The Beneficial Rules for the Secrets of Obedience and Preparing for Ramadan
القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان
Publisher
مكتبة الفهيد بجدة
Edition Number
الثالثة ١٤٢٠ هـ
Publisher Location
السعودية
Genres
الكتاب: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان
المؤلف: المعتز بالله أبو محمد رضا أحمد صمدي
تقديم: فضيلة الشيخ / أبو إسحق الحويني، فضيلة الشيخ / محمد حسين يعقوب
الطبعة: الثالثة ١٤٢٠ هـ
الناشر: مكتبة الفهيد بجدة - السعودية
الأجزاء: ١
مصدر الكتاب: أرسله الأخ أيمن إبراهيم إلى الموقع
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 1
الطبعة الثالثة
١٤٢٠ هـ / ١٩٩٩ م
1 / 2
تقديم الشيخ / أبى إسحاق الحوينى
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هديُ محمد ﷺ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكل ضلالةٍ في النار.
فقد دفع إليَّ أخونا في الله تعالى- رضا بن أحمد حمدي- بكتاب جمعه في الأسباب المعينة على تكميل العيادة لله ﷿، وخصَّ منها الصيام الذي يحقق به العبد مرتبة الإحسان بدوام مراقبة الرحمن، ولذلك قال الله ﷿: " الصيام لي وأنا أجزي به " مع أن سائر العبادة لله ﷿، وثوابها للعبد، فرأيتُ في الكتاب نبذًا لطيفًا من العلم، مع سهولة عباراته، وتجنُّب الدخول في مضايق المسائل الخلافية، فالله أسأل أن ينفع به جامعه وقارئه، يوم تكون العاقبة للمتقين.
والحمد لله أولًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا.
وكتبه
أبو إسحاق الحويني الأثري
حامدًا الله تعالى، ومصليًا على نبينا محمدٍ وآله وصحبه،
٢١/رجب/١٤١
1 / 3
تقديم الشيخ / محمد حسين يعقوب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله.
في عصر طغت فيه الماديات، يتشوف العبد المؤمن إلى روزنة يطل منها على روحانية الإسلام.
وفي عصر الإلكترونيات الذي ليس من مأساته أنه توصل إلى صناعة آلات تعمل كالإنسان ولكن المأساة أنها خلفت إنسانًا يعمل كالآلة فحتى العبادات صارت روتينية تحولت إلى عادات، وفقدت روحها في هذا العصر الذي أغرق في المادة ففقد الروح... يأتينا هذا الكتيب اللطيف من تأليف أخينا الفاضل وشيخنا الهمام رضا آل صمدي حفظه الله.
وياله من فتى معلم، صغير السن، غزير العلم، قليل اللحم، عظيم الفهم انتقى ألفاظ وأبواب هذا الكتاب من كلمات السلف، وعلى منهجهم كما تنتقي أطايب التمر ليجلو للأبصار حقيقة العبادة، وهو وإن كان يتكلم في فرع من فروع العبادة وهي الصيام فإن من أسراره استيعاب وشمول الإسلام.
فإليك الكتاب تأمل أبوابه، وقلب صفحاته، واجتهد أن تعمل بكل حرف من حروفه، واصبر عليها تؤتك ثمارها.
وأخيرًا فإني لست من أهل صناعة الكلام ولا تزويق الألفاظ ولست أهلًا أصلًا لان أقدم لكتاب ذلك الفتى الفاضل، ففي كتابه غنية، وفيه كفاية، ويعلم الله أنني قد استفدت منه على مدار هاتين السنتين، ووفر عليَّ عناء بحث وجمع في بعض الموضوعات، وفتح لي أفكار وعناصر بعض الخطب والدروس.
فللطالب وللعامل وللمربي وللداعية والواعظ أنصح: هذا زاد طيب فأقبل ولا تخف وانهل واعمل واصبر وتقدم ولا تقف.
وكتب/ محمد بن حسين يعقوب
عفا عنه علام الغيوب
في ليلة الخامس عشر من رجب ١٤١٩هـ
٥/١١/١٩٩٨م
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليمًا كثيرًا وعلى آله وصحبه وأزواجه وأتباعه إلى يوم وبعد...
