The Historical Roots of Truth, Extremism, Terrorism, and Violence
الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف
Publisher
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Genres
الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف إعداد
د. علي بن عبد العزيز بن علي الشبل
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما أما بعد:
فإن الله ﷿ تعبدنا بهذا الدين: الإسلام ولم يرض لنا عنه بديلا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] بل لا يقبل - سبحانه - من الناس دينا يدينون به غيره: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران:١٩] وقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:٨٥] .
1 / 1
وهذا الإسلام دين وسط بين الأديان، والمسلمون حقا هم الوسط بين الأمم، وكذا أهل السنة والجماعة: أهل الاستقامة هم الوسط بين فرق الإسلام، قال سبحانه في آية البقرة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:١٤٣]، فالأمة الوسط الذين هم على العدل والقسط وعلى منهاج الاستقامة والسنة.
وفي هذا البحث أتحدث عن الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف، والذي اشتمل على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول.
ففي المقدمة خطبة البحث، وخطته، وطرف من أهميته في تميِّز هذه الأمة وخصوصية دينها الإسلام بالعدل والوسطية من خلال منهاج السنة والاستقامة التي أبانها لها رسول الله ﷺ.
وفي التمهيد تحديد لحقيقة مصطلحات البحث:
١- أولا في معنى الغلو وحقيقته، وما جاء من النصوص الشريفة في الوحيين تحذيرا منه.
٢ - ثانيا في معنى التطرف وحقيقته.
٣ - ثالثا في معنى الإرهاب وحقيقته، وتحديد مصطلح الإرهاب المعاصر.
٤ - رابعا في معنى العنف وأقسامه.
٥ - خامسا في العلاقة بين الغلو والتطرف والإفراط ونحوهما.
1 / 2
٦ - سادسا في الفرق بين الاستقامة والغلو والتطرف والإرهاب.
ثم جاء الفصل الأول: في تاريخ التطرف والغلو الديني، واشتمل على:
١ - أولا: الغلو في قوم نوح ﵇ وآثاره.
٢ - ثانيا: الغلو والتطرف لدى اليونان وآثاره.
٣ - ثالثا: الغلو والتطرف لدى أهل الكتاب وآثاره.
وذلك من خلال التطرف والغلو الديني المتعلق بالعقيدة والفكر والشريعة.
ثم جاء الفصل الثاني: في نشأة التطرف والغلو في الدين عند المسلمين، تأثرا بمن قبلهم من الأمم والديانات، واشتمل على:
١- أولا: غلو الخوارج وأهم مظاهره، مع بيان أثر غلو الرافضة، وأثر اليهود فيه.
٢ - ثانيا: علاقة نشأة الغلو والتطرف لدى المسلمين بالعقائد القديمة.
٣ - ثالثا: تطرف المعتزلة وغلوهم، وآثاره.
ثم جاء الفصل الثالث: في التطرف والغلو في باب الأسماء والأحكام وآثاره. مشتملا على خمسة مباحث:
١- أولا: ما المراد بالأسماء والأحكام وأثرهما.
٢ - ثانيا: الفرق الغالية في هذا الباب وأقوالها.
٣ - ثالثا: مناقشة أقوال الغلاة.
٤ - رابعا: الرد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة في استدلالهم بآية النساء.
1 / 3
٥ - خامسا: أثر الغلو في الأسماء والأحكام لدى الوعيدية.
هذه مضمونات هذا البحث وفصوله ومباحثه، فإن وُفقت للصواب والعدل من القول، فهو من توفيق ربي وهدايته، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، وأعوذ بالله من ذلك وأستغفر ربي وأتوب إليه. والله المسؤول أن يجعل هذا العمل خالصا لوجه، ومقربا للزلفى لديه، وهو - سبحانه - الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 4
الفصل الأول معنى الغلو وحقيقته وبيان بعض المصطلحات المرادفة معنى الغلو
بالرجوع إلى المصادر والمعجمات اللغوية وظهر أن الغلو هو: مجاوزة الحد وتعديه.
قال الجوهري في الصحاح:
«غلا في الأمر يغلو غلوا، أي جاوز فيه الحد» .
وقال الفيروزآبادري في القاموس:
«غلا غلاء فهو غالٍ وغَلِيّ ضد الرخص. . . وغلا في الأمر غلوا جاوز حدّه» .
ووافقه الزبيدي في تاج العروس.
