بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، أشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
[آل عمران: ١٠٢] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١]
فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشرالأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد
فإنَّ المساجد التي هي بيوت الله - تعالى - في الأرض لها جملة من الأحكام التي ينبغى على المسلم أنْ يتعلمها.
وإذا كان الله - تعالى - قد ذكر في كتابه جملة من الآداب التي يجب على المسلم أن يتبعها عند دخول بيوت الناس، فإنَّ تعلم الآداب والأحكام التي تتعلق ببيوت الله - تعالى - واتباعها واجب من باب أولى.
1 / 1
وإذا كان حق الضيف إكرامه، فإن من واجب الضيف معرفة قدر من يزور، والاستعداد لزيارته، والتأدب في حضرته بما يليق وجلال المزور وعظمته.
قال ابن عثيمين ﵀:
أضاف الله ﷿ المساجد إلى نفسه وأضافها النبي ﷺ إلى ربه، لذا فإنَّ لهذه المساجد حرمة ولها تعظيم وأحكام. ا. هـ
ولقد اعتبر النبي ﷺ المساجد أمارات تدل على إسلام أهل البلد، -- فعن أنس بن مالك - رضى الله عنه- قال: «كان رسول الله ﷺ يُغير إذا طلع الفجر، فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار». (١)
وهذا دليل على ما للمساجد من أثر بالغ في الإسلام، حيث يعتبر وجودها وعمارتها بالأذان والصلاة صورة حية للمجتمع الإسلامي، كما أنَّ فقدها أو فقد عمارتها بعبادة الله - تعالى - يعني ابتعاد المجتمع عن الإسلام وتلاشي معالمه من واقع المجتمع.
وقد خصَّ الله - تعالى- هذه الأمة بأنْ شرع لها بناء المساجد، والسعي في عمارتها، والمسابقة إليها، وتخصيصها بأنواع من العبادة لا تصح في غيرها.
ولأهمية المساجد في هذه الشريعة أحببنا أن نذكر في هذه الورقات - بعون الله وتوفيقه - جملة من الأحكام والفتاوى التي تتعلق بالمساجد من وقت دخولها والمكث فيها والصلاة وغيرها حتى الخروج من المسجد.
_________
(١) متفق عليه
1 / 2
وهذا جهد المقل قد أنفقت فيه جهدي وبذلت وسعي، وقد سطَّرته وأنا أعلم أنَّه عمل بشري يعتريه الخطأ والتقصير، وهذا المعنى قد ذكره الله - عزوجل - في قوله تعالى: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: ٨٢] [النساء: ٨٢] [النساء: ٨٢] وفي هذا المعنى يقول ابن مسعود - رضى الله عنه -: (فإنْ يكُ صوابًا فمن الله، وإنْ يكُ خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئآن) (١)، فأستغفر الله عمَّا فيه من خطأ أو تقصير.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.
لقد مضيتُ وراء الركبِ ذا عَرَجٍ ... مؤمِّلًا جبر ما لاقيتُ من عرجٍ
فإن لحقتُ بهم مِن بعد ما سَبقوا ... فكم لرب الورى في الناسِ من فرجٍ
وإنْ ضللتُ بقَفر الأرض منقطعًا ... فما على أعرجٍ في الناسِ من حرج
ولا يفوتني أنْ التمس من كل أخٍ كريم قرأ هذا الكتاب أنْ يتفضل مشكورًا بإبداء ملاحظاته وتوجيهاته، فإنَّ المؤمن مرآة أخيه المؤمن، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
ونسأل الله - عزوجل - أن يوفقنا في هذا العمل، وأن يجعل ما نسطِّره خالصًا لوجهه، ولا يجعل لأحد فيه شيئًا، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله على النبي وعلى آله وصحبه وسلم.
_________
(١) أخرجه أبوداود (٢١١٦) وقال الألباني: صحيح.
1 / 3
أولًا: التعريف بالمسجد: -
المساجد: جمع مسجد، بفتح الجيم وكسرها، لغتان، فإنْ أريد به المكان المخصوص فهو بكسر الجيم لا غير، وإنْ أريد به موضع السجود، والذي هو موضع وقوع الجبهة على الأرض، فإنه بالفتح لا غير.
