كلمات
طائف حلم
خيالة «أمينتريس»
التي صورها البدر
كلمات
طائف حلم
خيالة «أمينتريس»
التي صورها البدر
طيف ملكي
طيف ملكي
تأليف
قدرية حسين
ترجمة
مصطفى عبد الرازق
لتذكار أبي
السلطان حسين كامل؛ تحية قلب لا نفاد لبره.
ق.ح.
كلمات
قضيت أيامي في مدينة «طيبة»، أحيا حياة مفعمة بالتفكير، فقد وجدتني على حين فجأة أشهد عالما فخما، يتجلى في آفاق عجيبة.
كانت تزدلف إلي أرواح من ملكوت السماء، في باحات المعابد الخاشعة، وفي جوف الوديان الموحشة، وفوق الأفاريز البديعة القائمة على قبور «طيبة»، وفي المروج المزهرة في السهل الفسيح، وبالجملة في كل موطن حللته للأحلام والفكر.
هي أرواح جميلة، لا حد لروعتها، في نظراتها تلك الدعة التي لا تحاكى، والتي هي سر الآلهة.
هذه الأرواح الملوكية كشفت لي الغطاء عن تاريخ مصر القديم المجيد، ومنها عرفت كيف كان صنيع أولئك الملكات، اللواتي حلت فيهن روح الوطن أجيالا طوالا، وفي حضرتهن خطرت على القلب ذكرى ملكات أخر، من ملوك العهد الإسلامي العظيم.
ولما أحطت خبرا بأطراف ماضيهن، علمت علما ليس بالظن مبلغ ما باء به الشرق من خسران جلل، بنسيانه حتى الأسماء ممن كن لتاجه الخلاب زينة لا يبلغها ثمن.
وما كنت لأحاول ها هنا تدوين تاريخ الملكات المصريات؛ فذلك يعلو على متناول قواي وما لدي من وسائله، إنما أريد أن أجمع في سلسلة رسائل - أنشرها تباعا - تذكار أحاديث وتأملات تداولتها مع بعض أولئك الملكات.
ويلذ لي أن أشعر بأن تلك الأرواح المصرية المجتباة بين النساء، تستطيع أن تحمل من ملأها الأعلى إلى مصريات هذا الزمن، نفحة نور وقوة عزم من نفحات عنصرهن الأول.
طائف حلم
عند الملكة «هاتاسو» في الدير البحري موازاة بين ملكتين
كنت جالسة إلى الشباك الكبير في طنف البكور، وأسلمت إلى الخيال خواطري، ناظرة إلى الظل يجري فوق الجبل منهزما رهيبا كما تنهزم الحياة. كان الظل يسير ذاهبا، وكلما نظرت إليه رأيته يأخذ في الهوي منسابا رجراجا فوق أقفاف من ذهب، وقد عادت دارة الشمس غير مغمورة بالضياء، والغبش ينحدر على السهول رويدا رويدا، ويصطبغ الفضاء زرقة واحمرارا.
مضى أيضا يوم في «طيبة»، المدينة الساحرة الرائعة التي تهدأ في أكنافها اللوعات، ودنا الليل.
وهناك عند حاشية البساط الأخضر من مروج القمح وقصب السكر، تتألق دائما صفحة النيل طرازا طوالا، وتخلص واضحة للناظر من فوق طرف الصحراء الذرى ذوات الثنايا للأعلام الثلاثة المتباعدة.
كل شيء هادئ لطيف لا يبدي حراكا، وإنه لكذلك منذ أحقاب وأحقاب.
تمثلت عند أدنى المعبد - في جوف الوادي - حراس النواحي من السودان معتمدين على مطاياهم، كأنما يناجي بعضهم بعضا سرارا، بينما يهبط حراس المدينة العتيقة خفافا واحدا فواحدا، خلال عمد الإيوان الأقدس البيضاء المهشمة.
بين الإنسجام والصمت وهدأة الإشراق، لم يكن إلا صوت قسيس عظيم من نسل بعض كهنة «آمون» العظماء، يصل إلى الآذان حينا بعد حين.
في الهيكل المعد للضحايا على روح «هاتاسو»، كان القسيس يفسر جاهدا طائفة من آيات الغيب، حيث يستمع إليه نفر من المريدين، وهو يقول بين يدي صورة الملكة:
فوق كاهلك مذ الآن كل نفحة من حياة، وكل نفثة سحر، وكل مدد بقاء، أنت مثل «را» أبدية الحياة.
وكان محيا الملكة العظيمة الهادئ الصافي يتهلل بابتسامة، هي لغز من الألغاز، كأنما هي تتحدى غابر الدهر، كما تحدت كل ما في الماضي من اضطهاد وعصور إهمال.
أليست من جوهر الآلهة ابنة «آمون» الفاتنة؟! أوليست تسر في أعماق عينيها الدعجاوين لمحات السر المكنون عن أهل هذا العالم الصائرين للزوال؟! لا تزال من الأحياء بنت «توتمس الأول» و«أهمسي»، وستظل على وجه الدهر ذات وجود وحياة، برغم ما حمل لها من الداء الدوي من ولي الأمر بعدها، ذلك الذي محى سماتها، وهشم نقوشها، ليبيد كل أثر يحيي تذكارها.
سيبقى لسان صدق في العالمين لمليكة الوادي المجيد، التي هي أول امرأة من سلالة الأرباب، أقدمت على تولي مقاليد الحكم مع لقب الملوك.
لا تزال «هاتاسو» تفيض حياة وتتيه بعزة الظفر، على ما أصاب معبدها الفخم من البلى، وعلى ما ضاع من أوراق البردي القيمة، وبرغم انتصار «توتمس الثالث»، الذي لم يستطع عهده الزاهر أن يغض من عهدها.
تجلت للمريدين أسرار التاريخ في تلك الليلة؛ ذلك بأن تيارات الحياة المتدافعة كانت تبعث الماضي كله منتعشا فوق الجدران المزركشة.
مثلت أمام الأنظار الأطوار المختلفة لعهد «هاتاسو»، تمر على هينة متعاقبة، «هاتاسو» إلهة النضار، فاتحة أقطار الأرض، ومحيية القلوب بعد مماتها.
وبعد مصارعة الدهر، ومناهضة الدسائس، ظفرت «هاتاسو» بعقبى النصر والفخر المجيد برعاية الإله «هاتور».
كان الأرباب يتكلمون، وأدوار التاريخ تتوالى، ونحن ننظر سادرة أعيننا، مبهورة نفوسنا إلى مشاهد تلك الحياة. وفي روضات «آمون» تتسامى الأشجار الطريفة العطرية، مرسلة عبيرها في الأطناف الثلاثة الواسعة الأرجاء. ثم كأني أرى المجاهدين آيبين من بلاد «الصومال واليمن»، ينوء بهم الفخر والغنيمة، والأسطول الملكي يتهادى في اليم بين شهود ينظرون بأعين شاخصة، منصتين إلى أقاصيص البحارة السعداء الظافرين. ذلك مشهد فريد!
