The Muslim in the World of Economics
المسلم في عالم الإقتصاد
Investigator
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
Publisher
دار الفكر
Edition Number
١٤٢٠هـ
Publication Year
٢٠٠٠م
Publisher Location
دمشق سورية
Genres
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
المسلم في عالم الاقتصاد
دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المسلم في عالم الإقتصاد
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
المسلم في عالم الإقتصاد
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر
دمشق - سورية
1 / 3
إعادة
١٤٢٠هـ - ٢٠٠٠م
ط٣: ١٩٨٧م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١م ترك أستاذنا مالك بن نبي- ﵀ في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١ هـ الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجًا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجمًا من قبل المترجمين أوغير مترجم. فقد حمّلني- ﵀ مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان ١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩م
عمر مسقاوي
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
لم يكن المسلم عندما فتح عينيه في عالم الاقتصاد، بعد أن نالته الصدمة الاستعمارية، سوى قنّ يُسخَّر لكل عمل يريده الاستعمار، فينتج المطاط في حقول الهند الصينية (فيتنام)، والفول السوداني في إفريقيا الاستوائية، والأرز في بورما، والتوابل والكاكاو في جاوه (إندونيسيا)، والخمور في الشمال الإفريقي.
لم تكن له في هذه الأعمال صلة موضوعية بعالم الاقتصاد، ولا تربطه بعمله صلة ذات طابع مشروع، لم يكن (المنتج) الذي يُرعى حقه، ولا (المستهلك) الذي ترعى حاجته؛ لقد كان أداة عمل مستمر فقط، فلم يتكون لديه (وعي اقتصادي)، ولا تجربة ولا خبرة في عالم اقتصاد غريب عليه بكل مفاهيمه، وبنائه ومصالحه الأجنبية. ثم من ناحية أشمل، ومهما كان حظه في محيطه الاستعماري، كان يجري عليه قانون التقليد كما يجري على كل كائن، فقد صلته بعالمه الأصيل ففقد أصالته. فكان عندئذ أميَل لتقليد (الحاجات) منه إلى تقليد (الوسائل) لأنه فقد وعيه الحضاري أيضًا، فيصير في مرحلة أولى مقلدًا بقدر استطاعته للحاجة التي أفرزتها حياة غيره، دون أن يفكر في صنع وسيلة إشباعها، ثم في مرحلة ثانية، إذا تحقق استقلال بلاده، يصير إلى تقليد الحاجات الواردة وتقليد الوسائل المستوردة كيفما اتفق له، ولو على حسابا سيادة البلاد.
1 / 7
وإذا ما تابعنا هذا الوضع في خطوات أخرى، نراه في المجال السياسي يتحول إلى مشكلات سياسية لابد أن تواجهها الحكومات الإسلامية؛ وفي المجال الاقتصادي يتحول إلى قضية نظرية تحاول نخبة مثقفة معالجتها على أسس علم اقتصاد، وضعت على تجارب وخبرات العالم الذي أنجب (آدم سميث) و(كارل ماركس)، وهكذا تبتدئ قصتنا في صورتها الجديدة.
فالإنسان الذي استسلم للتقليد في العادات والأذواق، وبصورة عامة في تقليد ما يكتظ به عالم أشياء شيّده غيره، يصبح في المجال النظري مقلدًا للأفكار التي صاغتها تجارب وخبرات غيره. فإذا ما عدنا لموقف نخبتنا المثقفة في المجال الاقتصادي، نرى هذه النخبة تقف مجرد موقف اختيار بين ليبرالية (آدم سميث) ومادية (ماركس)، كأنما ليس للمشكلات الاقتصادية سوى الحلول التي يقدمها هذا أو ذاك، دون وقوف وعبرة عند أسباب الفشل، أو نصف النجاح لخطط التنمية التي طبقت على أساس الليبرالية أو المادية، في العالم الثالث ما عدا الصين، بعد الحرب العالمية الثانية.
بينما نرى تجربة مثل التي أجريت في إندونيسيا قد تضمنت كل شروط النجاح، سواء من ناحية الإمكانيات المادية في أغنى بلاد الله من حيث الثروة الطبيعية والبشرية، أو من الناحية الفنية لأن واضع خطتها الدكتور (شاخت)، الرجل الذي نهض باقتصاد ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية من نقطة الصفر تقريبًا، ومع ذلك نراها فشلت فشلًا ذريعًا.
