Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
رجل الفكر ومشكلات الحياة
هنالك نفر من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب، إلا أن تكتب لهم على نحو ما يكتبون، وأن تذهب معهم في مذاهب الفكر كما يذهبون! ولست أدري كيف تصطدم الفكرة بالفكرة ليولد الصدام فكرة أعلى وأكمل، إذا لم نختلف في الرأي ووجهات النظر؟ إن كل ما يطالب به الكاتب هو أن يكون مخلصا لنفسه، أمينا على فكرته، وقصاراه أن يبسط الفكرة بكل ما وسعه من وضوح وإيضاح، وفهم وإفهام، ولا عليه بعد ذلك أن تقع الفكرة من قارئها موقع القبول، بل لا على هذا القارئ نفسه إذا هو لم يقرأ ما يتفق مع هواه، وإلا لما أحدثت القراءة في نفسه حوارا داخليا وفاعلية منتجة؛ شريطة ألا يكون مصدر الاختلاف بين الكاتب والقارئ اختلافا في معاني الألفاظ التي يستخدمانها؛ لأنه لو حدث ذلك لكان أحدهما في واد والآخر في واد، لا يلتقيان ولا يتصادمان، إذا قال أولهما: هذا ثور، أجابه الثاني: إذن، فاحلبوه! لأن الثور عنده يعني البقرة، فلا المتكلم الأول قد أفهم، ولا السامع قد فهم عنه؛ أما أن يتفق المتحدثان - أو الكاتب وقارئه - على أن اللفظة الفلانية تعني كذا وكذا من العناصر التي تدخل في مكونات الشيء الذي جاءت تلك اللفظة لتسميه، ثم أن يختلفا بعدئذ على الحكم الذي ينتهيان إليه بالنسبة إلى ذلك الشيء المطروح أمامهما للبحث والنظر؛ فليس في مثل هذا الاختلاف بأس ولا ضرر، بل إن فيه لخيرا ونماء؛ لأنه اختلاف قمين - مع المحاورة والجدل - أن يجمع المختلفين على رأي مشترك.
إنني لو سئلت: ماذا ترى من الفوارق التي تميز كاتب اليوم من كاتب الأمس؟ لجاءتني الإجابة مسرعة بأن أول ما يميزهما من فوارق هو أن كاتب اليوم ألصق من زميله بالخبرة الحية، كأنما هو قد وضع أصابعه على عروق الحياة ليتحسس نبضها، ولا عجب أن رأينا كاتب اليوم يلجأ إلى القوالب الأدبية التي من شأنها أن تجسد الحياة بشخوصها الناطقة المتحركة، وأعني القصة والمسرحية، على حين أن كاتب الأمس كاد يقصر نفسه على «المقالة»؛ لأن بضاعته التي يعرضها «أفكار» على شيء من التجريد قليل أو كثير، وكل ما تتطلبه الأفكار من باسطها، هو أن يتناولها بالتحليل والتوليد حتى ينكشف مضمونها وفحواها؛ فلئن رأى كاتب اليوم نفسه مضطرا إلى الخوض في مواكب الناس الأحياء ليرى ويسمع، ويحس ويتأثر، ثم يخلو إلى نفسه ساعة ليصور ما قد رأى وسمع وأحس؛ فإن كاتب الأمس كان في مستطاعه ألا يبرح غرفة مكتبه؛ مراجعه على رفوفها، والمصباح أمامه، فليأخذ في القراءة والمراجعة، حتى إذا ما وقع على شيء يستحق أن يعرض على الناس، كانت له القدرة على عرضه في مقالة يكتبها، أو سلسلة مقالات تستوعب الموضوع إذا اتسعت رقعته وتباعدت أطرافه.
فإذا قلنا عن رجل اليوم إنه «كاتب» بالمعنى الأدبي الخالص لهذه الكلمة، كان الصواب أن نقول عن رجل الأمس إنه «قارئ»، ما دامت كتابته عرضا لمادة قرأها وأراد لغيره أن يقرأها معه.
لكن هذه التفرقة لا تنصب إلا على أديب القصة والمسرحية من جهة، وكاتب المقالات التحليلية العقلية من جهة أخرى، على أساس أن الأول له السيادة اليوم، والثاني كانت له السيادة أمس؛ فها هنا يجوز القول عن أديب اليوم إنه - في المحل الأول - ينصت إلى أحاديث الدار والدوار والمصنع والطريق، في الوقت الذي كان فيه كاتب الأمس يرجع إلى الكتاب والندوة وقاعة الدرس وعزلة التأمل، كما يجوز كذلك أن نقول عن أديب اليوم إنه يمس «مشكلات الحياة» في حضورها المباشر؛ لأنها مشكلات عملية تجري من حولنا، يوما بعد يوم، وساعة في إثر ساعة، وعن كاتب الأمس إنه كان يتعرض لمشكلات فكرية مجردة، بعدت صلتها المباشرة عن واقع الحياة الجارية؛ بل إن رواد الأدب القصصي والمسرحي في جيلنا الماضي - وهم أنفسهم الذين ما تزال لهم الريادة في القصة وفي المسرحية بين أدباء اليوم - كانوا بالأمس يكتبون القصة أو المسرحية فيما لم يكن يتصل بالحياة الجارية من قريب، ثم أصبحوا اليوم يكتبون وفي أذهانهم مشكلات الحياة اليومية كما تلمسها الأصابع وتبصرها العيون.