وقال ابن منظور في اللسان:
«. . . . أصل الغلاء: الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء. . . . . يقال: غاليت صداق المرأة أي أغليته. ومنه قول عمر ﵁: «ألا لا تغالوا في صدقات النساء» وفي رواية: «لا تغالوا في صداق النساء» . أي لا تبالغوا في كثرة الصداق.
وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا: جاوز حدّه.
قال: قال بعضهم: غلوت في الأمر غُلوا وغلانية وغلانيا إذا جاوزت في الحد وأفرطت فيه، ويُقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا.
قال ذو الرمة:
فما زال يغلو حبُّ ميَّةَ عندنا ... ويزداد حتى لم نجد ما نزيدها
» .
وقال الفيومي في المصباح المنير:
1 / 5
«. . . . وغلا في الدين غُلوا من باب قعد وتصلب وتشدد حتى جاوز الحد وفي التنزيل: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ (١) وغالى في أمره مغالاة بالغ» (٢) .
وقال ابن فارس في المعجم:
«غلوى: الغين واللام المعتل أصل صحيح في الأمر يدل على ارتفاعٍ ومجاوزة قدرٍ، يُقال: غلا السعر يغلو غلا وذلك ارتفاعه، وغلا الرجل في الأمر غُلوا إذا جاوز حدّه» اهـ. وكذا نحوه في المجمل (٣) .
ومما سبق يتبين أن الغلو في سائر استعمالاته يدل على " الارتفاع والزيادة ومجاوزة الأصل الطبيعي أو الحد المعتاد ".
ومنه قوله ﷺ في حديث أبي ذر: «. . . . أي الرقاب أفضل قال: «أغلاها ثمنا وأنفعها عند أهلها» (٤) متفق عليه.
وحديث النعمان بن بشير ﵁ أن النبي ﷺ قال: «أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل» (٥) متفق عليه.
فغلا الثمن: إذا ارتفع وزاد سعره.
وغلت القدر: إذا زادت حرارتها وارتفعت.
وغلا في مشيه: إذا أسرع وزاد فيه.
وتغالى اللحم: ارتفع وذهب، ومنه قول لبيد بن أبي ربيعة:
_________
(١) هذا جزء من آية النساء ١٧١، والمائدة ٧٧.
(٢) كلهم في مادة غلا.
(٣) في المجمل مادة غلا والمعجم مادة غلوى.
(٤) رواه البخاري في كتاب العتق باب أي الرقاب أفضل، ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب كون الإيمان بالله أفضل الأعمال رقم ٨٤.
(٥) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار، ومسلم في كتاب الإيمان باب أهون أهل النار عذابا رقم ٢١٣.
1 / 6
فإذا تغالى لَحمُها وتحسَّرت ... وتقطَّعت بعد الكلال حِذافها
وعليه فحقيقة الغلو:
هو: الزيادة ومجاوزة الحد الشرعي الواجب.
قال تعالى: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [النساء: ١٧١]
وقال سبحانه في آية المائدة: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧]
وقال سبحانه في آيات عديدة جاءت في النهي عن الطغيان " وهو غلو في الغي " كما قال تعالى في آخر سورة طه لبني إسرائيل: ﴿وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ [طه: ٨١]، وقوله عن فرعون وملئه في غير ما آية: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [النازعات: ١٧]، وقال عن الخاسر صاحب الجحيم ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى﴾ ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النازعات: ٣٧، ٣٨] الآية، وقال في آخر سورة هود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: ١١٢] .
1 / 7
ومما ورد في السنة أيضا: ما رواه أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن شبل قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به. . . .» (١) .
وفي حديث ابن عباس ﵁ قال: قال لي رسول الله ﷺ غداة العقبة وهو على ناقته: «القط لي حصى»، فلقطت له سبع حصيات هن حصى القذف،فجعل ينفضهن في كفه ويقول: «أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» . رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم (٢) .
فمما سبق يتبين أن الكتاب والسنة يخصصان عموم اللغة، وأن الغلو هو: «الإفراط في مجاوزة المقدار المُعتبر شرعا في أمرٍ من أمور الدين» .
_________
(١) «الفتح الرباني» ١٨ / ٢٨.
