وإن تبك ميتا ضمه القبر فادخر
لميت على قيد الحياة دموعا
لكأن ذلك الميت الذي على قيد الحياة الرجل الذي لا يبالي شئون هذا الوجود، ولا يتألم من اختلالها، فهو لا يبذل جهدا في إصلاحها، وتلك أنانية وبخل ولؤم.
وإذا كان الأمل أعظم ما يتملكه الإنسان في هذه الحياة، فلم لا نأخذ بقول إميل زولا: «يجب أن نثق بالطبيعة الإنسانية، وليست هي التي زعم جان جاك روسو أنها خالصة من الشوائب، ولكنها هي التي يجب أن نرجي ما يستقبل من أمرها، وأن نثق بها، بالرغم مما يشوبها من الدناءة والقسوة والقبح، ويجب أن نعلق آمالنا بإجهادنا لقوانا، وما وراء ذلك من العمل، وأن نعتقد أن سعينا موصول بغاية حميدة، ولو أننا لا نعيش حتى نرى ذلك.»
الذوق
جاء في قصة دون كيشوت للكاتب الإسباني الشهير سرفانتس أن رجلا اشترى زقا من الخمر المعتقة، ودعا أصحابه ليذيقهم لذاذتها، ويسمع منهم كلمات الثناء عليها، فلما ذاقها أحدهم صمت قليلا ثم قال: لقد كانت تلك بالغة غاية اللذاذة، لولا أن مذاقها يشوبه مذاق الحديد، وذاقها آخر فصمت مثل الأول ثم قال: لقد كانت تكون بالغة غاية اللذاذة لولا ما يشوب مذاقها من مذاق الجلد، فجعل الحاضرون يسخرون منهما ويتهمونهما بسقم في الذوق، فلما أفرغ الزق وجدوا فيه قفلا من الحديد ربطت به قطعة من الجلد، فجعلوا يعجبون من سلامة ذوقيهما، وعرفانهما دقائق الأمور.
وإنما أوردنا هذه القصة لنضرب مثلا للأذواق، وكيف أن الصحيح منها ما كان قديرا على تتبع الأجزاء الدقيقة. فلو عرض عليك كتاب وسئلت رأيك فيه وكنت نافذا إلى حسناته، كان خليقا بك أن لا تحيد عن الرأي الرجيح. ثم إنك لا تكون صادق الحكم في آداب اللغة العربية مثلا إلا إذا درست آداب العصور التي تعاقبت عليها، فإذا درست آداب عصر واحد كان رأيك أبعد ما يكون من الصواب، ومثلك مثل الحكم الذي إذا سمع شهود الإثبات أفاد من المتهم، قبل أن يسمع شهود النفي. فإذا أردت أن لا تضل أصالة الرأي، كان خليقا بك أن تعرف أنحاء الأمر الذي أنت حاكم فيه، فإذا أردت أن تكون ناقدا لفن التصوير ولم تدرس إلا صور الأوائل مثل روفائيل وتشيان خفيت عنك حسنات المصورين أصحاب المذاهب المخالفة لمذاهب الأوائل.
والأذواق تتفق في أشياء وتختلف في أخرى، من حيث الاستملاح والاستهجان، فما اجتمعت عليه الأذواق فهو ذوق عام، وما اختلفت عليه فهو ذوق خاص، ولكل امرئ من هذا نصيب حسب أهوائه وطبائعه وما تغذى به إحساسه، وما وقعت عليه حواسه، ولا يجحد أحد أن في دائرة الذوق ما يتفق عليه الكثير، ولولا ذلك ما كان بين الناس صلات؛ لأنها لا تكون إلا بمقدار من التعارف، والتعارف لا يكون إلا بمقدار من التشابه في الأذواق، ولقد رأيت الناس يعرضون ما يعالجونه من المسائل العقلية على عواطفهم، جاعلين لها سلطانا على قوة المحاجة، ويحكمونها في أشياء لا تقوى على أن تحسن مناصحتهم فيها، وتبدي لهم عن الرأي الرجيح، ورأيتهم يهملون ملكة انتقاد النفس، فلا يتعهدونها بما يصلح من شأنها ويعمل في إنمائها، حتى تضعف فتضعف قوة الحكم على الحقائق بقدر ضعفها، ورأيت أناسا رفضوا ما تصدره عواطفهم من سنن وعادات، وأساءوا الظن بها اتكالا على قوة المحاجة وما رأوا فيها من الحكمة والتدبير، ولكن فاتهم أن للعواطف مجالا في كثير من الأمور.
وما تقول في رجل يرى زوجه فيريد أن يعرف نصيبها من الجمال فيقول في نفسه: إن طول أنفها خمسة أشبار ونصف، وهكذا يريد أن يعرف مقدار تناسب أعضائها، والتناسب معنى من معاني الجمال، فكأنما هو موظف من موظفي مصلحة المساحة وقد أمر أن يقيس قطعة من الأرض.
فليس جمال المعاني ومعاني الجمال مما يحكم فيه قوى العقل غالبة للعواطف، ولا هو نظرية تحل بالتفكير فيها، حتى إنه قيل: إذا لم يكن ناقد الشعر ذا عواطف مشبوبة كان خليقا به أن يجد لنفسه مهنة أخرى.
Unknown page