فقد أجمع العقلاء على أن أنفس ما صرفت له الأوقات هو عبادة رب الأرض والسموات، والسير في طريق الآخرة، وبذل ثمن الجنة، والسعاية للفكاك من النار.
ولما كان هذا الطريق كغيره من الطرق والدروب تكتنفه السهول والوهاد والوديان والجبال والمفاوز ويتربص على جنباته قطاع الطرق ولصوص القلوب، احتاج السائر إلى تلمس خِرِّيتٍ (١) يبصره الدروب الآمنة، والمسالك النافذة، ويعرفه مكامن اللصوص، وأفضل الأزمنة، أنسب الأوقات للجدّ في
_________
(١) الدليل الحاذق في معرفة الطريق والمسالك.
1 / 5
السفر، وقد كان هذا الخريت هو منهج سلفنا الصالح في النسك، وطرائقهم في السير إلى الله وعباراتهم في الدلالة عليه، كانت بحق خير مِعْوان على انتحاء جهة الأمان.
وهذا النسك السلفي العتيق، والمنهج السني الرشيد في التزكية، لا غنى عنه لكل طالب طريق السلامة، فلا عصمة لمنهج في مجمله إلا منهج السلف الصالح.
دع عنك ما قاله العصري منتحلًا
وبالعتيق تمسك قط واعتصمِ
ولما كانت الأزمنة الفاضلة من أنسب أوقات الجد والاجتهاد في الطاعة وكان شهر رمضان من مواسم الجود الإلهي العميم، حيث تُعْتَق الرقاب من النار، وتوزع الجوائز الربانية على الأصفياء والمجتهدين، كان لزامًا أن تتواصى الهمم على تحصيل الغاية من مرضاة الرب في هذا الشهر، وهو من التواصي بالحق المأمور به في سورة العصر، وإذا كان دعاة الباطل واللهو والفجور تتعاظم هِمَمُهُم في الإعداد لغواية الخلق في هذا الشهر بما يذيعونه بين الناس من مسلسلات ورقص ومجون وغناء، فأَخْلِقْ بأهل الإيمان أن ينافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البر والتقوى.
1 / 6
ولقد صامت أمتنا دهورًا، غير أن صومها لهذا الشهر ما كان يزيدها إلا بعدًا عن ربها ومليكها وحاكمها الحقيقي، فصار رمضان موسمًا مفرّغًا من مضمونه مجردًا من حقائقه، بل صار ميدانًا للعربدة وشغل الأوقات بما يغضب الكريم المتعال.
ولو تجهزت الأمة لهذا الشهر الفضيل وأعدت له عدته، وشمر الناس جميعًا سواعد الجد وشدوا مآزرهم في الطاعة لرأينا أمة جديدة تولد ولادة شرعية، وذلك بعد استعداد جاد ومخاض عولجت فيه الهمم والعزائم لتدخل في الشهر وهي وثابة إلى الطاعات.
وهذه الرسالة نصيحة لعام المسلمين بَثْتُها غَيْرةً على حالهم مع الله في هذا الشهر، وجُهد مُقِلٍّ أبذله تأثّمًا، ويعلم ربي ما هنالك.
هي منهاج في كيفية الاستعداد لشهر رمضان، وجدول أعمال تفصيلي لما ينبغي أن يقوم به سالك طريق الآخرة، إرشادات نفيسة من أئمة التربية والتزكية من السلف الصالح تقود المرء قيادةً حثيثة للوصول إلى درب القَبول.
حرصْنا فيها أن تكون واقعية وعملية وتفصيلية، وقبل ذلك سلفية سنّية.
الأحاديث والآثار الضعيفة التي استأنست بها مع بيان ضعفها غالبًا.