(٢) رواه أحمد في المسند كما في «الفتح الرباني» ١٢ / ١٦٩، كتاب الحج والعمرة باب سبب مشروعية رمي الجمار وحكمها، ورواه النسائي كتاب المناسك باب قدر حصى القذف، وكذا ابن ماجة في باب التقاط الحصى. ورواه الحاكم في «مستدركه» ١ / ٤٦٦ وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخصيه عليه. وقال النووي في «المجموع» ٨ / ١٢٧: صحيح رواه البيهقي بإسناد حسن صحيح وهو على شرط مسلم رواية عبد الله بن عباس عن أخيه الفضل. ورواه النسائي وابن ماجة بإسنادين صحيحين، إسناد النسائي على شرط مسلم. . . . اهـ. وقال شيخ الإسلام في «الوصية الكبرى»: هو حديث صحيح. ونقل عنه الشيخ صالح البليهي ﵀ في «السلسبيل في معرفة الدليل ١ / ٣٦٧» أنه قال: على شرط مسلم، ولم أقف عليه! . وذكره ابن حجر في «التلخيص الحبير» ٧ / ٣٨٧حيث حقق من كان رديف النبي ﷺ والتقط له الحصى: عبد الله أم الفضل، وصوّب أنه الفضل وهو تحقيق نفيس، وكذا كلام النووي السابق، وفي فتح الباري ١٣ / ٢٩١:. . . . . وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق أبي العالية عن ابن عباس.
1 / 8
معنى التَطّرف
التطّرف هو تفعَّل - بتشديد العين - من طرف يطرف طَرَفا بالتحريك، وهو الأخذ بأحد الطرفين والميل لهما: إما الطرف الأدنى أو الأقصى (١)، ومنه أطلقوه على الناحية وطائفة الشيء. . ومفهوم التطرف في العرف الدارج - في هذا الزمان -: الغلو في عقيدة أو فكرة أو مذهب أو غيره يختص به دين أو جماعة أو حزب.
ولهذا فالتطرف يُوصف به طوائف من اليهود ومن النصارى، فثمة أحزاب يمينية متطرفة أو يسارية متطرفة. فقد وصفت بالتطرف الديني والحركي والسياسي.
ووصف الغلو بالتطرف له وجهه المسوغ له بأخذ أحد الطرفين، كما قال الأول:
لا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
ولكن الوصف الشرعي للتشدد في الدين والغلو فيه يجب أن يكون مرجعه إلى الشرع نفسه لا اصطلاح الناس ومفاهيمهم وإطلاقاتهم، كما دل عليه حديث ابن عباس ﵁ أن النبي ﷺ قال في الحج: «أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه. (٢) .
_________
(١) «القاموس المحيط، و» شرحه تاج العروس «و» لسان العرب «و» معجم مقاييس اللغة «، و» الصحاح «و» المصباح المنير «مادة (طرف) .
(٢) مضى تخريجه في أول التمهيد.
1 / 9
معنى الإرهاب
الإرهاب لغة: مصدر مأخوذ من رَهب كعلم يرهب رهبا ورهبابا وأرهابا بالفتح والكسر، وهو الإخافة والتخويف (١) .
ويدور معنى الإرهاب شرعا على شدة الخوف والتخويف الواقع على الفرد أو على الجماعة وهو في حقيقته وحكمه نوعان:
_________
(١) انظر: «القاموس» و«شرحه تاج العروس»، و«لسان العرب»، و«الصحاح»، و«المصباح المنير»، و«معجم مقاييس اللغة» . مادة (رهب) .
1 / 10
(١) إرهاب مشروع بصريح القرآن في آية الأنفال في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: ٦٠-٦١] .
فإن إخافة العدو الكافر المعاند لدعوة الله بالجهاد في سبيل الله وإرجافه بالعدة والقوة من مقاصد الجهاد الإسلامي، ليكف شره، وينتهي عن ظلمه، ولعله أن يهتدي إلى دين الله ﷿. وهذا الحكم خاص بالمحاربين من الكفار أو البغاة.
(٢) إرهاب غير مشروع، بل هو محرم وممنوع: في تخويف الآمنين وإدخال الرعب والفزع عليهم، سواء كانوا مسلمين أو مستأمنين أو معاهدين أهل ذمة أو غيرهم. فهو على المسلمين حرابة وعلى غيرهم ظلم! وهو في الجميع إفساد في الأرض جاء النهي عنه صريحا في القرآن والسنة وفي إجماع العلماء.
1 / 11
فمناط ذلك على الظلم، حيث تخويف الآمن وإرهابه ظلم واعتداء، وهو محرم بإجماع الملل والشرائع السماوية. فقد روى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح عن أبي ذر ﵁ يرفعه إلى النبي ﷺ أنه قال: قال الله ﷿:
«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» .
