فضحكت فينوموس ثم قالت: عفوا يا سيدتي لا تعصي شريعة الكنيسة، بل أعصي شريعة الله، فعصيانها خطية عرضية. - شريعة الله كشريعة الكنيسة. - شريعة الله المحبة، والمحبة هي عقد الزواج الشرعي، فحيث لا حب فلا زواج. - ولكن شريعة الكنيسة مستمدة من كلام الله القائل: «ما جمعه الله لا يفرقه إنسان.»
فقالت فينوموس متمادية في التفلسف: وأنت أيتها الإنسانة فرقت ما جمعه الله! أليس قلبك وقلب حبيبك مجتمعين بقوة المحبة التي هي الله؟ فكيف تفرقين بينهما بزواج جمالك وقلب رجل آخر غير حبيبك؟ ثم تصرين على هذا التمرد على شريعة المحبة خوفا من تحريم الكنيسة؟ - تعنين أنه كان يجب علي أن أطلق زوجي لكي أتزوج من بادلته قلبي بقلبه؟ هذا إثم عظيم. - أوليس إثما أعظم أن تنكثي عهدا مقدسا بحرصك على عهد مصطنع؟!
فتبرمت جوكوندا ثم قالت: ولكن قد يعقد الزواج شرعا وحبا، ثم يطرأ ما ينقض الحب أو يقتله ... فيبقى عقد الزواج الشرعي رابطا. - حينئذ يجب أن ينقض عقد الزواج الشرعي حالا؛ إذ لا فائدة منه بعد أن ينقض قيد الحب، ينقض لأن رابطه - أي الحب - انفصم وإلا صار تمردا على شريعة المحبة الإلهية، وإن لم ينحل عقد الزواج إنهار بناؤه؛ لأن أساسه قد انهار من تحته، وينهار معه صرح السعادة، إن زواجا خلوا من الحب لهو تجديف وكفر بالله. - يلوح لي أنك تبررين شريعة الطلاق! - لا! لا وجود البتة لشيء يدعى طلاقا في مقابل شيء يدعى زواجا أو ضده، لا يوجد في حكم الطبيعة إلا زواج ولا زواج، فالزوجان زوجان طالما هما يتبادلان الحب حتى إذا انتفى حبهما بطل أن يكونا زوجين. - غريب أمرك! هذا يعني أن لا زواج على الإطلاق، بل حيث يتحاب اثنان يقترنان بلا عقد زواج، فإذا تنافرا افترقا! - أجل! إن حبهما هو عقد الزواج الحقيقي بعينه، فإذا انتفى الحب انحل العقد من طبعه. - تعنين أني اليوم أكون قرينة فلان لأني أحبه وغدا أكون قرينة آخر لأني أصبحت أحبه دون ذاك، أهذا يدعى زواجا؟! - وهل يمكن أن يكون الزواج غير هذا؟! - إذن ما الفرق بيننا وبين الحيوانات؟! - بينكم وبين الحيوانات فروق كثيرة، وبينكم وبينها تشابهات كثيرة ومنها القران، لماذا يجب أن تفترقوا عن الحيوانات في سنة طبيعية هي أساس الحياة، وأعني بها سنة القران؟ لماذا تكون لكم شريعة للقران غير شريعة الحب، وهي شريعة الطبيعة في الأحياء، لماذا تميزون أنفسكم عن الحيوانات بنقض هذه الشريعة، في حين أن هناك فروقا عديدة بينكم وبين الحيوانات تميزكم عنها إذا شئتم هذا التمييز؟
وانحصرت جوكوندا في هذه الزاوية من الحوار، ولم تحر جوابا إلى أن قالت: يجب أن نمتاز عن الحيوانات بشريعة اجتماعية؛ لأننا اجتماعيون والحيوانات غير اجتماعية. - ألغرامكم بشيء يسمى الاجتماع الإنساني تقيدون أنفسكم بشريعة بشرية أحط من شريعة الحب الإلهية، لكي توهموا أنفسكم أن هذه الشريعة تميزكم عن الحيوانات؟! - لماذا تعتبرين شريعة الزواج أحط من شريعة الحب؟! - لأن الغرض من أي شريعة ضمان السعادة وتلافي التنازع بين الأفراد، وشريعة الزواج التي لا تجيز طلاقا بلا قيد حتى بالرغم من انتفاء الحب، تنافي ذلك الغرض؛ ما فائدة المجتمع من تعاسة زوجين غير متحابين، وأي ضرر للمجتمع يتلافى بإكراه زوجين متنافرين على البقاء تحت سقف واحد؟ وماذا يضر المجتمع أن تكوني اليوم قرينة فلان السعيدة معه، وغدا قرينة فلان الآخر السعيدة معه أيضا لأنك أصبحت تحبين هذا دون ذاك؟ أليس تقيد القران بالحب فقط أنفى للدعارة التي ملأت أرضكم، وأنجى من الخيانة الزوجية التي تعدونها في رأس قائمة الآثام؟ - ولكنك نسيت يا سيدة مشكلة الأولاد التي تنشأ من مسألة إباحة الطلاق متى انتفى الحب؟ - أولاد من؟ - أولاد الزوجين. - ليسوا أولاد الزوجين، هم أولاد الطبيعة أولا، ثم أولاد المجتمع ثانيا، وعلى المجتمع تربيتهم، وإلا فما هي وظيفة المجتمع إذا لم يكن أول واجباته العناية بالأولاد. - أليس في تولي المجتمع تربية الأولاد قتل لعواطف الأبوين الوالدية؟ - لماذا تقتل العواطف؟ بالعكس هي تقوى؛ إذ لا تبقى مهام عائلية تحول دون بثها.