لكن هل يعني ذلك كله أن يوم الناس هذا قد خلا من كاتب المقالة العقلية التحليلية التي تتناول موضوعاتها تناولا مجردا، يعمم القول ولا يخصصه، ويبعد بالتجريد وبالتعميم عن المشكلات الحية كما تقع في المنزل والمصنع والطريق؟ كلا، بل مثل هذا الكاتب موجود - كما كان موجودا بالأمس - لأن وجوده محتوم بحكم وجود «الأفكار» التي تريد التحليل والتوضيح.
والخلاصة التي نريد أن نكتبها بالأحرف البارزة لتظهر للأعمى وللأعشى وللمبصر على حد سواء - قبل أن نمضي في الحديث - هي اختلاف طريقتين في تناول المشكلات: طريقة «الأديب» وطريقة «المفكر»؛ فرغم أن الأدب الخالص قد يجسد فكرا في ثناياه، وأن الفكر قد يصاغ في عبارة لها جمال الأدب وخصائصه؛ إلا أننا إذا ما تطرفنا هنا وهناك لنميز بين الطرفين، رأينا أنه حتى لو جعل كل منهما «مشكلات الحياة» المباشرة موضوعا له، لكان لكل منهما طريقته الخاصة.
فالأدب تجسيد لما يجرده الفكر، والفكر تجريد لما يجسده الأدب؛ على أن الأدب والفكر كليهما إذ يجيئان على مستوى رفيع؛ لا يجعلان من «مشكلات الحياة المباشرة» موضوعا لهما، لأن ذلك متروك للصحافة ولأصحاب التخصصات العلمية؛ فأما الأدب فيعالج تلك المشكلات بطرائقه الرامزة الخفية، وأما الفكر فيعالجها بالتحليل والتعليل اللذين من شأنهما أن يطيرا عن أرض الواقع المباشر إلى سماء التجريد.
لكن هنالك نفرا من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب؛ لأنهم في اللحظة نفسها التي يكرسون أنفسهم فيها «للفكر المجرد» يسوقونه في مقالات قصيرة أو طويلة، ويضطرون - شأنهم في ذلك شأن عباد الله المفكرين - أن يعلوا عن تفصيلات المشكلات كما هي واقعة، أقول إنهم في تلك اللحظة نفسها يوجهون اللوم لغيرهم من رجال الفكر على تقصيرهم في تناول «مشكلات الحياة»؛ وهل تكون للكاتب قيمة إلا بمقدار ما يواجه بفكره تلك المشكلات؟ هكذا يقول شبابنا الكاتب الغاضب، ولست على يقين من أنهم إذ يقولون ذلك قد وقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى أية صورة تئول مشكلات الحياة عندما تصبح موضوعات للنظر عند رجل الفكر؟ إذ يجوز أن تبعد الشقة - في الظاهر - بين ما يتداوله المفكرون في عصر من العصور من ناحية، وما يعانيه الناس ويكابدونه في ساحات الأخذ والعطاء وأسواق البيع والشراء من ناحية أخرى، على حين يكون الطرفان - في حقيقة الأمر - على صلة وثيقة أحدهما بالآخر، برغم اختلاف الصورة في حالة الفكر عنها في حالة الواقع بتفصيلاته وكثرة عناصره المتشابكة.
إن «الحياة» التي يريد شبابنا الغاضب أن نقصر الفكر والكتابة على «مشكلاتها» لا تجيء في واقع الأمر إلا مجسدة في «أحياء» كلهم أفراد، يلتقون أو يفترقون على صور وأشكال لا سبيل إلى حصرها؛ أعضاء الأسرة الواحدة، والعمال في المصنع، والركاب في سيارة أو قطار، ومجموعة الناس في السوق، والطلاب اجتمعوا في غرفة الدراسة ... وهكذا وهكذا، على أن هؤلاء الأفراد إذ يجتمعون قد تتفق بينهم الأهداف والأساليب، وإذن فلا اختلاف، أو قد لا تتفق فيقع الصراع؛ إما على الهدف ماذا يكون، وإما على الوسيلة كيف تكون.
Unknown page