The Authentic Sunnah and Its Role for al-Siba'i
السنة ومكانتها للسباعي ط الوراق
Edition Number
الأولى
Publication Year
سنة ٢٠٠٠ م
Genres
ـ[السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي]ـ
تأليف الدكتور الشيخ مصطفى السباعي
الطبعة: الثالثة - بيروت: ١٤٠٢ هـ - ١٩٨٢ م
المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان
عدد الأجزاء: ١.
أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القُريشي، - غفر الله له ولوالديه -.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
Unknown page
السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي
تأليف الدكتور الشيخ مصطفى السباعي
1 / 3
الإِهْدَاءُ:
إلى:
من حباني من حنانه ما نعمت به وأنا وليد.
ومن إرشاده ما قومني وأنا غصن رطيب
ومن عونه على تحصيل العلم ما مكنني من أن أجدَّ في طلب المعرفة وأنا تلميذ
ومن تأييده لدعوة الإصلاح ما هوّن عليّ تحمل الأذى في سبيل الله
ومن صبره على الشدائد ما حبّب إليّ التضحية وأنا مشرّد، أو موثق بأغلال السجون والمعتقلات.
ومن خفقات قلبه الرحيم ما خففت عني الآلام، وأنا طريح العلل والأمراض.
إلى:
من كان كل أمله أن أكون حلقة في سلسلة بيتنا العلمي منذ مئات السنين، وكل طلبته من ربه: أن يجعلني من حسناته يوم الدين.
إلى أبي الشيخ الجليل
حسني السباعي
أهدي أول مؤلفاتي العلمية، اعترافًا بفضله وحسن توجيهه، راجيًا
1 / 5
من الله جل شأنه أن يبارك لي في حياته، ويجزل له من مثوبته، ويتقبل دعاء ولد بارّ لأب كريم، استجابة لأمره تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (٢)
مصطفى
_________
(٢) سورة الإسراء، الآية: ٢٤
1 / 6
مقدمة الطبعة الثانية
بقلم الدكتور محمد أديب الصالح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير. والصلاة والسلام على معلم الناس الخير محمد بن عبد الله الذي أوتي القرآن ومثله معه، وجعل الله طاعته من طاعته هو سبحانه، فكانت سُنَّتُهُ صلوات الله عليه وسلامه بيان الكتاب الكريم، والمصدر الثاني من مصادر شريعة الإسلام. وكان من قبِل عن رسول الله فعن الله قبِل.
أما بعد،
فالبحث في سُنَّةِ النَّبِيّ- ﷺ، أمر على غاية الأهمية في بنية الإسلام الفكرية، ومصادر التشريع فيه، خصوصًا إذا وضعنا في الحسبان ما ينصب لأمتنا من أحابيل ومكائد، وما يراد لها من إعراض عن هدي النبوة، وتشكك فيما يصل الأجيال بنبيها - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -.
ومن خلال ذلك ينظر إلى الفراغ الذي ملأه في هذا الميدان كتاب " السُنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للأستاذ الدكتور مصطفى السباعي ﵀، الذي كان الميدان العلمي واحدًا من الميادين التي خاضها دفاعًا عن دعوة الإسلام وشريعة الإسلام.
وعلى بركة الله تصدر الطبعة الثانية لهذا الكتاب القيم والحمد لله. وإذا توافر للمؤلف القدرة على البحث العلمي وتتبع الأمور في مظانها، بجانب
1 / 7
الغيرة الصادقة على دين الله. إن هذا الكتاب صورة حية لهاتين المكرمتين، فأنت واجد أن المضمون منطبق تمام الانطباق على العنوان، مع رد المفتريات والشبه، واقتحام معاقل العادين على السُنَّة من حيث المتن أو السند.
وإذا كان قد تناول بعض المباحث برفق وإيجاز، فإنما كان ذلك لأنها ليست من صلب الموضوع، فأعطاها بقدر ما لها من علاقة فحسب.
وكم أحسن ﵀ صنعا في ذلك التتبع التاريخي للأدوار التي مرت بها السُنَّة، ووضع الأصبع على مكمن الداء في الماضي والحاضر، ومواقف العلماء التي ردت الأمور إلى نصابها.
وبطريقة منهجية جامعة فنّد آراء المخالفين قديما وحديثا، وعرض لمواقف بعض المستشرقين والمستغربين، وكشف بالروح العلمية المنصفة مواقعهم وما وراء اتجاهاتهم من جهل وتزوير. فكان موقفه في ذلك كله موقف العالم الداعية المجاهد، الذي يقدم لك الفكرة، مؤيدا ما يجنح إليه بالحجة من مظانها .. وتلمس من وراء بحثه - كما أسلفنا - الغيرة الصادقة على السُنّة أن يعدى عليها باسم العلم وتحت عناوين المعرفة.
