مقدمة المؤلف
1 - في اسم هذه الأمة
2 - في نسب هذه الأمة
3 - في ابتداء سلطنتهم وقيام زعيم منهم بأمر الملك
4 - في بيان الشعوب المختلفة الساكنة في الأقطار المعبر عنها باسم أفغانستان
خاتمة الكتاب
مقدمة المؤلف
1 - في اسم هذه الأمة
2 - في نسب هذه الأمة
3 - في ابتداء سلطنتهم وقيام زعيم منهم بأمر الملك
4 - في بيان الشعوب المختلفة الساكنة في الأقطار المعبر عنها باسم أفغانستان
خاتمة الكتاب
تتمة البيان في تاريخ الأفغان
تتمة البيان في تاريخ الأفغان
تأليف
جمال الدين الأفغاني
مقدمة المؤلف
لهجت الجرائد في هذه الأيام بذكر أحوال الأمة الأفغانية المعروفة بعزة النفس وشدة البأس وعلو الهمة، التي لم تسمح نفوسها بأن تستظل بظل العجز، ظل المكر والحيل والخداع القاضي على المستظلين به بالذل والهوان، ولم ترض الدخول تحت حماية الحضجر المبتلى بجوع البقر والاستسقاء الذي لم يشبعه ابتلاع مائتي مليون من الناس، ولم تروه مياه التمس والقنج؛ بل فغر فاه ليبتلع بقية العالم ويجرع مياه النيل ونهر جيحون. وقادها شرف النفس لاختيار الموت الفاضل على الحياة الدنيئة، تحت سطوة أجنبيين، وإن اقترنت برغد العيش وطيب المطعم والمشرب، فقام أميرها مستشيرا وزراءه الذين هم على أخلاقه، فاجتمعت آراؤهم على إرغامها برد سفارتها؛ لما عهد فيها من نقض العهود والمواثيق والتهاون برعاية الذمم، كما أرغمها آباؤهم في الأزمنة الخالية، حيث فتكوا برجالها وصرعوهم بحد سيوفهم.
وها هي مصارعهم تشهد بذلك إلى الآن، فحدا بنا ذلك إلى ذكر مجمل أحوالها السابقة واللاحقة، وعاداتها، وأخلاقها، ونمط حكومتها وطرز بلادها، وذلك في فصول.
الفصل الأول
في اسم هذه الأمة
إن الفارسيين يسمونهم بأفغان، ويعللون ذلك بأنهم حينما أسرهم «بخت نصر» كان لهم أنين وحنين، والأنين يسمى بالفارسية «أفغان»، فأطلق عليهم هذا الاسم من ذلك الوقت، وقيل: إن أفغان اسم الحفيد «شاءول» وهو جد الأفغانيين، فسموا باسم جدهم. وعوام الفرس يطلقون عليهم اسم «أوغان»، وهو قريب من الأول، والهنود يسمونهم «بتان»، وبعض قبائل الأفغانيين كالمقيمين «بقندهار» و«قزن» يسمون أنفسهم «پشتو» و«پشتان» بالباء الفارسية فيهما، وبعضهم كساكني «خورست» و«كورم» و«باجور» يسمون أنفسهم «پغتو»، و«پغتان» بالباء الفارسية فيهما.
ومن دقق النظر في تقارب هذه الألفاظ يعلم أنها من أصل واحد، وأن لفظ «بغتان» و«أوغان» و«بتان» محرف عن «بغتان»، و«بغتان» و«بشتان» يصح أن يكونا مأخوذين من «باشتان» وهي قرية من قرى «نيسابور»، أو يكونا مأخوذين من «بشت» اسم مدينة من مدن خراسان، ثم ركب مع الألف والنون الدالتين على الجمع في لغة فارس، على احتمال أنه كان لهم بهما إقامة ثم استمر الإطلاق بعد مبارحتهما، والواو في «بشتو» و«بغتو» المحرف عنه للدلالة على النسبة كالياء في لغة العرب، وحذفت مع الجمع تخفيفا، ويحتمل أن يكونا مأخوذين من «بشيت» اسم قرية من قرى فلسطين، على احتمال كونهم من بني إسرائيل كما سنشير إليه.
الفصل الثاني
في نسب هذه الأمة
تتألف هذه الأمة من قبائل متعددة «كغلجائي» و«عبدل» و«كاكر» و«دربري» و«يوسف زائي» و«مهند» و«أفريدي» و«بنكش» وغيرها من القبائل التي تسمت بأسماء أماكنها «كخوستي» و«كرمي» و«باجوري»، وكل قبيلة تحتوي على عمائر
1
مختلفة، فمثلا «الغلجائي» تشتمل على «هتك» و«توخي» و«سليمان خيل» و«أورباخيل» وغيرها، و«عبدل» تتركب من «باركزائي» و«علي كوزائي» و«علي زائي» و«باميزائي»، وكل عمارة من هذه العمائر تتضمن بطونا، وبطونها تتضمن أفخاذا، ولسنا الآن بصدد بيان أسماء البطون والأفخاذ وما يختص بكل منها؛ لضيق المقام، وتجتمع هذه الفروع في أصل واحد يسمى «بشتو» أو «بشتان».