ولو وقفنا على الأقل متأملين أسباب هذا الفشل لاستفدنا منه درسًا اقتصاديًا، لا تقدمه لنا الدرسة الليبرالية ولا المدرسة المادية، ولأدركنا أولًا أن المخططات الاقتصادية تتضمن شروطًا ضمنية أو شرطًا ضمنيًا على الأقل ليس من اختصاص واضعيها الالتفات إليه، فالدكتور (شاخت) كان بلا جدال، أجدر
1 / 8
من يضع مخططًا اقتصاديًا مثل الذي وضعه لبلاده قبيل الحرب، ولكنه خطط لإندونيسيا فوضع ضمنًا خطته، على قاعدة (معادلة اجتماعية) خاصة بالشعب الألماني، وأجنبية عن الشعب الإندونيسي (١). فما كان إذن لخططه أن ينجح لأنه فقد منذ لحظته الأولى شرطًا أساسيًا.
والآن إذا عدنا للحديث عن مثقفينا في المجال الاقتصادي، نرى أنهم وقفوا موقف اختيار وتفضيل بين (آدم سميث) و(ماركس)، بينما كانت القضية ولا زالت قضية تطعيم ثقافي لمجتمع الإسلامي، يمكّنه من استعمال إمكانياته الذهنية والجسمية؛ وبصورة عامة تجعل كل فرد فيه ينشط على أساس (معادلة اجتماعية) تؤهّله لإنجاح أي مخطط اقتصادي.
أو بعبارة أخرى فالديناميكية الاقتصادية ليست هي هذه النظرية أو تلك الخاصة بعلم الاقتصاد، بل هي مرتبطة بجوهر اجتماعي عام قد نجده، على حد سواء، في تجربة اليابان الرأسمالية أو تجربة الصين الشيوعية بعد ١٩٤٩، خصوصًا بعد أن عدلت ثورتها الثقافية بين ١٩٦٦ - ١٩٦٨، (المعادلة الاجتماعية) في الفرد الصيني ذاته.
ثم إذا عدنا مرة أخرى إلى موقف مثقفينا من القضية الاقتصادية نراهم يصنَّفون صنفين، لا على أساس فني بل على أساس أخلاقي، صنف لا يبالي بعقيدته في انحيازه لنظرية اقتصادية معينة، ويلقَّب أو يلقب نفسه بالتقدمي لأنه يدعي الماركسية، وصنف ينحاز مبدئيًا إلى الليبرالية لأنه يتجنب المادية والإلحاد بحافز إسلامه.
فهذا الصنف الأخير هو الذي يهمنا بالذات، لا لأنه مسلم فحسب، بل لأنه كان أخصب من الصنف الأول في الدراسات الاقتصادية، كما يدل على ذلك عدد
_________
(١) سنبين في أحد الفصول أثناء الدراسة ما نعني بالمعادلة الاجتماعية.
1 / 9
الأطروحات ودسامتها، مثل الأطروحة التي قدمها أمام جامعة أميركية طالب مسلم، ذكر لكي اسمه وعنوان أطروحته أثناء رحلتي إلى الولايات المتحدة آخر السنة المنصرمة.
فهذا الطالب ذُكر لكي بإعجاب زملائه وبتقدير أساتذته لأنه تفوق في معالجة موضوع (الاستثمار بلا ربا).
وهذا الموضوع الشائك يستحق فعلًا كل الإعجاب والتقدير، وإنما يبقى لنا أن نلاحظ أن هذا الاجتهاد الفذ قد انصرف ضمنًا إلى محاولة توفيق بين الإسلام والرأسمالية، ويا حبذا لو بذله صاحبه في اكتشاف طريق آخر ما عدا الاستثمار المالي، لدفع عجلة الاقتصاد.
وبالتالي نرى الاقتصاديين الإسلاميين وكأنهم بعد أن اختاروا ضمنًا المبدأ الليبرالي، يريدون وضع المسحة الإسلامية عليه، لنرى الجهود الحميدة تنصرف بصورة عامة، إلى دراسة النظم المالية في الاقتصاد، كأنما هي الأمر الأساسي في الاقتصاد.