ولعل من الإنصاف أن أشير إلى أن الأستاذ ﵀ قد ألف الكتاب في ظروف قاسية شهدها الذين يسكنون معه في القاهرة من إخوانه، حين اضطرته تلك الظروف وهو يجمع المادة العلمية للموضوع أن يغادر الشقة إلى مكان آخر حيث لا يجد المراجع إلا بصعوبة، ويتصل ببعض أساتذته بصعوبة أشد، لا يحجز الأذى عنه ومخاطر الاتصال إلا عناية الله .. ولم يطبع الكتاب طباعة رسمية، وإنما خرج رسالة للأستاذية يومذاك - الدكتوراه - في الأزهر على الآلة الطابعة.
وشغلت مؤلفنا شؤون الدعوة والقضايا العامة، ومهمات الجامعة والتدريس في كليتي الشريعة والحقوق، مع إرادة كلية الشريعة عن البدء بطبع الكتاب.
ويشاء الله أن يفاجئه المرض العضال .. وصدرت الطبعة الأولى وهو على حال صحية غاية في الإرهاق، وإن كان الرضى عن الله، والطمأنينة
1 / 8
لنعمة الابتلاء، مِمَّا كان يزين حياته في تلك الفترة ﵀.
وكان الإقبال على الكتاب شديدا خصوصا من أولئك الذين يقدرون هذه الموضوعات حق قدرها وشرع - على قسوة المرض - في تنقيحه وزيادة ما يراه من التعليقات تمهيدا لدفعه إلى المطبعة ... حتى وافته المنية - غفر الله له - وأصول الكتاب هي شغله الشاغل، ويرى القارئ ملحقين في هذه الطبعة الثانية، وقد وعد بملحق ثالث حالت وفاته دُونَ إنجازه.
وختاما: إن كتاب " السُنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " بما يشتمل عليه من حقائق علمية تضع السُنَّة موضعها من شريعة الإسلام، وما يقع عليه القارئ من نفس طويل في تحليل المواقف مِنَ السُنَّةِ في القديم وفي العصر الحاضر، وما يلمسه من تلك الجولات الموفقة مع أهل الانحراف من مستشرقين وغيرهم من دعاة التغريب.
إن ذلك كله يجعل الكتاب جديرًا - إن شاء الله - بأن يؤدي الغرض من خدمة الرسالة التي كان يحملها المؤلف ﵀ .. وأن يحظى بالكثير من اهتمام الباحثين في وقت نجد فيه ليالي الإسلام مثقلات بألوان من مؤامرات الدس في أصولنا ومصادرنا وخصوصًا السُنَّة المُطَهَّرَة .. مِمَّا تشم منه رائحة التضليل في بناء الجيل لإبعاده عن مقومات الوجود الحقيقي لأمَّته في كتاب ربها وسُنَّة نبيها - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -.
رحم الله الأستاذ السباعي وأجزل مثوبته في الآخرين، ونفع بآثاره الطيبة التي ضربت في كل ميدان من ميادين الدعوة، وكان من عيونها هذا الكتاب في طبعته الثانية - التي يخرجها المكتب الإسلامي استجابة طبيعية للقراء والباحثين الذين طال انتظارهم له - خاصة - ونرجو أن يكون ذلك كله في كفة حسناته حيث يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء ... ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ (*)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) هذه الجملة نص قرآني: [سورة الحديد، الآية: ١٢].
1 / 9
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع الأحكام لعباده بكتاب مبين، وأناط تفصيل أحكامه بخاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد بن عبد الله - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ -، نقلة الوحي، والأمناء على الحق، والدعاة إلى الله على هدى وصراط مستقيم، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فنحن في عصر اضطربت فيه النظم العالمية المتعددة، وعجزت عن إيجاد السلام والرخاء لشعوب العالم، ومهما يكن في قادة الأمم المسيطرة من عيوب أدت إلى هذا الاضطراب، فإن الذي لا ريب فيه عندنا أن الأسباب المباشرة لشقاء العالم هي تلك النظم التي لم تثبت حتى الآن صلاحها لحل مشاكل الإنسانية على وجه يريحها من الحروب والمنازعات، ويبعدها عن جو القلق الذي تعيش به في أعقاب الحروب العالمية الدامية، بعد أن كانت تعيش خلال الحروب في جو قاتم من الدماء والدمار والخراب.
وعقيدتنا، نحن المُسْلِمِينَ، أن لا مناص لهذا العالم - إن أراد لنفسه السعادة والسلام - من الرجوع إلى تعاليم الله الصافية الخالصة من التحريف والتلاعب والتبديل والتغيير، والتي جاءت رسالة الإسلام مُتَمِّمَةً لها وَمُعَبِّرَةً عن رسالتها أوفى تعبير وَأَدَقِّهِ وَأَوْسَعِهِ، وأكثره مرانًا ومسايرة للعصور، وتحقيقًا لحاجة بني الإنسان على اختلاف ديارهم وأزمانهم.
