The Religious Inheritance
التوريث الدعوي
Publisher
دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠٢ م
Publisher Location
جدة - المملكة العربية السعودية
Genres
معالم على طريق الصحوة (١٨)
التوريث الدعويّ
د. محمد موسى الشريف
Unknown page
قال تعالى:
(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)
وقال ﷺ:
" إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"
1 / 5
مقدّمَة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه رسالة في التوريث وأهميته في حياة الدعاة إلى الله تعالى، وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع أمور منها:
- ندرة الكتابة فيه؛ إذ أني لم أقف على من تكلم في هذه القضية، وقد أخذت على نفسي عهدًا بألا أكتب في مواضيع قد طرقت من قبل طرقًا وافيًا أو شبه وافٍ، وهذا الموضوع أحسب الكلام فيه جديدًا، والله أعلم.
- أهمية الموضوع، كما سأوضح إن شاء الله تعالى في ثنايا الكتاب.
- تخصُّصه الدقيق؛ إذ أن من أحب الأمور إليّ تناول مثل هذه المواضيع الدقيقة وخدمتها وتجلية جوانبها
1 / 7
المختلفة؛ إذ نحن في عصر تخصص التخصص، والمواضيع الدعوية العامة قد قتلت بحثًا، فينبغي أن يكتب الدعاة في مواضيعَ تفتقر إليها الساحة، هذا وقد مرت الكتابة في الصحوة الإسلامية بأطوار كان منها:
- طور إثبات عظمة الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، ودعوة الناس إلى التمسك به والفخر بتعاليمه، وهذا كان في زمان انتشار الإلحاد والمذاهب الوضعية في أوائل القرن الهجري الفائت إلى الربع الأخير منه، وكان ذلك بسبب جملة عوامل لا مجال لذكرها في هذه المقدمة العَجِلة.
- طور بيان طرق الدعوة إلى الله تعالى، وتثبيت الدعاة، وطرد الشبهات عن طريقهم، وتحذيرهم من الوقوع في الشهوات، وكانت تلك الكتابات في زمان لاحق للطور الأول لكنه عاصره بعد ذلك.
- وكلا الطورين السابقين قد كتب فيهما كتب ورسائل كثيرة جدًا، ملأت الساحة الثقافية.
- والطور الذي ينبغي الكتابة في شأنه في هذا الزمان هو الطور المخصَّص للدعاة إلى الله تعالى، والذي قد يغفلون عنه في زحمة الدعوة وانشغالهم بها،
1 / 8
ويخاطبون فيها بالارتقاء بطرق الدعوة، وابتكار الوسائل الكفيلة بإحسان القيام عليها، وجعلها محورًا لالتقاء الطاقات وتفعيلها، وأحسب أن هذا المبحث- التوريث - من القضايا الدقيقة التي قد يُغفل عنها كليًا أو جزئيًا؛ وهذا هو السبب المهم الذي دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، والذي أرجو أن يكتبه الله تعالى لي حسناتٍ في صحائف أعمالي يوم ألقاه، إنه أكرم مسؤول وأعظم مأمول.
وهناك سبب آخر دعاني للكتابة في قضية التوريث هذه وهو ما شاهدته في هذا العقد الأخير من موت كثير من العلماء والدعاة وأهل الفضل والصلاح، الذين عاشوا مجاهدين عاملين، ثم ماتوا ومات مع أكثرهم خبرته وتجربته، ولم يُسجل أي ذكريات أو يترك كتبًا يتحدث فيها عن تجربته ودعوته وعلمه، وهذه خسارة عظيمة كبيرة، وسأوضح في ثنايا الرسالة إن شاء الله تعالى سبل تلافي هذا الأمر.