فإنَّ المسجد قد يطلق ويراد به موضع السجود، مسجدًا كان أو غيره، وهذا هو الأصل، ودليل ذلك قوله ﷺ: (جُعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا) (١)، وقوله ﷺ (الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام) (٢) وقد يطلق لفظ " المسجد " ويراد به الموضع المعد للسجود، والذى يؤمه الناس للصلاة فيه، كما في قوله ﷺ: "إذا نعَسَ أحدُكم وهو في المسجد فليتحولْ من مجلسه ذلك إلى غيره" (٣)
- ولمَّا كان السجود أشرف أفعال الصلاة؛ لأنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، اشتق منه اسم المكان الذي خُصص للصلاة فيه.
_________
(١) أخرجه أحمد (٢١٤٣٥) والبخاري (٤٣٨) ومسلم (٥٢١)
(٢) أخرجه أحمد (١١٧٨٤) والترمذي (٣١٨) وصححه الألباني
(٣) أخرجه أبو داود (١١١٩) والترمذي (٥٢٦) وصححه الألباني.
1 / 4
قال ابن دقيق العيد: المسجد موضع السجود في الأصل، ثم يطلق في العرف على المكان المبنى للصلاة التي السجود منها، وعلى هذا: فيمكن أن يحمل المسجد في الحديث على الوضع اللغوي، أي جُعلت لي الأرض موضع السجود، ويمكن أن تُجعل مجازًا عن المكان المبني للصلاة؛ لأنه لمَّا جازت الصلاة في جمعيها كانت كالمسجد في ذلك. ا. هـ (١)
والمسجد بمعناه الشرعي - الذي هو موضع السجود - هو من خصائص هذه الأمة، لقوله ﷺ (جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)
قال القاضي عياض: لأنَّ من كان قبلنا، كانوا لا يصلون إلا في موضع يتيقنون طهارته، ونحن خُصصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض، إلا ما تيقنَّا نجاسته. ا. هـ (٢)
فضائل المساجد:
١ - قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقره / ١١٤)
٢ - وقَال تَعَالَى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ١٨]
٣ - وقَال تَعَالَى ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيى لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: ٢٦] وهذه الأيات فيها دلالة عظيمة على فضيلة المسجد؛ فإنَّ الْأَرض كلها للَّه - تعالى - ملْكًا وخلقًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷾: ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [الأعراف: ١٢٨] وَأما الْمَسَاجد فقد أضافها الِلَّه- تعالى - إلى نفسه إضافة رِفْعَة وَتَشْرِيف؛ كما في قوله " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ....... "
وقوله تعالى "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ " ممَّا يدل على فضل المساجد، التي هي بيوت الله - تعالى - في الأرض. (٣)
_________
(١) وانظر إحكام الأحكام (١/ ١٥٦) والإعلام بفوائد عمده الأحكام (١/ ٦٩٤) وأضواء البيان (٨/ ٣٢٠)
(٢) وانظر الجامع لأحكام القرآن (٨/ ٣٧٢) وشرح مسلم للنووى (٣/ ٩)
(٣) وانظر المحررالوجيز (١/ ٢٠٨) وتفسير القرآن العظيم (٢/ ٤٧٩) والفروع (٢/ ٣٤٤)
فائدة: وَإِنْ كَانَتْ المساجد تضاف لِلَّهِ ملْكًا وَتَشْرِيفًا، فَإِنَّهَا قَدْ تنسب إلَى غَيْرِهِ تَعْرِيفًا، فَيُقَالُ: مَسْجِدُ فُلَانٍ، وَفِي الْحَدِيث الصحيح «أَنَّ النَّبِى- ﷺ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ» وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بِحُكْمِ الْمَحَلِّيَّةِ، وانظر أحكام القرآن لابن العربي (٤/ ٣٢١)
1 / 5
٢ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُها. (١)
قال النووي: وأَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ المَسَاجِدُ؛ لِأَنَّهَا بُيُوتُ الطَّاعَاتِ وَأَسَاسُهَا عَلَى التَّقْوَى، وقَوْلُهُ "وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا"؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَالرِّبَا وَالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ا. هـ (٢)
٣ - عن أبي عثمان قال: كتب سلمان إلى أبي الدرداء- ﵄: يا أخي عليك بالمسجد فالزمه، فإنى سمعت النبي- ﷺ -يقول " المسجد بيت كل تقي". (٣)
_________
(١) رواه أحمد (١٦٧٤٤) ومسلم (٦٧١) وابن حبان (١٥٩٨)
(٢) انظر شرح مسلم (٣/ ١٨٤)
(٣) رواه أبو نعيم في الحلية (٦/ ١٧٦) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (٧١٦)
1 / 6
"خير المساجد على الأرض"
نقول: إنّ من سنة الله - تعالى - أن يفضِّل أشياءَ على أشياء، وذلك فضل الله- تعالى - يؤتيه من يشاء.