وبقيت جوكوندا مبهوتة برهة بعد هذا الحديث إلى أن قالت: تالله أين أنا! أفي جهنم أم على الأرض؟! - أنت في جهنم يا سيدتي. - ولكني أسمع فلسفة أهل الأرض، فأنى لك هذه الفلسفة الاجتماعية يا سيدة؟
فابتسمت فينوموس وقالت: ألا تدرين يا سيدتي أن فلسفة الأرض مستمدة من حكمة جهنم؟ - عجبا! أفي جهنم حكمة تفتقر لها الأرض؟ - أنسيت التفاحة التي أكلتها جدتك حواء ثم قدمتها لجدك آدم؟ - أوه ... لا أنسى أنك أنت أرشدتها إليها. - ألم تفتح تلك التفاحة أعين جديكما لمعرفة الحكمة: الخير والشر؟ - حقيقي أن تلك التفاحة جلبت المعرفة للبشر، ولكنها جلبت معها الآثام والعقوبات؛ لأنه لو بقي الإنسان جاهلا غبيا لما كان يحاسب. - ولبقي حيوانا غير جدير بملكوته الأرضي ولا بطموحه إلى الملكوت السماوي.
ففكرت جوكوندا هنيهة ثم قالت: بالله هل عندكم هنا حب؟ وهل تحبون؟ - بالطبع نحب! - بالطبع! لماذا بالطبع؟
لأن الحب سنة كل شكل من أشكال الوجود، فالأجرام السماوية تحوم بعضها حول بعض بقوة عاطفة المحب التي سموها الجاذبية، والعناصر تنتظم في مركبات مختلفة بقوة الألفة التي سموها الألفة الكيميائية، والعناصر الأرضية تتألف في أجسام نباتات وحيوانات بقوة التعاشق. وفي جهنم كما على الأرض نظام كوني مبني على تلك القواعد، فبالطبع نحب. - إذا كنتم تحبون لا تكونون محرومين من السعادة. - كلا، نحن نتمتع بسعادة الحب. - إذن ما الفرق بيننا وبينكم؟ - الفرق أننا نحن أسعد منكم جدا. - عجبا! إذن كيف يكون عذاب جهنم. - أخف جدا من عذاب الأرض.
فتحيرت جوكوندا، ثم قالت: أخاف أنك تغررين بي لكي تحببي جهنم إلي. - كلا البتة، لست مغررة بك؛ لأنك قديسة وقد نجوت من عذاب جهنم وعذاب الأرض جميعا، فأغبطك لأنك ستصعدين إلى السماء. - بالله تخبرينني كيف يكون عذاب أهل الأرض أشد من عذاب أهل جهنم؟ - إن مطمح أهل الأرض أشد جدا من مطمح أهل جهنم وأعز منالا. - ما هو مطمحكم وما هو مطمحنا؟ - أنتم تطمحون إلى الملكوت السماوي ونحن نطمح إلى الملكوت الأرضي. - ولماذا طموحنا إلى السماء أشق من طموحكم إلى الأرض؟ - أنتم تطمحون إلى السماء ولا تريدون أن تتخلوا عن الأرض، وتودون أن تأخذوا الأرض معكم إلى السماء، حتى إذا عز عليكم أخذها معكم ووددتم أن تستنزلوا السماء إليها، تحاولون أن تملكوا الملكوتين معا، تتشبث يسراكم بالسماء وتبقى يمناكم قابضة على حطام الأرض. - أراك يا هذه تزعمين مزاعم باطلة لا حجة لك فيها، ليست حياتنا في الملكوت الأرضي الزمني إلا استعدادا لبلوغ الملكوت السماوي الخالد. - أي نعم، تبتغون أن يبتدئ الخلود على الأرض، فبنيتم الأهرام، وحنطتم الأجسام، ونصبتم الأنصاب، وأعليتم الأبراج، محاولين أن تصلوا الدنيا بالآخرة، أن تصلوا إلى هذه من غير أن تجتازوا عتبة الموت. - هذا بهتان، ولا مؤاخذة، بين الدنيا والآخرة حجاب لا ينفذ إلا من باب واحد، الموت هو الباب الذي تنتهي عنده الحياة الدنيا وتبتدئ بعده الحياة الأخرى الأبدية، فلا بد من اجتياز هذا الباب. - لقد نسفت قدرتكم الحجاب والباب معا، وأصبح الاتصال بين الدارين حرا طليقا. - هذا إفك وليس للإنسان قدرة على زعزعة حجر واحد من ذلك الحجاب.
فقالت فينوموس ضاحكة: لا تستطيعين يا ذات الجلالة أن تصمي أذنيك عن المفرقعات التي تحطم الصخور وتفتح الأنفاق في الجبال، أفلا تستطيع أن تدرك ذلك الحجاب؟
Unknown page