1 / 7
بينّا فيها طرق الاستعداد للشهر الكريم بعزيمة قوية قادرة على الاجتهاد الحقيقي في الطاعة بدلًا من الأماني والأحلام، وأطلنا النَّفَس جدًا في بيان أسرار الطاعات والعبادات وكيفية تحصيل اللذة منها، وسردنا جملة من العبادات المهجورة والطاعات المتروكة، ونصصنا على صفات بعض قطاع الطريق إلى الله، في حنايا هذه الرسالة حرصنا على ذكر بعض منازل السائرين ومقامات السالكين في طريق الآخرة حتى تتواثب الأشواق في قلوب المتنسكين ليصلوا إلى ما وصل إليه القوم، ويحصّلوا المغفرة في شهر المغفرة والرحمة، وقد تركتُ للنفس سجيتها في سطر هذه المعاني ولم أتانق كثيرًا في الترتيب والتبويب، ولكن حرصت على النقل من الكتب المعتمدة عند علمائنا وشيوخنا، وما نقلته عن الغزالي ﵀ في الإحياء هذبته واختصرته ونقيته من كل ما يشوبه، والحكمة ضالة المؤمن، وحرصت على الاستدلال بالأحاديث الصحاح والحسان إلا بعض
وأنا لك ناصح أيها الحبيب: إذا أردت استفادة من هذا السفر فلا تمر على ألفاظه مر الكرام، بل جُلْ بخواطرك حول المعنى ومعنى المعنى، فلقد استلَلْتُ لك النقيَّ وانتقيت لك الأطايب،
1 / 8
فإذا استدللت بآية فحُمْ حول حماها ثم طف في أعماق مداها، وإذا ذكرت لك حديثًا فتمثل نفسك كأنك جالس بين يدي النبي ﷺ تسمعه وتتدبر عنه، وإذا رويت لك سيرة عبقري من السلف فهَبْ نفسك ترمُقُه عن كثب كأنك في حضرته تشتار من رحيق كلماته، وبدون ذلك فلا تتعنَّ، فإنما صنفناه لك لتتذوق لا لتقول للناس قرأته.
واعلم أخيرًا أن ما ذكرته لك في هذه الرسالة إن هي إلى محاولة لتكوين صورة عن الشخصية الربانية ذات العلاقة العامرة بإله الكون، والمهيَّئة لسيادة البشرية وإنقاذها من وَهْدَتِها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه
المعتز بالله أبو محمد رضا بن أحمد صمدي
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه آمين
ظهر الخميس ١٧ صفر ١٤١٧هـ الموافق ٧ يوليه ١٩٩٦م
1 / 9
القاعدة الأولى
بعث واستثارة الشوق إلى الله
على مر الأيام والليالي يُخْلَقُ الإيمان في القلب (١) وتصدأ أركان المحبة فتحتاج إلى من يهبك سربالًا إيمانًا جديدًا تستقبل به شهر رمضان، واصل القدرة على فعل الشيء معونة الله ثم مؤونة العبد، ونعني بالمؤونة رغَبته وإرادته، فعلى قدر المؤونة تأتي المعونة.
وفي الحديث القدسي: "إذا تقرب العبد إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي يمشي أتيته هرولة" رواه البخاري.
فالبداءة من العبد ثم الإجابة حتمًا من الرب: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ .
فلابد من إثارة كوامن شوقك إلى الله ﷿ حتى تلين لك الطاعات فتؤديها ذائقًا حلاوتها ولذتها، وأية لذة يمكن أن تحصلها من قيام الليل ومكابدة السهر ومراوحة الأقدام المتعبة أو ظمأ الهواجر أو ألم جوع البطون إذا لم يكن كل ذلك مبنيًا على معنى:
_________
(١) عن عبد الله بن عمر قال: قال ﷺ: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثواب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الطبراني والحاكم (صحيح الجامع) .
1 / 10
﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ (١)؟! ومن لبى نداء حبيبه بدون شوق يحدوه فهو بارد سمج، دعوى محبته لا طعم لها.
لا جرم كان من دعاء النبي ﷺ في صلاته: "وأسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك..." رواه النسائي بسند صحيح.
وشوقك لربك ولإرضائه أفناه رَين الشبهات والشهوات وأهلكته جوائح المعاصي ومرور الأزمنة دون كدح إلى الله، فتحتاج يا باغي الخير إلى بعث هذا الشوق من جديد لو كان ميتًا، أو استثارته إن كان موجودًا كامنًا.