فلقد خلق الله - تعالى - سبعين أمة، فجعل أمة الإسلام خير أمة أُخرجت للناس.
وخلق الله - تعالى - الناس جميعًا، فجعل محمدًا- ﷺ خير البشر أجمعين.
وخلق الله - تعالى -الأيام كلها، فجعل الجمعة خير الأيام جمعيًا.
وخلق الله - تعالى - الليالي كلها، فجعل ليلة القدر خير الليالي جمعيًا.
وخلق الله - تعالى - الماء جمعيًا، فجعل ماء زمزم خير الماء جمعيًا.
ومن هذا الباب فلقد أذن الله - تعالى - للكثير من المساجد أن ترفع ويُذكر فيها اسمه، ولكن من بين هذه المساجد الكثيرة، قد خص الله- تعالى - ثلاثة مساجد، جعل لها فضائل عظيمة ليست في غيرها، وهى "المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى "
١ - المسجد الحرام: قال تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمرن /٩٦)
فهذه الآية تفيد أنَّ أول مسجد بُني على الأرض هو المسجد الحرام بمكة،والذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل ﵉.
1 / 7
وعنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ فِي السُّدَّةِ، فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ، أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ ! قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ -عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ» (١)
وفى هذا الحديث فوائد:
١ - الأولى: فضيلة هذه الأمة التي منحها الله - تعالى- إياها،وهى أنّ للمسلم أن يصلي في أي موضع من الأرض، إلا ما استثناه الشرع،وهذه من خصائص هذه الأمة،دون غيرها من الأمم، حيث كان مَن قبلنا لا يصلُّون إلا في البيع والكنائس.
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، كَانَ كُلُّ نَبِي يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة. (٢)
_________
(١) أخرجه البخارى (٣٤٢٥) ومسلم (٥٢٠) واللفظ لمسلم، غريب الحديث: (السدة) واحدة السدد وهي المواضع التي تطل حول المسجد وليست منه، وليس للسدة حكم المسجد إذا كانت خارجة عنه وقال الأبي في شرحه على مسلم هي فناء الجامع.
(٢) أخرجه البخاري (٣٣٥) ومسلم (٥٢١)
1 / 8
٢ - الفائدة الثانية: - أنَّ المسجد الأقصى هو ثاني المساجد التي بنيت بعد المسجد الحرام، وفى قصة بناءه قد ورد حديث عن عبد الله بن عمرو ﵄ عن رسول الله ﷺ قال لما فرغ سليمان بن داود ﵉ -من بناء بيت المقدس سأل الله ﷿ ثلاثًا أنْ يؤتيه حكمًا يُصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال رسول الله ﷺ: أما اثنتين فقد أُعطيهما، وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة. (١)
_________
(١) أخرجه أحمد (٦٦٤٤) وابن خزيمة (١٣٣٤) وابن ماجه (١٤٠٨)، وصححه الألباني، وانظر صحيح الترغيب (٢/ ٢٢)
فوائد: الأولى: وقَدْ أُشْكِل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ الْجَوْزِيِّ فَقَال: مَعْلُومٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ هُوَ الَّذِي بَنَى الأْقْصَى، لهذا الحديث، وقد ورد أنَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قد بني بعد الْمَسْجِدُ الْحرام بأَرْبَعُينَ عَامًا. وَسُلَيْمَانُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كَمَا قَال أَهْل التَّارِيخِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ عَامٍ، وَأَجَابَ الزَّرْكَشِيُّ: بِأَنَّ سُلَيْمَانَ ﵇ إِنَّما كَانَ لَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى تَجْدِيدُهُ لا تَأْسِيسُهُ، وَالَّذِي أَسَّسَهُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةَ بِهَذَا الْقَدْرِ، والله أعلم، وانظر إعلام الساجد للزركشي (٢٩)
الثانية: ما هومشتهر بين الناس أنَّ المسجد الأقصى هو ثالث الحرمين، فهذا ممَّا لا دليل عليه، بل إنَّ الحرم - والذي لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يقطع شجره ولا يحمل به سلاح - لا يكون إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي لورود النص فيهما فقط.
