Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
إذا أردنا أن نفهم رامبو فلا بد من الفصل بين الذات الشعرية والذات التجريبية لديه. إن «الأنا» التي تتحدث في شعره - شأنها في هذا شأن الأنا التي تتحدث في أزهار الشر - لا صلة لها بالأنا والشخصية أو النفسية، أعني أن شعره ليس تسجيلا لحياته التي عاشها، أو تجاربه النفسية التي كابدها. ولعل هذا هو أهم مظاهر الحداثة في شعره، بل لعله أن يكون بداية هذه الظاهرة العامة التي نلاحظها بوضوح في الجانب الأكبر من الشعر الحديث - وبخاصة في شعر أزرا باوند وسان-جون بيرس - ألا وهي ظاهرة الانفصال بين الذات الشعرية والذات الشخصية.
صحيح أن تجارب رامبو الغريبة في صباه وشبابه قد تفيد في شرح نصوصه من الناحية السيكولوجية، ولكنها لا تكاد تصلح في شيء لبيان ذاته الشعرية. فعملية طرح النزعة البشرية التي تكلمنا عنها من قبل قد زادت وضوحا في شعره، وأصبحت الأنا ذات الأصوات المتعددة المتنافرة ثمرة ذلك التحول الذاتي الذي أشرنا إليه فيما تقدم، وذلك الأسلوب التخيلي الذي تنبع منه مضامين شعره وصوره.
قد تضع هذه الأنا على وجهها مختلف الأقنعة، وقد تمتد فتسع مختلف الشعوب والأزمنة والبقاع. وقد نجد رامبو في بداية كتابه «فصل في الجحيم» يتحدث عن آبائه وأجداده الغاليين. ولكننا لا نلبث بعد قليل أن نتبين أنها مجرد كلمات؛ إذ نقرأ بعد سطور قليلة: «لقد عشت في كل مكان، ما من أسرة أوروبية لا أعرفها.» ثم بعد قليل: «إنني أتذكر تاريخ فرنسا، أكبر بنات الكنيسة. كان من الممكن أن أسافر إلى الأراضي المقدسة كواحد من رقيق الأرض، في رأسي شوارع السهول الشفابية، ومناظر من بيزنطة، وأسوار القدس ...» هذه عبارات تصدر عن خيال حركي، لا عن رغبة في كتابة حياة شخصية. إن هذه الأنا الشعرية أو الذات الفنية تتغذى على صور حمقاء، وأثارات تأتي من عالم الشرق أو من عالم البدائيين، وتتسع فتشمل الأفلاك ومختلف أشكال الوجود، وتتحول إلى ملاك أو شيطان أو ساحر.
ومما يؤكد انفصال الذات الشعرية عن الذات التجريبية أن رامبو نفسه يفسر قدرة العقلي والروحي على أساس العوامل غير الشخصية المتصلة بعصره وبالحداثة بوجه عام. إنه يقول في ختام النص السابق: «الصراع الروحي شبيه في ضراوته بمعركة تنشب بين الرجال.»
إن الشاعر يعلم أنه سقط في قرار عميق، أعمق من كل من سقط قبله أو يسقط بعده؛ وهو لذلك يستطيع أن يرى آفاقا أبعد، ويحمل الموت معه أينما ذهب. لكنه يعلم أيضا أنه لن يفهمه أحد، ولديه الكبرياء التي تجعله يقول إن «لهذا العذاب الغريب سلطة مقلقة.» ومع هذا كله فهو عدو لدود لما يسمى عند الرومانتيكيين «بالقلوب الحساسة»، وهو معتز بأن تفوقه يرجع إلى أنه ليس له قلب، حريص على التخلص من ضعفه البشري بحيث يستطيع أن يقول في إحدى قصائده: «هكذا تحرر نفسك من إعجاب الناس، من الطموح الدنيء ثم تحلق ...» (ص132).
تخلص الشعر إذن من النزعة البشرية. إنه لا يتحدث لأحد، بل يكاد يتحدث لنفسه. لا يحاول أن يجذب انتباه القارئ. لا يحاول أن يغري المستمع. يبدو كأنه يتكلم بصوت لا يخرج من فم إنسان، خصوصا كلما توارت الأنا المتخيلة وراء عبارة خالية من كل ذكر أو إشارة إلى الأنا. إن العواطف المتميزة تخلي مكانها لنوع من التعبير المحايد، نكاد نحس به عند رامبو أقوى من إحساسنا به عند إدجار ألان بو. ولنضرب مثلا لذلك بقصيدة نثرية بعنوان «قلق
Angoisse »:
أمن الممكن أن تلهمني الصفح عن رغباتي الممزقة على الدوام، وأن تعوض نهاية مريحة أوقات الحرمان، وأن يعينني يوم أيام النجاح على النوم فوق عار خيبتي المقدورة؟ (آه أيها النخيل! أيها الماس! - أيها الحب! أيتها القوة! - أسمى من كل الأفراح والأمجاد! - في كل الأشكال - في كل مكان، شيطان ، إله - شباب هذا الكائن. أنا!).
أمن الممكن أن تحب مزاعم الخرافات العلمية والحركات الداعية إلى الأخوة البشرية كما لو كانت محاولات تدريجية لإعادة الحرية الأولى؟
لكن مصاصة الدماء التي تجعلني رقيقا ومحبوبا تأمرني أن أستمتع بما تتركه لي، وإلا فلأكن أكثر حماقة وسخفا.
Unknown page