هذا وقد كنت صنفت كتاب «التدريب وأهميته في العمل الإسلامي» قبل هذه الرسالة بمدة، وهممت أن ألحق به فصولًا في التوريث، ثم رأيت أن أفرد التوريث بالتصنيف لأهميته ولتباين بعض مباحثه عن مباحث التدريب، لكني أقرر هاهنا أنه لا بد لكل داعية إلى الله
1 / 9
تعالى، ولا بد لكل مؤسسة تدعو إلى الله تعالى من هذين الأمرين المهمين: التدريب والتوريث؛ فالتدريب يحافظ على سلامة المسيرة بل يرتقي بها، والتوريث الحسن يضمن استمرار العطاء وتناقله بين الأجيال، والله الموفق.
وكتبه العبد الفقير:
محمد بن موسى الشريف
الموقع على الشبكة: www.altareekh.com
البريد الإلكتروني: mmalshareef@hotmail.com
1 / 10
تمهيد
قضية التوريث في العمل الإسلامي والدعوة إلى الله تعالى تعني أن يقدِّم السابق للاَّحق خلاصة تجاربه، وعصارة حياته الدعوية، ليبدأ اللاحق من نقطة انتهاء السابق، فهذه القضية إذًا من أهم القضايا الدعوية على الإطلاق لأنها توفر الجهود، وتسدد المسيرة، ويؤمن معها وبها الزلل والخلل إن شاء الله تعالى.
والملاحظ أن الهيئات الإسلامية والتجمعات الدعوية الرسمية منها والشعبية لا تكاد تلتفت إلى هذه القضية المهمة، فتجد المسؤولين يغادرون مواقعهم التي مكثوا فيها سنوات فيأتي مَن لا خبرة له أو صاحب الخبرة الضحلة ليتولى مسؤولية عمل لم يتقنه أو لم يحط به علمًا كما ينبغي، وهو إما أن يكون قد شارك في فريق ذلك المسؤول عن العمل أو أنه جديد تمامًا، وفي كلتا الحالتين فإنه قد ورث تركة ثقيلة، مدار إدارتها على تعاليمَ شفوية في أكثر
1 / 11
الأحيان ليبدأ طريقًا طويلًا يكاد يكون فيه لا صلة له بمن سبقه.
والضعف في قضية التوريث هذه ملحوظ في جوانب كثيرة منها:
- المؤسسات الدعوية والخيرية:
وذلك كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراكز الدعوية، والمندوبيات التعاونية الدعوية، وجمعيات تحفيظ القرآن، ومكاتب وجمعيات البر وهيئات الإغاثة، إلخ .... وهي كلها لا تكاد تملك من وسائل التوريث الصحيحة إلا مقدارًا يسيرًا، لا يصح أن يُكتفى به.
- تدريس العلوم الشرعية:
يلاحظ أنه ليس بين من يُدَرِّسون العلوم الشرعية تنسيق ولا توريث إلا في النادر، فتجد مسجدًا من المساجد يدرس الشيخ فيه كتابًا في الفقه مثلًا، ويطول عجبك إذا علمت أن مساجد كثيرة تدرِّس الكتاب نفسه في وقت واحد وفي أمكنة متقاربة؛ إذ يدرِّس من شاء ما شاء بلا تنسيق ولا توريث، ثم إنه قد يفرغ الشيخ من كتابه الذي يدرسه ليبدأ بتدريس الكتاب نفسه مرة أخرى، فلا يعتني بهؤلاء الذين درسوا كتابه لينقلهم إلى مستوى أعلى أو إلى مسجد
1 / 12
آخر، ولا يكاد الشيخ يكلف نفسه النظر في الطلاب ليختار منهم النابهين ليورثهم علمه وخبرته، وهذا مما سأوضحه في ثنايا الكتاب إن شاء الله تعالى (١).
- النتاج الفكري والثقافي:
وقلة التوريث في هذا الجانب ملحوظ إلى حد كبير؛ إذ أن عشرات من المؤلفين يكتبون في موضوع واحد مكرر مطروق، والذي يفترض هو أن يُنظر فيما هو معروض في الأسواق ويُقوّم فإن أغنى فهذا هو المطلوب، وإن لم يُغن فيؤلف بالقدر الذي يحتاج إليه الناس، وبهذا يكمل المؤلفون في تآليفهم بعضهم بعضًا، ويورث السابق للاَّحق المادة المهمة التي يبني عليها اللاحق تأليفه، لكنا لا نجد هذا أبدًا إلا في القليل النادر.