عوامل بعث الشوق إلى الله
١- مطالعة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وتدبر كلامه وفهم خطابه فإن من شأن هذه المطالعة والفهم والتدبر فيها أن يشحذ من القلب همة للوصول إلى تجليات هذه الأسماء والصفات والمعاني، فتتحرك كوامن المعرفة في القلب والعقل ويأتي عندئذٍ المدد (٢) .
وتأمل قصة أبي الدحداح في فهمه كلام ربه كيف حرك أريحيَّتُه وألبسه حب البذل.
_________
(١) قال أبو حيان الأندلسي ﵀: (لما نهض موسى- ﵇ ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل، رأى على وجه الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرًا إلى أمر الله وحرصًا على القرب منه وشوقًا إلى مناجاته) أهـ: البحر المحيط (٦/٢٦٦) .
(٢) راجع لزامًا كلام ابن القيم في الفائدة السادسة والثلاثين من فوائد الذكر من كتابه الطيب "الوابل الصيب".
1 / 11
فعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي، قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادي يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي ﷿، وفي رواية أخرى أنها لما سمعته يقول ذلك عمدت إلى صبيانها تُخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم فقال النبي ﷺ: "كم من عِذْقٍ رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح" (١) .
وتأمل رعاك الله من عَطَنِ الشبهات كيف فهم الصحابي من كلام الله ﷿ المعنى الظاهر بدون أن يكون في قلبه تردد أو تهيب لأن شجرة إيمانه قامت على ساق التنزيه (٢) .
٢- مطالعة منن الله العظيمة وآلائه الجسيمة فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ولذلك كثر في القرآن سوقُ آيات النعم الخلق والفضل تنبيهًا لهذا المعنى، وكلما ازددت علمًا بنعم الله عليك كلما ازددت شوقًا لشكره على نعمائه.
_________
(١) العذق من النخل كالعنقود من العنب، رداح: ثقيل لكثرة ما فيه من التمر، انظر "الإصابة" في (٧/٥٧) و"صفة الصفوة" (١/٦١٧) .
(٢) لابن القيم ﵀ مقالات رائقة حول كثير من الأسماء والصفات جمعها بعضهم في كتاب مستقل، وللغزالي رسالة اختصرها النبهاني في "مختصر المقصد الأسني" لا تخلو من هنات تظهر لممارس الكتاب والسنة.
1 / 12
٣- التحسر على فوت الأزمنة في غير طاعة الله، بل قضاؤها في عبادة الهوى. قال ابن القيم: وهذا اللحظ يؤدي به إلى مطالعة الجناية، والوقوف على الخطر فيها، والتشمير لتداركها والتخلص من رقها وطلب النجاة بتمحيصها. أهـ.
٤- تذكر سبق السابقين مع تخلفك مع القاعدين يورثك هذا تحرقًا للمسابقة والمسارعة والمنافسة، وكل ذلك أمر الله به، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ وقال: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ وقال: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ .
واعلم- يا مريد الخير- أن بعث الشوق وظيفة لا ينفك عنها السائر إلى الله ﷿، ولكن ينبغي مضاعفة هذا الشوق قبل شهر رمضان لتُضاعف الجهد فيه، وهذا الشوق نوع من أنواع الوقود الإيماني الذي يُحفّز على الطاعة، ثم به يذوق المتعبد طعم عبادته ومناجاته.
ومجالات الشوق عندك كثيرة أعظمها وأخطرها الشوق إلى رؤية وجه الله ﷿، ويمكنك أن تتمرن على قراءة هذا الحديث مع تحديث نفسك بمنزلتها عند الله، وهل ستنال شرف رؤيته أم لا؟ قال ﷺ: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول ﵎: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟ فيُكشفُ الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم". رواه مسلم.
وفي مجالات الشوق: الشوق إلى لقاء الله وإلى جنته ورحمته ورؤية أوليائه في الجنة وخاصة الشوق للقاء النبي ﷺ في الفردوس الأعلى.
1 / 13
واعلم أن لهذا الشوق لصوصًا وقطاعًا يتعرضون لك، فاحذر الترفه (وخاصة في شهر رمضان) واحذر فتنة الأموال، والأولاد والأزواج، خلفهم وراءك ولا تلتفت وامض حيث تؤمر، واجعل شعارك في شهر رمضان: ﴿قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْك رَبِّ لِتَرْضَى﴾ .
