Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
لقد بقيت في فلسطين المحتلة جماعة من أهلها لم ينزحوا عنها، فكيف تظنهم يعاملون هناك على أيدي اليهود، سادة آخر الزمن؟ إنهم أولا ينحصرون في مناطق لا يتعدونها، وهم وحدهم هناك خاضعون للأحكام العسكرية؛ يتولى الأحكام في مناطقهم ضباط عسكريون، لا قضاة مدنيون، ومن أيسر الأمور أن يحكم على من يريدون الحكم عليه بالنفي عن البلاد، والبقية العربية هناك هي وحدها - دون سائر سكان البلاد - لا ينتقل أفرادها من مكان إلى مكان إلا بتصريح، وهي وحدها التي لا يسمح لها بحرية الكلمة، ولا بحرية الاجتماع، ولا بإصدار الصحف، ولا بتكوين الأحزاب السياسية، وهي وحدها التي يقف التعليم لأبنائها عند حد محدود لا يعدوه، وهي وحدها التي تقام أمامها العراقيل في ميادين العمل، حتى ينال منهم التعطل قبل أن ينال من سواهم! والخلاصة أن تلك البقية العربية هناك لا تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة.
وإلى هذا الحد، ومن أجل هذه الأهداف، يستغل اليهود مبدأهم المصطنع بأنهم مجموعة من البشر اضطرها الناس إلى التقوقع، فكان أن أصبحت في عزلة عن الناس، هي عزلة اختاروها اختيارا ليتخذوا منها منطلقا ينقضون منه في ستر الخفاء على فرائسهم، ما لم تكن تلك الفرائس منهم على يقظة وتنبه.
التقوقع اليهودي - إذن - هو أحد الأسلحة التي تستخدمها الصهيونية تحقيقا لأغراضها، وأما المبدأ الثاني فهو اصطناع وسيلة الإرهاب والعنف عندما تتاح لهم أول فرصة لاصطناعها؛ وهم إذ يستخدمون العنف لا يستخدمونه استخدام الباسل الجريء، بل يستخدمونه كما يستخدمه الذليل الجبان؛ فهم بعد أن استغلوا موقف العرب الأعزل من السلاح، وانقضوا عليهم بجماعاتهم الإرهابية المسلحة أيام الانتداب البريطاني، بل تحت رعاية ذلك الانتداب، لم يترددوا حين سنحت لهم الفرصة في أواخر أيام الانتداب أن يستديروا بإرهابهم نحو من كانوا بالأمس حماتهم من الإنجليز أنفسهم؛ ولما قامت دولتهم ونشب القتال بينهم وبين الدول العربية، وتدخلت منظمة الأمم المتحدة، لجئوا إلى رصاصهم الغادر يسكتون به كل من تحدثه نفسه الشريفة من رجال الأمم المتحدة أن يميل نحو الإنصاف والصدق. ولما عقدت الهدنة بينهم وبين جيرانهم العرب، أغوتهم نذالتهم حينا بعد حين بهجمات في الظلام، يعقبها هروب واختفاء. ثم توجت خستها في تواطئها مع شريكتيها على العدوان على مصر، فيما يسمى بحرب السويس سنة 1956م.
ويبقى من مبادئهم الثلاثة مبدأ التوسع على حساب الآخرين، بتخطيط مدبر في الخفاء؛ فكما أخذوا يدبرون سطوهم على فلسطين العربية خطوة فخطوة، حتى أصبح الوهم حقيقة في أعينهم، مضوا في تدبيرهم للتوسع في أرض جيرانهم؛ ومبدؤهم هنا هو كمبدئهم في أي ميدان آخر؛ أي إنهم يخططون في ظلمة الليل، وينكرون ويكذبون إذا ما كان ضوء الصباح، ويظلون كذلك إلى أن يظنوا أن الغدر قد تكاملت لهم أسبابه، فعندئذ يفاجئون ويباغتون! أما إلى أي حد يريدون أن يتسع ملكهم على الأرض؛ فجواب ذلك بحسب الظروف، حتى لقد يلجئون إلى التوراة يستخرجون منها أحيانا ما ينبغي لهم أن يمدوا ملكهم إليه، لكن عبارة «من النيل إلى الفرات» كثيرا ما ترد في غضون أحلامهم.
