The Fundamentals of the People of the Sunnah and the Community
أصول أهل السنة والجماعة
Genres
إثبات مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة
أما المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر فهي: مرتبة إثبات مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، لكنك لابد أن تعلم أن مشيئة الله وإرادته منها ما هو كوني قدري، ومنها ما هو شرعي ديني، وهذا بيت القصيد في هذه المرتبة، ومن خفي عليه هذا التقدير لإرادة الله خفي عليه القدر كله؛ ولذلك صنف علماء السنة الإرادة إلى إرادتين: إرادة كونية قدرية، أي: تقع في الكون بقدرة الله ﷿.
أما الإرادة الشرعية الدينية فهي الأوامر التي أمر الله بها عباده، من الطاعات والإيمان وغير ذلك من سائر ما يحبه الله ﷿ ويرضاه، وليس بلازم أن يقع، خلافًا للإرادة الكونية القدرية التي لابد أن تقع على مراد الله تعالى ومشيئته الكونية القدرية، أما المشيئة الشرعية الدينية كالصلاة فإن الله تعالى أحب الصلاة وأمر بها، وكذلك سائر الطاعات، لكن لا يلزم من ذلك الوقوع؛ ولذلك أمر الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر الطاعات، ونجد في المسلمين من لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يحج مع القدرة، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فالإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا، لكن لا يلزم منها الوقوع.
والإرادة الكونية القدرية ليس مبناها المحبة، وإنما مبناها وقوع الفعل على مراد الله، والفعل منه ما يقع على مراده تعالى إرادة شرعية وكونية قدرية كالطاعة، ومنها ما يقع من معاص في الكون فذلك على مراد الله ﷿ الكوني القدري، وليس يعني (على مراد الله): أن الله يحب ذلك أبدًا، أو أن الله تعالى رخص للعباد أن يقعوا في هذه الذنوب والمعاصي، وإنما لا يقع في كون الله إلا ما أذن الله تعالى فيه؛ لحكمة عظيمة كما قلنا آنفًا؛ ولذلك قال الله ﷿: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر:٤٤]، وقال الله تعالى: ﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام:١٤٩]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود:١١٨]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة:٢٥٣]، فوقوع الإيمان في الكون إرادة شرعية، ووقوع الكفر في الكون إرادة كونية قدرية.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة:٢٥٣]، وقال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان:٣٠].
قال العلماء: لا يكون في ملك الله إلا ما أراد وقدر، أي: إرادة كونية قدرية، لا إرادة شرعية؛ ولذلك قد ورد في الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة قول الله ﷿ على لسان نوح: ﴿وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود:٣٤]، فأثبت أن الغواية بيد الله ﷿، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢]، وقال النبي ﵊: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله ﷿ لهم).
أما الإرادة الشرعية التي بمعنى المحبة فقول الله ﷿: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء:٢٧]، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ [البقرة:١٨٥]، فهذه إرادة شرعية دينية؛ لأن مبناها على المحبة، فالله تعالى يحب اليسر، ويحب أن يتوب على عباده، فهذا فارق بين الإرادة الكونية القدرية، والإرادة الشرعية الدينية.
ورب قائل يقول: هل المعاصي يريدها الله ﷿؟ نقول: نعم.
لكن ليست إرادة شرعية دينية؛ لأنه لم يأمر بها، بل نهى عنها ﷾، إلا أنه أذن في وقوعها لحكمة، فكل شيء الله قادر عليه وجودًا وإعدامًا، فإن الله تعالى على كل شيء قدير، أثبت لنفسه القدرة والمشيئة، وأثبت كذلك للعبد القدرة والمشيئة، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله تعالى هو خالقه، فلا خالق غيره ولا رب سواه.
6 / 9