Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
فإذا كانت الدعوة إلى الدقة في تحديد المعاني هي أهم الهموم التي يحملها هذا الكاتب طوال ربع قرن مضى؛ أفلا يكون من أوجب واجباته على نفسه أن يتوخى هو مثل هذه الدقة التي يدعو الناس إليها؟! وموضوع حديثنا هذا هو عن «الحضارة» لنرى بعد ذلك موقفنا من حضارة عصرنا، أين نكون على درجات السلم، صعودا أو هبوطا، فحتم علينا - إذن - أن نحدد معنى الحضارة بصفة عامة وشاملة؛ لنستطيع بعدئذ أن نضيق دائرة الحديث لتنحصر في حضارة العصر وما يميزها دون سائر الحضارات التي شهدتها العصور السالفة، فإذا استطعنا ذلك في دقة ووضوح، كان الحكم على موقف الأمة العربية في مرحلتها الراهنة أمرا ميسرا لا عسر فيه.
ولكننا ما إن نهم بمثل هذا التحديد لمعنى «الحضارة» حتى نغوص في بحر متلاطم الموج؛ لكثرة ما يعترضنا من آراء تختلف إلى حد التناقض بين رأي ورأي، ذلك فضلا عما في تحديد أمثال هذه المعاني العامة من صعوبة شديدة حتى لو لم يكن اختلاف الرأي فيها بعيد المدى؛ فقد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها، لكنك إذا عزلتها وحدها، ووضعتها في مخبار التحليل والفحص، ألفيتها تقاوم وتروغ حتى ليستعصي عليك أن تمسك بأطرافها، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ العامة كائن حي بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، تنصاع لفهمك إذا جعلتها جزءا من عبارة، لكن اجعلها وحيدة وحاول أن تمسكها من جناحيها؛ تتمرد عليك وتنتقم، كانت وهي مسوقة في عبارة، وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى، أما وقد جعلتها غاية في ذاتها، تريد اختبارها هي، فما أسرع أن تنقلب بين يديك لغزا غامضا، وأن تتخذ لنفسها أعماقا وأبعادا، لم تتكن تتوقعها في بداية الطريق! وهذا هو الشاعر الفرنسي بول فاليري يحدثنا في ذلك، فيشبه اللفظة وهي تؤدي معناها داخل عبارة تضمها مع غيرها، بلوح من الخشب الرقيق، وضع على خندق ليعبر عليه العابرون، فلا بأس هناك إذا جرى عليه العابر خفيفا سريعا ، أما إذا وقف العابر عليه ليختبر قوته ، وراح يقفز بكل ثقله؛ فإن اللوح الخشبي لا يلبث أن ينكسر تحت قدميه.
لكننا، برغم هذا النصح من بول فاليري، لن نمر على كلمة «حضارة» خفافا سراعا، وسنقفز عليها ونقفز حتى تتهشم؛ لنرى أجزاءها جلية أمام أبصارنا.
2
نريد تعريفا للحضارة يحدد لنا الخصيصة الواحدة، أو مجموعة الخصائص التي لا بد من ظهورها في كل حالة حضارية، كما لا بد من اختفائها في كل حالة بدائية؛ لأنه إذا كانت الصفة أو الصفات التي نقع عليها ماثلة في المتحضر وغير المتحضر على سواء، إذن فهي ليست من التعريف الذي ننشده، مثلا إذا عن لنا أن نذكر الفن أو الأدب ليكونا تعريفا للحضارة، وقعنا في الخطأ الذي أحذر منه؛ لأنه ما دام الفن والأدب - كائنا ما كان نوعهما - موجودين في كل جماعة بشرية، أيا ما كان حظها من الحضارة؛ إذن فهما عنصران ضروريان، لكنهما وحدهما لا يكفيان للتعريف؛ فالشرط الأساسي الذي لا بد من توافره في أي تعريف كامل، هو أن نذكر الصفات الضرورية والكافية معا، فالبصر ضروري للإنسان، ولكنه لا يكفي لتعريفه، وإذن فلا يجوز أن نعرف الإنسان بأنه الكائن المبصر، وهكذا الحضارة لا يجوز تعريفها بأنها الحياة التي تحتوي على فن وأدب، برغم أن الفن والأدب عنصران ضروريان لا تخلو منهما حضارة.
فما هي الصفة - إذن - التي تجمع إلى كونها ضرورية للحضارة أن تكون كذلك كافية لتعريفها؟ وهي إنما تكون كافية إذا امتنع ظهورها من كل حياة أخرى مما يتفق الناس على أنها ليست في عداد الحضارات.