1 / 11
وشريعة الإسلام - في مصادرها الأولى - وفي بحوث فقهائها وأئمتها - رحبة الفناء، واسعة النهج، تتسع لكل حادثة، وتحل كل مشكلة، وتقيم موازين القسط بين الأفراد والجماعات والحكومات، وتحقق للشعب الطائع اليقظ الراقي المتحفز، وللدنيا في مختلف أقطارها، الدولة العادلة المسالمة التي تجنح لِلْسِلْمِ حين يجنح له غيرها، وتذود عن كرامة العقيدة والأخلاق والحرية الصادقة، حين يميل إلى العدوان عليها معتد أثيم أو باغ ماكر.
ومصادر التشريع الإسلامي معروفة لدى المُسْلِمِينَ موثوقة محفوظة، ولا شك في أن السُنَّةَ المُطَهَّرَةَ، وهي ثانية هذه المصادر، أوسعها فروعا، وأحفلها نظمًا، وأرحبها صدرًا، إذ كان كتاب الله الكريم متضمنًا للقواعد العامة في التشريع وللأحكام الكلية في الغالب، مِمَّا جعله خالدًا خلود الحق، بَيْدَ أَنَّ السُنَّةَ الكريمة عنيت بشرح هذه القواعد، وتثبيت تلك النظم، وتفريع الجزئيات على الكليات، مِمَّا يعرفه كل من درس السُنَّةَ دراسة وافية، ومن ثم لم يكن لِلْمُتَشَرِّعِينَ من علماء الإسلام مندوحة من الاعتماد على السُنَّةِ، واللجوء إليها والعناية بها والاسترشاد بأحكامها المنصوصة على أحكام الحوادث الطارئة.
ولقد تعرضت السُنَّةُ في القديم لهجمات بعض الفرق الإسلامية الخارجة على سُنَنِ الحق لشبهات طارئة لم تجد في نفوس أتباعها ما يدفعها، كما تعرضت في العصر الحاضر لهجمات بعض المُسْتَشْرِقِينَ المُتَعَصِّبِينَ من دُعاة التَبْشِيرِ وَالاِسْتِعْمَارِ، ابتغاء الفتنة وابتغاء هدم هذا الركن المتين من أركان التشريع الإسلامي الوارف الظلال وتابعهم على ذلك بعض المؤلفين من أبناء أُمَّتِنَا، اغترارًا بما يضفيه أولئك المُسْتَشْرِقُونَ على بحوثهم من زخارف علمية لا تثبت أمام النقد العلمي النزيه أو اندفاعا وراء ميول نفسية وشبهات فكرية لم يحاولوا تخصيصها على ضوء ما بين أيديهم من تراث السلف وبحوث العلماء الراسخين، فصادف رأي المُسْتَشْرِقِينَ في السُنَّةِ هَوًى كامنًا في نفوس هؤلاء، فضربوا على الوتر، وغنوا بذلك الحداء.
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى * ... * ... * فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا
1 / 12
وقد سبق لي في عام ١٣٥٨ هـ أن عانيت مع بعضهم بعض الشيء في دفع أوهامهم والرد على ما علق بأذهانهم من تَخَرُّصَاتِ المُسْتَشْرِقِينَ. لذلك رأيت أن أبحث في هذه الرسالة عن السُنَّةِ ومكانتها في التشريع الإسلامي، مُبَيِّنًا الأدوار التاريخية التي اجتازتها، وجهود علماء الإسلام في صيانتها وتمحيصها، مناقشًا ما أورد المتحاملون عليها في القديم والحديث بروح علمية هادئة، يستبين بها وجه الحق، وتتضح بها طلعة السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ بيضاء مشرقة.
وقد ختمتها بشذرات من تاريخ أشهر علماء الإسلام من مُجْتَهِدِينَ وَمُحَدِّثِينَ مِمَّنْ لهم دور بارز في حفظ السُنَّةِ وتدوينها، أو في الرجوع إليها في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد قَسَّمْتُ الرسالة إلى ثلاثة أبواب وخاتمة:
الباب الأول: في معنى السُنَّةِ ونقلها وتدوينها، وفيه فصول:
الفصل الأول: في معنى السُنَّةِ، وتعريفها، وموقف الصحابة مِنَ السُنَّةِ.
الفصل الثاني: كيف نشأ الوضع فيها؟ ومتى؟ وأين؟
الفصل الثالث: في جهود العلماء لتنقيتها وتصحيحها.
الفصل الرابع: في ثمار جهود العلماء ونتائجها بالنسبة لِلْسُنَّةِ.
الباب الثاني: فيما تعرضت له السُنَّةُ من شُبَهٍ وخصومة وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: السُنَّةُ مع الشِيعَة والخوارج.
الفصل الثاني: السُنَّةُ مع المعتزلة والمُتَكَلِّمِينَ.
الفصل الثالث: السُنَّةُ مع من ينكر حُجِيَّتِهَا قَدِيمًا.
الفصل الرابع: السُنَّةُ مع من ينجر حُجِيَّتِهَا حَدِيثًا.
الفصل الخامس: السُنَّةُ مع من ينكر حُجِيَّة خبر الآحاد.