وفي صريح القرآن قوله تعالى من سورة يونس: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس:٤٤] وقوله في سورة الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨] .
هذا فضلا عما ورد من أدلة شريفة في وجوب الوفاء بالعهد وإيفاء الوعد، وتحريم قتل النفس بغير حق، وتحريم قتل المرأة والوليد والراهب والشيخ الكبير من الكفار.
1 / 12
تحديد مصطلح الإرهاب المعاصر
وقد صدر في تحديده بيان عن مجمع الفقه الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي بمكة في دورته السادسة عشرة، المنعقدة في شوال من عام ١٤٢٣هـ بمكة المكرمة، حيث حدَّدوا الإرهاب بتحديد سبقوا به جهات عالمية عديدة غالطت في معناه ودلالاته، وجاء في بيانهم أن:
«الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيا على الإنسان في دينه، ودمه، وعقله، وماله، وعرضه، ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم، أو حريتهم، أو أمنهم، أو أقوالهم للخطر، ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد مرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة، أو تعريض أحد الموارد الوطنية، أو الطبيعية للخطر.
فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله - سبحانه تعالى - المسلمين عنها قال تعالى: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٧٧] (١) .
_________
(١) ينظر البيان الصادر من مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة في دورته ١٦، المنشور في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.
1 / 13
والإرهاب في المصطلح العربي المعاصر: لا يفرق بين المحقق والمبطل - فمقاومة المحتل والرد عليه تسمى إرهابا عندهم والاستسلام له يسمى سلاما وتعاونا. بل ولو طال بهم زمان لسموا كل مسلم إرهابيا.
1 / 14
معنى العنف
بالرجوع إلى المعجمات اللغوية في مادة العنف وجد أنها مثلثة العين: بالرفع والفتح والكسر وهو ضد الرفق. وهو الشديد في القول والفعل.
وحقيقة العنف: أنه الشدة في قول أو رأي أو فعل أو حال! وهو ما يُولد ما يسمى بالعنف العقدي، والعنف العلمي والعنف الفكري في الرأي والفهم والتصور؟! إذا العنف نتيجة للغلو والتطرف. .
ومما جاء في ذم العنف والشدة قوله ﷺ: «ليس الشديد بالسرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب» .
1 / 15
العلاقة بين الغلو والتطرف والإفراط ونحوهما
الغلو - في الحقيقة - أعلى مراتب الإفراط في الجملة. فالغلو في الكفن مثلا هو المغالاة في ثمنه والإفراط فيه.
والغلو أخصّ من التطرف؛ إذ إن التطرف هو مجاوزة الحدِّ، والبعد عن التوسط والاعتدال إفراطا أو تفريطا، أو بعبارة أخرى: سلبا أو إيجابا، زيادة أو نقصا، سواء كان غلوا أم لا، إذ العبرة ببلوغ طرفي الأمر، وهو الغلو في قول القائل:
لا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
فالغلو أخص من التطرف باعتبار مجاوزة الحد الطبيعي في الزيادة والنقص، في حال النقص يسمى غلوا إذا بالغ في النقص، فيقال: غلا في النقص، كما في قول اليهود جفاء في حق المسيح ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. وكذلك في الزيادة إذا بالغ فيها كقول النصارى في المسيح ابن مريم غلوا.
والتطرف: الانحياز إلى طرفي الأمر، فيشمل الغلو، لكن الغلو أخص منه في الزيادة والمجاوزة، ليس فقط بمجرد البعد عن الوسط إلى الأطراف.
أو بمعنى آخر: كل غلو فهو تطرف، وليس كل تطرفٍ غلوا.
الفرق بين الاستقامة و(الغلو والتطرف والإرهاب):
1 / 16
في الواقع لا تلازم بين التمسك بالنصوص والغلو؛ فقد كان الصحابة ﵃ أشدَّ الناس تمسكا واقتضاء لنصوص الشريعة، ومع هذا لم يحصل منهم غلو أو تشديد، خلا في قضايا عينية في حياة النبي ﷺ أرشد ﵊ أصحابه إليها (١) وعلَّمهم وبيّن لهم طريق العبادة المعتدل، فانتهوا. وسببه هو موافقة هذا الاستمساك منهم ﵃ لعلم صحيح، وفهم سليم، وهمة حريصة على العلم والبصيرة، فنجوا من الغلو فضلا عن الاستمرار فيه، لكن لما بعد الناس عن زمان الأفاضل، وصار الدين غريبا، وأطبق الجهل على كثير من أهل الإسلام، صار المتمسك بسنة المصطفى ﷺ العاضُّ عليها بنواجذه منبوذا مُستهزءا به في تلك المجتمعات، وأطلقوا عليه عبارات النبز كالمتزمتين والغالين والمتطرفين والأصوليين والإرهابيين. . . . ونحوها من الألقاب التي روجتها بعض وسائل الإعلام عن أعداء الإسلام!
