Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
ونعود إلى الهيكل الصوري الذي أشرنا إليه في أول هذا المقال، زاعمين أنه بين قوائم الثقافة العربية الأصيلة، فقد كان أهم ما ذكرناه عندئذ، مقابلة بين «المطلق» و«عالم الحوادث»، وما لم تكن وقفة المثقف العربي - مهما يكن ميدانه - وقفة تجمع بين هذين الطرفين، لا من حيث يكون «المطلق» استخلاصا من عالم الحوادث الجزئية، بل من حيث هو موجود واجب الوجود، يفرض نفسه على مجرى الأحداث، فمثل ذلك المثقف يبتر الصلة بينه وبين «الأصالة» بالمعنى الذي يرد «الأصالة» إلى الأصول الأولى، وعلى أساس ذلك الهيكل الصوري للثقافة العربية، نقول إن اللغة العربية التي كونت تراثنا الأدبي، هي لغة صادرة عن المستوى الثاني - المستوى الأعمق - الذي قلنا عنه إن العبارة الصادرة عنه تجيء وكأنها لغير متكلم فرد، أو كأنها قيلت بلسان الكون كله، ولعله لا يصعب على المتعقب أن يلاحظ أن الفرق الجوهري بين أنصار «القديم» وأنصار «الجديد» في حياتنا الثقافية الحديثة، هو في طريقة استخدام اللغة: استخدامها بالطريقة المبهمة الموحية كما كان شأنها، وبذلك نجعلها وكأنها هي صادرة عن «المطلق» من فوق رءوس الحوادث، أم نستخدمها بالطريقة الواضحة المباشرة التي نتتبع بها حوادث الحياة الجارية، ووقائع الطبيعة المحسوسة؟ لو كانت الأولى كنا من أنصار «القديم»، ولو كانت الثانية كنا من أنصار «الجديد»، ونترك لصاحب الموهبة أن يلتمس لنفسه طريقا يجمع بينهما، فيكون هو الكاتب الذي جمع التجديد إلى الأصالة، كما هي الحال مع طه حسين، وغيره من أعلام الأدب العربي الحديث.
7
بدأ العالم العربي الحديث صلاته بحضارة عصره، حين جاءته هذه الحضارة غازية غالبة متسلطة؛ فما هي إلا أن زالت عنه الدهشة، حتى أخذ يحاول الخلاص؛ لذلك كانت فكرة «الحرية» نقطة تماس بين المقهور والقاهر، وكما هي الحال في سائر الميادين، أخذنا المبادئ النظرية من الغرب الظافر، لنحاربه بها، وإلا فلو اعتمدنا على محصولنا الموروث وحده في المطالبة بالحرية والاحتجاج لها؛ لما وجدنا ما يحقق الغاية.
بدأنا بفكرة الحرية السياسية، كما نرى عند مصطفى كامل، وأحمد لطفي السيد، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، لكن سرعان ما تفرع معنى الحرية وتعددت أوجهه؛ من حرية المرأة عند قاسم أمين، إلى حرية الأديب والشاعر في اختيار مادته وأسلوبه، وفي هذا كان لكل فترة روادها، فالعقاد وزميلاه، عبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني، في الربع الأول من القرن، وجماعة الرومانسيين، التي أطلقت على نفسها جماعة أبولو في ثلاثينيات القرن، ثم دعوة إلى أن يكون الأدب هادفا نحو عدالة اجتماعية بين الناس؛ وذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وما استهل عقد الخمسينيات حتى توالت الثورات الشعبية، بادئة بثورة مصر سنة 1952م، ثم في العراق، وسوريا، والجزائر، واليمن، والسودان، وليبيا، من أقطار الوطن العربي، تعمل كلها على توسيع معنى الحرية، ليجاوز الحرية السياسية ويشمل الحرية الاجتماعية كذلك.
