Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
فقال الزعيم: الآية تعني أنه تعالى خلقه في تناسب تام مع ظروفه، فلم يجعله طويلا دقيقا، ولا قصيرا لزيقا، بل جعله ما بين ذلك، وكذلك الأمر معنا، فنحن من هذه الناحية سواء.
قال زعيم الإنس لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة، وقد نرى الجمل عظيم الجثة، طويل الرقبة، صغير الأذنين، قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة، طويل النابين، واسع الأذنين، صغير العينين؟
فأجاب زعيم البهائم: ذهب عليك أيها الإنسي أحسنها، وخفي عليك أحكمها! أما علمت أنك لما عبت المصنوع فقد عبت الصانع؟
إنه إذا كان ما زعمت لبني جنسك من حسن الصورة شيئا مرغوبا فيه لتنجذب ذكوركم إلى إناثكم، وإناثكم إلى ذكوركم؛ فلنا كذلك ما ينتج هذا التجاذب من ذكورنا وإناثنا، وأما عن جودة حواسكم ودقة تمييزكم، فليس ذلك بما تنفردون به من دون الحيوان؛ ففي الحيوان ما هو أدق منكم حاسة وتمييزا؛ فالجمل يرى موضع قدميه في أوعر الطرقات برغم ظلمة الليل، والجواد يسمع وطء السائر من بعد في سواد الليل، حتى لقد يوقظ صاحبه من نومه بركضة رجله حذرا عليه من عدو هاجم، وأما الذي ذكرته من رجحان العقل؛ فلسنا نرى لذلك أثرا بأشياء ليست من صنعكم، فالعقلاء إنما يفتخرون بأشياء هم صانعوها.
ولقد طلب البغل من طوائف الحيوان أن تتكلم كل طائفة عن نفسها، فتكلم الحمار، والثور، والكبش، والجمل، والخنزير.
وهكذا لبث الحوار قائما وممتعا، حتى إذا ما فرغ الفريقان من هجوم ودفاع، وبذل كل منهما في الأمر جهد طاقته، استشار ملك الجن أعوانه، فكاد الرأي بينهم جميعا يلتقي عند فكرة رأوها عادلة، وهي أن الحيوان صاحب حق، وأن بني آدم جائرون بما بين أيديهم من بهائم وأنعام؛ ولذلك أصدروا نصحهم لصنوف الحيوان الأسيرة أن تهرب كلها من قبضة الإنسان دفعة واحدة، وفي ليلة واحدة، وتبعد عن ديار بني آدم لتتحرر من ظلمهم، كما فعلت حمر الوحش والغزلان والسباع، لكن شيخ حكماء الجن أسر في أذن الرئيس أن ذلك الفرار قد يكون أمرا محالا؛ لأن الآدميين يقيدون ما في حوزتهم أثناء الليل، ويغلقون دونه الأبواب، فاقترح أحد الأعضاء على الرئيس أن يبعث بقبائل من الجن لتفتح الأبواب المغلقة، وتفك القيود عن البهائم، وتخبل الحراس حتى تبعد البهائم عن منطقة الخطر وتنجو بحياتها.
هذه خلاصة ما أورده إخوان الصفا في رسائلهم، ولمن شاء التفصيل المستفيض أن يرجع إلى الجزء الثاني من تلك الرسائل.
ولست أعلم ماذا يطوف برأس القارئ بعد قراءة هذا الحوار! أما أنا فقد أبى علي خيالي إلا أن أترجم صنوف الحيوان إلى طوائف من البشر أنفسهم، حاق بهم الظلم على أيدي قلة من ذويهم آلت إليهم قوة وجاه عريض وحكم نافذ، فكان لهم ما أرادوا ولم يتركوا لسواهم الأمل في إرادة، ولقد استرعى انتباهي في أثناء قراءتي للنص الأصلي عبارة رجحت بها أن يكون لهذا الحوار مغزاه البعيد في الحياة السياسية التي أحاطت بإخوان الصفا في عصرهم - وعصرهم هو القرن العاشر الميلادي - وذلك أن الكاتب حين أقام خطيبا من الإنس ليدافع عن حقوق بني جنسه، أفلتت منه هذه الإشارة الدالة: «فقام الخطيب من الإنس، من أولاد العباس، ورقي المنبر وخطب الخطبة، وقال ...» إذن فالأمر هو ما بين الحاكمين من أولاد العباس والمحكومين ممن كانت لهم ظلامة، وبقي على المؤرخين أن يبينوا لنا إلى أي الطوائف من سواد الناس رمز المؤلف - أو المؤلفون - بالبغل والحمار والثور والجمل والخنزير؛ فلكل منها شكاته الخاصة، فوق الشكوى العامة، وإذا صدق هذا الفهم لقول إخوان الصفا؛ إذن فقد كان ما قالوه نموذجا جميلا من ثورة الفكر التي نريدها.
أما النموذج الثاني الذي اخترته لثورة الفكر، فهو من صنف يختلف عن الأول اختلافا بعيدا، وقد اخترته من أوروبا في عصر جاء بعد إخوان الصفا بأربعة قرون، وإذا كان موضع الثورة الأولى تفاوت الناس في الأقدار، فموضع الثورة الثانية هو أفكار ينسجها الناس بأوهامهم ثم لا يلبثون أن يقحموها على الواقع كأنها جزء منه، فتزيغ أبصارهم وتضل خطاهم على طريق الحياة، وأما قطب هذه الثورة الثانية فهو وليم الأوكامي.
نحن في أوروبا إبان القرن الرابع عشر، على مبعدة قرن أو قرنين من حركة النهوض التي استيقظت بها أوروبا، ثم تبعها في اليقظة سائر أقطار الأرض على فترات متعاقبات ربما طالت هنا وقصرت هناك؟ كان البناء الفكري الثقافي كله قد تزعزعت أركانه وخارت قواه؛ انعكاسا لتدهور الحياة بشتى مقوماتها إذ ذاك، وكأنما إذا أراد الله لنظام فاسد أن يزول؛ أحاطه بما ينخر في عظامه، فلقد تكاثرت على أوروبا عندئذ عوامل الضعف: رجال الدين لم يعودوا يحافظون على الدين إلا في قشوره دون اللباب، وفي شعائره دون المحتوى، وما يسمى في التاريخ بحرب مائة العام، ثم وباء الطاعون الذي يرد ذكره في الكتب باسم «الموت الأسود»، فماذا يتخلف عن جو كهذا سوى اضطراب القيم وفوضى الأخلاق، وجدب الفاعلية العقلية، ونكسة تصيب الإنسان في ثقته بعقله، وتقذف به إلى دنيا الخرافة؟!
Unknown page