The Allowed and Forbidden in the Mosque - Faleh Al-Sagheer
المشروع والممنوع في المسجد - فالح الصغير
Publisher
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Publisher Location
المملكة العربية السعودية ١٤١٩ هـ
Genres
[المقدمة]
المشروع والممنوع في المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
أحمده سبحانه وأشكره، أمر بإقامة شعائر الدين، وأثنى على عمار المساجد من المسلمين، ورتب على ذلك الأجر الجزيل والفضل العميم.
وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، الذين انطلقوا من المساجد علماء ودعاة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاستجابة لطلب معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمشاركتهم في ندوتهم المباركة التي تنظمها بالتعاون مع كلية العمارة
1 / 3
والتخطيط بجامعة الملك سعود بالرياض، بعنوان: عمارة المساجد. . وأن تكون مشاركتي في محاضرة بعنوان: المشروع والممنوع في المسجد.
ولما لهذا الموضوع من أهمية كبيرة تنبع من أهمية المسجد في الإسلام من كونه مقرًا لأداء الركن الثاني من أركان الإسلام، وميدانًا للعلم والتعليم، والتربية والتوجيه، ومكانًا للملتقيات التربوية والعلمية والفكرية، ومحلًا للاعتكاف والعبادة والمناجاة والتشاور والتحاور.
أقول: لهذا جعلت عناصر هذه المحاضرة على النحو التالي:
تمهيد في: المراد في المسجد، ومكانته في الإسلام، وفضل عمارته الحسية والمعنوية.
والمبحث الأول في المشروع في المسجد.
والمبحث الثاني: المشروع في عمارة المساجد.
والمبحث الثالث في الممنوع في المسجد.
والمبحث الرابع في وقفات متفرقة.
1 / 4
وخاتمة أجمل فيها بعض التوصيات التي أراها مناسبة.
وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا أعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب وهو المستعان.
كتبه
فالح بن محمد بن فالح الصغير
الرياض ٢٥ / ٧ / ١٤١٩ هـ
1 / 5
[التمهيد]
التمهيد المراد بالمسجد المسجد في الأصل اللغوي: موضع السجود، وكل موضع يتعبد فيه فهو مسجد، ومنه قول النبي ﷺ في الحديث: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» (١) .) .
أما في الاصطلاح الشرعي، فيطلقه بعض أهل العلم على كل موضع من الأرض، انطلاقًا من الحديث السابق، وهذا صحيح بالنظر إلى جواز الصلاة والعبادة فيه، ولكن بالنظر إلى ما اصطلح عليه اسم: (مسجد)، وأخذ أحكامًا خاصة، فلا يبقى هذا المفهوم دقيقًا.
ويمكن أن يعرف المسجد بأنه بقعة من الأرض، مخصصة لأداء العبادة فيه، متحررة من التملك الشخصي. وعلى هذا فيكون المسجد بقعة من الأرض ليست ملكًا لأحد، وتؤدى فيه مهمات عبادية ودعوية وتربوية وغيرها.
_________
(١) رواه البخاري برقم (٣٣٥) في التيمم، باب التيمم، وبرقم (٤٣٨) في الصلاة، باب قول النبي ﷺ وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) .
1 / 6
[مكانة المسجد وفضل عمارته حسًا ومعنى]
مكانة المسجد وفضل عمارته حسًا ومعنى للمسجد مكانة عظمى، وأهمية بالغة في دين الله ﷿ فهو مكان لا غنى للمسلمين عنه إذ هو محل أداء شعائرهم التعبدية من الصلاة والاعتكاف، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى، وهو منطلق الهداية والتوجيه، وميدان العلم والتعليم، ومنبت التربية والتثقيف، وينبوع العلم والمعرفة والتثقيف، وهو النور المشع في قلوب المؤمنين، وهو ميدان تخريج العلماء والأبطال والقادة والمفكرين، وهو ساحة التقاء المسلم بأخيه المسلم، على منهج الله تعالى، وعلى عبادة الله تعالى، فهذه الوظيفة العليا، بل الوظائف الكبرى للمسجد تدل على أهميته وعظم منزلته، ولذلك فضل الله المساجد، ورغب في عمارتها، وجعل الأجر الجزيل على بنائها- حسيا ومعنويًا - وأشاد بعمارها والمهتمين فيها.
