Tayseer Al-Lateef Al-Mannan in Summary of Quran Interpretation
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن
Publisher
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٢هـ
Publisher Location
المملكة العربية السعودية
Genres
[مقدمة تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما كثيرا.
أما بعد، فقد كنت كتبت كتابا في تفسير القرآن مبسوطا مطولا، يمنع القراء من الاستمرار بقراءته، ويفتر العزم عن نشره، فأشار علي بعض العارفين الناصحين أن أكتب كتابا غير مطول، يحتوي على خلاصة ذلك التفسير، ونقتصر فيه على الكلام على بعض الآيات التي نختارها وننتقيها من جميع مواضيع علوم القرآن ومقاصده، فاستعنت الله على العمل على هذا الرأي الميمون، لأمور كثيرة منها: أنه بذلك يكون متيسرا على المشتغلين، معينا للقارئين، ومنها: أن القرآن العظيم ليس كغيره من الكتب في الترتيب والتبويب، لأنه بلغ في البلاغة نهايتها، وفي الحسن غايته، وفي الأسلوب البديع، والتأثير العجيب ما هو أكبر الأدلة على أنه كلام الله، وتنزيل من حكيم حميد، فتجده في آية واحدة يجمع بين الوسائل والمقاصد، وبين الدليل والمدلول، وبين الترغيب والترهيب، وبين العلوم الأصولية والفروعية، وبين العلوم الدينية والدنيوية والأخروية، وبين الأغراض المتعددة والمقاصد النافعة، ويعيد المعاني النافعة على العباد، ليتم علمهم، وتكمل هدايتهم، ويستقيم سيرهم على الصراط المستقيم، علما وعملا.
1 / 3
فالوقوف على تفسير بعض القرآن يعين أعظم عون على معرفة باقيه، والله جعله مثاني تثنى فيه العلوم النافعة، والمعاني الجليلة الكاملة، وهذا من تيسيره تعالى لكتابه، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧]
ومما يدعو إلى هذا ما تحتوي عليه هذه المقدمة المذكورة بقولنا:
1 / 4
[مقدمة في ذكر أوصاف القرآن العامة الجامعة]
مقدمة
في ذكر أوصاف القرآن العامة الجامعة قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة عظيمة تنطبق على جميعه، وتدل أكبر دلالة على أنه الأصل والأساس لجميع العلوم النافعة، والفنون المرشدة لخير الدنيا والآخرة:
وصفه بالهدى والرشد، والفرقان، وأنه مبين وتبيان لكل شيء؛ فهو في نفسه هدى، ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم، ويرشدهم إلى كل طريق نافع، ويفرق لهم بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين، وفيه بيان الأصول والفروع بذكر أدلتها النقلية والعقلية، فوصفه بهذه الأوصاف المطلقة العامة التي لا يشذ عنها شيء في آيات كثيرة.
وقيد هدايته في بعض الآيات بعدة قيود: قيد هدايته بأنه هدى للمؤمنين المتقين؛ لقوم يعقلون، ويتفكرون، ولمن قصده الحق، وهذا بيان منه تعالى لشرط هدايته؛ وهو أن المحل لا بد أن يكون قابلا وعاملا، فلا بد لهدايته من عقل وتفكير وتدبر لآياته؛ فالمعرض الذي لا يتفكر ولا يتدبر آياته لا ينتفع به، ومن ليس قصده الحق ولا غرض له في الرشاد، بل قصده فاسد، وقد وطن نفسه على مقاومته ومعارضته، ليس له من هدايته نصيب؛ فالأول حرم هدايته لفقد الشرط، والثاني لوجود المانع؛ فأما من أقبل عليه، وتفكر في معانيه وتدبرها بحسن فهم، وحسن قصد، وسلم من الهوى، فإنه يهتدي به إلى كل مطلوب، وينال به كل غاية جليلة ومرغوب.
1 / 5
ووصفه بأنه رحمة، وهي الخير الديني والدنيوي والأخروي المترتب على الاهتداء بالقرآن، فكل من كان أعظم اهتداء به فله من الرحمة والخير والسعادة والفلاح بحسب ذلك.
ووصفه بأنه نور، وذلك لبيانه وتوضيحه العلوم النافعة، والمعاني الكاملة، وأن به يخرج العبد من جميع الظلمات: ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والشقاء، إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والرشاد المتنوع.
ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور، وذلك يشمل جميع أمراض القلوب؛ فهو يوضح أمراض القلوب ويشخصها، ويرشد العباد إلى كل وسيلة يحصل بها زوالها وشفاؤها، فيذكر لهم أمراض الجهل والشكوك والحيرة وأسباب ذلك، ويرشدهم إلى قلعها بالعلوم النافعة واليقين الصادق، وسلوك الطرق الصحيحة المزيلة لهذه العلل، ويذكر لهم أمراض الشهوات والغي، ويبين لهم أسبابها وعلاماتها وآثارها الضارة، ويذكر لهم ما به تعالج من المواعظ والتذكر والترغيب والترهيب، والمقابلة بين الأمور، وترجيح ما ترجحت مصلحته العاجلة والآجلة.
ووصفه بأنه كله محكم، وكله متشابه في الحسن، وبعضه متشابه من وجه، محكم من وجه آخر.
فأما وصفه في عدة آيات أنه كله محكم، فلبلاغته وبيانه التام، واشتماله على غاية الحكمة في تنزيل الأمور منازلها، ووضعها مواضعها، وأنه متفق غير مختلف، ليس فيه اختلاف ولا تناقض بوجه من الوجوه.
وأما حسنه
1 / 6
فلما فيه من البيان التام لجميع الحقائق، ولأنه بين أحسن المعاني النافعة في العقائد والأخلاق والآداب والأعمال، فهي في غاية الحسن لفظا ومعنى، وآثارها أحسن الآثار، وكل هذه المعاني المثناة في القرآن يشهد بعضها لبعض في الحسن والكمال، ويصدق بعضها بعضا.
وأما وصفه بأن منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فالمتشابهات هي التي يقع الإشكال في دلالتها لسبب من الأسباب اللفظية والعبارات المركبة، فأمر الله بردها إلى المحكمات الواضحة، بينة المعاني، التي هي نص في المراد؛ فإذا ردت المتشابهات إلى المحكمات صارت كلها محكمات، وزال الشك والإشكال، وحصل البيان للهدى من الضلال.
ووصفه بأنه كله صلاح، ويهدي إلى الإصلاح، وإلى أقوم الأمور وأرشدها وأنفعها في كل شيء من دون استثناء، وهذا الوصف المحيط لا يخرج عنه شيء، فهو إصلاح للعقائد والقلوب، وللأخلاق والأعمال، ويهدي إلى كل صلاح ديني ودنيوي بحيث تقوم به الأمور، وتعتدل به الأحوال، ويحصل به الكمال المتنوع من كل وجه بالإرشاد إلى كل وسيلة نافعة تؤدي إلى المقاصد والغايات المطلوبة، فلا سبيل إلى الهداية والصلاح والإصلاح لجميع الأمور إلا بسلوك الطرق التي أرشد إليها القرآن، وحث العباد عليها.
فمتى عرفت أن القرآن العظيم موصوف كله بهذه الأوصاف التي هي أعلى الأوصاف وأكملها وأتمها وأنفعها للعباد، وأنه أعيدت فيه هذه المعاني الجليلة، ومزجت فيه مزجا عجيبا غريبا في كماله وحسنه، فهمت أن طالب
1 / 7
العلم إذا وقف على تفسير بعض الآيات تدرب بها، وتوسل بها إلى معرفة بقية الآيات.
لهذه الأسباب وغيرها رأينا أن المصلحة تدعو إلى الاقتصار على خلاصة ذلك التفسير؛ راجين من الرب أن يتم نعمته، وأن يحصل به المقصود؛ ورأينا أن الأحسن أن نذكر كل موضوع على حدته، لما فيه من التقريب والسهولة وجمع المعاني التي من فن واحد في موضع واحد؛ مع أنه - كما تقدم - لا بد أن يدخل في آيات الأصول كثير من الفروع، وفي آيات الفروع كثير من الأصول، ويدخل فيها من الترغيب والترهيب والقصص شيء كثير؛ وهذا المزج العجيب من كمال القرآن وعظم تأثيره، فإنه كتاب تعليم يزيل الجهالات المتنوعة، وكتاب تربية يقوم الأخلاق والأعمال، فهو يعلم ويقوم ويهذب ويؤدب بأعلى ما يكون من الطرق، التي لا يمكن للحكماء والعقلاء أن يقترحوا مثلها، ولا ما يقاربها.
