Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
الصهيونية حركة استعمارية، فيها مقومات الحركات الاستعمارية التي أنبتتها، ثم زادت عليها أنها تخفت في جبن، وخبثت في نذالة، فهي الأفعى تسللت مقنعة بعنصر ودين، ولو كان العنصر والدين قوام الصهيونية - مجردا من الاستعمارية - لاتخذت الصورة نفسها التي تتخذها مشكلات العنصرية والأقليات الدينية، وهي على وجه الأرض كثيرة.
ثم لم تترك الصهيونية صلتها بالاستعمار على هذه الصورة المجردة، فربطتها بمستعمر معين في ظروف معينة، هو المستعمر الذي ربط أواصر استعماره بأرض فلسطين، وأعني بريطانيا.
وكانت بريطانيا أول الأمر واحدة من آحاد، كانت ذئبا من قطيع الذئاب الأوروبية الهاجمة على فرائسها في أفريقيا وآسيا، لكنها كانت تختلف عن بقية الذئاب بأنها ابتلعت قارة الهند بأسرها بين ما ابتلعته، فإذا كان الآخرون يبحثون عن فتات هنا وهناك، فهي أيضا تبحث معهم، لكن عينيها وقلبها وفؤادها موصولة بالغنيمة الضخمة؛ كيف تصونها وتحميها! ومن هنا كانت أهمية كل طريق مؤدية إليها، ومن أهمها قناة السويس. وكمن يمتلك في يده جوهرة نفيسة، يخشى عليها السطو، فيحيطها بغلاف من ورائه غلاف، ومن وراء الغلاف غلاف، ثم يضع هذا كله في صندوق يحويه صندوق؛ فكذلك أرادت بريطانيا أن تصون الهند بصيانة قناة السويس، وأن تصون القناة بصيانة ما يحيط بها، ثم ما يحيط بالمحيط! ومن هذه الأغطية المحيطة أرض فلسطين العربية، لكنها أرض - كغيرها من الأراضي العربية - تحت حكم الأتراك؛ فماذا تصنع يا ترى؟ أتتركها مع الأتراك لتكون لها ذريعة تتذرع بها كلما طمع طامع أوروبي كفرنسا أو غيرها؟ أم تنتزعها من الأتراك لتطمئن على حوزتها لها؟ لقد أرادت لنفسها البديل الأول في بادئ الأمر، حتى نشبت الحرب العالمية الأولى، وانضمت تركيا إلى أعداء بريطانيا، فلم يكن لها مناص عندئذ من أن تختار البديل الثاني؛ لكنها لكي تختار هذا البديل الثاني كان يجب أولا أن تتحرر الأرض العربية من تبعيتها للسلطان التركي؛ ومن ثم كان تحريكها للثورة العربية على الأتراك؛ لتتمهد لها الخطوة الأولى على أيدي العرب أنفسهم؛ فلما تم لها ما أرادت، همت بالخطوة الثانية، وهي أن تكون لها هي السلطة، لا في مصر وحدها - أرض القناة - بل في هوامشها كذلك، ومنها فلسطين.
وها هنا لمحت الأفعى فريستها على مبعدة، فزحفت زحفا كان أوله وئيدا، وكان آخره افتراسا؛ فلماذا لا تتعاقد الصهيونية مع بريطانيا، كما يتحالف شيطان مع زميله الشيطان على شر يدبرانه؟ فتعمل الصهيونية بأموالها ونفوذها على ترشيح بريطانيا في مؤتمر الصلح أن تعين دولة منتدبة لحماية هذه القطعة من الأرض حتى يحين الظرف المناسب لاستقلالها، خشية أن تسارع إليها فرنسا أو غيرها، وماذا في مقابل ذلك؛ في مقابله أن يعد بلفور سنة 1917م، وعده المشئوم، بأن تكون فلسطين وطنا لليهود (ولم تكن نية «الدولة» قد كشف عنها الغطاء بعد)؛ وهكذا حبكت خيوط المؤامرة بين مستعمرين؛ فنفذ المستعمر البريطاني ما اتفق عليه، وأصدر إعلانه ذاك، وبعدئذ تقدم المستعمر الصهيوني فدفع الثمن، وهو أن يسعى في مؤتمر الصلح لتنصيب بريطانيا دولة منتدبة على فلسطين.