ولاح لي المهندس الكبير «سمنوت» - الذي كان صاحب الطابع الملكي، وكان لا يألو جهدا في الزلفى إلى فؤاد ربة التاج بميعة نشاطه - يسير الهوينى في المهيع الفخم المكتنف من جانبيه بتماثيل أبي الهول؛ ليؤدي التحية «لهاتاسو» عندما صارت صاحبة الجلالة الإلهية، بينما أقاليم القطرين تكمل بهجة الاحتفال، وافدة لوضع الهدايا عند أقدام «فرعون» العزيز.
لا يضير «هاتاسو» بعد هذا ما كان من انتقام أعدائها الدنيء، وتتبعهم لها بالإساءة تتبعا لا يني حتى في قبرها.
لا يضيرها أن تكون جثتها الهامدة وجدت في بطن بئر مهجورة، مجردة من كل أثر كتابي، وأن يكون «توتمس الثالث» لم يجعل لضغنه عليها حدا.
لقد عاشت آثارها، وعاشت هي أيضا حين باد غيرها.
من ذا الذي يستطيع أن يسلبها ملك اثنين وعشرين عاما، أو يسلبها فتوحها ومجدها؟!
من ذا الذي يمحو آثار همتها التي لم تعرف الفتور؟! أو يشك في حكمة سياستها، ويجعل وجودها عدما؟!
من ذا الذي يستطيع أن يقول مثل مقالتها المنقوشة على بعض جدران بني حسن:
إنني شدت ما كان انهار بناؤه أطلالا، وأكملت ما أهمل منذ كان الآسيويون في «أواريس » وكانت البربر تعيش معهم في جهالة «آمون-را»؟!
هل يقدر شيء أن يزيل النقوش العجيبة المحفورة فوق هامة مسلتها المنكسة إلى جانب البحيرة المقدسة: «آمون» مستو على عرش ملك العالم، و«هاتاسو» مليكة مصر قادمة عليه، وقد تجلت ذلك اليوم في مظاهر الملوك من الرجال، ووضعت على رأسها بيضة الفراعنة، ثم يلي ذلك مشهد تتويجها. في ذلك اليوم دخلت الملكة إلى المحراب المصنوع من حجر الجرانيت الوردي اللون، ودعت الإله، فجاء «آمون»، وألقى عليها الروح الإلهي. «آمون» باسط يده، وهي جاثية مستديرة، بحيث تمس كاهلها أصابع الإله، هنالك يضع «آمون» يده اليسرى فوق الكاهل - في مركز الحياة - وبهذا الوضع ينفذ السر الروحاني، الذي هو مصدر حياة الآلهة في العنصر الجسمي من «هاتاسو»، ويجعلها كالأرباب؟!
لا على «هاتاسو» بعد هذا أن تمحوها كتب التاريخ من ثبت الملوك، وألا يوجد اسمها في جداول أبيدوس، كأنما سولت الدناءة لرجال دولتها أن يعيبوها بأنها لم تكن إلا امرأة.
أيتها الآلهة! كونوا أنصارنا نكن أنصاركم في العراك المحتدم منذ كان العالم عالما، بكم ننتصر وبنا تنصرون، إنكم نور يحارب ظلاما
قد تتناهى الدول، وتتعاقب المدنيات، وتتبدل الممالك، ولكن لسان الصدق للعظمة والمجد يظل راسخا في مهاب العواصف الإنسانية، من أجل ذلك كانت «هاتاسو» من الخالدين.
هذا بيان للأجيال الآتية، متى نزعت قلوبها لفهم هذا البناء الذي أقمته لأبي، وبيان لمن يريدون العلم، ويبنون معارفهم على الظن المرجم في العصور المقبلة:
كنت جالسة في قصري أفكر في خالقي، فانقدح في نفسي أن أرفع له مسلتين يشق الأفق سنانهما، بين يدي المهيع الشريف الواقع بين حصني «توتمس الأول».
لا تقل: لا أدري من ذا الذي قضى بتصوير هذا الجبل المصوغ كله من ذهب! فإن جلالتي هي التي صنعت المسلتين، من أجل أبي «آمون»؛ ليعيش اسمي في هذا المعبد خالدا.
وبعد عصور وعصور، نزعت أنفسنا إلى البحث، فوجدت ضياء المسلتين يشرق فوق القطرين مرشدا للباحثين، ذلك اللألاء الذي وصل إلينا، سيهدي أيضا كل الأجيال الآتية. •••
وبينما كان الليل قد شمل البسيطة، وكسا «طيبة» كلها بزرقته المهيبة، سنحت لخيالي صورة أخرى، هي صورة ملكة لمصر في عصر آخر، تسمى «شجرة الدر»، ليست أقل في النفس أثرا، ولا أقل طموحا من أختها.
هي أول امرأة في العالم الإسلامي تجاسرت على تولي الملك باسم «الملكة عصمة الدين». «شجرة الدر» من أصل تركي، وقد كانت فاتنة الجمال، موفورة الذكاء.
وليت الملك أولا مع زوجها سابع الملوك الأيوبيين، ولما مات «الملك الصالح» في أيام محاصرة «سان لوي» لدمياط، أظهرت مهارة سياسية فائقة، وانتهى أمرها بمساعدة صاحب الجيش إلى الظفر بالملك بعد صهرها «توران شاه»، الذي قتله مماليكه تبرما بسوء سيرته.
اختيرت بالإجماع ملكة لمصر، وبويعت باسم «الملكة عصمة الدين» في قصرها بجزيرة الروضة على شاطئ النيل، ومنذ ذلك العهد أصبحت حياتها تفيض بالعظائم، وصدرت في تدبير الملك عن حزم.
كانت رحيمة، محسنة إلى الفقراء، مسعفة للبائسين، وكانت تعرف كيف توفق بين جميع الأحزاب، ممتازة بلطف حيلتها، وكفايتها في إدارة الشئون، كانت تدبر الملك وتحيا حياتها.
ولقد كانت لا تزال وافرة الحسن على أنها بنت أربعين، وأصبح قصر الروضة - وهو أوفق هالة بجمالها - مركزا تتجاذب إليه الكواكب المتألقة. وبعد زمن، رأت من الحزم أن تسكن القلعة دارة آبائها، التي بناها أول الأيوبيين «صلاح الدين» الشهير، وهناك من وراء الحجاب الرقيق الذي يسجي عرشها، كانت تحضر مجلس وزرائها.
و«شجرة الدر» هي التي أبدعت حفلة المحمل المصري الذي يرسل إلى مكة كل عام، وهي أول امرأة في الإسلام دعي لها في خطبة الجمعة، وهي أول ملكة في العهد الإسلامي للبلاد المصرية ضربت باسمها نقودا، بل هي في ذلك فذة لا ثانية لها.
