Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
إن الصور التي تقدمها المدينة الكبيرة صور متنافرة تنبعث منها أنغام ناشزة. ولكنها مع ذلك أو لهذا السبب عميقة شديدة العمق. إنها توحد بين أنوار الغاز وسماء الليل، بين شذا الأزهار ورائحة القار. وهي غنية بالفرح والألم، والمتعة والشكوى، يحس القارئ أن مضمونها متنافر مع أبياته ذات الأنغام المنسجمة الموقعة. إنه ينتزعها من التفاهة كما يستخلص الصيدلي عقاقيره من النباتات السامة، فتصبح بعد تحولها الشعري وسيلة لعلاج «رذيلة التفاهة». إن كل ما تشمئز منه النفس يأتلف مع نبل النغم ويكتسب تلك «الرعشة الجالفينية»
3
التي طالما امتدحها في كتابات إدجار بو، وها هي ذي الصور تتوالى: النوافذ المتربة التي لا تزال عليها آثار المطر، واجهات البيوت الهرمة الكالحة، خضرة السم المعدنية، الفجر الذي تراه العين كأنه بقعة قذرة، أو كأنه نوم المومسات الحيواني، ضجة السيارات العامة، وجوه بلا شفاه، عجائز، موسيقي الصفيح، عطور عفنة. تلك بعض صور الحداثة عند بودلير. وإنها لحية لا تزال في قصائد شاعر مثل إليوت. (4) استطيقا القبح
ربما يبدو هذا العنوان طريفا لما فيه من مفارقة، ولكنه يمثل في الواقع حقيقة أساسية من حقائق فن الشعر الحديث، أشار إليها فيكتور هيجو، ثم أكدها بودلير، وسارت فيها الأجيال اللاحقة إلى أقصى مداها.
كثيرا ما تكلم بودلير في دراساته النظرية عن الجمال، غير أن الجمال في شعره ظل قاصرا على البناء والشكل والتناول الموسيقي للغة. لم تعد الأشياء عنده تحتمل الفكرة القديمة عن الجمال؛ ولذلك فهو يلجأ إلى الإضافات التي تدل على الغرابة والمفارقة، ليخلع على الجمال طابعة العدواني المثير. إن الجمال ينبغي أن يكون «نقيا وغريبا» كما يقول في أحد تعريفاته له، ولا بد له أن يكون غريبا حتى يحمي نفسه من التفاهة والسوقية، ويستثير الذوق التافه السوقي في وقت واحد.
ومع ذلك فقد رحب بودلير بالقبح، واعتبره معادلا للسر الجديد الذي يريد أن يغزو أرضه، ونقطة الانطلاق التي يبدأ منها الصعود إلى المثالية. إن الشاعر، كما يقول: «يوقظ في القبح سحرا جديدا.» (ص1114). فالقبيح يولد المفاجأة، وهذه تولد «الهجوم غير المنتظر». بهذا يعلن الشذوذ عن نفسه كمبدأ أساسي من مبادئ الأدب والشعر الحديث، بل كأحد العوامل والأسباب التي أدت إليه. ولا بد من إثارة الأعصاب على كل ما هو تافه وتقليدي نلقاه في حياتنا كما نلقاه كذلك في الجمال بمفهومه القديم. إن الجمال «الجديد» يمكن أن يتساوى مع القبح، وهو يبلغ القلق الذي يتميز به عندما يتلقى ما هو تافه وسطحي فيحوله أو يشوهه ويجعل منه شيئا غريبا مثيرا. وعندما يجمع بين «المفزع والمضحك» على حد قول بودلير في إحدى رسائله!
لا شك أن القارئ قد لاحظ أن هذه كلها أفكار وردت في صورة أقل من ذلك حدة عند الناقد الرومانتيكي فريدريش شليجل (في فكرته عن التهريج الترنسندنتالي) وعند فيكتور هيجو في نظريته عن المسخرة (وقد فات الحديث عنها).
وقد أعجب بودلير - فوق إعجابه المستمر بشخصية «بو» وأعماله - بعنوان: «أقاصيصه عن المسخرة والأرابسك».
4
وقد عرف بالطبع أن المسخرة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالدعابة أو المرح، فهي في الحقيقة ميدان الصراع بين النزعة المثالية والنزعة الشيطانية (التي تطبع حياته وأدبه كما قدمنا). ولذلك نجده يثني على رسوم «دومييه » الكاريكاتيرية ويحيي فيها ما يسميه «بعبث المغفلين الدموي»، ليبرر سخطه على الفكاهة الخالصة أو الدعابة البسيطة، بل إنه يضع «ميتافيزيقا المضحك المطلق» ويوسع من مفهوم المسخرة ليجعل منها فكرة سيكون لها في التفكير والوجدان الحديث أثر بعيد، وهي فكرة المحال أو العبث
Unknown page