98

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

غياب ما يسمى بشعر العاطفة أو شعر الإلهام. المخيلة الطاغية الخلاقة التي يسيرها العقل. تدمير الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة. استغلال الطاقات الموسيقية في اللغة. الاعتماد على الإيحاء بدلا من الفهم (أي أن الشعر يريد أن يوحي أكثر مما يريد أن يفهم). إحساس الشاعر بأنه ينتمي إلى عصر حضاري متأخر. العلاقة المزدوجة بالحداثة. إعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي. الشعور بالتوحد وبأنه علامة من علامات التميز. تكافؤ التعبير الشعر والأدبي مع التأمل في هذا التعبير، وغلبة المقولات السلبية على هذا التأمل أو هذا الفن الشعري.

كل هذه الخصائص التي سنتناولها بالتفصيل فيما بعد تبين أن شعر مالارميه ينتمي للطابع العام الذي يميز الشعر الحديث. ومع أنها تزداد لديه عمقا وتعقيدا، إلا أن القارئ لا يملك إلا أن يقتنع باتساقها المنطقي، والواقع أن شعر مالارميه من أول نماذج الشعر الحديث. والمفارقة التي تحكم شعر رامبو تحكمه أيضا، ونقصد بهذه المفارقة أنه قد أثر تأثيرا هائلا على الرغم من غموضه وتعقيده وإغرابه الشديد. وهذه الحقيقة نفسها تعد مظهرا لحالة الشعر الحديث بأكمله؛ فالشاعر الوحيد المغلق الغامض يقلق الناس وينزع الطمأنينة من نفوسهم! ولكنهم مع ذلك - أو بسبب ذلك! - يتهافتون على سماعه ويحاولون في كل مرة أن يفسروه تفسيرا جديدا. إن شعره يجتذب إليه المريدين والمحبين، وغرابته تفتن العقول التي سئمت المألوف. لم يكن هذا الشعر ثمرة لهو أو ترف أدبي، ولم يأت عن نزعة استطيقية أو حب للفن من أجل الفن أو ما أشبه. وإنما جاء نتيجة طموح عظيم، بل أقصى طموح يمكن أن يتطلبه شاعر من نفسه. ولقد استمع الناس لمالارميه وقرءوه، وأينع شعره ثمرات ناضجة، يكفي أن نذكر منها أسماء شعراء أوروبيين لامعين مثل شتيفان جئورجه، بول فاليري، سوينبيرن، ت. س. إليوت، جيان، أنجارتي ...

ونود أن نشير إلى بعض خصائص شعر مالارميه قبل أن نحاول تفسير عدد من قصائده، وسنقصر الإشارة والتفسير على المرحلة الثانية في إنتاجه، وهي مرحلة النضوج التي تبدأ من سنة 1870م.

أهم ما يميز هذا الشعر أنه شعر هامس حيي، لا يفرض نفسه على قارئه، بل يبدو كأنما يرف في فراغ. إن للقصيدة الواحدة طبقات عديدة من المعاني والدلالات، تسمو بعضها فوق بعض، بحيث تنتهي آخر هذه الطبقات وأعلاها إلى معنى لا يكاد يفهم. ومالارميه يتمم الرأي الذي نعرفه منذ عهد بودلير من أن المخيلة الفنية لا تنسخ الواقع ولا تصوره تصويرا مثاليا بل تغيره أو بالأحرى تشوهه. وهو يتمم هذا الرأي حين يرسيه على أساس أنطولوجي (وجودي)، كما يبرر غموضه وصعوبة فهمه تبريرا وجوديا كذلك (وكلمة الوجودية هنا وفي السطور التالية لا صلة لها بالفلسفة المعروفة بل بعلم الوجود أو الأنطولوجيا).

ذلك لأن الوحدة التي أشرنا إليها بين الفن وتأمل الفن أو بين الشعر وفن الشعر يعلو بها فكره الذي يدور حول الوجود المطلق (ويتساوى لديه مع العدم) وعلاقته باللغة، ويعبر مالارميه عن فكره هذا تعبيرا نظريا يتسم بالحذر الشديد في مقالاته المتنوعة وفي بعض رسائله. غير أنه لا يتشكل بصورته الحقة إلا في إنتاجه الأدبي وبخاصة في شعره القليل. ولا ينبغي أن نفهم من هذا أنه شعر تعليمي يعرض قضايا نظرية. بل ينبغي أن نفهم منه أن الشعر هو المجال الوحيد الذي يمكن أن يلتقي فيه المطلق واللغة؛ بهذا يكون الشعر قد بلغ قمة لم يتح له أن يبلغها في العصور التي جاءت بعد الشعر القديم (ونعني به الشعر الإغريقي والروماني بوجه خاص) ومع ذلك فهي قمة وحيدة بائسة، تنقصها الآلهة، وتغيب عنها الحقيقة المتعالية أو «الترانسندنس» الحق.