كان يحبها السادة من رعيتها والفرسان، بل كان يحبها كل شعبها. كانت مصر تجل مليكتها، ولكن هل يمكن في الشرق أن يدوم إجلال لامرأة وإن كانت ربة تاج؟ لا جرم، قد تألب على «شجرة الدر» مجاوروها من أمراء المسلمين، يقودهم أمير دمشق، وعندئذ وجدت نفسها مضطرة إلى الزواج بوزير الحرب الذي كان أكبر أهل مصر نفوذا؛ لتدفع العوادي عن عرشها، على أنها ظلت تسوس البلاد من طريق خفي.
إن سرد حياة «شجرة الدر» منذ ذلك الوقت ليكون تعرضا لعهد كله من عهود التاريخ المصري، وما أنا بصدد ذلك، إن أريد إلا استحضار صورة امرأة كانت من ذوات العروش.
قتل «شجرة الدر» خصومها السياسيون، وألقوا جسدها وراء القلعة، فعرفها أولياؤها بجلبابها الفاخر المحلى باللآلئ، وكان مشوها وجهها الجميل. أسرعوا بدفنها في جنح الظلام، في مسجد صغير كانت قد بنته لنفسها، وثوت هنالك في قبر حقير، ملكة مصر ذات العز والإجلال.
ثم قلت في نفسي: قد كان لكل من «هاتاسو» و«عصمة الدين» سجايا رجال الدولة، ودبرتا شئون الملك بكفاية باهرة، ولكن عملهما لم يلق من الاهتمام ما كان يلقاه لو صدر من ملوك رجال أقل منهما صلاحا.
لم ينصف الناس في تقدير قدرهما. ومن عجب أن تاريخ حياتهما - الذي أهمل عن عمد تدوينه كاملا - ينبغي أن يبحث عن حل رموزه في ثنايا الخطوط الغامضة، ما بين المحفورات المهشمة، والمخطوطات المبعثرة في دور الكتب بالعاصمة.
نالهما الاضطهاد، وتعقبهما الحقد ونكران الجميل؛ لأنهما كانتا امرأتين، ولكن إذا اختفت الكواكب، فهل ينكر ما مضى من عهدها الوضاء؟
وبينما أنا أجوس خلال المدافن المقفرة، في «مدينة طيبة» الوديع، جعلت أفكر في الغرور الإنساني، وما في شئون هذا العالم من العجائب.
إن الذين بغوا في الأرض قد صادفوا جزاءهم من جنس ما عملوا؛ فإني لا أجد بمدينة «طيبة» الخافتة الآن، في هذه الليلة المعتدلة الطقس الصافية الأديم، بين تلك المقابر الملكية البديعة إلا طيور الليل، تمزق بصيحاتها جلال السكون الضارب أطنابه في تلك النواحي.
طيبة في سنة 1920
خيالة «أمينتريس»
في مدينة «هابو»
في ذلك المساء، كان يستولي على «مدينة هابو» خشوع لا يبلغه الوصف، يأخذ النفس بسر خفي، وكان الهيكل عجيب الروعة، قد أعادت زينة الليل كل ما كان له من جلال رهيب في الأعصر الخالية.
وكأنما كان كل عمود مبتور في الغرفة ذات العماد، ينطوي على حياة ناهضة .
تجلت بهجة الإشراق في ساحة المعبد الواضحة البياض، وفي الإيوان الأقدس، على صفحات الدعائم المربعة، المخدشة تخديشا يثير الألم، كانت صور الساجدين تبدو في تبتل وإخبات، بين يدي الآلهة ذات البهاء السرمدي، وكأنما كانت الجدران أيضا تنبض بملامسة غيبية سريعة، وكأن كل زهرة من أزهار اللوتس، وورقة من أوراق البردي تتأرج صلاة وابتهالا.
تلك ليلة لا تنسى لذاذتها!
خفت العازفون الذين كانوا تحت القباب المعمدة في ساحة المعبد الثانية، يرسلون نغما هادئا، وخمدت تباعا تلك المصابيح التي وضعت لوقت عند أدنى الدعائم الأوزيريسية.
هنالك أحاطت بالقلوب روعة بالغة، وملكتنا عفو السجية سكينة، فلم نكن نستطيع الجهر بالصوت، مخافة أن نعتدي على ما يفيض حولنا من جلال.
كان القمر يتعالى إلى سمت السماء رويدا، فيمحو لمعان الألوف من الأنجم الزهراء، وكان الأفق صافي الإهاب، ساطع الضياء، حتى لكنا نتبين عن بعد ما يحف بنا من النقوش والمخطوطات.
لا شيء يمثل بهجة الليالي القمراء في صعيد مصر أول فصل الصيف.
وقد كانت ليلتنا أجمل ما شهدت من الليالي!
انفردت عن حجاج الهيكل، الذين جاءوا للادكار والعظة عند شعائر الأديان العتيقة، ثم اعتمدت على قاعدة تمثال «آمون»، وجعلت أداول التأمل بين أنجم الأفق والأنجم التي ترصع الدعائم المربعة في معبد السماء، وتغلغل بي الفكر تجاه تلك الكواكب التي كان يهتدي الأقدمون بهديها، وما برحت ذات سلطان علينا أيضا.
ولشد ما يظهر أن كل ما في العالم العلوي ثابت على عهده، لم يتغير منذ العصور النائية عصور الفراعنة. وهذه «الشعرى اليمانية»، التي كانت وهاجة في فم «الكلب الأكبر» أيام كان كهنة المصريين يرقبون ظهورها من أعالي مراصد «منفيس»، لا تزال تبهر أبصارنا شعلتها التي لا تنطفئ.
كم من أجيال خرت للأذقان سجدا في هذا الهيكل، وكم من قلوب واجفة، فزعت إلى الحظيرة المقدسة، وإلى الأعراف في معابد السماء، وكم من كروب جاءت تدعو الآلهة في تفريجها.
وبينا يفتنني سحر الغرفة البيضاء ذات العماد المبتورة، وجدتني أرتل جملا من قنوت كان على القدماء عزيزا:
يا من همو مفزعنا في ساعات الهموم إذا استحكمت حلقاتها، وملجأنا في ساعات الفرح القوي الذي ينوء به ضعفنا، أيتها الآلهة الكبرى المحبوبة حب عبادة، أجيبي تضرعنا إليك، كما أجبت دعاء المكروبين مثلنا من قبل.
لا بد أن يكون «رمسيس الثالث» و«أمينتريس» وسائر من شادوا معابد ها هنا، جاءوا في ليال كهذه الليلة متلظية وضاءة؛ ليوجهوا قلوبهم إلى الذي اصطفاهم، وينبغي أن يكون في هذا المكان سبب فوق العصور والأجناس والأديان من عنصر لا يقبل الفناء.
من أجل ذلك شعرت بسر أخاذ غير مدفوع، لا أدري ما هو، يخلص من طنف المعبد وباحاته، من كل ناحية كانت موضعا لتأثير ديني، أو فيض إلهي، أو وحدة عقيدة في جيل من الأجيال.