الفصل السادس: السُنَّةُ مع المُسْتَشْرِقِينَ.
الفصل السابع: السُنَّةُ مع بعض الكَاتِبِينَ حَدِيثًا.
1 / 13
الباب الثالث: في مرتبة السُنَّةِ من التشريع الإسلامي، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في مرتبتها بالنسبة إلى الكتاب.
الفصل الثاني: كيف اشتمل القرآن على السُنَّة.
الفصل الثالث: نَسْخُ السُنَّة بالقرآن، أو القرآن بِالسُنَّةِ.
الخاتمة: في تراجم بعض كبار علماء الإسلام من مُجْتَهِدِينَ وَمُحَدِّثِينَ وهم عشرة:
١ - الإمام أبو حنيفة.
٢ - الإمام مالك.
٣ - الإمام الشافعي.
٤ - الإمام أحمد.
٥ - البخاري.
٦ - مسلم.
٧ - النسائي.
٨ - أبو داود.
٩ - الترمذي.
١٠ - ابن ماجه.
والله أسأل أن يجنبني العثار ويلهمني الرشد، ويفتح لي خزائن رحمته، ويجعلنا مِمَّنْ يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
القاهرة: ٦ رجب ١٣٦٨ هـ / ٤ أيار (مايو) ١٩٤٩ م.
مصطفى حسني السباعي
1 / 14
تَمْهِيدٌ:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وحملة سُنّته والمدافعين عنها إلى يوم الدين، وبعد فهذا الكتاب الذي أقدمه اليوم للطبع، هو الرسالة التي تقدمت بها لنيل الشهادة «العالمية من درجة أستاذ» في الفقه والأصول وتاريخ التشريع الإسلامي من كلية الشريعة في الجامع الأزهر عام ١٣٦٨ هـ - ١٩٤٩ م، وقد رغبت عن نشره منذ ذلك الحين حتى الآن لعوامل كثيرة، من أهمها أني ألفت هذا الكتاب في ظروف صعبة كانت تضطرني إلى الإيجاز في كثير من الأبحاث، وكنت أرى من تمام الفائدة التوسع فيها والإكثار من الشواهد لتتضح معالمها، وإضافة أبحاث أخرى متعلقة بالموضوع، ولم يتح لي الوقت الكافي لتحقيق ما كنت أرجو من ذلك.
ثم إن بعض أبحاث هذا الكتاب كانت قد نشرت بصورة موجزة في بعض المجلات الإسلامية في القاهرة ودمشق وغيرهما (١)، وكانت تردني الرغبة من كثير من القارئين بطبع هذه الأبحاث، ولكنني كنت أرجئ ذلك إلى وقت أتفرغ فيه لتحقيق ما كنت آمل من التوسع والإفاضة، حتى ظهر كتاب " أضواء على السُنَّةِ المحمدية " لمحمود أَبُو رَيَّةَ، وفيه ما فيه من تحقيق «غير علمي» حول السُنَّةِ وَرُوَّاتِهَا، فَأَلَحَّ عَلَيَّ أولئك الأصدقاء الكرام بطبع الكتاب لشدة الحاجة إلى أبحاثه، وها أنا أقدمه كما كتبته من قبل، إلا ما أضفته على البحث المتعلق بأبي هريرة ﵁ من تعليق موجز
_________
(١) في القاهرة مجلة " الفتح " للأستاذ الكبير محب الدين الخطيب، وفي دمشق مجلة " المُسْلِمُونَ ".
1 / 15
على ما جاء به كتاب «أَبِي رَيَّةَ» بحق أبي هريرة وإني لأرجو - حين تتيح لي حالتي الصحية - أن أتمكن من تحقيق ما كنت آمل إن شاء الله تعالى.
ملاحظات حول كتاب أَبِي رَيَّةَ:
-----------------------------
وهنا أجد أنه لا بُدَّ لي من إثبات الملاحظات الآتية حول كتاب «أَبِي رَيَّةَ».
- ١ -
لا تخفى مكانة السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ «الحديث» في التشريع الإسلامي وأثرها في الفقه الإسلامي منذ عصر النَّبِيِّ ﷺ والصحابة حتى عصور أئمة الاجتهاد واستقرار المذاهب الاجتهادية، مِمَّا جعل الفقه الإسلامي ثروة تشريعية لا مثيل لها في الثروات التشريعية لدى الأمم جميعها في الماضي والحاضر، ومن يطلع على القرآن وَالسُنَّةُِ يجد أَنَّ لِلْسُنَّةِ الأثر الأكبر في اتباع دائرة التشريع الإسلامي وعظمته وخلوده، مِمَّا لا ينكره كل عالم بالفقه ومذاهبه.