لا شك أن هذا الكلام سيبدو للقارئ غامضا أو سابقا لأوانه. ولكننا سنعود إليه بشيء من التفصيل، بعد أن نعيش مع بعض نماذج هذا الشعر الذي نصفه الآن بالغموض والتجريد والتعقيد. ومع ذلك فربما يسأل القارئ هذا السؤال: ألا يزال هذا الذي وصفته يعد شعرا؟ ماذا بقي فيه إذن من الشعر؟ ولماذا لا يريحنا مالارميه فيسجل أفكاره الفلسفية والأنطولوجية في نثر واضح مفهوم يدل على معنى واحد ومحدد؟

والإجابة المباشرة على هذا السؤال أنه لم يكن من الممكن أن يعبر الشاعر عن أفكاره تعبيرا ثابتا محدد المعنى، لأن ذلك معناه ضياع «السر» الذي يطبع الشعر بطابعه. والحقيقة أن همه كله ينصب على الاقتراب من هذا السر. وشعره وفكره كله لا يسير من العالم التجريبي إلى الفكرة الأنطولوجية العامة، بل يسير في عكس هذا الاتجاه. إنه يستخدم أشياء بسيطة غاية في البساطة. كالزهرية والمنضدة والمروحة والمرآة. صحيح أنه ينزع عنها رداء «الشيئية» ويحيلها من الحضور إلى الغياب، ويحملها تيارا من التوتر والصراع غير المنظور. ولكنها على كل حال تظل حاضرة للتصور عن طريق الكلمة التي تسميها، وفي هذا الحضور «التصوري» تكتسب معناها غير العادي لأن تيار التوتر غير المنظور يتخللها ويجري فيها، بحيث تمتلئ هذه الأشياء العادية البسيطة بالسر حتى الأعماق. فكأن هذه الأشياء العادية البسيطة تقوم مقام كل ما نجده حولنا من أشياء. إن مالارميه لا يتناولها تناولا فكريا، بل يطبع الوجود المطلق أو العدم عليها، ويحيلها أمام أعيننا إلى أشياء غامضة زاخرة بالأسرار، وبذلك يحقق طابع السر الأصيل في أشياء عادية ومألوفة. هذا هو الذي يجعل شعره شعرا، أو تغنيا بالسر عن طريق الصور والكلمات التي تدركها النفس فترتجف وتهتز، وإن كانت تشدها إلى أفق بعيد وغريب. (1) ثلاث قصائد

ولنترك الآن هذه المقدمة النظرية لنقرأ ثلاث قصائد من أشهر أشعاره ونحاول تفسيرها، وهذه القصائد هي على الترتيب: قديسة، مروحة (زوجة الشاعر تمييزا لها عن قصيدة أخرى كتبها عن مروحة ابنته)، بروز من الاستدارة.

ومع إحساسي بأن تفسير شعر مالارميه لن يخلو من شيء من الادعاء أو المخاطرة أو التعسف فإن المحاولة تستحق مع ذلك أن تبذل. ولنبدأ بالقصيدة الأولى (ص53 من طبعة البلياد الكاملة) التي كتبها الشاعر في ديسمبر سنة 1865م ثم استقرت بصورتها النهائية في سنة 1884م. ولا بد من الاعتذار للقارئ عن إيراد النص الفرنسي والاكتفاء بالترجمة القاصرة. ولا بد أيضا أن ننصح القارئ المتمكن من الفرنسية بالرجوع إلى النص الأصلي وقراءته بصوت مسموع، لأن شعر مالارميه خلق للتأثير على الأذن واستثارة المعنى - إن كان هناك معنى يمكن فهمه على الإطلاق - من إيقاع النغم وجرس الحروف وتوافق الأصوات أو نشازها، هذا ويلاحظ أن كل ما يوضع بين قوسين فهو زيادة منا لتوضيح النص.

قديسة

Unknown page