Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
إن أفضل الشعر لقريب منا أشد القرب، ولا يندر أن يكون الشيء العادي من أحب الموضوعات إليه. والشعر بالنسبة للشاعر مقيد بأدوات محدودة، وبهذا وحده يصبح شعرا.
ليس هناك حد لما يمكن أن يتعلمه الشعراء من الموسيقيين والرسامين.
3
إن على هؤلاء أن يكونوا أكثر شاعرية، كما أن علينا أن نكون أكثر موسيقية.
من هذه المقتطفات نتبين أن ما يقوله نوفاليس عن الشعر يكاد ينصب بأكمله على الشعر الغنائي الذي يعده الشعر الحق. فجوهر هذا الشعر عنده هو إفلاته من كل تحديد، وبعده الشاسع عن بقية الأنواع الأدبية الأخرى. صحيح إنه يصفه أحيانا بأنه «التعبير عن الوجدان»، ولكن هناك عبارات أخرى تفسر الذات الشاعرة بأنها محايدة أو بأنها مجموع العالم الباطن الذي لا يحدده إحساس بعينه. إن التعقل الرزين هو رائد الفعل الشعري. فالشاعر مخلوق «من الصلب الخالص»، قاس كالحجر الجامد. والشعر يؤدي إلى المزج بين العناصر المتنافرة سواء جاءت مادتها من العقل أو من الأشياء، إنه يحمي الإنسان من الحياة العادية، والخيال فيه يتمتع بحرية تكفل له «تخليط الصور جميعا بعضها ببعض». إنه اعتراض منغم على عالم من العادات والتقاليد لا يستطيع الشعراء الحياة فيه لأنهم «أناس سحرة متنبئون».
الشعر إذا أشبه بالسحر. وهي علاقة ترجع إلى تراث قديم لدى شعوب عديدة نظرت إلى الشاعر نظرتها إلى الساحر والعراف والنبي. ولكن نوفاليس يلقي على هذه العلاقة ضوءا جديدا؛ إذ يربط بينها وبين ما يسميه «البناء» و«الجبر»، أي ذلك الملمح العقلي الذي يؤكده الشعر الحديث. هذا الشعر الساحر، أو هذا السحر الشعري يتصف بالدقة والإحكام. إنه توحيد بين الخيال والفكر، «عملية» تختلف في تأثيرها عن المتعة الخالصة التي لم يعد لها مكان في الشعر.
ونوفاليس يأخذ من السحر فكرة «التعزيم» أو التعويذ التي نعرفها لديهم. لكل كلمة عنده رقية وتعويذة، وكل كلمة تسحر الشيء الذي تسميه أو تبطل سحره، ومن ثم كان حديثه عن سحر ملكة الخيال، وقوله إن «الساحر شاعر» كما أن الشاعر ساحر. ففي مقدوره أن يجعل المأخوذين أو المسحورين بكلامه يتصورون الشيء ويعتقدون فيه ويحسون به كما يريد لهم أن يفعلوا. وكل هذا يشهد على خيال متسلط (دكتاتوري) أو خيال طاغ مبدع، سيتكرر حديثنا عنه فيما بعد، هذا الخيال هو أعظم ما في الوجود، وأعظم ما في العقل، وهو مستقل عن المنبهات والمؤثرات الخارجية؛ ولذلك كانت لغته «لغة ذاتية» ليس من هدفها الإفادة أو التوصيل. إن الأمر مع لغة الشعر كالأمر مع «الصيغ الرياضية التي تؤلف عالما مستقلا بنفسه، وتؤدي الأدوار مع نفسها وحسب.» وهذه اللغة معتمة غامضة إذ قد يحدث للشاعر في بعض الأحيان ألا يفهم نفسه، ويرجع هذا إلى اهتمامه «بالأحوال النفسية الموسيقية، وتتابع سلسلة الأنغام والتوترات التي تتعلق بمعاني الكلمات.» صحيح أن الشاعر يسعى إلى أن يفهمه الناس بعض الفهم ولكنه الفهم الذي لا يقدر عليه إلا العارفون. وهؤلاء العارفون لا ينتظرون من الأدب تلك الصفات التي تطلق عادة على أنواعه المنحطة؛ أي الصواب، والوضوح، والصفاء، والكمال، والنظام.» ذلك لأن هناك صفات أسمى كالتجانس والانسجام وتوافق الأنغام.
ثم ينتقل نوفاليس نقلة حاسمة عندما يقرر ما يشبه أن يكون قانونا للشعر الحديث؛ وأعني به الفصل بين اللغة والمضمون لصالح الأولى: «قصائد منسجمة النغم، ولكنها كذلك خالية من أي معنى أو ترابط، لا يفهم منها إلا بعض المقطوعات المفردة، كأنها مجرد شذرات من أشياء مختلفة.» سحر اللغة إذن من حقه - لكي يضفي الروح السحرية على العالم - أن يحطم هذا العالم إلى نتف وشذرات. ومن ثم يصبح الغموض والتفكك وعدم التماسك شروطا ينبغي توافرها في الإيحاء الشعري. «إن الشاعر يحتاج اللغة، كما يحتاج الموسيقي إلى أصابع البيان.» وهو ينتزع منها قوى وطاقات لا تعرف عنها لغة الكلام العادي شيئا (سنلاحظ فيما بعد أن مالارميه يتحدث عن «بيانو الكلمات»).
ثم يقول نوفاليس في معرض هجومه على الأدب القديم الذي كان «يضع ذخيرته في نظام يسهل إدراكه»: «أكاد أقول إن الاضطراب والاختلاط
chaos
Unknown page