هذا التشريع العظيم الذي بهر أنظار علماء القانون والفقه في جميع أنحاء العالم، وسيزيد إعجابهم به حين اطلاعهم عليه كله مُبَسَّطًا مَعْرُوضًا بأسلوب يألفه أبناء هذا الجيل - و" موسوعة الفقه الإسلامي " في كلية الشريعة بجامعة دمشق دائبة على تحقيق هذا الغرض - هو ما حمل ويحمل أعداء الإسلام في الماضي والحاضر على مهاجمة السُنّةِ والتشكيك في حُجِيَّتِهَا وصدق جَامِعِيهَا وَرُوَّاتِهَا من أعلام الصحابة والتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وعلى هذا الغرض التقى أعداء الإسلام اليوم من المُسْتَشْرِقِينَ ومن لَفَّ لَفَّهُمْ في الحضارة الغربية الحاضرة.
إنها سلسلة متتابعة من الجهود، لم تنقطع منذ أربعة عشر قرنًا. وستظل قائمة ما دام للإسلام والحق أعداء يغيظهم ويغشي أبصارهم ضوء الإسلام الباهر، فيندفعون بعصبية عمياء حمقاء لتهديم كل ما يتصل به من قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ وَاجْتِهَادٍ، ولتشويه كل من حمل لواءه من رسول الله ﷺ
1 / 16
وصحابته، إلى حملته من أعلام السُنَّةِ والتشريع، ولإفساد الحقائق المتصلة به من حضارة وتاريخ.
ونحن لا نشك في أن هذه المعارك المتصلة بين الإسلام وخصومه، ستنتهي معركة اليوم منها - كما انتهت معارك الأمس - إلى هزيمتهم وكشف مقاصدهم الخبيئة الخبيثة، وبقاء الإسلام كالطود الشامخ تَرْتَدُّ على سفوحه الرمال والأعاصير لأن المعركة بين الإسلام وخصومه، معركة بين الحق والهوى، وبين العلم والجهل، وبين السماحة والحقد، وبين النور والظلمة، ومن سُنَّةِ اللهِ في الحياة أن ينتصر في هذه المعارك، الحق والعلم والسماحة والنور دائمًا وأبدًا ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (١).
- ٢ -
ومن المؤسف أن يسير وراء أعداء الإسلام في الحاضر، فئة مِمَّنْ لا نشك في صدق إسلامهم من العُلَمَاءِ وَالكُتَّابِ، ولكنهم منخدعون بمظهر التحقيق العلمي «الكاذب» الذي يلبسه هؤلاء الأعداء من المُسْتَشْرِقِينَ والمُؤَرِّخِينَ وَالغَرْبِيِّينَ عن حقيقة أهدافهم ومقاصدهم، فإذا هم - وهم مسلمون - ينتهون إلى الغاية التي يسعى إليها أولئك - وَهُمْ يَهُودٌ أَوْ مَسِيحِيُّونَ أَوْ اسْتِعْمَارِيُّونَ - من إشاعة الشك والريبة في الإسلام وَحَمَلَتِهِ من حيث يدرون أو لا يدرون، فالتقى أعداء الإسلام وبعض أبنائه على صعيد واحد لا يُشَرِّفُ هؤلاء ولا أولئك، لا في ميدان العلم، ولا في سِجِلِّ التاريخ.
ومن الملاحظ أن هؤلاء الذين ينخدعون من المُسْلِمِينَ بِالمُسْتَشْرِقِينَ والمُؤَرِّخِينَ وَالكَاتِبِينَ من أعداء الإسلام الغَرْبِيِّينَ، لا يوقعهم في الفخ الذي نصبه لهم هؤلاء إلا أحد أربعة أمور غالبًا:
١ - إما جهلهم بحقائق التراث الإسلامي وعدم اطلاعهم عليه من ينابيعه الصافية.
٢ - وإما انخداعهم بالأسلوب العلمي «المزعوم» الذي يَدَّعِيهِ أولئك الخصوم.
_________
(١) [الأنبياء: ١٨].
1 / 17
- وإما رغبتهم في الشهرة والتظاهر بالتحرر الفكري من ربقة التقليد كما يَدَّعُونَ.
٤ - وإما وقوعهم تحت تأثير «أهواء» و«انحرافات» فكرية، لا يجدون مجالًا للتعبير عنها إلا بالتستر وراء أولئك المُسْتَشْرِقِينَ الكَاذِبِينَ.
- ٣ -
في هذا الجو النفسي الذي ذكرناه، أخرج «أَبُو رَيَّةَ» - على ما يبدو - كتابه " أضواء على السُنَّةِ المحمدية "، وقد تصفحت كتابه عند العزم على طبع هذا الكتاب، فرأيت مصادره الأصلية في كل ما خرج به على رأي جمهور المُحَقِّقِينَ من علماء السلف والخلف، لا تتعدى المصادر التالية:
١ - آراء أئمة الاعتزال التي نقلت عنهم في الكتب.
٢ - آراء غُلاَةِ الشِيعَةِ التي جهروا بها في مؤلفاتهم.
٣ - آراء المُسْتَشْرِقِينَ التي بثوها في كتبهم و" دائرة معارفهم ".
٤ - «حكايات» تذكر في بعض كتب الأدب التي كان مؤلفوها موضع الشبهة في صدقهم وتحريهم للحقائق.