1 / 9
وممَّا ورد في فضل المساجد الثلاثة:
١ - مضاعفة أجر الصلوات:
عن أبي هريرة ﵁ أنَّ النبي ﷺ قال: صلاة فى مسجدي هذا، خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ " (١)
وعن أبي ذر ﵁ أنَّ النبي ﷺ قال: الصلاة في مسجدي مثل أربع صلوات في مسجد بيت المقدس،ولنعم المصلى هو. (٢)
وهنا فوائد:
١ - دلت هذه الأحاديث أنَّ الصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما سواه،إلا المسجد الحرام "مسجد الكعبة " فإنَّ الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة، أماعن مضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى فدل حديث أبي ذر- رضي الله - أنَّ الصلاة في المسجد الأقصى بمائتي وخمسين صلاة.
_________
(١) أخرجه أحمد (٧٤٨١) والبخاري (١١٩٠) ومسلم (١٣٩٤) واللفظ لأحمد.
(٢) أخرجه الطحاوي فى مشكل الأثار (٦٠٨) والحاكم (٨٥٥٣) والبيهقي فى الشعب (٣٨٤٩) وصححه الحاكم والذهبي، وانظر السلسلة الصحيحة (٦/ ٩٥٤) والبدرالمنير تخريج أحاديث الشرح الكبير (٩/ ٥٢١)
1 / 10
٢ - أجر مضاعفة الصلوات ينسحب على أصل المسجدين الحرام والنبوي، وعلى ما زيد عليهما من توسعات، على الراجح، والله أعلم.
وَلَوْلَا أنَّ هذا التوسعات لها حكم الأصل مَا اسْتَجَازَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَنْ يَسْتَزِيدُوا فِيهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، ولَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
قال شيخ الاسلام: وَمَسْجِدُهُ كَانَ أَصْغَرَ مِمَّا هُوَ الْيَوْمَ وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَكِنْ زَادَ فِيهِمَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحُكْمُ الزِّيَادَةِ حُكْمُ الْمَزِيدِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. (١)
_________
(١) قال العلامة الألبانى: روى عمر بن شبة من طريقين مرسلين عن عمر قال: " لو مد مسجد النبى ﷺ إلى ذي الحليفة لكان منه ".هذا لفظه من الطريق الأولى ولفظه من الطريق الأخرى: " لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله ﷺ وجاءه الله بعامر " ثم إن معناه صحيح، يشهد له عمل السلف به حين زاد عمر وعثمان في مسجده ﷺ من جهة القبلة، فكان يقف الإمام في الزيادة، ورواه الصحابة في الصف الأول، فما كانوا يتأخرون إلى المسجد القديم كما يفعل بعض الناس اليوم ا. هـ وانظر مجموع الفتاوى (٢٦/ ١٤٦) وفيض القدير (٤/ ٢٢٧) وسبل السلام (١/ ٦٥٨) والسلسلة الضعيفة (٢/ ٤٠٣)
1 / 11
٢ - أنَّ مضاعفة أجر الصلوات في المسجدين المسجد الحرام والمسجد النبوي إنَّما هي خاصة لمن صلى داخل المسجد، خلافًا لما نراه ممن يصلي في مسكنه أو حتى في مسجد قريب من مسكنه، ويقول: مكة كلها حرم! ! نقول: نعم مكة كلها حرم، ولكنَّ مضاعفة أجر الصلوات، إنَّما هي خاصة بمن صلى داخل المسجدين فقط، والله أعلم. (١)
_________
(١) ومضاعفة الأجر بمائة ألف صلاة قاصرة على المسجد الحرام - والله أعلم - خلافًا لمن جعل ذلك الأجر لكل من صلى فى الأرض الحرام.
ودليل ذلك قوله ﷺ: (صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة) فدل الحديث على حصر الأجرعلى الصلاة في ذات المسجد لا غير، ثم نقول لمن قال بالقول الأول: هل تجوِّز شد الرحال إلى المساجد التي في العزيزية والشبيكة، والزاهر، وغيرها، بالطبع ستقول: لا؛ لأنَّ الحديث حصر شد الرحال إلى ثلاثة مساجد، قلنا: كذلك فإنَّ الحديث حصر أجر المضاعفة فى مسجد الكعبة، كذلك فمن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام، لا يجزئه أنَّ يعتكف فى مسجد الشميسي، مثلًا.