ولسنا نذكر هذه اللمحة الخاطفة عن موضوع «الحرية» وإلى أي مدى بعيد شغل، وما زال يشغل، الثقافة العربية بكل أبعادها، أقول إننا لا نذكر هذه اللمحة الخاطفة من موضوع «الحرية» لتؤدي ما يؤديه تاريخ سياسي يكتب عن الوطن العربي في عصره الحديث، بل نذكرها لنسأل على ضوئها: كيف كانت مواجهة الثقافة العربية للعصر في هذا الميدان؟
فضلا عن مواجهة الصراع السياسي الذي أنتج لنا مقالات سياسية ممتازة على أيدي كبار كتابنا، مما لا أظن القارئ بحاجة إلى مزيد من معرفة به، أود أن أسوق ضربا آخر من المواجهة في ميدان «الحرية» قد لا يرد ورودا سريعا على الخواطر، وهو مواجهة «الشمولية» في السياسة وفي الصناعة، بموقف يصون للأفراد حياتهم، حتى لا تنجرف في التيار، نعم، إن هذه المقاومة ملحوظة أيضا في ثقافة الغرب العصرية نفسها، بما قد نشأ هناك من فلسفة وجودية، تعطي للفرد حق الحياة المستقلة المسئولة بقرارات يتخذها في المواقف التي تصادفه، وتتطلب منه القرار على طريق دون طريق، وهي وجودية تبدأ بالفلسفة لتنتشر إلى كل ضروب الثقافة من أدب وفن؛ حرصا منها على ألا يتجانس الأفراد بفعل المحاكاة وحدها، كأنما هم آلات صبت في قالب واحد، فلو تركنا عوامل العصر - سياسية كانت أم صناعية - تفعل فيها بغير تدخل منا، لأنتجت الإنسان ذا البعد الواحد - على رأي هربرت ماركيز في كتابه المعروف بهذا العنوان - وهذا البعد الواحد هو ما يتجانس به الفرد مع سائر الأفراد، لكن فطرة الإنسان تدعوه في إلحاح إلى أن يتميز من سواه، وإذن فلا بد من إضافة عمق التمييز إلى سطح التجانس؛ ليجيء الإنسان بسطحه وبعمقه متكامل التكوين، يحقق الهدفين: التفرد بما يميزه، والتجانس مع غيره بما لا يميزه.
ولقد سارعت الثقافة العربية المعاصرة إلى التقاط خيوط المذهب الوجودي، حتى قبل أن يصاب الناس في الوطن العربي بكل ما من شأنه أن يصيبهم لو اكتملت لهم حياة العصر من علم تقني وصناعة، ولا غرابة أن نجد أطرافا متناثرة من المذهب الوجودي على أقلام كتابنا وشعرائنا، حتى لقد أصبح هذا المذهب جزءا مألوفا من ثقافة العامة، فضلا عن الخاصة من المثقفين، لكننا لو وقفنا عند هذا الحد - وعند هذا الحد يقف أكثرنا - نكون قد محونا أصالتنا؛ إذ لا يكون ثمة فرق بين عربي وفرنسي وإيطالي في وجهة النظر، ما داموا جميعا يشتركون في صورة واحدة من مقاومة العصر في نزوعه نحو طمس الفردية من الأفراد.
والذي حدث هو أن رجالا من الفئة الممتازة التي تصنع لنا الثقافة العربية الحديثة، لكي تجمع بين الجديد والأصيل، لجأت إلى الإطار الثقافي العتيد، واستعانت به في توكيد الفردية للأفراد، فوجدته في ذلك - والحق يقال - خير معين؛ لأنه إطار قائم أساسا على موضوعية القيم، وأعني أن طريق الإنسان في حياته - من حيث معايير الصواب والخطأ - مرسوم له بمجموعة من المقاييس، أعطت له إلهاما ووحيا، وهذه المقاييس الموحى بها لتهدي عالم الحوادث، مشحونة بما يذكر الإنسان الفرد أنه فرد مسئول عما يأخذ وعما يدع، باختياره الحر، وانظر إلى رجال الأدب والفكر جميعا، واحدا واحدا، فلا تكاد تجد منهم أحدا لم يلجأ إلى تصوير البطولات العربية التقليدية، تصويرا يراد به تجسيد القيم الأصيلة في تراثنا، وهي قيم لا تدع مجالا لريبة مرتاب، في أن حرية الفرد حق له وواجب عليه في آن معا؛ فهو من ناحية حياته الخاصة مسئول عن اختياره يوم الحساب، وهو من ناحية حياته الاجتماعية مسئول عن تقويم المعوج حيثما رآه: العقاد ب «عبقرياته» الكثيرة، وطه حسين بمن أرخ لهم من الخلفاء الراشدين، وكذلك هيكل والحكيم، وسائر أفراد الزمرة الكريمة من حملة الأقلام، التي لم يكفها القديم وحده، ولم تندفع إلى الجديد وحده، بل صبت هذا في إطار من ذاك، فكان لنا من المركب ثقافة عربية حديثة.