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: ١٨] (١) .
_________
(١) الآية رقم (١٨) من سورة التوبة.
1 / 7
وقال سبحانه: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ - رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧] (١) .
ولأهميتها نسبها الله تعالى إليه، فقال: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ١٨] (٢) .
ومما يدل على مكانتها ورفعة شأنها أن عُمَّارها هم صفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧ - ١٢٨] (٣) .
وقد ندب الرسول ﷺ لعمارتها، جاء في الصحيحين عن عثمان بن عفان ﵁ قال: «سمعت النبي ﷺ يقول: (من بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في
_________
(١) الآيتان رقم (٣٦، ٣٧) من سورة النور.
(٢) الآية رقم (١٨) من سورة الجن.
(٣) الآيتان ١٢٧- ١٢٨ من سورة البقرة.
1 / 8
الجنة)» (١) . وعند ابن ماجه وأحمد مرفوعًا: «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» (٢) .
ولفضلها رغب ﷺ في التعليم فيها وجعلها أفضل دار للعلم والتعليم فقد روى مسلم وغيره مرفوعًا: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده») (٣) .
ومما يدل على أهميتها وفضلها أن الملائكة تشهد الصلاة فيها، وتحضر كما جاء في الصحيح في فضل صلاة الجمعة أنه إذا دخل الإمام دخلت الملائكة تستمع الخطبة (٤) .
وكذلك الأمر بتنزيهها من الروائح الكريهة، ولو كانت غير محرمة مثل نهي الرسول ﷺ عن أكل البصل والثوم، فقال: «من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن
_________
(١) رواه البخاري برقم (٤٥٠)، الصلاة، باب من بنى مسجدا. . . ومسلم برقم (٥٣٣)، المساجد، باب فضل بناء المساجد والحث عليها.
(٢) رواه ابن ماجه برقم (٧٣٨) في المساجد، باب من بنى لله مسجدا.
(٣) رواه مسلم برقم (٢٦٩٩) في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.
(٤) رواه البخاري ٢ / ٤٠٧ برقم (٩٢٩) في الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة.
1 / 9
مصلانا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس» (١) .
ولأهميته وعظيم مكانته كان من الأعمال الأولى للدولة الإسلامية التي باشرها الرسول ﷺ عندما هاجر إلى المدينة النبوية فأسس مسجده ﷺ إذ جعله الملتقى الأعظم لصحابته الكرام.
ولمزية هذا المسجد كان أحب البقاع إلى الله تعالى كما ورد: «أحب البقاع إلى الله مساجدها» (٢) . ولهذا كان الوقوف عليه من أفضل الأعمال المستحبة التي يقدمها العبد في دنياه وآخرته، كما أن صيانتها وتنظيفها وتعاهدها سبب لدخول الجنة.
_________
(١) رواه البخاري برقم (٨٥٣) في أبواب صفة الصلاة، باب ما جاء في الثوم النيئ، ومسلم برقم (٥٤٦) في المساجد، باب نهى من أكل ثوما أو بصلا.
(٢) رواه مسلم برقم (٦٧١) في المساجد باب فضل الجلوس في الصلاة بعد الصبح، وفضل المساجد.
1 / 10
[المبحث الأول المشروع في المسجد]
[الصلاة فيه]
المبحث الأول
المشروع في المسجد ١ - الصلاة فيه: من أهم وظائف المسجد أداء الصلاة فيه بالنسبة للرجال جماعة الذي جعلها بعض أهل العلم فرض عين على كل مسلم- أعني صلاة الجماعة- ومكان تأدية صلاة الجماعة هو المسجد، بل قد جعل بعضهم تأديتها في المسجد شرطًا لا تصح الصلاة إلا به.
وهذه المسألة لا تحتاج إلى استفاضة في الأدلة، ويكفي أن نشير إلى أن الساعي إلى المسجد لأداء الصلاة ينال أجرًا عظيمًا، فكيف بالصلاة فيه، روى الشيخان أن رسول الله ﷺ قال: «من غدا أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح» (١) . وما رواه مسلم مرفوعًا: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد» (٢) .