فإن قيل: كان النَّبِي ﷺ فى صلح الحديبية إذا أراد الصلاة دخل إلى الأرض الحرم، قلنا: وهذا قد فعله لفضل الصلاة في الأرض الحرام على الصلاة فى الحل، وهذا لا يلزم منه الحكم أنَّ الصلاة فى الأرض الحرام بمائة ألف صلاة، قال ابْنُ مُفْلِحٍ: ظَاهِرُ كَلامِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنَّهُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ، وَمَعَ هَذَا فَالْحَرَمُ أَفْضَل مِنَ الْحِل، فَالصَّلاةُ فِيهِ أَفْضَل ا. هـ
وقد سُئل ابن العثيمين: الصلاة المقصودة في الحرم في المضاعفة، هل المقصودة في المسجد الحرام، أو في عموم الحرم؟
الجواب: يجيب عن ذلك رسول الله ﷺ، فقد قال ﷺ: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة)، أبعد هذا الجواب الواضح جواب؟ ! كلمة (مسجد الكعبة) ماذا تعني؟ المسجد الذي فيه الكعبة، ولا نعلم في مكة مسجدًا يقال له مسجد الكعبة إلا المسجد الذي فيه الكعبة فقط، فلا يقال عن المساجد التي في الشبيكة والتي في الزاهر، والتي في الشعب، وغيرها لا يقال: إنها مسجد الكعبة، وهذا نص كالصريح في الموضوع.
إذًا إذا صليت في مساجد أخرى في مكة لا تنالها فضل الصلاة في مسجد الكعبة، يؤيده: قول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء: ١] وقد أسري بالنبي ﷺ -من الحِجْر - بكسر الحاء - الذي هو جزء من الكعبة.
لكن لا شك أنَّ الصلاة في نفس الحرم داخل بيوت الحرم أفضل، والدليل على هذا: أنَّ النبي ﷺ -لما نزل في الحديبية وبعضها حرم وبعضها حل نزل في الحل، وصار يدخل في الحرم ويصلي فيه، مما يدل على أن الصلاة في الحرم -أي: فيما كان داخل حدود الحرم- أفضل من الصلاة في الحل، لكن هل ينال أكثر من مائة ألف صلاة؟ لا، إلا في مسجد الكعبة.
وهذه المسألة ذكرها صاحب الفروع من أصحاب الإمام أحمد ﵀، وهو على ما قيل: أعلم الناس بفقه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، حتى كان ابن القيم ﵀ وهو ملازم لـ شيخ الإسلام يرجع إلى ابن مفلح صاحب الفروع فيسأله عما يختاره شيخ الإسلام في مسائل الفقه، وقد ذكر ﵀ أنَّ هذا ظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد أنَّ التفضيل خاص بمسجد الكعبة، ونحن نقول: أفبعد كلام الرسول-ﷺ شيء؟ ! لا شيء. ا. هـ وانظر الشرح الممتع (٣/ ١٢٩)
1 / 12
٣ - تَكُونُ النَّوَافِلُ فِي الْمَسْجِدِ مُضَاعَفَةً بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفٍ فِي الْمَدِينَةِ، وَمِائَةِ أَلْفٍ فِي مَكَّةَ؛ وذلك لعموم قوله ﷺ "صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ" وَيَكُونُ فِعْل النوافل فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ من هذه المضاعفات؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ ﷺ «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» بَلْ وَرَدَ فِى بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي مَسْجِدِهِ ﷺ. (١)
_________
(١) قال المناوي: ظاهر قوله (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) أنه لا فرق في التضعيف بين الفرض والنقل،وقال به العراقي والنووي ا. هـ قال العلامة ابن العثيمين: قد أمر النبي ﷺ -المرء أن يصلى فى البيت فإنَّ صلاة المرء فى بيته أفضل إلا المكتوبة، فدل ذلك على أن الإنسان ينبغى له أن تكون جميع رواتبة فى بيته، حتى ولو كان فى مكة والمدينة، فالأفضل أن تكون الرواتب في البيت أفضل من كونها في المسجد، حتى ولو كان ذلك المسجد هو المسجد الحرام أو المسجد النبوي؛ لأنَّ النبى ﷺ قال هذا وهو فى المدينة والصلاة في مسجده خير من ألف صلاة إلا المسجد الحرام، وكثير من الناس الآن يفضل أن يصلى النافلة فى المسجد الحرام دون البيت، وهذا نوع من الجهل ا. هـ وانظر طرح التثريب (٦/ ٥٢) والسيل الجرار (١/ ١٠٩) والتيسير بشرح الجامع الصغير (٢/ ١٠١) وفيض القدير (٤/ ٢٩٧) وعون المعبود (٢/ ٤٠٣) وشرح رياض الصالحين (٥/ ١٤٠)