بينما نرى أن هذه النظم Banques سواء أكانت متعاملة على أساس الربا أم لا، ليست إلا جانبًا من عالم الاقتصاد الحديث، لأنه لو فقد هذا الجانب أو تضاءل مثلما يحدث الآن في التوجيه الاقتصادي الصيني، فلأن النشاط الاقتصادي يستطيع مواصلة حركته الديناميكية، وسيبقى قائمًا أو يعيد قيامه بفضل مقدراته الأخرى، مثلما حدث في ألمانيا بعد الحرب الثانية عندما انطلقت تجربة المستشار (إيرهارت) في خطواتها الأولى بلا رصيد من ذهب أو فضة، أعني بلا تدخل مالي قائم أو غير قائم على الربا.
وهذه الظروف الصعبة التي يواجهها مجتمع ناشئ مثل الصين أو مجتمع يعيد بناءه مثل ألمانيا، هي الظروف المواتية التي تقدم أصدق صورة عن الجوانب
1 / 10
الأساسية في عالم الاقتصاد، قبل أن تتم بناءاته المكتملة سواء في صورة اقتصاد ليبرالي أو في صورة اقتصاد ماركسي.
يجب إذن على شبابنا المهتم بالاقتصاد أن يخلي أولًا ذهنه من الجوانب الذهبية الإضافية في المنطلق، أو التنظيمية التي تكتسبها القضية الاقتصادية في الطريق، بصفتها وسائل إدارة أو إشراف ورقابة.
وهذه الدراسة بالذات هي مجرد محاولة تصفية لموضوع الاقتصاد في الأذهان من الجوانب الإضافية التي تطرأ عليه سواء في صورة ضرورة فنية تنشأ في الطريق، أو في صورة ضرورة سياسية تتسلط عليه لرقابة عمليتي الإنتاج والتوزيع طبقًا لمبادئ ومسلمات مذهبية معينة.
فإن وفقنا في هذه التصفية فهو ذلك وما أجرنا إلا على الله، وإن كان غير ذلك فلنا أجر من لفت النظر إلى ضرورة هذه التصفية، سواء بالنسبة لمفاهيم أو لبعض النظم الاقتصادية، ويبقى أجران لن يوفق فيها كل التوفيق.
ولا نختم هذه المقدمة دون أن نقول كلمة، (وربما هي تصفية في مجال آخر يتصل بالاقتصاد) بصدد الحوار الذي نشأ في العالم الإسلامي حيث نرى المختصين بالاقتصاد، يوجهون العتاب أو اللوم إلى الفقهاء ويرمونهم أحيانًا بالجمود.
يجب أن ننزه فقهاءنا عن هذا العتاب، ونقول إنه ليس من اختصاصهم أن يدلوا على الحلول الاقتصادية سواء مستنبطة من القرآن والسنة أو غير ذلك، وإنما اختصاصهم أن يقولوا في شأن الحلول التي يقدمها أهل الاختصاص، هل هي تطابق أو لا تطابق الشريعة الإسلامية وعلى الله نتوكل وهو حسبنا.
بيروت في ٧/ ٣/ ١٩٧٢
م. ب. ن
***
1 / 11
الجزءُ الأوّلُ
عوميات البحث
صورة العلاقات الاقتصادية الراهنة في العالم
الاقتصاد والاقتصادانية
حدود الاختيار الإسلامي بين المناهج الموجودة
1 / 13
صورة العلاقات الاقتصادية الراهنة في العالم
إن النظرية الماركسية التي تَرُدّ المشكلة الإنسانية كلها إلى العوامل الاقتصادية، تغفل بعض الأشياء الجوهرية في الظاهرة الاجتماعية أو تغض من شأنها؛ ولكن هذه النظرية صادقة في الحدود التي يمكن أن تفسر فيها الظاهرة الاجتماعية تفسيرًا اقتصاديًا.
وفي هذه الحدود الواسعة يعد (الإطار الإنساني) الممتد من طنجة إلى جاكرتا شاشة من المباني والتكوينات الاقتصادية، ويعد (النموذج الاجتماعي) - الجائع العاري- الذي نراه في شرق المحور في كلكتا وفي غرب المحور في تونس ثمرة لهذه المباني وتلك التكوينات.