ومرة ثانية؛ نلفت الأنظار إلى أن الثقافة العربية بموقفها هذا، هي بمنزلة من رفض العصر في ركن ركين من بنائه؛ ففي المرة الأولى أشرنا إلى ما تقتضيه علمية العصر من اكتفاء بظواهر الطبيعة وقوانينها، فرفضت ثقافتنا مثل هذا الاكتفاء، وأضافت باطنا إلى الظاهر، وغيبا إلى الشهادة، وها هي ذي مرة أخرى؛ تجد العصر - وهو عصر النسبية بلا جدال - قد استدبر كل فكرة تأخذ بمطلق من المطلقات الكثيرة التي كانت تأخذ بها العصور الماضية، ومنها القيم - أخلاقية كانت أو جمالية أو كائنة ما كانت - فإذا كان المكان والزمان نسبيين، تختلف عنهما الحقائق باختلاف موقع الرائي، فما بالك بتقديرات الإنسان عن الجيد والرديء والجميل والقبيح؟ إنها مسائل مرهونة كلها بما ينفع، بل ذهب أصحاب التحليلات الفلسفية في عصرنا، وهم الذين عنوا بنقد الكلام لتمييز ما يكون منه ذا معنى وما لا يكون، إلى أن العبارات الدالة على قيمة من القيم، هي عبارات بغير «معنى»، وذلك حين يقصد ب «المعنى» مقابل خارجي تشير إليه الجملة المعنية .. هذا هو العصر في وقفته إزاء «القيم»، فتجيء ثقافتنا العربية المعاصرة (وقد غضضنا النظر عمن ينحاز منا نحو الثقافة العصرية كما هي قائمة في مصادرها، بغير تعديل) وترفض هذه الوقفة التي تحيل كل «قيمة» إلى وجهة نظر ذاتية، لا يؤيدها ولا يدحضها أن تجيء عند الآخرين وجهات نظر توافقها أو تعارضها؛ فالقيم - بناء على إطارنا الثقافي الأصيل - هي كسائر الحقائق الروحية، أمور ليست من صنعنا، إنما هي هناك، نشخص إليها ببصائرنا كما نشخص بأبصارنا إلى الشمس والقمر، وعلينا أن نهتدي بهديها، كما يهتدي الملاح بالنجم القطبي الثابت، وعلى المنحرف عن هديها تقع التبعة يوم يكون الحساب.
كذلك تقف ثقافتنا العربية الحديثة موقف الرفض الصريح من معظم ما يذهب إليه العصر بالنسبة إلى حقيقة الإنسان؛ فأغلب الرأي الذي نراه منعكسا في العلوم وفي كثير من التيارات الفلسفية التي تساير العلوم (إذ هنالك تيارات فلسفية رافضة، موقفها شبيه بموقفنا) هو أن الإنسان ظاهرة من ظواهر الطبيعة، نبحثه بالمنهج نفسه الذي نبحث به سائر الظواهر؛ لأنه إذا اختلف عنها فهو اختلاف في درجة التركيب والتعقيد، لا في النوع، وإذا كانت فكرة «التطور» في عصرنا هي الفكرة ذات السيادة في كل التفسيرات العلمية والفلسفية على السواء - على اختلافهم في تحديد الخصائص الرئيسية للتطور - فإن النتيجة التي تلزم عن مبدأ التطور هذا، هي أن نفسر الأعلى بالأدنى، بمعنى أننا إذا أردنا إدراكا صحيحا لكائن من الكائنات، أو لموقف من المواقف، أو مرحلة من المراحل، فعلينا أن نحللها إلى المكونات البسيطة التي دخلت في تركيبها، وليس الإنسان بالشاذ في هذا التعميم، فإذا أردنا دراسة الإنسان دراسة علمية دقيقة تغض النظر عن «قيمته» وتحصر البحث في «حقيقته» الواقعة؛ كان حتما علينا أن نرده إلى أصوله التي نشأ عنها، وبالطبع قد كانت هذه الأصول، في مرحلة من التطور، أسبق من الفروع التي نشأت عنها، فقد نرده إلى طبائع حيوانية، بل قد نرده آخر الأمر إلى مجموعة من تفاعلات كيماوية إذا استطعنا.
Unknown page