1 / 13
وممَّا ورد في فضيلة هذه المساجد الثلاثة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضى الله عنه- يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) (١)
والمعنى: لا يسافر إلى موضع من المواضع الفاضلة التي تقصد لذاتها ابتغاء بركتها وفضل العبادة فيها إلا إلى ثلاثة مساجد، وَأَنَّهُ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا قَصْدُ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ لطَلَبِ عِلْمٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْي. (٢)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحال إليه. ا. هـ (٣)
وقال ﵀: بل لو سافر إلى مسجد لله، غير المساجد الثلاثة، ليعبد الله فيها، كان عاصيًا لله ورسوله. ا. هـ (٤)
_________
(١) أخرجه أحمد (٧١٩١) والبخاري (١١٩٧) ومسلم (١٣٩٧)
(٢) وانظر فتح الباري (٣/ ٩٧) ومجموع الفتاوى (٢٧/ ٢١) وفيض القدير (٦/ ٥٢٦) والسلسلة الصحيحة (٢/ ٦٩٨)
(٣) وانظر اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ٣٤٠)
(٤) وانظر منهاج السنة النبوية (٢/ ٤٤٠) ثم قال ﵀: فَكَيْفَ إِذَا سَافَرَ إِلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ لِيُشْرِكَ بِاللَّهِ؟ ! ! قلت: وهذا ما نراه واقعًا مشاهدًا، عند الأضرحة والمشاهِد، من أناسٍ يشدُّون الرحال ويسافرون إلى مساجد الأولياء! ! ليذبحون وينذرون لهم من دون الله - تعالى - ولسان حالهم يقول: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)
1 / 14
كذلك ممَّا ورد في فضيلة المسجد النبوي:
قال أبوهرَيْرَةَ ﵁ -سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ -يَقُولُ: مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ» (١)
_________
(١) أخرجه ابن ماجه (٢٢٧) والبيهقى فى الشعب (١٥٧٥) بسند حسن، فى سنده حميد بن صخر ويقال هو حميد بن زياد أبو صخر، صدوق يهم في الحديث. قال السندى فى حاشيته على السنن (١/ ١٠٠): قَوْلُهُ (مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا) أَرَادَ مَسْجِدَهُ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِمَّا لِخُصُوصِ هَذَا الْحُكْمِ بِهِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلًّا لِلْكَلَامِ حِينَئِذٍ وَحُكْمُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ كَحُكْمِهِ. اهـ قلت: والراجح - والله أعلم - ما قاله الشوكانى: فيه تصريح بأنَّ الأجر المرتب على الدخول إنما يحصل لمن كان فى مسجده ﷺ، ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التى هى دونه فى الفضيلة؛ لأنه قياس مع الفارق ا. هـ وقد سئل الشيخ عبد المحسن العباد عن حديث: (من جاء مسجدى هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد فى سبيل الله)، هل هو صحيح؟
فقال: نعم صحيح، ولا شك أنَّ هذا الحديث يدل على هذا الفضل العظيم لمن يتعلم فى المسجد النبوى ا. هـ.
وانظر حاشية السندى على السنن (١/ ١٠٠) ومرعاة المفاتيح (٢/ ٤٥٥)
1 / 15
تنبيه هام:
ما روى عن حُذَيْفَة -رضى الله عنه-أنه قال لابن مسعود- رضى الله عنه- «أَلَا أَعْجَبَكَ مِنْ قَوْمِكَ عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ» يَعْنِي الْمَسْجِدَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ -قَالَ: " لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ "؟
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتُ، (١) فليس هذا الأثر مقتضيًا لمنع الاعتكاف إلا فى المساجد الثلاثة، بل الراجح - والله أعلم - هو مشروعية الاعتكاف فى غيرها من المساجد التى تقام فيها الجمع والجماعات، وهو قول جمهور العلماء.
وظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ ﷿: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: ١٨٧]، فَعَمَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بِذَلِك، وصيغة الجمع بـ (مساجد) الدالة على صيغة منتهى الجموع، والألف واللام في كلمة (المساجد) للجنس، أي: كل المساجد، أو للعهد، أي: المساجد المعهودة لصلاة الجماعة، أو مساجد الجمعة، فهي المساجد التي تصح فيها صلاة الجماعة، والتخصيص يحتاج إلى دليل قوي، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ بُلْدَانِهِمْ، إِمَّا مَسَاجِدُ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَاتُ، وَإِمَّا هِي وَمَا سِوَاهَا، مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَهَا الْأَئِمَّةُ وَالْمُؤَذِّنُونَ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِى ذَلِكَ،، ولا يمكن أنْ يخاطب الله - تعالى -الأمة بهذا الحكم العام في الاعتكاف ويقول في المساجد، ثم لا يراد به إلا ثلاثة مساجد، قد يدركها الناس، وقد لا يدركونها.
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق (٨٠١٦) وابن أبي شيبة (٩٦٦٩) وسنده صحيح، وقد روى مرفوعًا وموقوفًا، ولا شك أنه مخالف لعموم قوله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴿
وحصر الاعتكاف فى هذه الثلاثة هو رأى بعض الصحابة مثل حذيفة بن اليمان ﵁، ولكنَّ جماهير العلماء من الصحابة ومن بعدهم على خلاف ذلك.، وقد قال أبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور بصحة الاعتكاف في كل مسجد تصلى فيه الصلوات كلها، وهذا قول جمهور العلماء. وانظر مشكل الأثار (٧/ ٢٠١) والمحلى (٥/ ٢١٥) وصحيح فقه السنة (٢/ ١٤٠)
1 / 16
- يؤيده: أنَّ قَوْله ﷿: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ قد نزل وقت أنْ كان المسجد الحرام في مكة لم يفتح بعد، وكذلك كان المسجد الأقصى تحت يد الرومان.
- وعليه فيؤول الحديث على أنه: لا اعتكاف أكمل ولا أتم من أن يكون في المساجد الثلاثة، لما فيها من الفضل العظيم؛ لقول النبي ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) أما في غيرها من المساجد فالاعتكاف فيها جائز في أي مسجد من المساجد، فيكون معنى الحديث: لا اعتكاف كامل، كقوله ﷺ: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، والله تعالى أعلم.
ومن المساجد التي نص الشرع على فضيلتها، مسجد قباء:
١ - مسجد قباء قد أُسس على التقوى:
قال تعالى ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة /١٠٨] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- ﵁ عَنِ النَّبِي ﷺ قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٨] قَالَ: «كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ " (١)
وممَّا يؤيد أنَّ المقصود بالمسجد الذي أُسس على التقوى هو مسجد قباء: قوْلَهُ تَعَالَى ﴿مِنْ أول يَوْم﴾ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ لِأَنَّ تَأْسِيسَهُ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ حَلَّ النَّبِيُّ ﷺ فيه. (٢)
يؤيده: ما فى البخاري من حديث هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، قال عروة بن الزبير: (وأسس رسول الله ﷺ المسجد الذي أُسس على التقوى وصلَّى فيه)
قال ابن حجر: فهذه الأخبار تدل على أنه كان معروفا عندهم بأنَّ مسجد قباء هو المسجد الذي أَّسس على التقوى ا. هـ (٣)
_________
(١) أخرجه الترمذي (٣١٠٠) وأبوداود (٤٤) وصححه الألباني بالشواهد.
(٢) وانظرفتح القدير (٢/ ٥١٢) وتحفة الأحوذي (٢/ ١١٦)
(٣) وانظر فتح الباري (٧/ ٣٤٥) والثمر المستطاب (٢/ ٥٦٨)
1 / 17
يؤيده: سِيَاق الْآيَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَدْ جَاءَتْ قَبْلَهَا قِصَّةُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ بِقَوْلِهِ: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا .... " وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ كَانَ بِمِنْطَقَةِ قُبَاءٍ، وَطَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ فِيهِ تَبَرُّكًا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَتَقْرِيرًا لِوُجُودِهِ يَتَذَرَّعُونَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَشَفَ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ.