وعليه فمن الممكن أن نتحدث في هذه الحدود عن حتمية اقتصادية تضغط بثقل قضائها على مصير الشعوب الإسلامية، ولكن هذا القضاء لا دخل فيه للميتافيزيقا، وهو ليس قضاء مطلقًا نهائيًا، بل هو عارض طارئ من أعراض التاريخ أو هو بمثابة الزمن الميت في النمو المادي لتلك الشعوب، يتفق مع تلك الأوضاع الشخصية الموروثة التي تتنافى مع الأوضاع الاقتصادية التي حددتها وفرضتها الحضارة الغربية.
ولقد ظهرت الآثار الاجتماعية لهذا التنافي منذ اللحظة التي وقع فيها الرجل المسلم في الأحبولة الاستعمارية، فأصبح العميل المستعبد المستغل للاقتصاد الحديث، دون أن يجد في نفسه، وفي تقاليده وفي عاداته الوسيلة الكافية كما ينتزع نفسه من تورطه، وهكذا بدأ عصر الحتمية الاقتصادية بالنسبة له مع بدء
1 / 15
العصر الاستعماري. ولم يخلصه تحرره السياسي بصفة عامة من التورط الاقتصادي، فإن المشكلة أولًا ذات طابع نفسي؛ لأن المعنى الاقتصادي لم يظفر في ضمير العالم الإسلامي بالنمو نفسه الذي ظفر به في الغرب، في ضمير الرجل المتحضر وفي حياته.
والحق أن الاقتصاد في الغرب قد صار منذ قرون خلت ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية، وقانونًا جوهريًا لتنظيمها.
أما في الشرق فقد ظل على العكس من ذلك في مرحلة الاقتصاد الطبيعي غير المنظم، حتى إن النظرية الوحيدة التي تناولت تأثير العوامل الاقتصادية في التاريخ وهي نظرية ابن خلدون قد ظلت حروفًا ميتة في الثقافة الإسلامية، حتى نهاية القرن الأخير.
فلم يُقبل المجتمع الشرقي تحت تأثير احتياجاته الداخلية، على أن يضع نظرية اقتصادية كما حدث في المجتمع الغربي، حين وضع الرأسمالية أو الشيوعية.
إنه لم يقبل على هذا بسبب ما انطوى عليه من نفسية خاصة منعقدة على (الزهد) كمثل أعلى منذ قرون، وإن فقهًا اقتصاديًا يستلهم خطته ومفاهيمه من مثل كهذا ويصدر عنه، لا يمكنه بداهة أن يعبر بالدقة العلمية نفسها عن فكرة (المنفعة) الخاصة بالرأسمالية، أو عن فكرة (الحاجة) الخاصة بالنظرية الماركسية؛ فالزهد والمنفعة والحاجة ثلاث حقائق لا يمكن أن تدخل في اطراد اجتماعي واحد، وفي واقع اقتصادي واحد. فقد كان هناك إذن عنصر تنافر أساسي بين الأوضاع الشخصية الموروثة في البلاد الإسلامية وبين التكوينات الاقتصادية التي وضع أسسها العصر الاستعماري.
وهناك عنصرآخر يتمتع بالطابع النفسي نفسه، ويجب أن نحسب له حسابه في هذا التنافي، ذلك العنصر هو فكرة الزمن التي تعد أساسية جدًا في تنظيم
1 / 16
العمل في العالم الحديث تبعًا لنظرية تايلور Taylor، فقد سيطرت هذه النظرية على مفاهيم المقدرة الإنتاجية، فساعة (الكرونومتر) التي تستخدم في حساب الثواني تستخدم في الوقت نفسه في تسعير الإنتاج. وليس قولهم (الوقت عملة Times is Money) من قبيل اللعب بالكلمات، بل هو تعبير دقيق عن الواقع المادي في نظر الإنجليز. فجميع ألوان النشاط في المجتمع الصناعي الحديث تنمو في حدود الزمن المادي، وتتقوَّم بساعات عمل؛ أما في البلدان المتخلفة فإنهم لم يجربوا هذه العملة الخاصة إذ تنمو ألوان النشاط والعمل بصورة تقليدية، في حدود الزمن الميتافيزيقي أي في نطاق الأبدية، لأنه لا يهدف إلى تشييد صرح (القوة)، ولا يطبق مبادئها المتنافية مع الأوضاع النفسية، كما نرى ذلك في تاريخ الصين، فقد ظلت الثقافة الصينية الكلاسيكية مثلًا تعلن احتقارها البالغ زمنًا طويلًا لقواد الحرب، أولئك (الأدوات) التقليدية (للقوة).
