192

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

3

ومعنى هذا كله أن تجربتهم ظلت في مجموعها قريبة من تجربة الرواد، وأن الظواهر الفنية التي لاحظناها عند هؤلاء بقيت في خطوطها العامة شبيهة بمثيلاتها عندهم وإن اختلفت عنها في كثير من التفاصيل بحيث يمكننا أن نقول إنهم عاشوا وأنتجوا ورأوا العالم من خلال ما نستطيع وصفه بالنزعة المثالية الذاتية. ولا يعني هذا أنهم تأثروا بمدرسة فلسفية أو أنهم أهملوا الحياة وابتعدوا عن الأرض، بل يعني أنهم رأوا العالم الخارجي من خلال ذواتهم ومن خلال رؤية مثالية لما ينبغي أن تكون عليه وظيفة الشعر والشاعر.

وإذا كانت رؤيتهم تختلف عن رؤية الرواد الكبار من حيث الدرجة فإنها لا تختلف عنها من حيث النوع، بل تشاركها في نبلها وبعدها وترفعها وسمو معاييرها الفنية ومحافظتها على النزعة الصوفية واهتمامها بعنصر الموسيقى على نحو ما عبر عنه فيرلين في قصيدته المشهورة «فن الشعر» حيث قال: «الموسيقى أولا وقبل كل شيء.»

4 ... ولعل هذه الرؤية المثالية هي التي جعلتهم يغفلون كثيرا مما عني به الشعراء الذين جاءوا بعدهم وبدوءا من حيث انتهوا، فاهتموا بالأشياء العادية وبلغة الحديث الدارج بين الناس، ونظروا نظرة أخرى إلى الموسيقى والأداء ومعطيات العصر الحديث وهمومه وآلامه وكوارثه.

لعل أعظم ما حققه الشعر الحديث وما يزال يحققه في كبار أعلامه ورواده أنه وصل العالم المنظور بعالم آخر غير منظور، واحتفى بتجربة الخلق أيما احتفاء، وجعلها أقرب إلى التجربة الدينية والصوفية وأكد قدرة الروح المبدعة وانتصارها ورهبتها أمام أسرار الخلق، وقدم الدليل بعد الدليل على أن الفن - وبالأخص الشعر - هو طريق النجاة من قسوة الموت وظلم السلطة وتخبط السياسة وغرور العلم وتعنت الفلسفة وجشع البرجوازية وضياع أنقى وأبقى ما في الإنسان - وهو حياته الباطنة وقدرته على الخلق والتجدد والإبداع - تحت عجلات الآلية والنفعية والوضعية وزحام المدينة الكبيرة. ولقد أعاد هؤلاء الرواد وتلاميذهم المباشرون للشاعر وظيفته الأولى؛ وظيفة الساحر والمتنبئ والكاهن، وعلموه أن مهمته هي الشعر وحده ولا شيء سواه، ورسالته في البحث عن حقيقة واحدة والتغني بهذه الحقيقة، التي قد تتفاوت بين الواحد منهم والآخر بمهابة وإجلال، مستعينين برموز ملهمة موحية. إن الإنسان عندهم ليس هو الحيوان السياسي ولا القديس، ولا هو المتصوف أو الفيلسوف، بل هو الفنان القادر على أن يجعل من الحياة نفسها فنا تستحق من أجله أن تعاش، ويصل الكنوز الخافية في أعماقه الفردية بكنوز الإنسانية وأسرارها ورموزها القديمة، ويثبت جدارته بهذه الإنسانية من خلال جدارته بالخلق والإبداع.

قد يكون صحيحا أن الشعر الأوروبي أصيب بالتدهور في السنوات الأخيرة، وفقد كثيرا من صدقه وحيويته واندفاعه بعد أن خنق الموت أو العجز أصوات أعلامة الكبار.