وما دروا أن لحظة واحدة من لحظات العزيمة العربية، قد تقوض بنيانهم فوق رءوسهم، إن لم يكن اليوم، ففي الغد القريب.
العنصرية والعسكرية معا
1
كثيرا ما يضيق بالإنسان خياله، حتى لينحبس في حدود الواقع لا يجاوزها، فيتعذر عليه عندئذ أن يتصور إمكان الخروج من هذا الواقع نفسه إلى واقع آخر يملأ مكانه؛ كالذي يشخص ببصره إلى جبل راسخ، فلا يتسع خياله إلى جواز أن تتحول صخور الجبل إلى عمائر ومعابد تقام لتعمر بها المدن، أو كالذي ينظر إلى البحر فلا يسعفه الخيال لينفذ خلال اللحظة الحاضرة إلى ما سوف يتولد عنها، حين يتبخر شيء من ماء هذا البحر ليسقط مطرا على يابسة، فتسيل الأنهار، وتلد تربة الأرض نباتا مختلف الطعوم والألوان؛ فأشد المفكرين إخلاصا للواقع واحترام حدوده، لا ينفي أن يتحول الأمر من واقع إلى واقع جديد؛ بل إنه بغير هذا التحول الذي ما انفك ساريا في صلب الطبيعة منذ الأزل، وسيظل ساريا في صلبها إلى الأبد، ما كان ليصبح للدنيا تاريخ يقص قصة كائناتها، بل ما كان ليكون لها وجود بالمعنى الذي يفهمه الإنسان ولا يفهم سواه.
لقد شهد التاريخ الإنساني - في رأي توينبي - نحو عشرين حضارة، منها ست عشرة ذهبت مع الريح كأن لم تغن بالأمس، وبقيت هذه البقية القليلة من حضارات تحاول أن تثبت أقدامها في الأرض لئلا تزول، وبينها حضارة واحدة واثقة بنفسها شامخة برأسها راسخة بجذورها، هي الحضارة الغربية، وهي كلما سمقت بقامتها؛ ازدادت منافساتها انزواء في عتمة الخفاء! على أن هذه الحضارة الغربية نفسها، قد أخذت اليوم تغوص بأقدامها في وحل الطريق، بما يعترضها وما يكتنفها من مشكلات انبثقت لها من طبيعة تكوينها، لكنها ما زالت في حيويتها، ولها من القدرة - بعلومها وفنونها - ما يمكنها من تناول هذه المشكلات الطارئة عليها، بمعالجات تزيلها أو تخفف من حدتها، وهكذا دواليك، تتعاقب عليها الحالتان، كما تتعاقبان على كل كائن حي: أزمات فانفراجات لها.
وإن صنوف المشكلات والأزمات التي تعترض الحضارات في طريق صعودها؛ لهي من الكثرة بحيث يستحيل حصرها، وكل ما يسعنا فعله هو أن نستقطبها في أقل عدد ممكن من الرءوس؛ لتسهل الرؤية ويتحدد النظر؛ فإذا أخذنا بما انتهى إليه توينبي في هذا الصدد؛ قلنا إن جميع الحضارات التي سلفت وزالت، إنما تحطمت على إحدى صخرتين، أو على الصخرتين معا، وهما: الروح العسكرية التي تميل بأصحابها إلى شن حروب لا تنقطع، حتى ينهد كيانهم من الداخل، ثم الروح العنصرية التي قد يشتط بها أصحابها إلى إيجاد ضروب من التفرقة بينهم وبين سواهم من البشر، بحيث يجعلون لأنفسهم المكانة العليا في تلك التفرقات، ولغيرهم المكانة الدنيا؛ فإذا ما طبقنا هذه القاعدة الحضارية على الوجود الإسرائيلي، أيقنا بمصيرها المحتوم؛ لأنها جمعت القبيحين اللذين يعملان على هدم الحضارات ومحوها، إذ جمعت في كيانها: العسكرية والعنصرية معا.
Unknown page