وكم ألّف السابقون تآليف مهمة أُسدل عليها ستار النسيان وجاء من بعدهم ليكتب في الموضوع نفسه - سواء أعلم أم لم يعلم بالتأليف السابق - وقد يكون تأليف السابق أحسن وأعظم من تأليف اللاحق، لكن المشكلة تكمن في غياب التوريث تمامًا، وكم أُلِّفت رسائل علمية في موضوعات مهمة. وقد مضى على هذه التآليف سنون عديدة، ثم يفاجأ الناس بمن يعيد التصنيف في الموضوع
_________
(١) انظر المبحث الثاني: النوع الأول.
1 / 13
نفسه. والسبب هو أن المؤلف المتأخر لم يعرف بالتأليف المتقدم، أو أن المصنفات المتقدمة لم تنشر وإنما بقيت مطوية في خزائن النسيان.
ومثال على هذا أيضًا أننا نجد من يكتب في قيام الليل فيتبع سبيل من سبقه في التأليف بلا نظر إلى متطلبات العصر الحديث الذي يعيشه، ولا كيف يوفق بين تعقيداته ليخرج بطريقة علمية لتحقيق المطلوب من قيام الليل، وذلك لأن المؤلف اللاحق لم يكلِّف نفسه عناء وراثة السابق وراثة حقيقية نافعة.
ولهذا كله كثر الغثاء في السوق الثقافية الفكرية، وكثر الطرح النظري، وقَلّ الطرح العملي المناسب لحال أهل العصر.
- قلة الاستفادة من الدعاة والصالحين والعلماء:
إذ أن جمهرة كبيرة من الدعاة والصالحين والعلماء يغادرون هذه الحياة بدون أن تستفيد منهم الأجيال في وراثة مفيدة قائمة على أصول علمية واضحة، ولذلك يفقد العالم الإسلامي بهذا كنزًا ثمينًا لا يعوّض غالبًا إلا أن يشاء الله تعالى، فلو كانت هناك مؤسسات مهمتها استقاء ماعند أولئك الدعاة والعلماء والصالحين وتتبُّع أوضاعهم وتَسقُّط أخبارهم، وتسجيل المهم من خبرتهم وأحوالهم لكان ذلك
1 / 14
أمرًا حسنًا يدل على عناية الأمة بالخيرة من أبنائها والعظماء منهم (١).
والعجيب أن الأمم من حولنا - شرقًا وغربًا- تنبهت إلى هذه القضية المهمة في وقت مبكر، وعقدت مجامع، وأسست مراكز، وعملت كل ما في وسعها للاستفادة التامة من علمائها وأعلامها، فلا يغادرون هذه الحياة إلا وقد حصلت الاستفادة التامة من حياتهم غالبًا، فحبذا لو التفتنا إلى هذا الأمر المهم، إذ أنَ الجهود المبذولة اليوم لا تكاد تقتصر على مظاهر وشكليات في هذه القضية، نعم هي مهمة لكن لا ترتقي إلى أن تبلغ المستوى المطلوب من الاستفادة والتوريث الحسن، فما الذي سيستفيده المجتمع من حفلات التكريم وجوائزها - على قلتها وندرتها وذهابها لغير أهلها عادة - إذا اكتُفي بذلك ولم يُستفد من أولئك الأعلام الاستفادة الحقيقية.
وأشرع الآن في تفصيل ما أردت الحديث فيه، والله المستعان.
_________
(١) سأبيِّن إن شاء الله تعالى في ثنايا هذه الرسالة طرقًا للاستفادة من تلك الفئة المهمة من المجتمع، انظر المبحث الثاني: النوع الأول.
1 / 15
المبحث الأول
معنى التوريث وتأصيله من الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من المسلمين
ويشتمل على أربعة مطالب:
- المطلب الأول: التوريث لغة واصطلاحًا.
