Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
ومن مميزات الثقافة العربية كذلك، تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة؛ لياذا بما هو ثابت ودائم، إن كل ما في الأرض والسماء فان وزائل، متغير أبدا، متحول أبدا، ففيم التمسك به وهو عاجز عن التماسك بذاته، أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء والصيرورة والتغير الدائب من حال إلى حال، لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم؟ نعم، هنالك مثل هذا المرفأ الآمن، فنستطيع أن نلتمسه، حتى ونحن لم نزل أحياء في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو الذات الباطنية التي بها تكون هويتنا، هو «الأنا» التي تظل قائمة صامدة مهما حدث التحول لما حولها، ثم هنالك مثل هذا المرفأ الآمن بمعنى آخر، وهو مرفأ الحياة الآخرة التي هي غاية منشودة خلال كل نشاط ننشط به في هذه الحياة الدنيا.
هذا هو العربي في نظرته، ينشد الخلود عن طريق الظواهر الزائلة، يريد أن يقهر الزمن وأن يقهر الموت، أما الزمن المتقلب بأحداثه، فهو يقهره بالخروج منه إلى ما ليس زمنيا بطبيعته، فيلجأ إلى ذاته التي هي كائن لا زمني، كما يأمل في حياة آخرة لا تخضع هي الأخرى لعوامل الزمن، ولو كانت الحقيقة كل الحقيقة هي هذه المتغيرات المتبدلات الفانيات الزائلات ، التي نراها في الأشياء المحيطة بنا، لكان الكون - من وجهة نظر العربي - عبثا في عبث.
وليست هذه النظرة هي ما يأخذ به عصرنا الحاضر؛ فتكاد المذاهب الفلسفية المعاصرة كلها تجمع على تحليل كل شيء إلى ظواهره المتغيرة، دون أن تزعم وجودا لأي كائن ثابت وراء تلك الظواهر، فهذه المنضدة أمامنا ليست إلا مجموعة ظواهرها البادية لحواسنا من بصر ولمس، وكذلك قل في كل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، فالكائن البشري بدوره ليس إلا مجموعة ظواهر يراها فيه الآخرون أو يحسها هو في باطنه، دون أن يكون وراء هذه الظواهر المتدفقة «ذات» ثابتة تدوم على الزمن، بل قل هذا نفسه في الوجود كله جملة واحدة، فما هذا الكون إلا خضم من ظواهر، ما تنفك متصلة بعضها ببعض أو منفصلة، دون أن يكون وراءها شيء.
مثل هذه النظرة إلى العالم إنما تجيء ملحقة بالنظرة العلمية الصارمة التي هي من خصائص عصرنا، فسؤالنا هذه المرة هو هذا: كيف ألتزم النظرة العلمية الصارمة لأساير عصري، وأن أظل مع ذلك تواقا إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام؛ لأظل محتفظا بهذه السمة العربية في نظرتي؟ ومرة أخرى أقول: إنني لا أدعي أن مشكلة التوفيق هنا هي من الهنات الهينات، بل هي كزميلتها السابقة مشكلة تتطلب منا التفكير الطويل والعميق، وإني لأرجح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان؛ بشرط ألا نسمح لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر، في أحدهما نعيش حياتنا العلمية بكل ما تقتضيه، ولكننا بدل أن نقول: إن هذه الحياة العلمية حسبنا في دنيانا، يجب أن نقول: إن إلى جانب هذه الحياة العلمية حياة أخرى فيها الأماني، وفيها المثل العليا، وفيها المرفأ والملاذ، فإذا كنت في الساعات العلمية من حياتي أحصر النظر في الظواهر وحدها، لأستخرج قوانينها برغم تغير تلك الظواهر، ففي الساعات الوجدانية من حياتي أخلع عن نفسي عباءة العلم، وأسلم نفسي للتمني والرجاء، وبغير هذا الفصل الحاد بين العالمين، يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر وصوفية الأصل الموروث.
ولقد أحس الغرب نفسه بمثل هذه المشكلة، فالتمس مخرجا منها، بأن أقام حدا فاصلا بين العلم من جهة، والفن من جهة أخرى، فإذا كان محتوما على الإنسان في حياته العلمية أن يتقيد بالواقع كما هو واقع، وبالظواهر كما هي ظاهرة لحواسه، فله في الفن متسع يجول فيه ويصول؛ لأنه في الفن يستطيع ألا يتقيد بواقع، وأن يخلق لنفسه طبيعة أخرى غير الطبيعة التي تصدمه بظواهرها، ومن هنا نشأت مدارس الفن الحديث، التي تتفق كلها على نقطة مشتركة، هي أن الفنان لا يطلب منه أن يصور الواقع، ومن حقه أن يبدع لنفسه ما شاء له خياله أن يبدع، فهذا التحرر من قيود الواقع الموضوعي، يعوضه عما في حياته العلمية من قيود لا تحقق له ما يشبع الأماني والآمال.