فإن قيل: قد صح عن أبي سعيد الخدري ﵁ -أنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أُسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال رجل: هو مسجد رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ: " هو مسجدي، وَفِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ " (١)
فالجواب: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ ﵀: وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا" ظَاهِرٌ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ. ا. هـ
_________
(١) أخرجه أحمد (١١٠٤٦) ومسلم (١٣٩٨) والترمذي (٣٢٣)
1 / 18
قال شيخ الإسلام: وهذا يتناول مسجده، ومسجد قباء، ومسجده أحق بذلك من مسجد قباء، كما قال لأهل الكساء: علي، وفاطمة، وحسن، وحسين: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» أي: هم أحق بذلك من غيرهم، والحصر يكون حصرًا للكمال كما تقول: عبد الله العالم، فالآية قد نزلت بِسَبَبِ مَسْجِدِ قُبَاءَ، ولكن تَنَاوَلَ اللَّفْظُ لمَسْجِدِ قُبَاءَ وَمسْجِدِهِ ﷺ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى، وإلا فالقرآن يدلّ على أنَّ مسجد قباء أسس على التقوى، وعلى أنَّ أزواجه من أهل بيته. ا. هـ (١)
٢ - الصلاة في مسجد قباء كأجر عمرة:
عن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» (٢)
لكن: إنَّما يكون لمن كان قريبًا من مسجد قباء، فلا يشرع السفر إلى مسجد قباء؛ تحصيلًا لأجر العمرة؛ وذلك لعموم قوله ﷺ (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)
_________
(١) انظرمنهاج السنة (٤/ ٢٤) وأعلام الموقعين (٢/ ٤٢٠) وأضواء البيان (٨/ ٣٢٣) وأحكام القرآن لإبن العربي (٢/ ٥٨٤)
(٢) أخرجه ابن ماجه (١٤١٢) والترمذي (٣٢٤) والنسائي (٦٩٩) واللفظ لابن ماجه، وانظر السلسلة الصحيحة (٣٤٤٦).
1 / 19
قال شيخ الإسلام: نص عامة العلماء على أنَّه لو نذر السفر إلى مسجد قباء، لم يوف بنذره، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم؛ لأنه نهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وإنما يستحب إتيان مسجد قباء من قريب، مثل أن يكون بالمدينة فيذهب إليه، كما ثبت في الصحيح عن ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ كان يأتي قباء كل سبتٍ راكبًا، وماشيًا. ا. هـ (١)
لطيفة:
قال الشنقيطي: وَهُنَا سُؤَالٌ يَفْرِضُ نَفْسَهُ: لِمَاذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِمَاذَا اشْتُرِطَ التَّطَهُّرُ فِي بَيْتِهِ لَا مِنْ عِنْد الْمَسْجِدِ؟ وَلَقَدْ تَطَلَّبْتُ ذَلِكَ طَوِيلًا فَلَمْ أَقِفْ عَلَى قَوْلٍ فِيهِ، ثُمَّ بَدَا لِي مِنْ وَاقِعِ تَارِيخِهِ، وَارْتِبَاطِهِ بِوَاقِعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءٍ لَهُ ارْتِبَاطَاتٌ عَدِيدَةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
_________
(١) وانظر قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام وعبادات أهل الشرك (١/ ٦٢) ... فائدة: القول بسنية إتيان مسجد قباء يوم السبت خاصة، استدلالًا بأثر ابن عمر، فيه نظر، والله أعلم، فقد ذكر العلماء أنَّ تخَصَّيص السَّبْتَ إنَّما كان لِأَجْلِ مُوَاصَلَتِهِ لِأَهْلِ قُبَاءٍ وَتَفَقُّدِهِ لِحَالِ مَنْ تَأَخَّرَ مِنْهُمْ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ مَعَهُ ﷺ فِي مَسْجِدِهِ بِالْمَدِينَةِ، ومما يؤيد أنَّ السبت ليس مقصودًا لذاته، ما أخرجه أحمد بسند صحيح (١١٤٣٤) عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه -: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى قباء يوم الأثنين،، وانظر شرح الزرقاني على الموطأ (١/ ٥٧٧) ورسالة أحكام العمرة للمصنف (ص/١٢)
1 / 20