- المطلب الثاني: التوريث في كتاب الله.
- المطلب الثالث: التوريث في السنة الشريفة.
- المطلب الرابع: عمل الصدر الأول من المسلمين.
1 / 17
المطلب الأول
معنى التوريث
لغة:
وَرِث، يرث وَرْثًا، ووِراثة، ووِراثًا، وتُراثًا، وميراثًا، وإرثًا، وإراثًا.
صار ما خلّفه إليه فهو وارث، وهم ورثة ووُرّاث.
والمال مَوْرُوث، والأب مَوْرُوث.
ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا.
وورث ماله ومجده.
وورث منه علمًا: استفاد.
وورّثه: خلّف له مالًا أو مجدًا.
1 / 19
والوارث من أسماء الله تعالى: قال تعالى: (ولله مِيرَاثُ السَّمَواتِ والأَرْضِ).
والوارثة: أن يحصل للإنسان شيء لا يكون عليه فيه تبعة ولا عليه محاسبة (١).
اصطلاحًا:
والتوريث المقصود في هذا البحث هو ما يتركه السابق للاّحق من خبرة أو تجربة أو لوائح أو طرائق في مجال الدعوة خاصة.
_________
(١) " معجم متن اللغة": ورث.
1 / 20
المطلب الثاني
التوريث في كتاب الله تعالى
قد ذكر الله تعالى في كتابه الوارثة والتوريث مرارًا (١)، وذلك علامة على أهمية هذه القضية، وقد كان الأنبياء العظام مهتمين بها أيضًا، فمن ذلك قوله تعالى قاصًّا قول زكريا ﵇: (وإني خِفْتُ المَوَلىَ مِن وراءى وكَانَتِ امرَأتي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًِّا * يَرثُنيِ وَيَرِثُ مِنْءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلهُ رَبِّ رَضِيّاُ*) (٢) فزكريا ﵇ يخاف انقطاع النبوة من نسله، ويريد من يرثه: يرث العلم ويرث النبوة، قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: «صوّر حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه وعرض ما يطلبه: إنه يخشى مَن بعده، يخشاهم ألا يقوموا على تراثه (٣) بما يرضاه، وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها - وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين- وأهله الذين يرعاهم، ومنهم
_________
(١) قرابة ثلاث وثلاثين مرة.
(٢) (سورة مريم: ٦٠٥).
(٣) أي: ميراثه.
1 / 21
مريم التي كان قيِّمًا عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه ... وهو يخشى الموالي (١) من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته ... ذلك ما يخشاه، فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه، وتراثه النبوة من آبائه وأجداده ...» (٢).
وقال الشيخ الإمام ابن كثير (٣) رحمه الله تعالى:
«وجه خوفه أن خشي أن يتصرفوا بعده في الناس تصرفًا سيئًا، فسأل الله ولدًا يكون نبيًا من بعده ليسوسهم بنوبته وما يوحى إليه فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة وأجلُّ قدرًا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حَدُّه أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيجوز ميراثه دونهم، هذا وجه.
الثاني: أنه لم يُذكر انه كان ذا مال بل كان نجارًا يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالًا، ولا سيما الأنبياء ﵈ فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن
_________
(١) العصبة من قومه.
(٢) " الظلال" ٤/ ٢٣٠٢.
(٣) الشيخ الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي القرشي الدمشقي. توقي سنة ٧٧٤ رحمه الله تعالى: انظر ترجمنه في "الدرر الكامنة": ١/ ٣٩٩ - ٤٠٠.
1 / 22
رسول الله ﷺ قال: «لا نورث، ما تركناه فهو صدقة»، وفي رواية عند الترمذي بسند صحيح: «نحن معشر الأنبياء لا نورث» وعلى هذا فتعين حمل قوله: «فهب لي من لدنك وليًا» يرثني على ميراث النبوة (١).