كنت أفكر في ما ينبعث من الجدران والعمد من سلطان على النفوس غيبي، بينما أسير الهوينى في السكون الشامل؛ لألحق بالحجيج الذين ذهبوا ينتظرونني في ساحة «أوزيريس»، وعلى حين فجأة ثبت في مكاني بين دهشة وعجب، إذ لمحت امرأة تدنو إلى ناحيتي في تريث وجلال، قادمة من مدخل الهيكل، كأنما تنساب انسيابا لا تمشي على قدم، يلوح جسمها كله رقيق المستشف، ولم تكن قامتها مفرطة الطول. على أنها كانت كلما تدانت بدت للرائي مهيبة متعالية في شكل رأسها تلك المخايل الصادقة الدالة على أنها مخلوقة للسيادة، وتزين غرتها تلك العزيمة الماضية التي لا تزين بها الغرر إلا سلسلة طويلة من آباء ملوك، والتي يجعلها تمادي الزمن خاصة السؤدد والحسب.
كانت ترتدي بجلباب أبيض، ليس فيه عن شيء من جسمها فضل، رقيق النسج، مطرز الحواشي، ينحسر عن عنقها ومعاصمها المحلاة بأساور من ذهب، وكانت في قدميها نعال ثمينة، تهب مشيتها تلك الرشاقة النبيلة التي لا تحاكي رشاقة النساء المصريات.
هي الآن تمر أمامي فأفزع من روعة إلى الوراء؛ إذ عرفت من ذلك الكائن ذي المظهر الخيالي، الملامح اللطيفة والخصائص الشريفة والأعين النجل الشبيه سوادها بسواد الليالي المصرية، عرفت محيا الملكة الفتان المصور فوق الجدران في «الكرنك» في معبد «أوزيريس». تلك هي «أمينتريس» صاحبة الإمارة الدينية في طيبة، مليكة المصرين، وسادنة «آمون»، بيدها المعزف الغالي المصور فيه رأس «هاتور»، وقد كلل هامتها زهر اللوتس، وسطع عرف البخور الطيب من نواحيها، تمر أمام عيني السادرتين قاصدة إلى المحراب، طيفا للماضي ومظهرا للخلود مجيدا.
ما الذي جاء بها إلى هذا المكان في هذه الساعة؟
لعلها جاءت تقيم شعيرة من شعائر الدين، أو تخلو للفكر والاعتبار، موحدة لا يصل جناحها بعض الأميرات، ولا بعض وصائف القصر.
ومع تجردها عن بطانتها المصرية، وموكبها الحبشي، كانت كأنما تحف بها المحافل ومظاهر التفخيم، بما كانت تبدو مونقة رائعة في الباحة البيضاء لمعبد «رمسيس الثالث».
كانت تلك الملكة النضيرة تحل من ذلك المكان المقدس الذي كانت سادنته بمعهد أليف، وكانت مكللة بكل أكاليل المجد الغابر، حتى لشعرت بلذعة الحزن بما وجدتني مغمورة إلى جانبها، لا يجمعنا شبه ولا تسوي بيننا مرتبة، على أنني مصرية من جيل غير ذلك الجيل، جئت أملأ بصري، وأنعش قلبي بمرأى دمن العظمة السالفة. «أمينتريس» حيالي في ذلك الليل القمري، تتصل بعالم الماضي شيئا فشيئا، وتمتزج بالوجودات المغيبة أيضا، في حين امتزاجها بكل ما يحيط بها، فأراها تتمثل فيها مصر كلها كما أحبها.
ذلك مشهد كان في النفس غريب الأثر!
أتبعتها بصري، وهي تصعد إلى الرواق الأيمن في السلم الصغير المهدم. هنالك وجهت وجهها إلى القمر، ورفعت ذراعيها متوسلة في بطء وطول.
كانت في ذلك الوضع جميلة أخاذة بمجامع القلوب، مصورة من شرف مصفى، وإيمان متأجج، ورقة شعرية، حتى لخيل لي لشدة ما تأملتها أنها شعاع منبعث من البدر.
كنت جد مستغرقة في أحلامي، فلم أشعر - بادئ الأمر - بمدخل قادم آخر، يخر ساجدا لتمثال «آمون»، كان طوالا مهيبا عليه سيما الجنود.
لم ألمح وجهه، فجعلت أسأل نفسي: من ذا عسى أن يكون هذا الذي جاء - كسنة العصور الماضية - يقيم شعائر غامضة الأسرار؟!
قد يكون «نيكتانيبو» أو «توتمس» أو«ساهاركا» أو «شاباكا».
كلا، ما هو هذا ولا ذاك، فقد استدار فجأة، فرأيت أنه «رمسيس الثالث» لا سواه.
عرفته بجلبابه الفخم المعلم، كما عرفته بتألق حليه العجيبة، ثم عرفته بنظره الفولاذي، الذي يلمع فيه ضياء كل ما ملك نواصيه من الآفاق.
ورأيي أن الغزاة الفاتحين يعرفون بذلك السحر الذي ينفثونه في الجماهير، متى رموها بأبصارهم.
عرفت «رمسيس الثالث» بعينيه الخلابتين، عيني متحكم في عزائم الرجال.
عيناه شبيهتان بعيني «إبراهيم»، الذي كانت له نظرات كنظرات «نابليون» و«قيصر»، لا تعرف الرجفة من ذعر.
كان «لرمسيس الثالث» مظهر «مونتو» أخا غزوات ذا جمال فخم.
وبينما كنت أنظر ملحة، أبصرته يدنو إلى ناحية «أمينتريس»، وهي تهبط من الرواق.
قال: سلاما أيتها المليكة.
قالت: أجئت - يا صاحب الجلالة - تطوف مثلي سبهللا ها هنا؟
قال: ومن ذا الذي يستطيع معاصاة لجمال هذه الليلة، التي هي على غرار ما سلف في غابر الدهر من ليالينا؟ نعم، جئت مجيئك، وثلج بلقائك صدري، تعالي بنا نذكر عصورا خواليا.
ثم رأيتهما في غرفة العبادة جالسين إلى حاشية بعض الدعائم المبتورة، يتناجيان.
يقول «رمسيس» لها:
أنت موفورة الحسن، بمقدار ما كنت مليكة عظمى، ولئن غفل الناس عن ذكرك - والإنسان سريع النسيان - فلن تفتأ «مدينة طيبة»، و«سيين»، وأرض «أمينتت»، و«الدلتا»، و«منفيس» تذكر عهدك المملوء بالمفاخر، ولن يبرح سلطانك خالدا لا يزول، في كل ناحية من النواحي التي ثبت فيها أركان الوحدة القومية.
أنت حقا من جرثومة الآلهة، وأنا معشر جدودك؛ لنزهى بما نرويه من سيرتك؛ إذ حكمت مصر المقهورة في بلاد الحبش فاتحة «بيانكاري».