وإذن فلقد كان التنافي بين هذه المباني الموروثة، وبين ألوان العمل المنظم الموقت في المجتمع الحديث، كان هذا التنافي أمرًا محتومًا.
وبذا نفهم من أول وهلة كيف تتبدد الأوهام أثناء محاولة بعض البلدان الإسلامية تحقيق استقلالها الاقتصادي بعد أن حققت استقلالها السياسي، فأخذت تستشير لهذه الغاية بعض الخبراء الاقتصاديين، ولم تلبث التجربة أن برهنت لهم على أن (الحالة) في علم الأمراض الاقتصادية ليست كما يحدث في الطب من (اختصاص الدكتور). ولقد رأينا في الواقع الدكتور (شاخت) وهو يعطي مثل هذه الاستشارات، ولقد كان بكل تأكيد خير من يقوم بهذه المهمة لما رشحه به نجاحه في (حالة) سابقة، وهو نجاحه الهائل في تخطيط الاقتصاد الذي تحمل جهدًا ضخمًا لبلد دخل الحرب العالمية الثانية، دون أن يكون لديه رصيد كبير من الذهب.
لقد تمنوا عمومًا أن يكرر الدكتور (شاخت) هذه المعجزة خارج بلاده،
1 / 17
ولكنهم رأوا أنه لم يستطع تكرارها، وإنما رأينا في مقابل ذلك ما يعد أكثر إفادة في نظرنا، وهو أن المعجزة قد تكررت من تلقاء نفسها، أي بدون مساعدة الدكتور (شاخت) في ألمانيا الغربية كما في ألمانيا الشرقية، دون رصيد كاف من الذهب في كلا البلدين، وأيضًا دون الاعتماد على المصانع التي استمد منها الرايخ الثالث قوته، ثم هدمها المنتصرون في الحرب أو فككوها. واليوم وبعد عشر سنوات من الانهيار التام ينهض الاقتصاد الألماني، ويستعيد مكانه في العالم على جانبي ما سمي (بالستار الحديدي)؛ وعليه فلو كان هناك درس نستفيده من هذا البعث الرائع فلن يكون سوى أن نقول: إن مبدأ اقتصاديًا لا يمكن أن يكون له أثره، ومقدرته التامة على التأثير إلا في الظروف التي يتفق فيها مع تجربة اجتماعية معينة.
والواقع أن هذه القدرة لا تصدر عن ظروف اقتصادية محضة، كما ترينا التجربة الألمانية، تلك التي بدأت سيرها من الصفر في الناحية الاقتصادية، منذ عشر سنوات. فإن هناك معادلة شخصية هي التي تهمنا إلى أقصى حد في مضمون هذه المقدرة، ولا شك في أن الدكتور (شاخت) قد أعطى في (استشاراته) الأفرسيوية خير آرائه التي يمكن أن تصدر عن معادلته الشخصية، تلك المعادلة التي شكلتها الظروف النفسية والزمنية للوسط الألماني، هذه الظروف التي تكون مقياسًا ضمنيًا لا تؤتي معها نصائح الخبير واستشاراته تأثيرها الكامل إذا خرجت عن حدوده؛ وأي فن اجتماعي أو مبدأ اقتصادي لا يمكن أن يكون صادقًا إلا إذا وجد في وضع، لا يتعارض فيه مع عناصر المعادلة الشخصية السائدة في الوسط الذي يراد تطبيقه فيه، ولكي تؤتي النظريات الاقتصادية تأثيرها الاجتماعي يجب ألا يقتصر في دراستها على منصة الجامعة بوصفها علمًا وقفًا على بعض المتخصصين، بل يجب أن يطبق هذا العلم على التجارب الجماعية التي يقف فيها وعي كل فرد وإدراكه أمام المشاكل المادية، مقدمًا بذلك لعلم المتخصصين ظروف صلاحيته للتأثير.