ونعى الله تعالى على أقوام يرثون الكتاب بدون فهم ولا تطبيق ولا تدبر، فقال عن بني إسرائيل: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) (٢).
قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى:
«صفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه، ولكنهم لم يتكيَّفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم، شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تُدرس وعلم يحفظ، وكلما رأوا عرضًا من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه ثم تأولوا وقالوا: سيغفر لنا ...» (٣).
وقال تعالى:
(وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شكٍ منه مريب) (٤).
_________
(١) " تفسير القرآن العظيم ": ٥/ ٢٠٧.
(٢) سورة الأعراف آية: ١٦٩.
(٣) " الظلال ": ٣/ ١٣٨٧.
(٤) سورة الشورى آية: ١٤.
1 / 23
والله تعالى يبين في كتابه العظيم أن الوراثة والتوريث بأمره ليس من ذلك شيء لأحد من الخلق، فهم ينتظرون مشيئته بتسليم واطمئنان، يقول تعالى قاصًّا قول نبيه موسى ﵇ لبني إسرائيل: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (١) قال الأستاذ سيد رحمه الله تعالى: «إن الأرض لله، وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها» (٢).
وقال تعالى:
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (٣) الذكر هو التوراة، والزبور كتاب نبي الله داود ﵊ (٤).
وهنا يتحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- حديثًا طويلًا عن هذه الوراثة ومَن يستحقها، وأختار من كلامه قوله: "ما هي هذه الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟ لقد
_________
(١) سورة الأعراف آية: ١٢٨.
(٢) " الظلال " ٣/ ١٣٥٥.
(٣) سورة الأنبياء آية: ١٠٥.
(٤) هناك أقوال غير هذه أنظرها في " تفسير القرآن العظيم ": ٥/ ٣٧٩ - ٣٨٠.
1 / 24
استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة والبلوغ بها إلى الكمال المقدّر لها في علم الله، ولقد وضع الله للبشر منهجًا متكاملًا للعمل على وفقه في هذه الأرض ... في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود، ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدَّر له في هذه الحياة ... وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة، وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة، وقد يغلب عليها كفار فجَّار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالًا ماديًا، ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق، والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح ... وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله وتجري سنته: «أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون (١).
_________
(١) " الظلال ": ٤/ ٢٤٠٠، وقد ذكر الإمام ابن كثير قولًا عن السلف أن المراد بالأرض الجنة: أنظر "تفسير القرآن العظيم": ٥/ ٣٨٠، وكلا القولين محتمل وله وجه، والله أعلم.
1 / 25
الصالحون والميراث:
ولما سبق أقول: إن الصالح يحرص على أن يُوَرَّث ميراثًا حسنًا كما قال تعالى: (ثم أوثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (١) فيرث الصلاح والخير والقرآن والدعوة إلى الله تعالى، وهو كذلك يحرص على أن يُوَرِّث العمل الصالح؛ فيدع أولادًا صالحين، وأعمالًا صالحة، وذلك كان مطلبًا لنبي الله إبراهيم عليه أفضل الصلاة والتسليم حيث قال: "واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين" (٢) أي اجعل الآخرين الذين يأتون من بعدي يثنون عليّ ثناءً حسنًا ويذكرونني ذكرًا عاطرًا، فأوتي ذلك عليه أفضل الصلاة والتسلييم كما قال تعالى (وتركنا عليه في الآخرين) (٣) ثم طلب الوراثة العظمى: (واجعلني من ورثة جنة النعيم) (٤) فأوتي ذلك ﵊، وليس أعظم من أن يترك العبد عملًا صالحًا يوّرثه لمن بعده من الأجيال، فيظل عطر ذكراه باقيًا ما بقيت هذه الأرض، ويتردد صدى عمله في جنباتها يرشد العاملين ويهدي السائرين، والله الموفق.
_________
(١) سورة فاطر: آية ٣٢.
(٢) سورة الشعراء: ٨٤.
(٣) سورة الصافات.
(٤) سورة الشعراء.
1 / 26