٥ - «أهواء» دفينة للمؤلف ظلت تحوك في صدره سنين طويلة.
أما ما ذكره خلال كتابه من نقول عن مصادر محترمة في الأوساط العلمية الإسلامية، فإنها لا تعدو أن تكون وردت في تلك المصادر في مورد غير الذي أورده المؤلف فوضعها في غير مواضعها، أو أن تكون هي في حد ذاتها حقائق مُسَلَّمَةٍ لدى المُحَقِّقِينَ ولكنهم لا يقصدون منها ما قصده المؤلف، فيذكرها إِيهَامًا للقارئ بأن أصحابها يلتقون معه في فكرته وأهوائه، أو تكون نصوصا «مبتورة» انتزع منها ما يَرُدُّ على المؤلف، ولم يذكر منها إلا ما يريد أن يثبته في البحث الذي يتناوله - وسنرى نموذجا لذلك في بحث أبي هريرة - أو أن تكون من أقوال بعض العلماء نقلًا عن المعتزلة، فينسبها إلى هؤلاء العلماء أنفسهم، كما فعل فيما نقل عن ابن
1 / 18
قتيبة، وبالجملة فإن أصحاب هذه المؤلفات والنصوص التي نسبها إليهم لا يلتقون معه في آرائه ونزعاته.
وأخطر من ذلك أنك بينما تراه ينسب إلى عمر الغفلة مع كعب الأحبار حين أخذ يخبره عن قُرب مقتله، يستدل بما نسب إلى عمر من يقظته حول أحاديث أبي هريرة لِيُشَكِّكَ فيها، وبينما تراه يتظاهر باحترام الأئمة والعلماء وَالمُحَقِّقِينَ، ينسب إليهم الغفلة والتقصير في التحقيق في السُنَّةِ على الأسلوب الذي يدعو إليه.
وأكثر من تَسَتَّرَ بأسمائهم وتظاهر بالنقل عنهم - تأييدًا منهم في زعمه لفكرته التي يدور حولها، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ طاهر الجزائري والإمام محمد عبده، والسيد رشيد رضا ﵏ جَمِيعًا - لم يقل واحد منهم بما انتهى إليه، بل إنهم ليبرؤون جميعًا مِمَّا قاله، وخاصة من الكلام «البذيء» في حق أبي هريرة، ومن النتائج الخطيرة التي انتهى إليها بحثه.
ومن الملاحظ أنه أكثر من «ثبت» المصادر التي رجع إليها في بحثه، لِيُوهِمَ قُرَّاءَهُ بأهمية كتابه، ومنها كتب في التفسير والحديث والفقه، وعلوم القرآن وَالسُنَّةِ، ليس فيها كلمة واحدة من نتائج بحثه الذي انتهى إليه، وكلها تكذّبه في دعاويه، ومنها مصادر تاريخية ليست من المصادر التي يعتبرها العلماء مرجعا للتحقيق في تدوين السُنّة وَرُوَّاتِهَا وعلمائها، ومن المصادر التاريخية مصادر لا يوثق بها أبدًا لدى جمهور المُحَقِّقِينَ، ومنها كتب في الأدب واللغة والنحو والشعر لا رابطة بينها وبين هذا الموضوع الخطير.
بقي أن نذكر المصادر الجديرة بالاهتمام عنده، وهي التي تدلنا على صحة «تحقيقه العلمي» ومصادر وحيه في هذا التحقيق - ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ (١) وإليك هي:
١ - " تاريخ التمدن الإسلامي " لجرجي زيدان.
٢ - " العرب قبل الإسلام " لجُرجي زيدان.
_________
(١) [الأنعام: ١٢١].
1 / 19
٣ - " دائرة المعارف الإسلامية " للمستشرقين.
٤ - " الحضارة الإسلامية " لكريمر.
٥ - " السيادة العربية " لفلوتن.
٦ - " حضارة الإسلام في دار السلام " لإبراهيم اليازجي.
٧ - " تاريخ العرب المطول " لفليب حتي، وإدوار جرجس، وجبرائيل جبور.
٨ - " تاريخ الشعوب الإسلامية " لكارل بروكلمان.
٩ - " المسيحية في الإسلام " للقس إبراهيم لوقا.
١٠ - " وجهة الإسلام " لجماعة من المُسْتَشْرِقِينَ.
١١ - " العقيدة والشريعة في الإسلام " لجولدتسيهر.
ومع ذلك فهو يَدَّعِي في آخر كتابه أنه أَيَّدَ بحوثه بأقوم البراهين وأقوى الأسانيد (ص ٣٥٤) وأنه رجع إلى مصادر ثابتة لا يرقى الشك إليها ولا يدنو الريب منها! (ص ١٩٧).
ننتقل بعد ذلك إلى إلقاء نظرة على مصادره الرئيسية الخمسة التي ذكرناها آنفا.
