Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
2
إن ذبول الحضارات وموتها قلما تجيء عوامله من خارج حدودها، وإنما تجيء تلك العوامل دائما من صلب كيانها؛ بل لعل هذه الحقيقة العجيبة أن تكون سمة لكل حياة - حياة الفرد أو حياة المجموع على حد سواء - فكأنما كل حالات الذبول والموت هي حالات انتحار، نبعت عواملها من الداخل. ولو فرضنا وجود أمة سليمة من داخلها، فيكاد يستحيل على مثل هذه الأمة أن تزول ، حتى لو غزاها الغزاة؛ فهي سرعان بعدئذ ما تقوم قائمتها عندما تزول عنها غمة الغزو - ولا بد لها أن تزول - وربما تعرض أولئك الغزاة أنفسهم، بعد حين يقصر أو يطول، للضعف والفناء، إذا ما كانت طويتهم الاجتماعية مصابة بمرض.
ومن ذا الذي لا يقفز إلى ذهنه في هذا السياق مثل أثينا وإسبرطة من تاريخ اليونان الأقدمين؟! فقد كانت أثينا معافاة من الوجهة الحضارية، وأما جارتها إسبرطة فقد لعبت برأسها الروح العسكرية، فما كادت المدنيتان تتلاقيان على ساحة الحرب (وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد) حتى حققت إسبرطة العسكرية نصرا على أثينا المترعة بحب الحكمة والتزام الحياة المعتدلة المتزنة المعلية من شأن الحق والخير والجمال: ولكن كم بقيت أثينا في جسم الحضارة الإنسانية على مدار التاريخ وكم بقيت إسبرطة؟ إن ما كان بين أثينا وإسبرطة من اختلاف النظر والتكوين؛ قريب جدا مما هو اليوم بين العرب وإسرائيل، وسأنقل إلى القارئ صورة لمدينة إسبرطة كما صورها المؤرخون، ثم أترك له أن يرى لنفسه كيف أنه يقرأ عن إسبرطة القديمة، فيحسب أنه إنما يقرأ وصفا لإسرائيل الحديثة، فإذا وجدنا شبه التطابق بين الجماعتين؛ جاز لنا أن نحكم على مصير الثانية بما حكم به التاريخ على مصير الأولى.
كان الجيش عماد السلطة في إسبرطة، ومناط فخرها؛ لأنها وجدت في شجاعته ونظامه ومهارته أمنها ومثلها الأعلى وكان كل إسبرطي يدرب تدريبا عسكريا، ويؤمر بأن يكون على أهبة استعداد لدعوة الحرب، وبفضل التدريب العسكري العنيف أمكنهم تكوين فرقة حربية من المشاة المتراصة الثقيلة قاذفات الحراب، غايتها أن تقذف الرعب في قلوب الأثينيين بصفة خاصة، وكان الجيش في إسبرطة هو المحور الذي صيغت حوله قوانين الأخلاق؛ فالفضيلة عند الإسبرطي هي أن يكون قاسيا عنيفا، والسعادة مكانها ميدان القتال.
كانت هذه السياسة الإسبرطية في تدريب المواطنين جميعا تدريبا عسكريا، وإعدادهم جميعا للحرب، قد حتمت على القائمين بالأمر فيها أن ينزعوا الأطفال من أمهاتهم وهم بعد في أيام الرضاعة؛ لتتولى الحكومة تنشئتهم على الخشونة والصرامة ونضوب كل عاطفة من القلوب! ولم يكن أصحاب السلطان ليترددوا لحظة في سحق الطفل الضعيف بأن يلقوا به من قمة عالية ليهوي مهشما على سنان الصخور! ويروي فلوطرخس (بلوتارك) عن الرائد الإسبرطي ليكرجوس أنه كان يسخر من احتكار الأزواج لزوجاتهم: ويقول إن من أسخف السخافات أن يعنى الناس بكلابهم وجيادهم، فيبذلوا كل ما في مستطاعهم ليحصلوا على أقوى السلالات وأجودها، ثم تراهم مع ذلك في حياتهم البشرية يعزلون زوجاتهم في حصانة ليختصوا بهن في نسل الأبناء، وقد يكونون ضعاف العقول ومرضى الأبدان.
كانوا يجمعون الناشئة في مراكز التعليم والتدريب، ويعرضونهم لأشق الأعمال وأغلظ ضروب العيش، لا حبا في رياضة الأجسام - فقد كانت أثينا مولعة برياضة الأجسام - بل كان ذلك سبيلا إلى كسب المهارة في القتال ... ويستطيع القارئ أن يتعقب صورة الحياة الإسبرطية بتفصيلاتها في أي كتاب يروي عن حياة اليونان (ونذكر له في هذا الصدد كتاب «قصة الحضارة» تأليف ول ديورانت، على سبيل المثال).
وبينما كان الإسبرطي مشغولا بالحرب والإعداد لها؛ كان على مقربة منه يوناني آخر، هو ابن أثينا، يحيا حياة أخرى، مدارها القيم العليا التي تنشد حياة السلم قبل أن تفكر في الحرب، وهي إن حاربت؛ فمن أجل سلام يجيء بعد حرب. وشاء الله للمدينة المتحضرة بقيمها أن يكون لها النصر آخر الأمر.
3
ومن إسبرطة التي ضربنا بها مثلا لقوة عسكرية بلغت مداها، فلم تلد آخر الأمر لأصحابها إلا زوالا في عالم النسيان، ننتقل إلى مثل آخر نضربه للغاية نفسها، هو جنكيز خان، وأستأذن القارئ في أن أنقل أسطرا كنت كتبتها عنه منذ سنين، قلت فيها:
الرجال الأعلام، والأحداث الجسام، هي المعالم المضيئة التي يستهديها الرائي، إذا ما كر ببصره راجعا؛ ليرى كيف سارت الإنسانية في طريقها، منذ فجرها حتى بلغت هذا الذي بلغته في يومنا الراهن. وعبرة التاريخ تأتينا من المصلحين ومن المفسدين على حد سواء؛ فمن الأولين نأخذ الدرس كيف نبني، ومن الآخرين نتعلم أي صنف من الرجال نتجنب. ولقد كان جنكيز خان من هؤلاء الرجال الذين يهبطون على عباد الله الآمنين، يهبطون وكأنهم الإعصار المجنون الذي يقتلع النبت من جذوره، ويهدم البناء من أساسه، ثم يمضي والأرض من خلفه بلقع يباب! وما ظنك بهذا الرجل وقد ظهر من لا شيء، ليعدو بجياده وجياد أتباعه الذين أخذوا يتزايدون في سرعة مذهلة، أقول إنه ظهر من لا شيء ليعدو بجياده فوق السهول هنا ، وعلى متون الجبال هناك، كأنه الشيطان المريد؛ فما هو إلا أن بسط سلطانه من حدود الصين القصوى على شاطئ المحيط الهادي شرقا، إلى قلب أوروبا وإلى عواصم المسلمين غربا. حتى إذا ما استقر له هذا السلطان العريض في سنوات قلائل، سأل ضابطا من أتباعه ذات يوم: ماذا يعود على الإنسان بالسعادة القصوى؟ فأجابه الضابط: جواد سريع يجوب به السهول الخضراء، وعلى رسغه باز يطير ليعود بطراد الصيد، فقال الطاغية ليصحح تابعه: كلا، بل السعادة أقصى السعادة هي أن تسحق العدو سحقا، حتى يجثو خاشعا عند قدميك، ثم تسلبه كل ما يملك، ومن حوله نساؤه يعولن باكيات!
Unknown page