1 / 8
[علوم التوحيد والعقائد والأصول]
[بيان ما تشتمل عليه الفاتحة]
علوم التوحيد والعقائد والأصول ١ - ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ - إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ - اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ١ - ٧]
أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى، لأن لفظ " اسم " مفرد مضاف، فيعم جميع أسماء الله الحسنى؛ فيكون العبد مستعينا بربه، وبكل اسم من أسمائه على ما يناسبه من المطالب، وأجل ما يستعان به على عبادة الله؛ وأجل ذلك الاستعانة على قراءة كلام الله، وتفهم معانيه، والاهتداء بهديه.
(الله) هو المألوه المستحق لإفراده بالمحبة والخوف والرجاء وأنواع العبادة كلها، لما اتصف به من صفات الكمال، وهي التي تدعو الخلق إلى عبادته والتأله له.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل مخلوق، وكتب الرحمة الكاملة للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله؛ فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة المتصلة بالسعادة الأبدية، ومن عداهم محروم من هذه الرحمة الكاملة، لأنه الذي دفع هذه الرحمة وأباها بتكذيبه للخبر، وتوليه عن الأمر، فلا يلومن إلا نفسه.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ما دل عليه الكتاب والسنة من الإيمان بأسماء الله كلها، وصفاته جميعها، وبأحكام
1 / 9
تلك الصفات؛ فيؤمنون - مثلا - بأنه رحمن رحيم: ذو الرحمة العظيمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم، فالنعم كلها من آثار رحمته، وهكذا يقال في سائر الأسماء الحسنى؛ فيقال عليم: ذو علم عظيم، يعلم به كل شيء، قدير: ذو قدرة يقدر على كل شيء، فإن الله قد أثبت لنفسه الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وأحكام تلك الصفات، فمن أثبت شيئا منها ونفى الآخر كان مع مخالفته للنقل والعقل متناقضا مبطلا.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢] الحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، المشتملة على الحكمة التامة؛ ولا بد في تمام حمد الحامد من اقتران محبة الحامد لربه وخضوعه له، فالثناء المجرد من محبة وخضوع ليس حمدا كاملا.
﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] الرب هو المربي جميع العالمين بكل أنواع التربية، فهو الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، وهذه التربية العامة لجميع الخلق، برهم وفاجرهم، بل المكلفون منهم وغيرهم.
وأما التربية الخاصة لأنبيائه وأوليائه، فإنه مع ذلك يربي إيمانهم فيكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق التي تحول بينهم وبين صلاحهم وسعادتهم الأبدية، وتيسيرهم لليسرى وحفظهم من جميع المكاره، وكما دل ذلك على انفراد الرب بالخلق والتدبير والهداية وكمال الغنى، فإنه يدل على تمام فقر العالمين إليه بكل وجه واعتبار، فيسأله من في السماوات والأرض - بلسان المقال والحال - جميع حاجاتهم، ويفزعون إليه في مهماتهم.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] المالك هو من اتصف بالصفات العظيمة
1 / 10
الكاملة التي يتحقق بها الملك، التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرف في العالم العلوي والسفلي التصرف التام المطلق بالأحكام القدرية والأحكام الشرعية، وأحكام الجزاء، فلهذا أضاف ملكه ليوم الدين مع أنه المالك المطلق في الدنيا والآخرة؛ فإنه يوم القيامة الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرها وشرها، ويرتب عليها جزاءها، وتشاهد الخليقة - من آثار ملكه وعظمته وسعته، وخضوع الخلائق كلها لعظمته وكبريائه، واستواء الخلق في ذلك اليوم على اختلاف طبقاتهم في نفوذ أحكامه عليهم - ما يعرفون به كمال ملكه، وعظمة سلطانه.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] أي: نخصك يا ربنا وحدك بالعبادة والاستعانة، فلا نعبد غيرك، ولا نستعين بسواك؛ فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، الظاهرة والباطنة، فهي القيام بعقائد الإيمان وأخلاقه وأعماله محبة لله وخضوعا له، والاستعانة هي الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به في حصول ذلك، وهذا التزام من العبد بعبودية ربه، وطلب من ربه أن يعينه على القيام بذلك، وبذلك يتوسل إلى السعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل لذلك إلا بالقيام بعبادة الله والاستعانة به، وعلم بذلك شدة افتقار العبد لعبادة الله والاستعانة به.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] أي: دلنا وأرشدنا، ووفقنا للعلم بالحق والعمل به، الذي هو الصراط المستقيم، المعتدل الموصل إلى الله وإلى جنته وكرامته، وهذا يشمل الهداية إلى الصراط، وهي التوفيق للزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان الباطلة، ويشمل الهداية في الصراط وقت سلوكه علما وعملا؛ فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد،
1 / 11
ولهذا أوجبه الله ويسره، وهذا الصراط هو طريق و﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] بالنعمة التامة المتصلة بالسعادة الأبدية، وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] وهم الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم، ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] الذين ضلوا عن الحق كالنصارى ونحوهم.
