيل -تبعًا للفلسفة المنتشرة هذه الأيام-: نعم، أحلق لحيتي ولكن لا أجرح قلب أحد.
يعني: أجرح وجهي بحلق اللحية، لكن لا أجرح قلب أحد!! وهذا إظهار للمعصية في ثوب مزين ومزخرف كما يفعل كثير من الناس اليوم؛ يقولون: أنتم تهتمون بالشعور ولا تهتمون بشعوري، يعني: تهتمون بالشعر وتجرحون شعور الناس.
فردّ عليه هذا الرجل الإيراني العامي بالبداهة قائلًا: بلى، إنك تجرح قلب رسول الله ﷺ.
وكلام هذا الرجل حق، كما رأينا في قصة هذين الفارسيين لما رآهما النبي ﷺ كره النظر إليهما، وآذاه منظرهما، وجرح ذلك قلبه حتى إنه حوّل وجهه عنهما وصرخ فيهما: (ويلكما! من أمركما بهذا؟).
فلما سمع ذلك مرزا قتيل غُشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعرًا معناه: جزاك الله خيرًا، فقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي.
6 / 5