وما كان أحسن الاستماع لذلك الملك الكبير يثني على أميرة من سلالته؛ عرفانا لما تركت في الملك من أثر خطير!
وبينما كان القمر يغمرهما بشعاعه، كان يخيل إلي أن قد بعثت حية صفحات من ذلك التاريخ البعيد الفياض بالمفاخر.
إن هذه الأرض التي لم يخلق مثلها في البلاد، قد رفعت من شأن النساء ما لم تعرفه «روما» ولا «أثينا»؛ فهي جعلت منهن كهنة وملكات وآلهة.
أولئك نسوة نهضن بالعظائم، وكن من جوهر تتقاصر الأعناق دونه، وكان لهن فيما حملن من أعباء الحياة نفاذ وكفاية.
ما أرجح وزنهن؛ أولئك اللواتي نزلت على حكمهن عصورهن!
آه! لو أن نساءنا نساء الشرق عرفن كيف يحتفظن بتلك الهمة الأولى، إذن لهان ما نلقى اليوم من الألم الوجيع لكربة الشرق الشاملة.
وإزاء هذه النماذج الماثلة متينة عديدة، تنظم عقدا من عهود منقطعة النظير، قامت صورة التعاسات التي تنوء بها الآن كل واحدة منا، بما كسبت أيدينا، صورة لا يبلغ الوصف ما تثيره من وخز الأسف.
هنالك مرت بنا - كما يومض الشهاب الثاقب - تلك السلسلة الذهبية لربات التاج فيما سلف، يتنازعن غاية الجمال في عزة باهرة، ما بين أوجه ملكات وشخوص أميرات، فملأن باحة الهيكل إذ خطرن بها متعاقبات زينة وجمالا.
شهدتهن يجتزن الغرفة ذات العماد، أولئكن اللواتي كن حلية التاج الشرقي الذي لا تساميه التيجان، أولئكن الجواهر في جيد «مصر»، «وبلاد العرب»، «وفارس»، «والترك»، «والهند» اللواتي رفعن لأوطانهن ذكرا، بما لمع في الخافقين من لآلائهن. وهن: «آه هوتيب»، «أهمس»، «تايا»، «كليوباترا»، «سيميراميس»، «زبيدة»، «صبيحة»، «هاتون»، «نيلوفر»، «ماهبيكار»، «نور مهال»، «قرة العين»، «سلطان جهان»، «جشم آفت» ...
كن يرسلن جميعا إلى أمينتريس ابتسامة، هي الدلالة القدسية الخالدة على الود السماوي.
كان بعض تلك الصور الشاردة المتعاقبة سراعا - فوق حاجز الساحة البيضاء - يظهر أشد من غيره بيانا، وهذه هي وجوه العصر المجيد المصرية.
أما التي كانت دون ذلك وضوحا، فهي شخوص الملكات المسلمات، تسنح لماما في جوف الهيكل المنير.
ثم رجعت بغتة إلى نفس أسائلها على مضض:
ماذا عسى أن يكون عدد من يعلم في الشرق أسماء أولئك الملكات في عهد الفخار الغابر؟!
وما عدد من يدري صنيعهن بين من تلقفوا أسماءهن تلقفا؟
ذلك مع أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أثنى على زوجه بعلمها، وجعل لها شأنا خطيرا.
ولقد كان يبدي لبنته مظاهر عطف تنتشر لها النفس رقة، ويبين للناس أن لكل من فتاته وامرأته مكانا في نفسه كريما.
ووجد في تاريخ الإسلام البعيد الأطراف بعد عائشة وفاطمة الزهراء، أمثلة من النساء تستحق الإعجاب، بيد أن مؤرخي الوقت آثروا أن يسحبوا عليهن ذيل النسيان؛ ليقصروا جهدهم على تراجم ليس لها طعم، لرجال لم يكونوا أهلا لتقدير تلك الفطر النسائية المختارة، التي لو وثبت قليلا لحلقت فوق ما علت في كبد سمائنا الفيروزية.
أولئك النسوة اللواتي وهبن لبلادهن نفوسهن غير ضنينات، أولئك الملكات اللواتي تمثلت فيهن أوطانهن، لم ينلن من حسن الذكر الذي استوجبنه بما قدمت أيديهن، إلا هذه الأشعة المختلط نورها بظلامها، يرسلها ليل من ليالي الصيف بهي، في أعقاب الشمس الهاوية إلى مغربها متألقة رائعة.
كنت في غمرة بالغة، فلم أستطع - لتأثري المتزايد - تتبع ما كان يتناجى به «رمسيس» و«أمينتريس»، ولم أكن أشعر إلا بشيء واحد، هو أن ذلك الإطار الخيالي الذي يحف بي، قد صار بقوة الحب والإخلاص والإرادة حقيقة ثابتة.
إن أولئك الذين قضوا حياتهم في خدمة غرض مقدس عندهم، قد رجعوا إلى معاهدهم الأولى، في حضن الهياكل التي أقاموا في الحياة دعائمها؛ ليتفاوضوا في شئون تأخذ من قلوبهم مكانا، وقد أدنتهم قوة إيمانهم من منازل الآلهة.
وعندما تأملت في القوام الأهيف للكاهنة العظيمة، وفي بأس الرجولة للفاتح الكبير، شعرت بأنهما صاغا صورتهما البديعة في الأبدية كما يشاءان.
رأيتهما يتواريان في صمت حيالي، فيعود هو إلى «قبة مجدول»، حيث صوره مصورو العصور الخوالي لاعبا الشطرنج، بينما تسير هي إلى صومعتها البهيجة؛ لتوالي القيام بشعائر دينها المقدسة في هذه الليلة الزهراء، ليلة البدر كاملا.
هناك أقبلت على نفسي أسألها: أي ثلاثتنا حقيقة، وأيها خيال؟!
ليت شعري! هل تجلي الملأ الأعلى في عالم الظهور هو الحقيقة الثابتة؟ أم أنا وحدي ذات الوجود الحقيقي؟
تعب الحجيج من انتظاري، فغادروا الهيكل قبلي، وتبعتهم كأني في حلم.
ولما سارت بنا العربات، أحسست بأني أحمل معي تذكارا، لا يستطيع شيء أن يمحوه، فإن الذي رأيته وسمعته مذ الليلة لا يدركه النسيان.
كانت السواقي تدور في مزارع القمح والفول المتباعدة الأطراف، كعهدها دائما صداحة شاكية، وكانت أشجار البرتقال المزروعة في القرى الحافة بنا، تعطر بأريجها موكبنا الليلي، بينما كانت التماثيل الضخمة الرابضة تنظر إلينا إذ نمر بها - كما شهدت منذ الأحقاب المتنائية - وهي جامدة لا تحرك ساكنا، أمواج الخضم الإنساني تتدافع غير متناهية.