فهذه السورة على إيجازها قد جمعت علوما جمة، تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] وتوحيد الألوهية من قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] فهو المألوه بعبادته والاستعانة به، وتوحيد الأسماء والصفات بأن يثبت لله صفات الكمال كلها التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله ﷺ.
وقد دل على ذلك إثبات الحمد لله؛ فإن الأسماء الحسنى والصفات العليا وأحكامها كلها محامد ومدائح لله تعالى، وتضمنت إثبات الرسالة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] لأنه الطريق الذي عليه النبي ﷺ، وذلك فرع عن الإيمان بنبوته ورسالته، وتضمنت إثبات الجزاء، وأنه بالعدل، وذلك مأخوذ من قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤]
وتضمنت إثبات مذهب أهل السنة والجماعة في القدر، وأن جميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وأن العبد فاعل حقيقة، ليس مجبورا على أفعاله، وهذا يفهم من قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] فلولا أن مشيئة العبد مضطر فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الاستعانة.
وتضمنت أصل الخير ومادته، وهو الإخلاص الكامل لله في قول العبد:
1 / 12
إياك نعبد وإياك نستعين.
ولما كانت هذه السورة بهذه العظمة والجلالة أوجبها الشارع على المكلفين في كل ركعة من صلاتهم فرضا ونفلا؛ وفيها تعليم الله لعباده كيف يحمدونه ويثنون عليه، ويمجدونه بمحامده، ثم يسألون ربهم جميع مطالبهم.
ففيها دليل على افتقارهم إلى ربهم في الأمرين: مفتقرين إليه في أن يملأ قلوبهم من محبته ومعرفته، ومفتقرين إليه في أن يقوم بمصالحهم يوفقهم لخدمته، والحمد لله رب العالمين.
٢ - ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٤]
هذه الآية الكريمة لها شأن كبير؛ كان ﵊ يقرؤها كثيرا في الركعة الأولى من سنة الصبح، وقد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به، فإن الإيمان الشرعي هو تصديق القلب التام وإقراره بهذه الأصول، المتضمن لأعمال الجوارح ولأعمال القلوب؛ وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام، وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها؛ فهي إيمان، وهي من آثار الإيمان، فإذا أطلق الإيمان دخل فيه ما ذكر، وكذلك إذا أطلق الإسلام فإنه يدخل فيه الإيمان، فإذا قرن بين الإسلام والإيمان فسر الإيمان بما في القلب من العقائد الصحيحة والإرادات الصالحة، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة.
وكذلك إذا جمع بين الإيمان والعمل الصالح، الإيمان لما في الباطن، والعمل الصالح هو الظاهر، ومع إطلاق الإيمان يدخل فيه العمل الصالح،
1 / 13
كما في كثير من الآيات؛ فقوله تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ٨٤]) إلخ، أي: قولوا ذلك بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام الذي يترتب عليه الثواب والجزاء؛ فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب ليس بإيمان، بل هو نفاق، فكذلك القول الخالي من عمل القلب عديم التأثير قليل الفائدة.
وفي قوله: (قُلْ) إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها؛ إذ هي أصل الدين وأساسه، وفي مثل قوله: (آمنا) - وما أشبهها من الآيات التي يضاف الفعل فيها إلى ضمير الجمع - إشارة إلى أنه يجب على الأمة الاعتصام بحبل الله جميعا، والحث على الائتلاف، والنهي عن الافتراق، وأن المؤمنين كالجسد الواحد، عليهم السعي لمصالحهم كلها جميعا، والتناصح التام.