-٤ -
أما آراء أئمة الاعتزال - وقد سماهم بأرباب العقول الصريحة - فقد حققنا في بحث موقف المعتزلة مِنَ السُنَّةِ - في هذا الكتاب - أنهم ما بين مُنْكِرٍ لِلْسُنَّةِ كلها، وما بين مشترط في قبولها شروطًا لا يمكن أن تقع، وَرَجَّحْنَا أن رؤساء الاعتزال - وخاصة الذين طعنوا منهم في الصحابة - كانوا من الرقة في الدين بحيث يصف أحدهم - ثمامة بن أشرس - جمهور المسارعين إلى الصلاة بأنهم «حَمِيرٌ»! وكانوا من الشعوبية وَالكُرْهِ للعرب بحيث يقول ثمامة نفسه: «انْظُرْ إِلَى هَذَا العَرَبِيِّ، يَعْنِي (مُحَمَّدًا ﷺ) مَاذَا فَعَلَ بِالنَّاسِ؟» (١) فماذا ننتظر من هذا الشعوبي الماجن أن يقول عن صحابة
_________
(١) [قارن بما ورد في صفحة ١٦٢ من هذا الكتاب].
1 / 20
رسول الله ﷺ؟ وما ننتظر أن يكون رأيه في السُنّةِ التي حَقَّقَهَا أئمة الحديث وَمُحَقِّقُوهُمْ؟
والمعتزلة قوم فتنتهم الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، وما نقل من الفلسفة الهندية والأدب الفارسي. وقد كانوا كلهم أو جمهورهم مِمَّنْ يَمُتُّونَ إلى أصل فارسي فَأَوَّلُوا القرآن لينسجم مع الفلسفة اليونانية، وَكَذَّبُوا الأحاديث التي لا تتفق مع هذه العقلية اليونانية الوثنية، واعتبروا فلاسفة اليونان أنبياء العقل الذي لا خطأ معه، هؤلاء هم الذين قامت المعركة الفكرية بينهم وبين جمهور علماء المُسْلِمِينَ. وَهُمْ الذين يُسَمِّيهِمْ «أَبُو رَيَّةَ» بالعلماء وأصحاب العقول الصريحة، في مقابلة أئمة الحديث وفقهاء الإسلام كمالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن المُسَيَّبِ وغيرهم!
ومن المعلوم أن أصحاب العقول الراجحة عند «أَبِي رَيَّةَ» الذين اسْتَغَلُّوا سلطة الدولة وحملوا الخلفاء على التنكيل بأئمة المُسْلِمِينَ وتعذيبهم وسجنهم بضعة عشر عَامًا، واستقاء «أَبِي رَيَّةَ» من آراء هؤلاء واضح في كل ما نقله عن ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ومن يرجع إلى ما كتبه ابن قتيبة في كتابه هذا، يجد أن ما نقله أَبُو رَيَّةَ عن ابن قتيبة إنما هو كلام أئمة الاعتزال ضد الصحابة وَالمُحَدِّثِينَ، نقله ابن قتيبة عنهم ثم رَدَّ عليهم بما هو موضوع كتابه كله!! ولكن «أَبَا رَيَّةَ» نسب أقوالهم إلى ابن قتيبة، وهكذا يكون «التحقيق العلمي» و«الأمانة العلمية»!.
- ٥ -
وأما اعتماده على مصادر الشِيعَةِ، فأحب أن أمهد لذلك بكلمة صريحة قبل مؤاخذته على الاعتماد على مصادرهم، نحن نقرأ بالألم الممزوج بالحسرة ما كان من الفتن الدموية بين عَلِيٍّ ومعاوية حول الخلافة، ثم ما جرت وراءها من ذيول لا نزال نلمس آثارها حتى اليوم، وأنا لا أشك في أن أعداء الله واليهود، وكثيرا من الأعاجم الذين استولى الإسلام على بلادهم، كان لهم أثر كبير في إيقاد نار تلك الفتن، ثم في توسيع شقة الخلاف بين المُسْلِمِينَ بالكيد والدسائس واختلاق الأكاذيب على
1 / 21
رسول الله ﷺ في أحاديث ينسبونها إليه، وأعتقد أن جمهور المُسْلِمِينَ - وَهُمْ أَهْلُ السُنَّةِ - كانوا أكثر إنصافًا وتأدبًا مع صحابة رسول الله ﷺ، وهم الذين أثنى الله عليهم في كتابه ورضي عنهم وَنَوَّهَ بفضلهم في الهجرة والنصر، فليس من الجائز ولا المعقول ولا اللائق بكرامة دين الله ورسوله أن ينقلب هؤلاء الأصحاب بعد وفاة الرسول إلى الحالة التي تُصَوِّرُهُمْ بها مصادر الشِيعَةِ، ولو أنك قرأت وسمعت ما يكتبونه ويقولونه في مجالسهم في حق هؤلاء الأصحاب، لقلت: إنهم أشبه ما يكونون بعصابة من اللصوص وَقُطَّاعِ الطُرُقِ، لا دين لديهم ولا ضمائر عندهم تَرْدَعُهُمْ عن الكذب والتآمر والتهالك على الدنيا وحيازة أموالها ولذائذها: (لشدَّ ما تحلَّبا شطريها) (١)، مع أن الثابت الصحيح من تاريخهم أنهم كانوا أتقى للهِ وأكرم في السيرة من كل جيل عرفته الإنسانية في القديم والحديث، ومع أن الإسلام لم ينتشر في العالم إلا على أيديهم وبجهادهم ومفارقتهم الأهل والبلد في سبيل الله والحق الذي آمنوا به.