5

لكن من الصحيح أيضا أنه وصل في بعض المناطق من العالم - مثل بلادنا العربية في السنوات القليلة الأخيرة - إلى درجة مذهلة من التجدد والاستجابة للمحنة التي ألمت بوطن الشاعر وهددت حضارته وتاريخه ووجوده، بل وطردته في بعض الأحيان من وطنه ودمرت بيته وغرزت سكينها في لحمه. والواقع أن الشعر الأوروبي قد بالغ منذ أواخر القرن الماضي في التأمل في نفسه، وقيدها بدقائق الصنعة و«بما ينبغي» أكثر مما ينبغي! ويستحيل بالطبع أن نقول إن الناس انصرفت أو يمكن أن تنصرف عن الشعر؛ فهي تنتظر دائما كما انتظرت في كل الأزمنة صوت الشاعر الذي يعبر (بالأغنية قبل كل شيء) عن آلامها وأفراحها وعن حظها ومصيرها في زمن الكوارث التي تصيبها أو تتوقعها. ولا شك أن شاعر المستقبل - وربما يكون الآن عاكفا على عمله! - سيستفيد من التجارب التي خاضها الشعراء العظام في كل العصور وفي العقود القليلة السابقة على زمننا مباشرة. ومع ذلك فإننا - نحن المتلقين - نتمنى أن يخلص نفسه من قيود الحركات والمذاهب، ويحرر دفعة الخلق الحية فيه، ويعمق حسه بصدق الحياة وعظمتها وحقيقتها، ويعبر عن آلام الإنسان المشتركة في عصره، كما يغني بجوهره الباقي وسعيه الخالد إلى فهم العالم الذي يعيش فيه وحبه وصونه من كل أسباب الشر والدمار التي تعذب بالفعل أعظم وأتعس سكانه ... الإنسان. •••

لم يستطع أحد حتى الآن - ولا أرسطو نفسه في كتابه المعروف! - أن يجد تعريفا كافيا للشعر، والغالب أن أحدا لن يجده. إن كل واحد منا يظن أنه يعرفه، ولكننا سرعان ما نتبين أننا لا نملك التعريف الجامع المانع، وأن التعريف الذي نملكه يذكر أشياء ويغفل أخرى، ويرضي بعض الناس ويسخط بعضهم، ويختلف في كل الأحوال عن آراء النقاد والكتاب الأقدمين. هذا كله أمر طبيعي، فنظرية الشعر وتطبيقه يختلفان من عصر لعصر. وفهمه وتذوقه يختلفان كذلك في العصر الواحد بل ويتفاوتان من قارئ لقارئ بالنسبة للقصيدة الواحدة.

ونحن حين نتكلم عن الشعر نقصد على الدوام ما هو أكثر من الشعر كما أن الشعر يعني على الدوام شيئا أكثر من نفسه. ما هو الشعر إذن؟ من الصعب أن نعرفه كما قلت. ولكننا نستطيع أن نقول إن الشعر في صميمه تأكيد لقيمة العالم وجدارة الحياة وتجربة الإنسان (وقد نشأت ثورات الشعر وأزماته على الدوام عندما أحس الشعراء بأن الحياة قد خلت من الشعر أو أن الشعر قد خلا من الحياة). إن الشعر في صميمه احتفال وثناء، عيد وغناء، بهجته ليست مجرد لذة، شكواه ليست مجرد بكاء، يأسه ليس مجرد قنوط واستسلام، ومهما يكن من أمر فهو في النهاية تأكيد لوجود عالم له معنى وهو يفعل ذلك حتى ولو أنكر فوضاه واحتج على خلوه من كل معنى. الشعر نظام، حتى ولو عبر عن الاضطراب والظلام، والشعر أمل حتى ولو صرخ من اليأس. إنه ينفذ إلى قلب الأشياء، ويغوص إلى صميم كيانها، ولذلك فكل شعر بهذا المعنى الشامل واقعي؛ أي محاولة للعودة بالأشياء إلى الواقع الأصيل، أو إن شئت إلى الحقيقة.

Unknown page