وفيه دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان على وجه التقييد، بأن يقول: أنا مؤمن بالله؛ كما يقول: آمنت بالله، بل هذا الأخير من أوجب الواجبات، كما أمر الله به أمرا حتما، بخلاف قول العبد: أنا مؤمن، ونحوه، فإنه لا يقال إلا مقرونا بالمشيئة لما فيه من تزكية النفس؛ لأن الإيمان المطلق يشمل القيام بالواجبات وترك المحرمات، فهو كقوله: أنا متق أو ولي أو من أهل الجنة، وهذا التفريق هو مذهب محققي أهل السنة والجماعة.
فقوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ٨٤] أي: بأنه واجب الوجود، واحد أحد فرد صمد، متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، مستحق لإفراده
1 / 14
بالعبودية كلها، وهو يتضمن الإخلاص التام.
﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [آل عمران: ٨٤] يدخل فيه: الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء: ١١٣] ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]
فيدخل في هذا الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله: من أسماء الله وصفاته وأفعاله، وصفات رسله، واليوم الآخر والغيوب كلها، والإيمان بما تضمنه الكتاب والسنة أيضا: من الأحكام الشرعية: الأمر والنهي وأحكام الجزاء، وغير ذلك.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٦] إلخ: فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموما، وخصوصا ما نص عليهم منهم في الآية الكريمة وغيرها، لشرفهم ولكونهم أتوا بالشرائع الكبار، فمن براهين الإسلام ومحاسنه، وأنه دين الله الحق: الأمر بالإيمان بكل كتاب أنزله الله، وكل رسول أرسله الله مجملا ومفصلا؛ فكل من ادعى أنه على دين حق كاليهود والنصارى ونحوهم فإنهم يتناقضون، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فيبطل كفرهم وتكذيبهم تصديقهم، ولهذا أخبر عنهم أنهم الكافرون حقا، وأنه لا سبيل يسلك إلى الله إلا سبيل الإيمان بجميع الرسل، وبجميع الكتب المنزلة على الرسل.
وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ١٣٦] برهان على أن الأنبياء وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه، وأنه ليس لهم من الأمر شيء؛ وفي الإخبار بأنه من ربهم بيان أن من كمال ربوبيته لعباده التربية التامة أنه أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ليعلموهم ويزكوهم
1 / 15
ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، وأنه لا يليق بربوبيته وحكمته أن يتركهم سدى، لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون.
ويفهم من الآية الكريمة الفرق بين الأنبياء الصادقين، وبين من يدعي النبوة من الكاذبين؛ فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضا، ويشهد بعضهم لبعض، ويكون كل ما جاءوا به متفقا لا يتناقض، لأنه من عند الله، محكم منتظم، وأما الكذبة فإنهم لا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم، ويعلم كذبهم بمخالفته لما يدعو إليه الأنبياء الصادقون.
فلما بين تعالى جميع ما يجب الإيمان به، عموما وخصوصا، وكان القول لا يغني عن العمل، قال: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٤] أي: خاضعون لعظمته، منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا، مخلصون له بذلك؛ فإن تقديم المعمول على العامل يدل على الحصر.
فهذه الأصول المذكورة في هذه الآية قد أمر الله بها في كتابه في عدة آيات من القرآن إجمالا وتفصيلا، وأثنى على القائمين بها، وأخبر بما يترتب عليها من الخير والثواب؛ وأنها تكمل العبد وترقيه في عقائده وأخلاقه وآدابه، وتجعله عدلا معتبرا في معاملاته، وتوجب له خير الدنيا والآخرة، ويحيا بها الحياة الطيبة في الدارين، وتجلب له السعادتين، وتدفع عنه شرور الدنيا والآخرة، وقد أخبر في هذه السورة أن الرسول والمؤمنين قاموا بهذه الأصول علما وتصديقا وإقرارا، وعملا ودعوة وهداية وإرشادا، فكتب أهل العلم المصنفة في العقائد كلها تفصيل لما في هذه الآية الكريمة.