ومن الواضح أن السبب الذي بدأت به الفرقة، وهو النزاع حول الأحق بالخلافة ورئاسة الدولة، لم يعد موجودًا في عصرنا هذا، بل منذ عصور كثيرة، فقد أصبحنا جميعًا تحت سلطة المستعمرين، فلم يبق لنا ملك نتقاتل عليه، ولا خلافة نختلف من أجلها، وذلك مِمَّا يقتضي جمع الشمل وتقريب وجهات النظر، وتوحيد كلمة المُسْلِمِينَ على أمر سواء، وإعادة النظر في كل ما خلفته تلك المعارك من أحاديث مكذوبة على صحابة رسول الله وأصفيائه، وَحَمَلَةِ عرشه وحاملي لوائه.
وقد بدأ علماء الفريقين في الحاضر يستجيبون إلى رغبة جماهير المُسْلِمِينَ في التقارب، ودعوة مُفَكِّرِيهِمْ إلى التصافي، وأخذ علماء السُنّةِ بالتقارب عَمَلِيًّا، فاتجهوا إلى دراسة فقه الشِيعَةِ ومقارنته بالمذاهب المعتبرة
_________
(١) كلمة نسبها صاحب " نهج البلاغة " إلى عَلِيٍّ ﵁ في حق أبي بكر وعمر ﵄.
1 / 22
عند الجمهور، وقد أدخلت هذه الدراسة المقارنة في مناهج الدراسة في الكليات وفي كتب المؤلفين في الفقه الإسلامي، وإنني شخصيًا - منذ بدأت التدريس في الجامعة - أسير على هذا النهج في دروسي ومؤلفاتي.
ولكن الواقع أن أكثر علماء الشِيعَةِ لم يفعلوا شيئًا عمليًا حتى الآن، وكل ما فعلوه جملة من المجاملة في الندوات والمجالس، مع استمرار كثير منهم في سَبِّ الصَحَابَةِ وإساءة الظن بهم، واعتقاد كل ما يروى في كتب أسلافهم من تلك الروايات والأخبار، بل إن بعضهم يفعل خلاف ما يقول في موضوع التقريب، فبينما هو يتحمس في موضوع التقريب بين السُنَّةِ وَالشِيعَةِ، إذا هو يصدر الكتب المليئة بالطعن في حق الصحابة أو بعضهم مِمَّنْ هم موضع الحب والتقدير من جمهور أَهْلِ السُنَّةِ.
في عام ١٩٥٣ زرت عَبْدَ الحُسَيْنَ شَرَفَ الدِّينِ في بيته بمدينة «صور» في جبل عامل، وكان عنده بعض علماء الشِيعَةِ، فَتَحَدَّثْنَا عن ضرورة جمع الكلمة وإشاعة الوئام بين فريقي الشِيعَةِ وَأَهْلِ السُنَّةِ، وأن من أكبر العوامل في ذلك أن يزور علماء الفريقين بعضهم بعضًا، وإصدار الكتب والمؤلفات التي تدعو إلى هذا التقارب. وكان عَبْدُ الحُسَيْن ﵀ مُتَحَمِّسًا لهذا الغرض، وخرجت من عنده وأنا فرح بما حصلت عليه من نتيجة، ثم زُرْتُ في بيروت بَعْضَ وجوه الشِيعَةِ من سياسيين وَتُجَّارَ وأدباء لهذا الغرض، ولكن الظروف حالت بيني وبين العمل لتحقيق هذه الفكرة، ثم ما هي إلا فترة من الزمن حتى فوجئت بأن عَبْدَ الحُسَيْنِ أصدر كتابًا في أبي هريرة (*) مليئًا بالسباب والشتائم!! ولم يتح لي حتى الآن قراءة هذا الكتاب الذي ما أزال أسعى للحصول على نسخة منه، ولكني علمت بما فيه مِمَّا جاء في كتاب أَبِي رَيَّةَ من نقل بعض محتوياته ومن ثناء الأستاذ عليه، لأنه يتفق مع أَبِي رَيَّةَ في هذا الصحابي الجليل (١)
_________
(*) [طبع كتاب " أبو هريرة " لعبد الحسن شرف الدين الموسوي، الطبعة الثانية: ١٣٧٥ هـ - ١٩٥٦ م في ٢٩٦ صفحة، منشورات الطبعة الحيدرية في النجف].
(١) ذكرت هنا في هذه المقدمة التمهيدية للطبعة الأولى أني لم أكن حين كتابتها أملك
1 / 23