ولم تكد بريطانيا تتسلم زمام الأمور هناك، حتى أطلقت يدها في إفساح الطريق أمام شريك السوء؛ فكان أول مندوب سام لها في فلسطين صهيونيا، ليطهو الوليمة على مزاجه، وفتحت الأبواب واسعة أمام المهاجرين اليهود، وأعطيت الأرض التابعة للحكومة لبعض هؤلاء الوافدين يستعمرونها، وأذنت لليهود أن يقيموا لأنفسهم مدارسهم الخاصة، ومنظماتهم العسكرية الخاصة، وأغمضت العين عن عصابات الإرهاب. وماذا عن العرب في ذلك الحين؟ لم ينقطعوا عن احتجاجهم، يطلبون من الدولة المنتدبة أن تطمئنهم على مصيرهم، فترد الدولة المنتدبة بحرمان يقع على العرب بعد حرمان! ومضت السنون، فإذا بالجماعة اليهودية تزداد أضعافا مضاعفة؛ في العدد، وفي المناصب الرئيسية، وفي النفوذ، بمقدار ما يتضاءل العرب.
وقامت الحرب العالمية الثانية وانتهت، وكان المارد قد نما حتى لم يعد حضن الحاضنة يكفيه، فأعلنت الحاضنة فطام ربيبها، فانطلق العظيم المارد يبرطع في ظل حامية أخرى أغنى وأقوى، تمخضت عنها الحرب الثانية؛ هي الولايات المتحدة الأمريكية، فعملت على أن تعلن إسرائيل «دولة» كسائر الدول.
صنع المسخ، وقال له صانعوه: كن «دولة»، فلم يكن؛ لأنه يعوزه كل مقومات الدولة السوية، ولذلك النقص في تكوينه؛ لجأ إلى سياسة ذات شعب ثلاث، لا يلجأ إلى أي منها إلا من ركبته عقدة النقص، فزادته مرضا على مرض؛ أما هذه الثلاثة الأثافي فهي العنصرية أولا، والعنف ثانيا، وشهوة التوسع ثالثا.
أما العنصرية فهي علة كامنة في صلب الصهيونية؛ لأنها هي الدعامة التي على أساسها زعمت أن لها كيانا قائما بذاته ، فإذا كانت الجماعات في مختلف جهات الأرض يربط أفرادها لغة أو حضارة أو تاريخ، أو وحدة اقتصادية، أو وحدة ثقافية، أو غير ذلك من العوامل التي تربط الأفراد في جماعة؛ فإن إسرائيل وحدها، دون خلق الله جميعا، هي التي لا يرتبط أفرادها بشيء من ذلك، وإنما تتخذ رباطها من عنصريتها، زاعمة أن اليهود جميعا يرتدون إلى أصل واحد، فلا الديانة نفسها ولا اللغة عند الصهيونية بكافية للترابط، وإنما الرابط عندها هو انتماء الأفراد إلى أصل عرقي واحد، وهو الشيء الذي لا تجد على وجه الأرض واحدا من علماء الأجناس يعترف بوجوده؛ فالجنس النقي الخالص من الأخلاط، خرافة خلقتها أوهام الطامعين تحقيقا لأطماعهم، وحق لهم أن يلوذوا بهذا الوهم؛ لأنهم لو قالوا إن رباطنا هو العقيدة الدينية، وجدوا أن العقيدة متباينة فيما بينهم أشد التباين، ولو قالوا إنها اللغة العبرية، وجدوا أن العبرية لم يكد يتكلم بها أحد ولا أن يكتبها أحد قبل مولد الصهيونية.