1 / 16
[آية الكرسي وبيان الشفاعة ولمن هي]
٣ - ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]
أخبر النبي ﷺ أن هذه الآية أعظم آيات القرآن على الإطلاق، وأنها تحفظ قارئها من الشياطين والشرور كلها، لما احتوت عليه من معاني التوحيد والعظمة، وسعة صفات الكمال لله تعالى؛ فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية غيره، فألوهية غيره وعبادة غيره باطلة ضارة في الحال والمآل؛ وعبادته وحده لا شريك له هي الحق الموصلة إلى كل كمال؛ وأنه الحي كامل الحياة، فمن كمال حياته أنه السميع البصير القدير، المحيط علمه بكل شيء، الكامل من كل وجه.
ف ﴿الْحَيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يتضمن جميع الصفات الذاتية، و﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع المخلوقات، وقام بها فأوجدها وأبقاها، وأمدها بكل ما تحتاج إليه في بقائها؛ ف ﴿الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يتضمن جميع صفات الأفعال، ولهذا ورد أن اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فإن هذين الاسمين الكريمين يدخل فيهما جميع الكمالات الذاتية والفعلية.
ومن كمال حياته وقيوميته أنه ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] أي: نعاس، ﴿وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] لأنهما يعرضان للمخلوق الذي يعتريه الضعف والعجز والانحلال، وينزه عنهما ذو العظمة والكبرياء والجلال.
وأخبر أنه مالك لجميع ما في السماوات وما في الأرض، فكلهم عبيده
1 / 17
ومماليكه، لا يخرج أحد منهم عن هذا الوصف اللازم؛ فهو المالك لجميع الممالك، وهو الذي اتصف بصفات الملك الكامل، والتصرف التام النافذ، والسلطان والكبرياء.
ومن تمام ملكه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، مماليك لا يقدمون على الشفاعة لأحد حتى يأذن لهم: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الزمر: ٤٤]
ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله، ولا يرضى إلا عمن قام بتوحيده واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب، وأسعد الناس بشفاعة محمد ﷺ من قال: «لا إله إلا الله خالصا من قلبه» .
ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط، وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلة التي لا نهاية لها ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] من الأمور الماضية التي لا حد لها، وأنه لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] وأن الخلق لا يحيط أحد منهم بشيء من علم الله، ولا معلوماته إلا بما شاء منهما، وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية، وهو جزء يسير جدا بالنسبة إلى علم الباري، تضمحل العلوم كلها في علم الباري ومعلوماته، كما قال أعلم المخلوقات، وهم الرسل والملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢]
ثم أخبر عن عظمته وجلاله، وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأنه قد حفظهما بما فيهما من العوالم بالأسباب والنظامات التي جعلها
1 / 18
الله في مخلوقاته مع ذلك فلا يؤوده - أي: يثقله - حفظهما، لكمال عظمته وقوة اقتداره وسعة حكمته في أحكامه.
﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ [البقرة: ٢٥٥] بذاته على جميع مخلوقاته، فهو الرفيع الذي باين جميع مخلوقاته؛ وهو العلي بعظمة صفاته، الذي له كل صفة كمال، ومن تلك الصفات أكملها ومنتهاها، وَهُوَ الْعَلِيُّ الذي قهر جميع المخلوقات، ودانت له كل الموجودات، وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب.
﴿الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل موجود - وإن جلت عن الصفة - فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام.
فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني وأفرضها على العباد، يحق أن تكون أعظم آيات القرآن، ويحق لمن قرأها متدبرا متفقها أن يمتلئ قلبه أن اليقين والعرفان والإيمان، وأن يكون بذلك محفوظا من شرور الشيطان، وقد نعت الباري نفسه الكريمة بهذه الأوصاف في عدة آيات من كتابه.
٤ - ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨]
هذه أجل الشهادات على الإطلاق؛ فإنها صدرت من الملك العظيم، ومن ملائكته وأنبيائه وأهل العلم على أجل مشهود عليه؛ وهو توحيد الله وقيامه بالقسط، وذلك يتضمن الشهادة على جميع أحكام الشرع، وأحكام الجزاء؛ فإن الدين أصله وقاعدته توحيد الله، وإفراده بالعبادة، والاعتراف
1 / 19
بانفراده بصفات العظمة والكبرياء والمجد والعز والجلال، وبنعوت الجود والبر والرحمة والإحسان والجمال، وبكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق أن يحيطوا بشيء منه، أو يبلغوه، أو يصلوا إلى الثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.