طيبة في 4 أبريل سنة 1920
التي صورها البدر
أهمس - نوفريتاري
يوجد في وسط مدينة «طيبة» - بين فدافد الدير البحري ذات الرضام والأكمة المقدسة، أكمة دير المدينة - منظر ذو جمال باهر غير أليف، ذلك هو وادي النسر.
ما وادي الملكات في غرابته وهدوئه، ولا ثنايا وادي الملوك الموحشة، ولا الطريق الذاهب إلى مقابر القرود في فخامته الجافية، بمؤدية إلى الذهن مثالا من الروعة التي لا شبيه لها لتلك النجوة ذات الحدور.
لا يستطيع أحد يقدر هذه الروعة وهو في جوف السهل، ولا ينفذ موجود إلى ذلك الحمى الرهيب، الذي ظل على الدهر محجبا مجهولا.
كان يعجبني في بعض الأحايين لدى عودتي من زورة بحث وتنقيب في كهوف «دراع أبو النجا»، أو في مآبي من حجة طويلة الأمد إلى بعض المعابد المجتباة، أن أستريح إلى طرف الحقف الأمعز الصاعد إلى وادي النسر.
أحب أن أنظر من ذلك العلو إلى الشعب العبقري من سهل طيبة، حيث يتجلى للنظر مشهد ذاهب إلى غير منتهى، منقطع النظير.
باقة من الهياكل طافية فوق خضرة النبت المتكاثف، كمروحة عظيمة وضعت منشورة على بساط السماء، تلوح جملة عن عرض، وتارة تبدو منتثرة في ذلك الأفق البالغ في زرقته.
وبينما كان مهرجان الربيع يتجلى بمباهجه الفياضة - في إطار ساحر من الأطلال - كانت تنفذ إلى صميم الفؤاد تلك الطمأنينة المنعشة، المنبعثة من آثار العصور الخوالي.
ولقد لاحظت أنه في صعيد مصر، يكفي أن تنظر إلى أشد الأشياء غموضا، وأنت محب لها لتسارع إلى نفسك محدثة بأسرارها.
بأعلى أروقة «دندرة»، حيث المنظر غير محدود، وهو قيد للبصر، وحيال الثنية الرهيبة في «جبل أبيدوس»، كعبة الحجاج الراسب فيه الزورق المقدس وبذروة «هيكل هوروس» بإدفو التي تدهش البصر، غير متفاوت ذلك الشعور الذي يهجم على النفس من جميع أقطارها.
ومن حيث خرجت لدى أي موطن تخشع النفس فيه لجلال العقائد وتكاليفها، وتضطرب القلوب من هلع أمام غيب العالم العلوي الذي لا منفذ إليه، سرعان ما يجد النظر راحة وسلوانا في البقاع المطيفة بمرآها العجيب، الذي كأنما جعلته الطبيعة لطفة للعيون.
من أجل ذلك كنت في منحدري من زيارات عفو الساعة لبعض جوانب مدينة طيبة، كثيرا ما أحب الخلوة بنفسي؛ لألهو بأفكار أقل تغلغلا في عالم التجريد، فأرتقي مصعدة في قلب «الأصاصيف» إلى جوف الكهف ذي الأسرار، السابق على عهود التاريخ، المنحوت في نازح من مسارب السيل.
وثمت في ذلك الوكر البديع المكون من أحجار على سجيتها، كنت أستريح منصتة إلى النسور المارة إذ تزف زفيفا.
في وسط الكهف يقوم مذبح من محاريب العبادة، طريف في نوعه، ومع أنه محفوف بالصمت منذ آلاف السنين، فهو يقص علينا العجب العاجب من تاريخ الإنسان في نشأته الأولى، حين نزع بالهام من فطرته إلى عبادة النور بارئ كل شيء. وعند ذلك النصب الذي أقامه الأوائل من البشر مصلى، والذي تكتنفه أقفاف بهيجة، تصبغ الشمس في عنفوانها ذهبا، فهمت بما شهدت من السحر العظيم سر عبادة المصريين القدماء «لآمون-را».
وفي أثناء الساعات التي كنت أقضيها في هدأة الوحدة بأعماق وادي النسر، طالما تمثلت لخاطري وجوه أدركها الزوال، مرت سراعا في هذه الحياة الدنيا، فكانت سيرها فصولا مبدعة في سجل تاريخ الشرق الخطير الشأن.
وإليك ما ورد على النفس من الذكرى لحياة ملكة عظيمة من ملكات الأعصر الماضية، هي «أهمس-نوفريتاري»، التي رفعت لنفسها في حياتها ذكرا، ومكنت لها في مصر سلطانا كبيرا، وبعد مماتها عز على رعيتها أن تنقطع بينهم وبينها كل أسباب الاتصال فجعلوها من الآلهة. وكذلك صار للملكة «أهمس» شعائر دينية معترف بها رسميا، كشعائر آلهة طيبة الثلاثة، وأصبحت مثل «آمون» و«مت» و«كونسو»، لها فلك مقدس، ولها ما للأرباب من مظاهر التمجيد.
وبودي أن أتعرض في هذه الصفحات لسرد ما كان من أمر ملكها في الأرض، مشيرة إلى شأنها في السماء:
إن أكمة دير المدينة الآخذة إلى وادي النسر هي أقدس مكان في القرافة، وهي معدة لعبادة الملكة «أهمس-نوفريتاري» المعتبرة من آلهة طيبة.
هي ابنة الملكة «أه-هوتب» والأمير «سكنن-را الثالث»، وقد تزوجت أخاها «أهمس»، وشاركته في الحكم مدة ربع جيل. وتاريخ هذا العهد مسطور على النصب التي وجدت في المعصرة، وعندما مات «أهمس» صعد على عرش الملك ابنه الصغير «أمنهوتب الأول»، على أن «نوفريتاري» ظلت تدير الشئون العامة.
ولقد كانت ملكة عظيمة نبيلة، ولم يكن لها هم إلا توطيد السكينة في مملكتها، وكانت بفطرتها ذات عزم وقوة حياة لا منتهى لهما، ووهبت نفسها خالصة لأعباء الملك، غير مشغولة إلا بالقيام على مصالح دولتها.
كانت البلاد ظمأى إلى الأمنة والثقة، من بعد الأزمنة المضطربة التي خاضت عبابها، وبخاصة بعد الحروب العاتية مع «الهيكسوس»، فمهدت لها «أهمس-نوفريتاري» بنشاطها الدائم اليقظ عهد إقبال وعظم شأن.
ولقد نهضت مدة أخذها بأزمة الحكم بالأمر الذي كان هم نفسها، وهو أن تكون لأمتها هاديا ثقة رشيدا.
وهكذا عاشت «أهمس-نوفريتاري» حياة جد مفعمة، وتركت بمصر طابعا بعيد الغور.