1 / 18
وعمليًا يجب أن تسير النظرية الاقتصادية جنبًا إلى جنب مع النظرية السياسية، كيما تحيل المبدأ النظري إلى قانون للعمل والنشاط، فتضمه بذلك إلى دوافعه وإلى نسقه وأسلوبه. والطريقة الوحيدة التي يصبح بها المبدأ أو الفكرة جزءًا من التاريخ هي أن يتحول إلى (عمل)، إلى دافع عمل، إلى طاقة عملية، إلى إمكانية عمل. ولقد تكوَّن (علم) الاقتصاد الاشتراكي على يد (ماركس) و(أنجلز). ولكن تأثيره بدأ مع تكوين (الضمير) الاشتراكي منذ ثورة تشرين الأول (أكتوبر) عام ١٩١٧، فلقد صب نشاط لينين ومدرسته مبدأ الاقتصاد الاشتراكي في نفسية الشعب الروسي وفي عقليته، وفي حركته أو ديناميكيته. فالاقتصاد الاشتراكي إذن هو ثمرة التوفيق بين (علم) هو العلم الماركسي وبين (ضمير) هو وعي الطبقات. وبدون أن نصدر هنا حكمًا مطلقًا، أي حكمًا على هذا التوفيق بوصفه قيمة إنسانية وإنما بوصفه حقيقة، فإننا نقرر أنه هو الذي ولّد ما يسمونه (الطفرة الإنتاجية Economie de choc) .
فطريقة (الاستخانوفية Stakhnovisme) التي كانت عنصرًا جوهريًا في خلق الواقع الاقتصادي الراهن في الاتحاد السوفييتي، هي قبل كل شيء نتيجة للظروف النفسية الجديدة، ونتيجة للبناء العقلي الجديد.
فأي (مشورة) تهدف إلى وضع نظام اقتصادي أو إصلاح نقائصه، ينبغي إذن من حيث المبدأ- ويصعب عند التطبيق- أن تضع في حسابها العناصر غير الاقتصادية، وبهذا نلتقي مرة أخرى مع أسبقية (عالم الحياة الاجتماعي) على (المهندس الاجتماعي)، عندما نبدأ من الأساس؛ وفي هذا المستوى، أي في بداية أي تجربة اجتماعية لا يكون الأمر فقط أن نحل معادلة اقتصادية، بل أن نكيفها طبقًا لمعادلة شخصية معينة. وأي تجربة تغفل في بدايتها هذه العلاقة الأساسية لا تكون سوى تجربة نظرية مقضي عليها بالفشل. ولو أردنا أن نستخلص من هذا الكلام نتيجة صادقة لبناء اقتصاد إسلامي، فمن الضروري أن
1 / 19
نفكر في الشروط الفنية التي يتطلبها التوفيق بين معادلة إنسانية معينة خاصة بالبلدان المتخلفة، وبين المعادلة الاقتصادية للقرن العشرين. إن الاستعمار لم يحاول تحقيق هذا التوفيق في استثماره للبلدان المستعمَرة، فقد كان العمل استرقاقًا وعبودية يستهدف إثراء المستعمِر أكثر من أن يهدف إلى إعاشة المستعمَر، وبذلك انحطت فكرة (العمل) على يديه أخلاقيًا واجتماعيًا، فليس العمل وسيلة لكسب العيش، بل هو طريقة لإرضاء مطالب السلطة التي توزع الخبز، علمًا بأن (الخبز) الذي يحصلون عليه بهذه الكيفية ليس حقًا، وإنما هو منحة؛ وبذلك هدمت تصرفات الاستعمار الوضع التعارَف عليه؛ ولكنها حين أدخلت الرجل المستعمَر في خضم العصر الاقتصادي لم تترك له أي وسيلة لحل مشاكله، وهكذا انحط الاستعمار برجل التأمل والنظر. وبدلًا من أن يدخله في جهاز نظامه الخاص فيجعل منه الرجل ذا الوعي الاقتصادي Homo économicus إذا به يتخذ منه آلة في هذا الجهاز، أي في الاقتصاد الاستعماري، وبهذا ينتقل الرجل المستعمَر فقط من المرحلة التأملية إلى المرحلة النباتية التي لم تكن له فيها (حاجة)، فأصبحت له حاجات لا يملك أي وسيلة منظمة وعادية لإشباعها.
