Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
بقدر ما هو صوت الأمواج والغابات!
بيت غريب تنتهى به هذه القصيدة؛ فلا يتوقع القارئ من الشاعر المتفلسف أن يقدم له نظرية في اللغة. إن الصوت الذي يتكلم من خلال كاهنة بيثيا ليس بصوت الأمواج والغابات، ولكنه يشبهها بعض الشبه. وهو ليس بصوت إنسان واحد، بل ينطق عن الجميع؛ ذلك لأن فعل الكلام وحده وإمكان فهمه دليل على إنكار الانفصال بين البشر. ولا مفر من تفسير هذه النهاية بأن الكلام أو الشعر فعل يقرب الفرد من الحياة ويكسر الحدود التي تعزل إنسانا عن إنسان. ولا مفر أيضا من القول بأن تلميذ «مالارميه» قد ابتعد قليلا عن الشعر الخالص أو «الشعر المطلق»، وإنه يرفض ما ذهب إليه المعلم من أن الشعر لا وجود له إلا في المطلق، ويؤكد أنه مهما اشتدت آلامه وعذاباته فلا بد أن يتصل في نهاية الأمر بالحياة العادية والوجود العادي، ولا بد أن يحترم الجسد ويلمس الإحساس
24 ... •••
لعل أحدا لم يفكر في العلاقة بين الأدب واللغة كما فعل فاليري. لقد تأثر في هذا بأفكار مالارميه أعظم التأثر وأخذ يطورها ويسير فيها إلى غايتها. فالخلق الأدبي في رأيه يعني التعمق إلى الطبقات السفلى للغة، عندما كانت قادرة على صياغة التعاويذ والرقى السحرية، وعندما تكون قادرة عليها في المستقبل، والخلق الأدبي معناه أن يعكف الأديب على تجربة التركيبات المشتركة بين المعاني المختلفة والتأثيرات الصوتية حتى يوفق إلى تأليفة واحدة لها ضرورة الصيغ الرياضية. وفاليري يعلم أن هذا يتم دائما على حساب المعنى؛ فليست هناك قصيدة واحدة ذات معنى واحد صادق، أي ليس هناك معنى واحد يمكن أن يستنفد كل طاقاتها وإشعاعاتها وظلالها، وشعر فاليري نفسه مصداق لهذا القول.
فلو نظرنا مثلا في قصيدته «خطى» (التي تجدها في نصوص هذه المجموعة) لبدت لأول وهلة كأنها مشهد حب رقيق ولكنها ستكشف لنا بعد القراءة الأولى عن معاني أخرى أهمها التعبير عن الحالة العقلية والوجدانية التي تصاحب عملية الخلق الأدبي، والإحساس بأن انتظار «ربة الشعر» يسعد القلب أكثر مما يسعده وصولها. والقصيدة تنطوي على المعنيين، ولا يصح أن نؤكد أحدهما ونسقط الآخر، وإلا فقدت ذلك الضوء الخافت الذي تسبح فيه.
يقوم تفكير فاليري في أساسه على «عدمية المعرفة»، ولا يتسع المجال للكلام عن هذا الرأي بالتفصيل؛ ولذلك سنكتفي بالإشارة البسيطة.
لما كانت المعرفة غير ممكنة، فإن اللغة الشعرية تكتسب مطلق الحرية في أن تسقط «مخلوقاتها» في العدم، ويسمي فاليري هذه المخلوقات «بالأساطير»، ويعرف الأسطورة بأنها الاسم الذي يطلق على كل ما لا وجود له ولا نلمسه إلا عن طريق الكلمة. أما الكلمة فهي «الوسيلة التي يلجأ العقل إليها لكي يتكاثر في العدم». وفي مواجهة الواقع الذي ليس له سوى وجود عرضي، يقوم الخلق الأدبي بعملية تحويل وتشكيل مستمرة ، إلى أن يصل إلى تلك اللاواقعية التي يصفها فاليري بأنها «حلم». ففي الخلق الأدبي يتعرف العقل على إمكانياته ويحققها بالسيطرة على الشكل المحكم الذي فرضه على نفسه. إن أفعاله وحدها لها صفة الضرورة ولذلك فهو دائما أسمى من الواقع العرضي.
هذه أفكار قريبة جدا من أفكار مالارميه، وهي تبين أن أعظم الشعراء الفرنسيين في القرن العشرين يبرر وجود الأدب من خلال الذاتية الخالصة (لا الشخصية) ويؤكد أن موطن هذه الذاتية هو اللغة والحلم، لا العالم أو الواقع. إنه يرى في تفاهة الواقع وعدمية الحقيقة المتعالية (الترانسندنس) شرط الكمال الوحيد الممكن، وهو الكمال الفني. إن القصيدة، كما يقول في كتابه «ألوان
25
شذرة كاملة التشكيل من بناء غير موجود». أما أن البناء غير موجود فلان مضمونها لا يوجد إلا في اللغة، وأما أنها شذرة فلأنها تظل دائما عاجزة عن بلوغ الهدف. ونلاحظ أن فاليري يعمد إلى فكرتين سالبتين لكي يؤكد شيئا إيجابيا واحدا هو فعل الخلق. يقول في عبارة أخرى من عباراته العميقة الدقيقة. «ليس هناك شيء أجمل مما لا وجود له». وهي شبيهة بالعبارة التي أوردناها من قبل لروسو ويقول فيها إن بلاد الوهم هي البلاد الوحيدة التي تستحق أن يسكنها الإنسان في هذا العالم، وإن الإنسان من التفاهة بحيث إن الشيء الوحيد الجميل هو الشيء الذي لا وجود له. ولا شك أن القارئ قد رأى بنفسه أن فكرة فاليري أقسى وأبعد عن العاطفة، وهي تدلنا بغير شك على وعورة الطريق الذي سار فيه التأمل في الأدب من أيام روسو إلى هذه الأيام.
Unknown page