_________
(١) كما في خبر عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ في إطالة الصوم، المتفق على صحتها. رواها البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كم يقرأ من القرآن، ومسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، رقم (١١٥٩)، وحديث عبد الله بن الشخير في وفد بني عامر وفيه «فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله ﵎) . فقلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال: «قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» رواه أبو داود والنسائي بأسانيد جيدة. وما قوله ﵇ ذلك إلا سد لطريق الغلو فيه، انظر: فتح المجيد ٥١٧.
1 / 17
والواقع أن التمسك بنصوص الكتاب والسنة، وفهمها فهما صحيحا يعد عند هؤلاء المتهاونين بأحكام الشريعة الغافلين عنها، غلوا وتطرفا، وذلك بالنظر إلى ما هم عليه من تفريط ظاهر، وقصور في إظهار منهج الإسلام.
ولنأخذ مثالا يوضح ما سبق: فدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية اتهمت من كثير من الناس - بتكفير الناس - الذي هو مظهر من مظاهر الغلو البارزة - أو أنهم خوارج. . . . . . ونحوها من ألقاب تفيد مجاوزة اعتدال الإسلام وسماحته، وينبزونهم بألفاظ هي في الشريعة وصف لأقوام متشددين لا فقه لهم ولا نظر (١) وهي من ذلك براء براءة الذئب من دم يوسف ﵇، لكن ما حيلة من شرق بها إلا ذلك. والملحوظ أن المتمسكين بمدلولات النصوص الشرعية يكونون غلاة متشددين بنسبتهم إلى المفرطين الذين يحملون الإسلام وصفا، وعند نسبتهم إلى ميزان الشريعة لا نجد عندهم معنى التمسك المطلوب، وهو الاستقامة على أحكام الكتاب والسنة.
_________
(١) انظر الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفيها بحث د. عبد الرحمن عميرة وغيره في: أسبوع الشيخ محمد. المجلد الثاني. وكذا «دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» للدكتور العبد اللطيف.
1 / 18
فالمقصرون يلمزون المتمسكين بالغلو والتطرف والإرهاب أو التشدد، على أن ما هم عليه هو اعتدال الإسلام وتوسطه، وما أظهروه هو الاعتدال، وهو في الحقيقة ليس كذلك؛ إذ هو التقصير والتفريط في بعض شعائر الإسلام وأحكامه. أما الاعتدال والتوسط فهو في دين الله ومنهاج دينه، ولا يخفى أن من يتهم أحدا بالتطرف أو الغلو ونحوهما، غايته التنفير والتحذير منهم وليس لكونهم متجاوزين لحدود الشريعة ووسطية الإسلام، كما هو الحال فيمن اتهم دعوة الشيخ السلفية الإصلاحية بذلك؟!
أعني أن هذه الدعاوى ليست من باب الأسماء والأحكام، أو لتبين معاني شرعية بقدر ما هي لأغراض وأهواء ذاتية أو محدودة. فتكون بذلك من تحميل مصطلحات الشارع ما لا تحتمل، ومن استعمال المعاني الشرعية في الأغراض الشخصية الضيقة والغايات السياسية المحدودة!
1 / 19
أولا - الغلو في الصالحين من قوم نوح ﵇
وذلك أن سبب بعثة نوح ﵇ إلى قومه وجود الغلو فيهم بالصالحين، حيث كان الغلو سببا في كفرهم وشركهم مع الله في عبادته غيره، فلقد غلا قوم نوح قبل مجيئه إليهم في رجال كانوا صالحين فغلوا في محبتهم حتى عبدوهم من دون الله، ثم إنهم صوَّروا لهم أصناما تكون رمزا لعبادتهم حتى ظهرت بدعتهم إلى جاهلية العرب قبل مجيء الرسول ﷺ. كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣]
1 / 20