فلقد نمّى الاستعمار في نفسيته خوف الجوع الذي يظهر في جميع طبقات المجتمع المستعمَر، خلق منه الرجل الجائع دائمًا، وخلق منه الرجل الذي يخاف دائمًا من الجوع، وهاتان الصورتان من صور الخوف، قد حطمتا عند الكائن المستعمَر كل إمكانية للتكيف مع التكوينات والأوضاع الاقتصادية في القرن العشرين.
ففي إفريقيا الشمالية مثلًا تخشى الطبقة البورجوازية الجوع، ويتجلى خوفها في صورة (بطنة Hypergastrisme) تدل عليها حالة تلك الأسرة الجزائرية التي تستهلك لاستعمالها الخاص مئة كيلو من الزبدة في الشهر (عام ١٩٣١). ويتجلى خوف الجوع في الطبقة الكادحة في صورة (مسغبة
1 / 20
hypogastrisme) ولا سيما عند هؤلاء الآلاف من العمال في إفريقيا الشمالية، الذين يذهبون للعمل في فرنسا، ويموتون نتيجة نقص التغذية، الذي لا يتلاءم مع وسائلهم الجديدة أو مع المناخ والعمل في المصانع.
وهكذا لم يقدّم الاستعمار نظامًا للتلمذة الاقتصادية إلى البلاد المستعمَرة، فلم يعدّل في الواقع التكوينات الشخصية طبقًا للتكوينات الاقتصادية الجديدة، بل إنه فرض في هذه البلاد حكم العبودية الاقتصادية فحسب، ذلك الحكم الذي ترك طابعه البارز على نفسية الطبقات البورجوازية، كما تركه على نفسية الطبقات الكادحة.
فاللجوء إلى (استشارات) المتخصصين في هذه الظروف لإنهاض حالة اقتصادية متعثرة أو منهارة، يجعلها استشارات لا أثر لها لأنها لا تكون سوى طريقة (سحرية) تستمد مبدأها من الثقة التي نخلعها على صاحبها (الدكتور). إن من الواجب أن ننظر إلى المشاكل الاقتصادية في طبيعتها البشرية، وإلا انتهى بنا الأمر إلى نتائج نظرية.
فهناك ظاهرة أثارت دهشة المراقبين وهي أن الدخل قد هبط في بعض البلاد التي تحررت من نير الاستعمار بحوالي ١٦% إثر تحررها، ومن الممكن بلا شك أن نفسر هذا الهبوط بإرجاعه جزئيًا إلى الأوضاع والتكوينات الاقتصادية العالمية؛ وبناء على العوامل السياسية التي تؤثر في مرحلة انتقال مضطربة، فإن للعوامل ذات الطابع الاستراتيجي تأثيرًا على السوق العالمية. وبالتالي على الأسواق المحلية وهو تأثير لا يمكن إغفاله هنا، ولكن في هذا الهبوط جزءًا متصلًا بالعوامل النفسية، أي بعناصر المعادلة الإنسانية الخاصة بتلك البلاد، التي تتجلى فيها النزعات المحلية وتأثيرها المعطل، الذي لا يظهر طالما وجدت قواها الإنتاجية تحت سيطرة النظام الاستعماري عوامل منشطة أخرى.
1 / 21
ولا سيما العمل الإجباري الذي ذاقته إندونيسيا، والذي لا زال يطبق في بعض مناطق إفريقيا الغربية الفرنسية على الرغم من صدور (دستور العمل) الجديد.
وتبرز الأهمية الاقتصادية لهذا التعطيل بصورة جلية إذا ما وضعناها بجانب رقم (٢%) وهو الذي يمثل النسبة التقريبية المستثمرة من الدخل في تلك البلاد. فمن الواجب إذن أن نتناول المشكلة الاقتصادية في هذه البلاد من أساسها: أي ابتداء من عناصرها النفسية.