_________
(١) رواه البخاري برقم (٦٦٢) في الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح. ومسلم برقم (٦٦٩) في المساجد، باب فضل المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات.
(٢) رواه مسلم برقم (٢٥١) في الصلاة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره.
1 / 11
وجاء في سنن أبي داود أن رسول الله ﷺ قال: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (١) .
وغني عن القول أن يؤكد على أن صلاة الجمعة لا تصح إلا في المسجد.
[الاعتكاف فيه]
٢ - الاعتكاف فيه: والمراد بالاعتكاف: المكث في المسجد لعبادة الله تعالى.
من نعم الله تعالى على بعض المؤمنين أن يوفقهم لعبادته وطاعته بمختلف أبواب الطاعة الكثيرة، ومنها: المكث في المسجد مدة معينة من الزمن تطول أو تقصر ليصلي ويدعو، ويقرأ القرآن، ويذكر الله تعالى ويتأمل حاله وحال المسلمين ويحاسب نفسه، ويخلو مع خالقه.
هذه العبادات يتفرغ لها العبد ليؤديها في المسجد- أي مسجد- وقد فعلها الرسول ﷺ في رمضان «فاعتكف معه بعض نسائه» كما جاء ذلك في الصحيحين. . وغيرهما.
ولا شك أن لهذه الخلوة الإيمانية أثرًا على الفرد المسلم
_________
(١) رواه أبو داود برقم (٥٦١) في الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلم.
1 / 12
في تعامله مع مولاه جل وعلا فيصحح مساره، ويعدل أخطاءه، ويصارح نفسه، ويبكى على خطيئته، ويصفي فؤاده، وينقي قلبه، وتغسل خطاياه، وتمحى ذنوبه، وترفع درجاته، ويظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة ﵁: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . . وذكر منهم: «رجل قلبه معلق في المساجد، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» (١) .
ولهذه الخلوة أثرها على المجتمع المسلم بأسره فإذا كان نخبة من هذا المجتمع تعاملوا مع ربهم هذا التعامل الفريد، فهذه علامة صحة لهذا المجتمع الذي يربي رجاله هذه التربية الإيمانية القوية.
[خطبة الجمعة]
٣ - خطبة الجمعة: من فضل الله تعالى أن شرع للمسلمين، وأوجب عليهم صلاة الجمعة التي تقام مرة في الأسبوع في يوم الجمعة، ومن أحكام هذه الصلاة إقامة خطبتي الجمعة التي ندب الإسلام
_________
(١) رواه البخاري برقم (٦٦٠) في أبواب صلاة الجماعة باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة. ومسلم برقم (١٠٣١) في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة.
1 / 13
إلى حضورها وشهودها، بل وشدد في وجوب الإنصات لها، قال ﷺ: «إذا قلت لصاحبك - يعني والإمام يخطب- أنصت فقد لغوت» (١) . وقال ﷺ: «من مس الحصا فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» (٢) .
هذا المنبر العظيم الذي ينطلق من يكلف فيه لإسماع المصلين المؤمنين الذين تطهرت أبدانهم وقلوبهم، وجاءوا خاشعين يستمعون الذكر، مع الملائكة الشهود، هذا المنبر يقام في المسجد مقترنًا بهذه العبادة العظيمة الجليلة، ولا يغني عنه أن يقام في أي بقعة كانت، بل ولا تصح كما ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى.
[تحية المسجد]
٤ - تحية المسجد: غني عن القول أن يقال: إن الصلاة النافلة يصح إقامتها في المسجد لكن الأفضل أن تؤدى في البيت فإن من هديه ﷺ تأديتها في منزله.
لكن مما خص به المسجد أن يكون له تحية عند دخوله، وذلك بأداء صلاة ركعتين، كما روى البخاري وغيره عن
_________
(١) رواه البخاري ٢ / ٤١٤ برقم (٣٩٤) في الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب.
(٢) رواه مسلم برقم (٨٥٨) في الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة.
1 / 14
أبي قتادة السلمي ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» (١) .
ولا شك أن تأدية هاتين الركعتين لهما أثر على نفسية الفرد الداخل إذ أنه يشعر أنه ولج مكانًا ذا خاصية مميزة فتتهيأ نفسه له فيتعامل معه التعامل المشروع.