فحيَّهلا إن كنت ذا همةٍ فقدْ
حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعدٍ
ودعُه فإن العزم يكفيك حاملًا
***
القاعدة الثانية
معرفة فضل المواسم ومنة الله فيها وفرصة العبد منها
قال ابن رجب ﵀: وجعل الله ﷾ لبعض الشهور فضلًا على بعض، كما قال تعالى: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ وقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وأقسم بالعشر وهي عشر ذي الحجة على الصحيح (وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يُترَّب بها إليه، ولله فيه لطيفة من
1 / 14
لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، وقد خرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤُمن روعاتكم" (ضعيف الجامع) .
وفي الطبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعًا: "إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا" (صحيح الجامع) .
وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال: "ليس من عمل يوم إلا يُختم عليه" (صحيح الجامع) .
روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مجاهد قال: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فيّ، فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يَفُضُّ ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ولا ليلةٍ تدخل على الناس إلا قالت كذلك، وبإسناده (أي ابن أبي الدنيا) عن مالك بن دينار.
وعن الحسن قال: ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، يقول: يا أيهال الناس: إني يوم جديد وإني على ما يُعمل فيّ
1 / 15
شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة. وعنه أنه كان يقول: يا ابن آدم اليوم ضيفك، والضيف مرتحل يحمدك أو يذمُّك، وكذلك ليلتك، وبإسناده عن بكر المُزني أنه قال: ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلةٍ إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا ليلة لك بعدي.
وعن عمر بن ذر أنه كان يقول: اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، وإنما جُعلا سبيلًا للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالًا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله. أهـ (١) .
واعلم- رحمني الله وإياك- أن معرفة فضل المواسم يكون بمطالعة ما ورد فيها من فضل وبما يحصل للعبد من الجزاء إذا اجتهد.
ويمكنك مطالعة هذه النصوص والآثار في الكتب المعنية بالفضائل كرياض الصالحين للنووي والترغيب والترهيب للمنذري ولطائف المعارف لابن رجب.
***
_________
(١) "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" (ص٤٠) فما بعدها بتصرف يسير.
1 / 16
القاعدة الثالثة
تمارين العزيمة والهمة
إذا كان الأصوليون يعرّفون العزيمة بأنها ما بُنيت على خلاف التيسير كالصوم في السفر لمن أطاقه، وعدم التلفظ بكلمة الكفر وإن قتل، فإن العزيمة عند أهل السلوك لها حظ من هذا المعنى فالعزيمة أو العزم عندهم هو استجماع قوى الإرادة على الفعل.
وكأن صاحب العزيمة لا رخصة له في التخلف عن القيام بالهمة، بل هو مطالب باستجماع قوته وشحذها حتى يطيق الأداء.
وغالب من تكلم في هذا الباب لم يشر إلى أهمية تمارين العزيمة أي تحفيز الهمة لتقوى على المجاهدة في الأزمنة الفاضلة، مع أن الشرع أشار إلى ذلك باستحباب صوم شعبان لتتأهب النفس وتقوى على صيام رمضان بسهولة.
وكان من هدي النبي ﷺ في قيام الليل أن يبدأ بركعتين خفيفتين حتى تتريض نفسه ولا تضجر.
وأشار الشاطبي في الموافقات إلى أن السنن والنوافل بمثابة التوطئة وإعداد النفس للدخول في الفريضة على الوجه الأكمل.
وكثير من الناس يعقد الآمال بفعل جملة من الطاعات في شهر رمضان فإذا ما أتى الشهر (أصبح خبيث النفس كسلان) وذلك لأنه لم يحل عقدة العادة والكسل والقعود.
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ .
1 / 17
والعزيمة لا تكون إلا فيما لا تألفه النفوس أو لا تحبه فتحتاج النفس إلى المجاهدة في معرفة فضل ذلك العمل المكروه إليها ثم في مجاهدة وإرادات العجز والكسل، ولذلك قال الله عن الجهاد: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ...﴾ .