ويظهر أنها برغم ما أنجزت من العمل الخطير الشأن لم تكن حياتها طويلة المدى، فقد تبين من سبر جثمانها الذي وجد مصانا بالدير البحري، أنها كانت عند مماتها عوانا بين الصبا والهرم.
بيد أنها بعد أن أتمت ملكها في الأرض، ظلت وهي في عالم الغيب ذات سيطرة حميدة الأثر، وأصبح من كان يتوجه بحاجته نحوها في حياتها يتوسل إليها بالدعاء. ومنذ ذلك العهد وجدت مصر عن فقدها الأليم عزاء، باعتقادها أنها وجدت إلها جديدا، وصارت مؤسسة بيوت الملك التي كانت فخر القطرين، معتبرة في تلك الأماكن التي أحبتها من قبل، وساست أمورها آلهة تقصد بالدعاء، وأمست «أهمس-نوفريتاري» مثل «آمون» و«مت» و«كونسو» صورة تولي الوجوه شطرها بالصلاة، ولها رمز يشبه رمز الإلهة «هاتور».
وأحيانا تصور أمام البقرة المقدسة؛ مثال القبة السماوية التي تلد الشمس كل صباح.
لا تنسى مصر ملوكها المحبوبين، ولا تفتأ تشدو بذكر مفاخرهم، وما هو إلا أن ننعم النظر؛ لنرى أن الذين أخلصوا في محبتها لم تألهم على وجه الدهر قياما بحق الجميل، وأن «أهمس-نوفريتاري» ملكة مصر وإلهة طيبة لتعيش دائما محاطة بهالة كرامة، بين تلك الآثار التي ذهبت إليها مستخبرة أجمع ما تفرق من تاريخ الملكة الغريب، وقد وجدت في كل مكان بقايا لائحة مسفرة من شعائرها الدينية، التي هي نسيج وحدها.
ما بين «أبيدوس» إلى «إدفو» هي حية بآثارها، وصورتها معبودة بنشاط لا يدركه فتور.
رأيتها في «الكرنك»، فلحظت أن الملك «هيرهور» - الذي كان في بدء أمره قسيسا - يمجدها مثل ما يمجد «آمون» و«مت» و«كونسو»، ووجدتها في «القرنة» فوق الإيوان الكبير في باحة الشمس، أو فوق السور الشمالي لهيكل «ستي» الأنيق: «أهمس-نوفريتاري» جالسة على عرش من نضار، و«رمسيس الثاني» مقبل يسوق إليها الهدي، كما يسوقه إلى سائر آلهة «طيبة»، ثم شهدتها في «دراع أبي النجا» في ضريح «آمون مزو» البالغ في لطف الصنعة ومهارة التفنن.
تمثال الملكة مرتدية حلة بيضاء بهيجة يسير في الزورق الكبير، متنقلا فوق البحيرة المقدسة، ويتوارد الذين ألهوا الأميرة؛ ليطلقوا حوله البخور، ويقيموا عنده الصلوات.
وقد ذهبت إلى قبر «كا-سا» الذي كان أحد المريدين بالوادي المقدس، وادي دير المدينة؛ لأملأ ناظري من محاسنها، مصورة بلون أزرق كامل الشبه بلون السماء الصافية في جنح الليل، تلبس البياض كعهدها دائما، وعلى رأسها ريشة الذهب الكبرى، وفي عنقها القلادة المتلألئة الثقيلة في الوزن، على حين يسعى «كا-سا» بين يدي عرشها، مشيرا بعلائم الإجلال.
في كل ناحية من نواحي مدينة طيبة، وبخاصة في دير المدينة، يلقاك رسمها؛ ذلك بأن هذا المكان من جانب هضبة المكاشفة هو الذي قام به من قبل أن يوجد معبد البطالسة بناء مخصص لعبادة ذات ثلاث شعب: للبقرة المقدسة حمى الأموات، ولمظهر تجليها في الأرض الملكة «أهمس»، ولابنها «أمنهوتب الأول».
أولئك الحماة الأعزة لأموات طيبة، كانت لهم الزعامة في المواسم الكبرى لشعائر المآتم.
وفيما حوالي عهد الأسرة التاسعة عشرة، نشأت فرقة المكاشفين الشهيرة.
وتحتوي مقابرهم ذات الصور الرمزية على المعارف الصوفية، التي كان يتضمنها علم اللاهوت في مدينة طيبة.
ولقد شهدت على الجدران في قبر السمكة سلسلة من التصاوير الغريبة، يستخرج منها الرائي ما يبعث العجب، من أفهامهم في تاريخ العالم، وتاريخ القوى الفلكية، ونور البعث والنشور، وفي مناشئ الحركة ومادة الحياة.
هذه التصاوير الأنيقة الصنع، المطيفة بالجدران رمزا لنظريات مستفيضة، متوجهة تهدي التحايا إلى «أمنهوتب» وإلى الملكة الإلهة.
ولهذا التأليه أعجوبة من الأساطير، لا مندوحة من سردها كاملة ها هنا:
لما كانت مصر تدافع المغيرين، كان سادة مدينة طيبة يجمعون على العدو كل ما في صعيد مصر من القوى، وكان استتب لهم أمر الملك في المدينة منذ زمن، وسلالتهم هي ما نسميه اليوم الأسرة السابعة عشرة، وقد وصلوا وشائج نسب وصهر بنساء البيت الملكي في إقليم الإله «توت»، وولدت إحداهن «أهمس-نوفريتاري» ذلك الوليد الذي تجلت فيه من بعد آيات الفراعنة، وأخذ بناصية القطرين غير مدافع، وما كان «ابن أهمس» من محض عنصر بشري، ذاك الذي كان أول من سمي بالاسم المجيد «أمنهوتب»؛ أي: «من هو متحد بآمون».
ألم إله طيبة الأكبر ذات ليلة بمقصورة الملكة، فكان من هذه الزورة التي جاءت على غير انتظار، وليد عرف به أهل مدينة طيبة أن الإله الجليل رب الإقليم لم يزل يرعى مستقبل الأمة، ولم يرض أن يسلم للزوال خلفاء «هوروس».
وفيما سلف وقع مثل تلك الآية:
من قبل ذلك بعدة أجيال، جاء سادة «أرمنت» من وكرهم - وكر نسر الجبلين - فهبطوا مدينة طيبة، وأسسوا بها الأسرة الحادية عشرة، وأعادوا لمصر وحدتها بعد انفصامها، وأسعد الجد المواتي طيبة، وهي يومئذ داخلة إلى حظيرة التاريخ بأن جلس على عرشها أبناء إله.
وقد ذهبت لرؤية صورة فوق جدار في مدينة طيبة، لها صلة بهذا الموضوع، مصونة على وجه يستحق الإعجاب، وهي تمثل الملكة الجليلة «نوفيريس»، التي يدل اسمها على معنى - طلعتها مجمع الجمال - مستندة إلى الجبل المقدس، ذات محيا مسود كمحيا «هاتور» و«أهمس».