[حِفْظ القرآن وتحفيظه]
٥ - حِفْظ القرآن وتحفيظه: من أهم المهمات، وأوضح المشروعات عمله في المساجد إقامة تعلم القرآن وتعليمه، وقراءته وإقراؤه، بشكل فردي يقرؤه الفرد، ويحفظه، أو يحفظه ويقرئه غيره، أو بشكل تدارس جماعي، جاء في السنن: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» (٢) .
ووجود هذا الفضل لهؤلاء الأفراد المجتمعين لقراءة
_________
(١) رواه. البخاري برقم (٤٤٤) في الصلاة، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، ومسلم برقم (٧١٤) في صلاة المسافرين. باب استحباب تحية المسجد.
(٢) رواه مسلم برقم (٢٦٩٩) في الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر.
1 / 15
القرآن وتدارسه بسبب وجودهم في هذا المسجد، ولا شك أن العلم المتفرع عن القرآن الكريم داخل في ذلك، وكان رسول الله ﷺ يجلس في المسجد ويستمع لقراءة أصحابه ﵃، وهكذا كان الصحابة من بعده يتدارسون القرآن والعلم في المسجد واستمر الأمر على هذه الحال على امتداد التاريخ الإسلامي، ويلحق بقراءة القرآن الكريم، اشتغال الفرد بذكر الله تعالى، حيث تكون القلوب خالية من مشاغلها، فتخبت إلى ربها، متعلقة بمولاها، قال ﷾: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ - رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧] (١) .
ويقول الرسول ﷺ في حديث بول الأعرابي- في إحدى رواياته-: «إنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن» (٢) .
ولا يخفى على المسلم فوائد الذكر وبخاصة إذا كان في
_________
(١) الآيتان رقم (٣٦، ٣٧) من سورة النور.
(٢) رواه مسلم برقم (٢٨٥) في الطهارة. باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد.
1 / 16
بيت من بيوت الله تعالى فهو يصفي القلب، ويطمئنه، ويسكن النفس، ويبعد الشياطين، ويجلو الهم والغم، ويمحو السيئات، ويُكَفِّر الذنوب، وهو أفضل الأعمال، وأقربها إلى الله تعالى، وأزكاها عنده، وهو خفيف على اللسان، ثقيل في الميزان، حبيب إلى الرحمن، مدخل للجنان، حاجب عن النيران.
ولكن يحذر الإنسان أن ينتقل من الصور الشرعية في الذكر إلى الصور البدعية التي دخلت على كثير من الأقطار الإسلامية، فأوقعهم الشيطان في حبائله البدعية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[تعلم العلم وتعليمه]
٦ - تعلم العلم وتعليمه: ومن مهمات المسجد أنه ميدان للعلم والتعليم، منه تخرج الأفذاذ والعلماء، ومنه انطلق المعلمون، وإليه يأوي المتعلمون، فهو مقر التربية والتوجيه والتعليم.
المسجد يقوم بهذه المهمة منذ عهده ﷺ، فقد كان يتخذه ﷺ مكانا للتعليم والتربية روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي واقد الليثي ﵁ قال: «بينما رسول الله ﷺ جالس في المسجد، والناس معه إذ أقبل
1 / 17
ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ، وذهب واحد فوقفا على رسول ﷺ، أما أحدهما فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: (ألا أحدثكم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله ﷿ فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (١) .
وما ورد في ذلك عن أبي سعيد الخدري ﵁ أنه قال: «تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: هو مسجدي هذا» (٢) .
وعنه أيضًا ﵁ قال: «جلس رسول الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله فقال: (إن مما أخاف عليكم بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)» (٣) .
_________
(١) رواه البخاري برقم (٦٦) في العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس. ومسلم برقم (٢١٧٦) في كتاب السلام باب من أتى مجلسا فوجد فرجة فجلس فيها وإلا وراءهم.
(٢) رواه الترمذي ٥ / ٢٦١ برقم (٣٠٩٩) في التفسير، باب رقم (١٠) سورة التوبة.
(٣) رواه البخاري برقم (١٤٦٥) في الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، ومسلم برقم (١٢٣) في الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا.
