97

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

في لغة بلغت من الكمال حد السحر والسر والغموض، وأنه استطاع أن يسيطر عليه بقدرته الفنية المبدعة. لقد عرف أنه أخفق في الوصول إلى «المجهول» فكان العماء هو البديل عنه، وكان أن حاول نقله إلى لغته التي تصور عالما ممزقا محطما فقيرا من حقيقة ذلك المجهول.

ولقد استطاع، كما استطاع بودلير من قبله، أن يحمل تبعة «الصراع الروحي الوحشي» الذي تحدث عنه بنفسه وكان قدر عصره كله. تحمله بشجاعة وأمانة وقدرة على التنبؤ بالمستقبل تشبه الإلهام؛ ولذلك لم يكن شذوذ شعره وغموضه واضطرابه سوى نوع من تقديم فروض الطاعة للمرحلة التاريخية التي عاشها وتعذب بها.

وعندما وصل إلى الحد الذي أدرك معه أن شعره الذي شوه العالم والأنا قد بدأ يشوه نفسه ويدمرها، وجد في نفسه الرجولة والشجاعة الكافيتين للإخلاد إلى الصمت المطبق. إن هذا الصمت جزء لا يتجزأ من وجوده الشعري نفسه. وكأن الحرية التي مارسها إلى أقصى حد ممكن في الأدب هي نفسها التي استطاعت أن تحرره من الأدب. وليت الذين فتنوا به وحاولوا أن يقلدوه تعلموا منه هذا الدرس؛ ليتهم عرفوا متى يصمتون في اللحظة المناسبة. وليت الذين يكثرون اليوم من الكلام دون أن يكون لديهم ما يقولونه يتعلمون أيضا هذا الدرس الخالد، وليت الثرثارين من أشباه الكتاب والشعراء في بلادنا يتعلمونه فيصمتون طويلا قبل أن تنتابهم شهوة الكتابة والكلام!

ولقد جاء بعد رامبو شعراء أثبتوا بأعمالهم أن رسالته في حاجة لمن يتمها، وأن جهد النفس الحديثة في التعبير عن التعبير عن ذاتها بالكلمة جهد متصل لا يمكن أن ينتهي.

الفصل الرابع

مالارميه (1842-1898م)

وجدت الجمال بعد أن وجدت العدم. ***

تمهيد

يبدو شعر مالارميه وكأن لا سبيل لمقارنته بشعر أحد من السابقين عليه أو المعاصرين له. لقد خطته يد إنسان عاش حياة برجوازية هادئة، ومنعته طبيعته الخيرة النبيلة من إظهار عذابه وتمزقه، بل أعانته على أن يتكلم عن نفسه في معظم الأحيان بأسلوب ساخر، على الرغم مما كان يعانيه من ألم وعذاب. وفي ظل هذه الحياة الطيبة الوادعة كان عقله يعمل في تأن وبطء شديدين، وينتج شعرا مجردا غاية التجريد، يختلف عما ألفناه من شعر رامبو بصخبه ونشوته وغرابته، واشتهر هذا الشعر بغموضه، وخاف الناس هذا الغموض وأحبوه في وقت واحد. ولا يكفي أن يكون الإنسان ملما باللغة الفرنسية حتى يقرأ مالارميه؛ إذ لا بد له من فك رموز لغته التي لا يكتبها شاعر غيره، وليس معنى هذا أنه ظاهرة فريدة في تاريخ الشعر الحديث، بل معناه أنه جزء من هذا الشعر ولبنة في بنائه العام الذي امتدت جذوره كما رأينا من قبل إلى الرومانتيكية واشتد عوده على يدي بودلير.

ونستطيع على ضوء العرض السابق للعناصر الجديدة في بناء الشعر الحديث أن نحدد العوامل المشتركة بينه وبين شعر مالارميه في النقط التالية:

Unknown page