وقد تولدت نتائج عن العنصرية الصهيونية، منها أن يتكتل اليهود تكتلا يترك فجوة بينهم وبين سواهم، كأنهم أثر خرب أحاط به خندق. ومنها أن شطح المنعزلون مع الوهم فظنوا أن انعزالهم ذاك علامة تفوق، وإذا بدأت جماعة من الناس بعزل نفسها بنفسها تعذر عليها بعد ذلك أن تنساب في جسم الأمة التي يعيشون بين ظهرانيها. ولكن ها هنا العجب أشد العجب؛ فقد صنع اليهود الصهيونيون هذه العزلة بأيديهم عامدين متعمدين، ليقولوا للناس انظروا كم تضطهدنا الشعوب الحاقدة، لكنهم في الوقت نفسه يسرون لأنفسهم قائلين: إياكم والاندماج في سائر الناس؛ فالعدو الأكبر للصهيونية ليس هو الاضطهاد العنصري كما يزعمون، بل عدوهم الأكبر هو من يقول لهم: ها نحن أولا قد فتحنا لكم صدورنا لتخالطوا وتختلطوا وتفنوا فينا ونفنى فيكم! هذا هو عدوهم، وإن حسب أنه هو الصديق؛ لأن تجارتهم كلها قائمة على أساس العزلة العنصرية، لقد حدث لكاتب هذه السطور في أثناء مقامه في أمريكا، وبعد أن ألقى محاضرة عن موقف العرب وإسرائيل، أن سئل: لماذا تضطهدون العنصر السامي؟ فقال للسائل: لكننا نحن العرب ساميون فكيف نضطهد السامية؟! فأخذت الحاضرين دهشة، كأنما هم يسمعون هذه الحقيقة لأول مرة، غير أنني لا أعلم كم من هؤلاء الحاضرين قد أدرك بأن اضطهاد السامية هذا بضاعة زيفت عليهم؛ وإنما زيفت عليهم البضاعة ليجدوا الأساس الذي ترتكز عليه الصهيونية في إقامة دولة لهم هم وحدهم، تجمع أشتاتهم، كأن للمسيحيين دولة، وللمسلمين دولة، وللبوذيين أو للهندوكيين دولة!
وإنه لمما يلفت النظر في هذا السبيل؛ أن اليهود حينما فتحت لهم أبواب فلسطين يهاجرون إليها أفواجا أفواجا - قبل أن تكون فكرة الدولة اليهودية لأحد في حساب - مضوا في مبدئهم إلى نهايته، وصمموا على ألا يخالطوا عرب فلسطين، وحرموا على أنفسهم أي شيء مما ينتجه العرب، بما في ذلك الأيدي العاملة؛ فبدا للغافلين عندئذ أن انعزال اليهود في فلسطين ليس كانعزال المستعمرين في البلاد التي استعمروها عن أهل البلاد؛ فانعزال هؤلاء المستعمرين عن الأهالي كان غطرسة وكبرياء وترفعا، وأما اليهود النازحون إلى فلسطين - هكذا بدا للغافلين - فلو أرادوا غطرسة كتلك لاستخدموا الأيدي العاملة من العرب، أما وهم يتولون أعمال أنفسهم بأنفسهم؛ إذن فالمسألة مسألة «عنصرية يهودية» اعتزلت لا أكثر ولا أقل، ولكن لم يكد يحقق اليهود أملهم في قيام دولتهم، حتى أبدوا للعرب الذين ظلوا بأرضهم لم يهجروها، كل صنوف الغطرسة والكبرياء والترفع، أعني أنهم اصطنعوا نحو هؤلاء العرب كل ما يصطنعه أي مستعمر نحو «الأهالي» الوطنيين في البلد الذي يستعمره؛ لا، بل كانوا أنكى من أي مستعمر آخر وأضل سبيلا؛ لأن الأول يبقي على من يستعمره ليستخدمه، على أقل تقدير، وأما الثاني فقد أراد أن يمحو أبناء البلد المستعمر (بالميم المفتوحة) محوا، ويستأصلهم استئصالا من الأرض؛ تماما كما أراد أن يصنع النازيون باليهود حلا لإشكالهم، فإذا ما بقي منهم أحد على أرضه، عومل بأشنع ما عرف العالم من تفرقة واضطهاد.
Unknown page