1 / 18
وكان يستقبل فيه الرسول ﷺ الوفود الذين يفدون إليه مسلمين ليتعلموا القرآن الكريم، والسنة النبوية، والأحكام الشرعية، روى البخاري وغيره عن مالك بن الحويرث ﵁ أنه قال: «أتينا رسول الله ﷺ، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة فكان رسول الله ﷺ رحيمًا رفيقًا، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم ومروهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم») (١) .
وهكذا فكان المسجد في عهد رسول الله ﷺ جامعة تخرج فيها العلماء الأوائل، وتربى فيها الرعيل الأول، وانطلق منها المعلمون إلى ديار الإسلام المختلفة، واستمر حال المسجد كذلك ميدانا للعلم والمعرفة والتربية، بل لم يكن يعرف مقر للتعليم يجمع الناس إلا المسجد، وكون التعليم في المسجد يعطيه خاصية فريدة على غيره إذ أن المكث فيه مع العلم والتعليم يضفي على المتعلم جوًا عباديًا يشعر معه بارتباطه بالله ﷾، إذ أن الدافع معه
_________
(١) رواه البخاري برقم (٦٢٨) في الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، ومسلم برقم (٦٧٤) في الصلاة، من حق بالإمامة.
1 / 19
إلى هذا التعليم إخلاصه لله ﷿، والانتفاع منه وفيه.
ومن هنا فيمكن التوصية لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد أن تهتم بهذه الوظيفة في المسجد وتنفذها بما يلي:
أ- إنشاء دروس مركزية في الجوامع الكبيرة في علوم الشريعة المختلفة، احتسابًا وبأجر، ويمكن استغلال (المتقاعدين) من أهل العلم في هذا الأمر الجليل.
ب- إنشاء دروس في بقية المساجد يقيمها أئمة المساجد في الآداب والأخلاق، والوعظ والإرشاد.
ج- الاهتمام بمكتبة المسجد، لتكون ناديًا مرتادًا لأبناء الحي الذين يقطنون فيه، وفي بداية الأمر تكون المكتبات في الجوامع الكبيرة.
[المسجد دار للقضاء والفتوى]
٧ - المسجد دار للقضاء والفتوى: ولا تقتصر مهمة المسجد في الأعمال العلمية فحسب بل اتخذه المسلمون دارًا للإفتاء والقضاء، فكانت الوفود الكبيرة المستفسرة عن شؤون دينها، والسائلة في أحكام شريعتها تفد إلى رسول الله ﷺ . روى البخاري وغيره عن أنس ﵁ وكان صغيرًا، قال: «بينما نحن
1 / 20
جلوس مع النبي ﷺ في المسجد دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي ﷺ متكئ بين ظهرانيهم، فقال: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له رجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي ﷺ: (قد أجبتك) وقال الرجل للنبي ﷺ: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: (سل عما بدا لك)، فقال: أسألك بربك، ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: (اللهم نعم) فقال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: (اللهم نعم) قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فنقسمها على فقرائنا؟ قال النبي ﷺ: (اللهم نعم)، فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر» (١) .
وفي الحكم والقضاء يعنون البخاري بابًا سماه: باب من قضى ولاعن في المسجد، ثم قال: ولاعن عمر عند منبر النبي ﷺ، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر
_________
(١) رواه البخاري برقم (٦٣) في العلم، باب ما جاء في العلم.
1 / 21
في المسجد، وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد (١) .
وأورد أيضًا بابًا سماه: باب من حكم في المسجد، وأورد فيه حديث أبي هريرة ﵁ في حكمه ﷺ على ماعز ﵁ وهو في المسجد ما ورد بسنده إلى أبي هريرة ﵁ قال: «أتى رجل رسول الله ﷺ وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربعًا قال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: (اذهبوا فارجموه)» (٢) .
ومثل الفتوى الصلح بين الناس، وحل مشكلاتهم، وفك نزاعاتهم، وتسوية خصوماتهم، روى البخاري ﵀ عن كعب بن مالك ﵁ «أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله ﷺ وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف حجرته فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول
_________
(١) ذكره البخاري ١٣ / ١٥٤.
(٢) رواه البخاري ١٣ / ١٥٦ برقم (٧١٦٨) في الأحكام باب من حكم في المسجد.
1 / 22