وتمارين العزيمة من صميم القيام بحق شهر رمضان وتحصيل المغفرة فيه لأنه لا قوة للنفس ما لم تُعد العدة للطاعة قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُم
قال ابن الخراط- في كتابه الصلاة والتهجد- كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز- رحمهما الله-: أما بعد، فإنه من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر، ومن نظر العواقب نجا، ومن أطاع فهو أفضل، ومن حلُم غنم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، فإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فَسَلْ، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن أفضل الأعمال ما أُكرهم النفسُ عليه. وقد اعترض بعض العلماء بظاهر قول رسول الله ﷺ: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المُنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" (١)، وبقوله ﷺ: "اكفلوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا" (٢)، وبالحديث الآخر: "ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر أو كسل فليقعد" (٣)، ولم يُرد ﵇ ألا تعمل حتى تنشط بحسك للعمل، وحتى تقبل عليه وتبادر إليه،
_________
(١) رواه البيهقي في السنن وفيه ضعف.
(٢) (٣) رواه البخاري ومسلم وأحمد.
1 / 18
فإن النفس كسلى ثقيلة عن فعل الخير، بطيئة النهوض إلى أعمال البر، فلو لم تصلّ مثلًا حتى تدعوك نفسك للصلاة وحتى تنشط إليها وتخف عليها لما صليت إلا قليلًا، وربما لم تصل معها أبدًا، ولا قامت لك عن فراشها ولا تركت راحتها ولا لذيذ نومها.
وإنما أمر ﵇ بالرفق وحذر من الإفراط في التعب الذي يقطع بصاحبه ويُقعده، وفي قوله ﷺ: "اكفلوا من الأعمال ما تطيقون" ما يدل على الاجتهاد ويبيح أخذ النفس بما تكره منه، فإن الإنسان قد يكره على الضرب (النوع) من العمل ويكسل عنه، فإذا كُلِّفهُ أطاقه وقام به وتحمل المشقة فيه مع كراهيته له وكسله عنه، فلا بد من الحمل على النفس وأخذها بالجد والكد، وتخويفها بأن تُسبق إلى الله ﷿، وتحذيرها من أن يُستأثر دونها بما عند الله، وأن يصل العمل بالعمل والاجتهاد بالاجتهاد حتى يصل إلى الحد الذي حذر منه رسول الله ﷺ وهو الذي يخاف معه الانقطاع والانبتات، وفي الخير: "الخير عادة والشر لجاجة" (١)، وقال أبو الدرداء لرجل يقال له صبيح: "يا صبيح تعود العبادة فإن لها عادة، وإنه ليس على الأرض شيءٌ أثقل عليها من كافر". وأما قوله ﷺ "ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر أو كسل فليقعد" فما أراد- والله أعلم- أن تصلي ما دمت على نشاط فإذا خالطك الكسل أن تترك الصلاة، وإنما أراد ﷺ الكسل الذي لا يقدر معه صاحبه على شيء إلا بعد جهد جهيد وحمل على النفس شديد، حتى لو قيل مثلًا صلِّ وخذ كذا وكذا- لثواب حاضر يُعرض عليه
_________
(١) رواه ابن حبان مرفوعًا بإسناد حسن.
1 / 19
ويُرغب فيه- لم يقدر فهذا هو الكسل الذي يُنهى صاحبه عن العمل معه مخافة الانقطاع وترك العمل، هذا أو نحوه، والله أعلم، والدليل على هذا القول تكلُّفه ﵇ الصلاة حتى تشققت قدماه، وهذا إنما هو في النافلة وأما الفريضة فتُصلى على كل حال، في الصحة والمرض يصليهما قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو مكتوفًا أو كيف كان وكيفما أمكن أهـ. من كتاب الصلاة والتهجد لابن الخراط (١) .
ولعل هذا التحقيق النفيس قد جلّى لك كوامن أسرار، فكن منها على ذُكر فإن هذا المقام من أنفس ما تجده في كتب الزهد والرقائق والسلوك.
(لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:
قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره.
ــ
(١) "الصلاة والتهجد" (ص٣٠٥) .
1 / 20