وفي هذا المستوى يكون حلها منحصرًا في تكوين (وعي اقتصادي) بكل ما يستتبعه في التكوين الشخصي للفرد وفي عاداته، وفي نسق نشاطه وفي مواقفه أمام المشاكل الاجتماعية.
وفي هذا الميدان أكثر من أي ميدان آخر يدخل الرجل المسلم مرغمًا، في عالم حديث تسيطر عليه مقاييس معينة لها القدرة على التأثير، وربما احتجنا أن نخفف من حدة هذه المقاييس التي خلقت في المجتمع الصناعي الإنسان الآلي. ولكن القدرة على التأثير كما لاحظ أحد الصحفيين السويسريين إن لم تكن الهدف الأسمى للإنسانية فإن قدرًا معينًا منها ضروري على أية حال، إذ بدونه لا يكون المجتمع منتجًا. حتى من الناحية العقلية ... (١)
فالأمر بالنسبة للفرد، كما هو بالنسبة للمجتمع، يتعلق بأن نحقق أقصى حد ممكن من القدرة التأثيرية؛ ولكن العكس يحدث غالبًا في البلدان المتخلفة، التي تقل فيها الوسائل بسبب درجة النمو الاجتماعي، وهي فضلًا عن ذلك معطلة عن الاستعمال بفعل بعض النقائص النفسية، ولقد قدمنا هذا المعنى في مكان آخر (٢)، حيث بيّنا في ضوء بحث قمنا به إذ ذاك في مدينة جزائرية صغيرة أن نسبة ميزانية
_________
(١) (هربرت لوشي) La France à l'heure de son clocher فرنسا في العهد القروي.
(٢) بحث منشور في فصل من كتاب (وجهة العالم الإسلامي) للمؤلف.
1 / 22
الضروريات إلى الكماليات والتوافه هي نسبة ٥% إلى ٩٥%، وربما أدى البحث مع اختلاف الأرقام إلى النتائج النسبية نفسها سواء في المستوى القومي أو في المستوى الفردي. ففي الحالتين كلتيهما نكون قد جمعنا الآثار السلبية التي ينتجها المعامل نفسه Cofficent، لأنه على علاقة بالمعادلة الشخصية التي تبرز فيها مع عناصر النمو في البلاد التي لم يتكوّن فيها بعد (الوعي الاقتصادي). فليست إذن الوسيلة المادية فحسب هي التي تفتقدها هذه البلاد لصناعة (جورب نقودها) بل إنها تفتقد أيضًا الاستعداد العقلي الذي يبلغها هذه الغاية.
فلكي يحدد الرجل المسلم وجهته الاقتصادية يجب أن يتخلص من المعامل (المقلل) الذي يهبط بمقدرة وسائله التأثيرية. ولن يستطيع الدخول في أي اطراد للنمو الاقتصادي إلا إذا حققنا انتقاله غير المشروط من المرحلة النباتية إلى الوضع الإيجابي الفعال، باعتباره مبدأ، فنوفر له دون شرط كمية الوحدات الحرارية اللازمة لهذا الانتقال، والضمان الأولي لكرامته النفسية، أي أن من الواجب أن نضع المشكلة أولًا في مصطلحات (البقاء). ووضع مشكلة الغذاء في هذا الإطار ينتج لنا مشكلة أخرى، هي مشكلة التوظيف الكامل لموارد تلك البلاد المادية والبشرية، فالمسألتان تندمجان منذ البداية في مشكلة واحدة تعبر عن المشكلة الاقتصادية في المجال الإنساني والأخلاقي (١)، فإن أي نظام اقتصادي إنما توجهه القوى الأخلاقية التي تخلع عليه تفسيرًا إنسانيًا وغاية تاريخية. فهو في بدايته يحمل طابع اختيار بين (المنفعة) و(الحاجة) وفكرة التوزيع فيه، أعني أن وظيفته الاجتماعية الجوهرية تكتسب تحديدها من هذا الاختيار الأولي.
فالمذهب التجاري أو الاحتكاري القائم على أساس المنفعة، أي الذي يقوم
_________
(١) ويبدو أن البلاد العربية بدأت تواجه المشكلة في وضع (البقاء). كما برهنت على ذلك التقارير الأخيرة التي اتخذتها الجزائر في قضية التشغيل العام.
1 / 23