ولقد قلت: «مما يتفق عليه الناس» عن وعي وعن عمد؛ لأنه لا سبيل أمامنا في تعريف الحضارة، إلا أن نبدأ بأمثلة من عصور، أجمع العرف على أنها فترات ذات حضارة رفيعة؛ لكي نستخلص من هذه الأمثلة الواقعية التي شهدها التاريخ، والتي أقرها الخبراء في ميادين الثقافة، صفتها المشتركة التي تظهر فيها جميعا، ثم نستوثق من أنها صفة لا تظهر في غيرها، وسوف أغض النظر هنا عن سؤال يثيره الباحثون، وهو: هل الحضارة صفة تصف عصورا وجماعات، أو هي صفة تصف الأفراد أولا ومن مجموعة الأفراد المتحضرين تتكون حضارة معينة في عصر معين؟ سأغض النظر عن هذا السؤال لسبب بسيط؛ هو أن خبراء الرأي أقرب إلى الاتفاق عندما ينصب الحكم على جماعة بأسرها، أو على عصر بأكمله، منهم إلى الاتفاق عندما ينصب الحكم على هذا الفرد أو ذاك.
فأي الجماعات، أو أي العصور يمكن إجماع الرأي عليها بأنها نماذج للحياة المتحضرة حضارة رفيعة؟ نستطيع الاكتفاء بأربعة أمثلة لا أظن أحدا يجادل في رفعة حضارتها، وهي: أثينا في عهد بركليز، في القرن الخامس قبل الميلاد، بغداد في عهد المأمون، في القرن التاسع، فلورنسة في القرن الخامس عشر، باريس في عصر التنوير، إبان القرن الثامن عشر.
فما هو القاسم المشترك بين هذه الحضارات الأربع؟ إنه يقينا ليس الأجهزة الآلية؛ لأن هذه الحضارات جميعا قد خلت منها؛ إذ إن أوانها لم يكن قد آن بعد؛ ما يدل على أن الحضارة - من حيث هي حضارة وكفى غير مقيدة بعصر معين - تستطيع أن تقوم بغير الآلة كما تفهم في عصرنا، كلا، ولا كان القاسم المشترك بين الأمثلة الأربعة التي اخترناها نماذج للحضارة في اكتمالها، هو الفن أو الأدب أو غيرهما من وسائل الحياة الوجدانية؛ لأن ما تجده من هذه العناصر في واحدة من تلك الحضارات قد لا تجده في الأخرى، فضلا عن أن هذه العناصر جميعا قد تتوافر في شعوب وفي عصور لم نتفق على أنها موسومة بحضارة تذكر؛ ففي قلب الأدغال البدائية ربما رأيت من العقائد ومن الفنون نحتا وتصويرا وغناء ما يستحق التقدير في ذاته، لكنه وحده لم يستطع أن يقيم حضارة يسجلها لها التاريخ، لا، ولا القاسم المشترك هو القدرة العسكرية، وإلا وضعنا جنكيزخان وهولاكو في طليعة المتحضرين، وعددنا قبائل التتار أكثر حضارة من الشعوب التي اجتاحتها تلك القبائل، ولا النظم السياسية هي ذلك القاسم المشترك الذي نبحث عنه؛ فقد كانت أثينا بركليز أولجاركية الحكم، وكانت بغداد المأمون يحكمها خليفة ، وكانت السيطرة في فلورنسة لأسرة مديتشي، وكانت تحكم باريس التنوير ملكية مطلقة.
ولكن القاسم المشترك الذي تراه في تلك النماذج الأربعة جميعا، كما نراه في كل نموذج حضاري تختاره بعد ذلك، ولا نراه في أي شعب أو عصر منعوت بالبدائية والتخلف، هو الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه، هذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده قد يتبدى في صور تختلف باختلاف العصور، فربما ظهر في مجال السياسة، أو في مجال الحرب، أو في مجال التشريع، أو في مجال العلوم الطبيعية، لكن هذه المجالات المختلفة إن هي إلا تطبيقات مختلفة لمبدأ واحد، هو أن يكون الحكم للمنطق العقلي وحده دون سواه، فهذه العقلانية في وجهة النظر هي التي تراها ماثلة في كل حضارة مهما اختلف لونها، ولا تراها في أي جماعة بدائية مهما تعددت بعد ذلك صفاتها، وليس هذا الذي نسميه علما إلا عقلانية اتخذت لها منحى معينا من مناحيها الكثيرة؛ فلربما اتجهت النظرة العقلية تلك نحو الأفكار المجردة تنظمها وتنسقها في ترتيب هرمي يضع الأعم منها فوق الأخص، كما حدث لليونان الأقدمين، أو ربما اتجهت نحو تحليل ما نزل به الوحي من تشريع، كما حدث للعرب الأولين، أو اتجهت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينها النظرية، كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزة يديرها الإنسان، أو تدير نفسها بنفسها، كما يحدث لعصرنا القائم.
Unknown page