ويريد المصور بهذا الرسم الرمز إلى الأسطورة اللطيفة، التي تتضمن أن «آمون» نزل من السماء ليتصل بالملكة، وينشئ معها الأسرة الأولى لمدينة طيبة. والواقع - فيما يظهر - أنه كان كلما بدا في عرش مصر تزلزل، هبطت الآلهة من أفقها لتسعف أمتها المحبوبة.
وقد جرى نحو هذا في زمن قديم جدا، إذ كان مقدورا لمصر بعدما عرفت عهد نضارة أن تجتاز دور ذبول خضوعا لناموس محتوم، لم يكشف لنا سره، تجري على أنغامه حركات الحياة.
لم يكن متأخرو ملوك الأسرة الرابعة يعدلون في قوة ولا جلال أسلافهم الألى شادوا عجائب الجيزة الثلاث، وقد وضع كهنة «هليوبوليس» السيطرة في أيديهم شيئا فشيئا، كما تم لهم ذلك في طيبة بعد هذا العهد بخمس عشرة أسرة، وتجهزوا للصعود على عرش مصر، فأنشأوا الأسرة الخامسة، تحمل راية النصر المبين لعبادة الكوكب العظيم «را».
أولئك الكهنة هم أول من تجاسر على إدخال اللقب الباهر «سا-سا»؛ أي ابن الشمس، في ألقاب الفراعنة.
ولقد شرحت بعض الأساطير العجيبة أمر توليهم الحكم شرحا بليغا:
لما تخاذلت قوى الملك «كيوبس» من الكبر، أهمه مصير ذريته من بعده، فخبره ساحر عليم، بقول ذي ألغاز، أن ثلاثة من عقبه يلون الملك، ثم لا يضع أحد من سلالته تاجا، ورووا - كما هو الشأن في كل الأساطير - أن «كيوبس» حاط أمره بكل تدبير فلم ينفعه، ومن ذا الذي ينجو من القدر؟!
في ذلك الوقت هبط إلى الأرض «را» شمس مصر وشمس هذا العالم، وتفشى العنصر الجسمي لبنت الكاهن الأكبر، فنشأ من آثاره أولاد ثلاثة، هم الذين صاروا الملوك الأول لأسرة «هليوبوليس الجديدة».
ولإتمام جميع أبحاثي الخاصة بملك «أهمس-نوفريتاري» في الأرض، وملكها في السماء، ختمت سلسلة الدرس بزورة للمكان الذي تقوم عليه أطلال هيكلها، فإن «أهمس- نوفريتاري» شادت لنفسها معبدا، كدأب كل ملكات العصور الكبرى في تاريخ الشرق.
هو واقع على شفير السهل، الذي شهد ما شهد من العظمة، إلى جانب مزرعة من مزارع الفول ما بين «قرنة» و«رمسيوم».
وثم مجتمع عظيم من شجر الميموزا المزهر، يرسل ظلا لطيفا فوق الشظايا المتناثرة من العمد المهشمة، ويجعل حول ما تركت الأيام من جداره الذي عفاه البلى وفرق لبناته بشاشة تسخر بالدهر، أما البحيرة المقدسة فلم يبق لها من أثر!
يا ليت شعري! ما الذي كان عليه هذا المعبد فيما مضى من أزمان بهجته؟! أيام كانوا في الحفلات الرسمية الكبرى يخرجون التمثال العظيم؛ تمثال الملكة في زورقها، محفوفا بالمواكب.
لكي تتمثل في ذهني صورة صحيحة كاملة لما كانت عليه معابد ذلك العهد الزاهر في مصر، ولأستبين ما كان يقام يومئذ من احتفالات ومواكب، صعدت إلى صومعة الموتى الصعبة المرتقى عند شيخ عبد القرنة، وهنالك راقني منظر صورة قديمة فوق جدار، تمثل هيكلا كاملا.
فج بهيج المنظر، تكتنفه الأشجار مقلمة على سواء، يقوم في منتهاه تمثالان ضخمان عن يمين المدخل ويساره، بإزاء وجه البرجين الشامخين، ثم يبدو الصرح مهيبا بروعته، تزينه سوار سامقة، تحمل أعلاما محمرة أو زرقاء ضاربة إلى السواد، على حين يسير موكب يضم كبار السادنات، فكبار الموسيقيات معهن تسعة معازف مختلفة، بيد كل واحدة منهن معزفها تتناوله على وضع لطيف، ولثيابهن ثياب الزينة تماوج منسجم في نسمات الصباح.
وأن هذه الصورة التي لا يذهب من النفس أثرها، الممثلة للرونق الفاخر والجلال التليد، لتجعل للماضي علينا حق الثناء والإعجاب.
وإذا كانت أجيال هدم وتخريب قد أنحت بتدبير مرتب على آثار تلك المدينة التي تضيء العالم، والتي كانت مصر مهدا لها؛ فإن مدينة طيبة عرفت - وذلك من جدها المقبل - كيف تصون الركاز المقدس لملوكها الذاهبين؛ فخارا لها ومجدا.
هي حفظت بأحسن من «أبيدوس» و«منفيس» في أعماق جبلها الوردي اللون المنقطع النظير أسرارا لتاريخ آلهتها وملوكها، كما تصان القنية الغالية، وهي تسلم إلى من يحترمها ويحبها مفتاح البرزخ المرموس، فيه غيب أولئك الآخذين بقسط من البشرية وقسط من الألوهية، الذين تجاسروا على تحدي العدم. ها هنا بينهم، في جوهم ذي الأسرار، استطعت أن أفهم المعنى الخفي للابتسام الذي لا يفارق شفاههم، وأن أملأ روحي من ذلك الكمال الغريب، الذي تفيض به كل فكرة من أفكارهم.
وبينما كنت في ذلك المساء الهادئ من أيام شهر مايو، أتأمل في الجبل المقدس الشبيه بلون الورد الذي تختلط فيه عظائم الخيالات بحقائق عظمى، لمحت ذلك الجبل سابحا في ضياء «را» الكبير، وخيل إلي أن مدينة طيبة لم تكن قط باهرة كما كانت في تلك الساعة.
يختلط الفاغم من أريج ورد الحديقة برائحة الياسمين المزدوج التي تدور لشدتها الرأس، وتذبل أزهار القرنفل البهيجة المدبجة بأنواع الألوان، بين أنامل الأشعة التي ترسلها آلهة طيبة عند مغيبها، وتنوء أغصان اللبلاب وعباد الشمس والأبيكسوس، تحت حمل عجب من أزهارها اليانعة. وبينما كانت تتم أبهة ذلك المساء الربيعي الشعلة اللامعة من شجرتي البونسيانا الكبيرتين، كانت القنابر والقماري تؤلف من تغريدها بأهازيج المرح، ومن سجع الطيور المهاجرة الزمردية اللون، تهليل أريحية وفخار.
قدرية حسين
الأقصر - 7 مايو 1920
Unknown page