فقل عن ثقافة أوروبا وأمريكا اليوم إنها ثقافة يسودها معقول العلم؛ تكن على صواب، أو قل عنها إن الذي يسودها هو لا معقول الأدب والفن؛ تكن أيضا على صواب؛ لأن المعقول واللامعقول يتجاوران ليعوض أحدهما نقص الآخر، وإذا كان هذا هكذا، فما الذي نتحرج له إذا نحن اخترنا أن نجاور بين معقول العلم والإيمان بالغيب في حياة واحدة؟ إننا إذا فعلنا ذلك، عاصرنا زماننا بالشق الأول، ووصلنا وشيجة القربى بيننا وبين تراثنا بالشق الثاني.
4
على أن العربي الأصيل في رغبته أن يجاوز الواقع المتغير إلى ما وراء الواقع في أبديته وخلوده، يظل مرتبطا بالمكان الأرضي ارتباطا عجيبا، فهو مع المكان المحيط به في حوار لا ينقطع، هنالك حركة جدلية موصولة، طرفاها الإنسان العربي ومكانه، إلا أنها جدلية لا تنتهي بدمج الطرفين في مركب واحد، بل هي جدلية تحتفظ للذات الإنسانية بالسيطرة على موضوعها، الطبيعة كلها عند العربي مسرح للفعل والحركة، هي عنده حلبة للقتال والنزال، هي ميدان لفروسيته وبطولته، كانت الصحراء حول العربي مصدر روع له وروعة في آن معا؛ فهو يرتاع لجهامتها ومجهولاتها، ولكنه في الوقت نفسه يكاد يخشع لهيبتها خشوع العابدين، ومن ثم كانت الصحراء له مسرح قتال ومغامرة، كما كانت له مصدر حب وشعر وغناء، إنه يتفحص كل ما حوله من مكان - أرضا وسماء - بجميع حواسه، يتفحصه بالبصر والسمع واللمس والشم والذوق، لا يترك منه شيئا، من جرذان الأرض إلى أنجم السماء، لكنه يتفحص هذا كله ليستخدمه ويسيطر عليه، لم يكن العربي مستندا في علمه بالطبيعة من حوله، إلى كتب تركها له أسبقون، بل استند إلى كتاب الطبيعة نفسه؛ ينظر في صفحاته، ويقرأ ثم يعي، ولم يكن علم العربي بالطبيعة للمتعة وإزجاء الفراغ، بل كان مسألة حياة وبقاء؛ يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»: «إن العرب ليس لها أول تؤمه، ولا كتاب يدلها، أهل بلد قفر، ووحشة من الأنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض، فوسموا كل شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه، وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه، فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا، ثم علموا أن شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء، وعرفوا تغير الزمان، فجعلوا له منازله من السنة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد، وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغبهم في الجميل .. حتى إن الرجل منهم وهو في فج من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئا، ويسرف في ذم المساوئ فلا يقصر ...»
من ذلك نرى صورة للعربي، جوابا في أرجاء الأرض، جوالا ببصره في السماء، ممسكا خلال ذلك بقيم توجهه نحو الفاضل والجميل، فأين تتفق هذه الصورة العربية، وأين تختلف، إذا ما اصطدمت بوقفة الحضارة العصرية من الطبيعة ومن القيم التي توجه الإنسان في سيره؟ أما الاتفاق فهو الاهتمام بالكون وما فيه اهتماما لا يقف عند حدود الكشف عن الحقائق لذاتها، بل هو اهتمام يستهدف النفع واجتناب الأذى، وأما الاختلاف العميق فهو في أن العربي لم يرد من الطبيعة إلا أن تكون مسرح فعل وإرادة ، على حين أن إنسان الحضارة الغربية بصفة عامة يضيف إلى ذلك ما قد يكون أهم منه، وهو أن تكون الطبيعة مجالا لفاعلية العقل تحليلا وتركيبا؛ ولذلك لم يكن مصادفة أن وجدنا في فلسفات الغرب الحديث نظريات المعرفة (إبستمولوجيا) تحدد العلاقة النظرية بين الإنسان العارف والموضوعات المعروفة، على حين أننا لا نكاد نعثر في التراث العربي الفلسفي كله على نظرية للمعرفة من هذا القبيل. عني المفكر العربي بالإرادة وتحليلها لأنها أداة العمل والحركة، أكثر جدا مما عني بالعقل وتحليله؛ لأنه رآه أداة لفاعلية ذهنية تتم لصاحبها وهو جالس على مقعده.
فماذا نحن صانعون - نحن العرب المعاصرين - للتوفيق في هذا المجال بين أصيل موروث وجديد معاصر؟ أحسب أن الطريق أمامنا واضح، وهو طريق تربوي من الأساس، فما علينا إلا أن نربي ناشئتنا على أن يحتفظوا بميراثهم في تدريب الإرادة الماضية، وفي التطلع والمغامرة، ثم يضيفوا إلى ذلك تدريبا آخر على النظر العقلي والبحث النظري.
Unknown page