وأما القسط فهو العدل الكامل؛ والله تعالى هو القائم بالعدل في شرعه وخلقه وجزائه؛ فإن العبادات الشرعية والمعاملات وتوابعها، والأمر والنهي كله عدل وقسط، لا ظلم فيه بوجه من الوجوه، بل هو في غاية الإحكام والانتظام، في غاية الحكمة، والجزاء على الأعمال كله دائر بين فضل الله وإحسانه على الموحدين المؤمنين به، وبين عدله في عقوبة الكافرين والعاصين، فإنه لم يهضمهم شيئا من حسناتهم، ولم يعذبهم بغير ما كسبوا: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤]
قال تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ١٩] فتوحيد الله ودينه قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه، وهو أعظم الحقائق وأوضحها؛ وقد شهد الله له بذلك بما أقام من الآيات والبراهين والحجج المتنوعة عليه، ومن شهادته تعالى أنه أقام أهل العلم العارفين بهذه الشهادة، فإنهم المرجع للعباد في تحقيق كل حق، وإبطال كل باطل، لما خصهم الله به من العلم الصحيح، واليقين التام، والمعرفة الراسخة.
وهذا من جملة فضائل العلم وأهله، فإن الله جعلهم وسائط بينه وبين عباده، يبلغونهم توحيده ودينه، وشرائعه الظاهرة والباطنة؛ وأمر الناس بسؤالهم والرجوع إلى قولهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وغيرهم تابع لهم في الدنيا والآخرة، ولهذا لهم الكلمة الرفيعة حتى في الآخرة، لما ذكر
1 / 20
تعالى اختصام الخلق واختلافهم ذكر القول الفصل في ذلك، الصادر من أهل العلم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٥٦]
وفي هذا دليل على كمال عدل أهل العلم؛ فإن الله استشهد بهم على عباده، وذلك تعديل منه لهم، وفي هذا من الشرف وعلو المكانة ما لا يخفى.
[الطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله]
٥ - ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد: ١٩]
العلم لا بد فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، ولا يتم ذلك إلا بالعمل بمقتضى ذلك العلم في كل مقام بحسبه؛ وهذا العلم الذي أمر الله به فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد كائنا من كان.
والضرورة إلى هذا العلم والعمل بمقتضاه - من تمام التأله لله - فوق كل ضرورة، والعلم بالشيء يتوقف على معرفة الطريق المفضي إلى معرفته وسلوكها.
والطريق إلى العلم بأنه ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: ١٦٣] على وجه الإجمال والعموم أمور:
أحدها: - وهو أعظمها وأوضحها وأقواها - تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله؛ فإن معرفتها توجب العلم بأنه لا يستحق الألوهية سواه، وتوجب بذل الجهد في التأله والتعبد لله الكامل، الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه الرب المنفرد بالخلق والرزق والتدبير، فبذلك يعلم أنه المنفرد بالألوهية.
1 / 21
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به محبة وإنابة، والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع: ما يراه العباد ويسمعونه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر لرسله وأتباعهم، ومن النعم العاجلة المشاهدة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا برهان على أنه وحده المستحق للألوهية.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها فقيرة إلى الله من كل وجه، ناقصة من كل وجه، لا تملك لنفسها، ولا لمن عبدها نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؛ فالعلم بذلك يعلم به بطلان إلهيتها، وأن ما يدعون من دون الله هو الباطل، وأن الله هو الإله الحق المبين.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع: اتفاق الأنبياء والرسل والعلماء الربانيين على ذلك، وشهادتهم به، وهم خواص الخلق، وأكملهم أخلاقا وعقولا وعلما ويقينا.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة والآيات الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة وأوضحها، وتنادي عليه بلسان المقال ولسان الحال، بما أودعها من لطائف صنعته وبديع حكمته وغرائب خلقه.
التاسع: ما أودعه الله في شرعه من الآيات المحكمة والأحكام الحسنة والحقوق العادلة والخير الكثير، وجلب المنافع كلها ودفع المضار، ومن الإحسان المتنوع، وذلك يدل أكبر دلالة أنه الله الذي لا يستحق العبادة سواه، وأن شريعته التي نزلت على ألسنة رسله شاهدة بذلك.
فهذه الطرق التي لا تحصى أنواعها وأفرادها قد أبدأها الله في كتابه
1 / 22