وقد اختلف أرباب التواريخ في منبت هذا الأصل، فقال بعضهم: إنهم من طائفة الخزر كانوا يسكنون بسواحل بحر «كاسبتان» وفي «باب الأبواب» و«الشروانات» وكانوا يغيرون على بلاد إيران وينهبون ممالكهم، ثم نقلهم بعض الملوك إلى شرقي بلاد خراسان في زمن غير معلوم، ونسبه بعض من لا خبرة له بالتواريخ إلى الأمير «تيمور الكوركان»، وضعفه ظاهر؛ إذ الأفغانيون في أماكنهم هذه من قبل زمان تيمور بقرون، وقال بعضهم: إنهم من أولاد الضحاك الذي اشتهر عنه في «ميثولوجيا» فارس بأنه كان له سلعتان بكتفيه يوهم أنهما ثعبانان، وقال بعضهم: إنهم من الآشوريين الكلدانيين حتى إن بعض سياح الإفرنج ادعى أنه يوجد في اللغة الأفغانية بعض من الألفاظ الكلدانية، وقال بعضهم: إن هذه الطائفة التي ملأت الجبال الواقعة بين نهر «أتك» و«خراسان» - أعني طائفة الأفغان - من نسل الأقباط المصريين الذين كانوا مع «سوزستريس» حين افتتاحه البلاد الهندية، وقال بعضهم: إنهم من أسباط بني إسرائيل وإن «بخت نصر» أسكنهم بعد قتل كثير منهم في الجبال المسماة «قوهستان غور» أو «غور» فقط، وقال: إنهم سموا مسكنهم الجديد بهذا الاسم؛ تذكارا للوادي الكائن بأرض الشام المسمى بغور، وسموا ببغتو الذي هو محرف عن «بختو» نسبة إلى «بخت نصر»، فإن الواو في الفارسية كياء النسبة في العربية، كما أشرنا إليه سالفا، ثم تكاثر عددهم فتسلطوا على تلك الجهات، وكان بينهم وبين يهود البلاد العربية مراسلات، ولما دخلت يهود العرب في دين الإسلام بعثوا برجل منهم يسمى خالدا إلى بلاد الأفغان يدعونهم إلى الدخول في دين الإسلام، فأرسل الأفغانيون جماعة من أمرائهم، وكان فيما بينهم رجل يسمى قيسا، يتصل نسبه إلى أسباط بني إسرائيل بسبع وأربعين واسطة، وإلى إبراهيم بخمس وخمسين واسطة، فقدمهم خالد إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وصاروا مشمولين بعنايته، وخص قيسا بعواطفه الخاصة وسماه عبد الرشيد، ولقبه بالأمير، وقال
صلى الله عليه وسلم : إنه حقيق بهذا اللقب؛ لأنه من نسل سلاطين بني إسرائيل، وهؤلاء المرسلون قد وافقوا النبي
صلى الله عليه وسلم
في فتح مكة وظهرت عليهم آثار الجلادة في تلك الواقعة، ثم رجع قيس إلى بلاده مصحوبا برفقائه بعد أن دعا النبي - عليه الصلاة والسلام - له بالخير والبركة، وأصحبه أيضا بجماعة من أهل المدينة؛ لتأييده في ترويج أمر الإسلام وإقامة مراسم الدين الحقيقي في جبال «غور» الواقعة في خراسان، وبعد وصول قيس إلى تلك الجهات أفرغ جهده في جلب قلوب أتباعه إلى دين الإسلام، وقد نال مقصده بدخولهم جميعا في هذا الدين، وتوفي قيس في سنة 40 من الهجرة عن سبع وثمانين سنة، وخلف ثلاثة أولاد ذكور، وذهب بعضهم إلى أن نسبه يتصل إلى شاءول، وله جميل ذكر إلى هذا الوقت في بلاد الأفغان، حتى إن أمراءهم يجتهدون في إيصال نسبهم إليه، وللأفغانيين شجرة أنساب يعتمدونها إلى هذا العهد تؤيد هذا الأصل - أعني أنهم من نسل أسباط بني إسرائيل - إلا أنه لا يوجد أدنى مشابهة بين لسان «بشتو» وهو لسان الأفغانيين وبين اللسان العبري أصلا.
نعم، إن اعتقادهم بكونهم من هذا الأصل مع بعد المسافة بين أراضيهم ومقر الإسرئيليين ووجود محل يسمى ب «خيبر» في بلادهم ربما يوجب ظن البعض بصحة هذه الرواية. وقال بعضهم: إنهم طائفة من الأرامنة كانوا ساكنين في «شروان» التي كانت تسمى سابقا «ألپان» بالباء الفارسية، ويؤيد ذلك أن الكنائس الواقعة في «قراباغ» المتاخمة لشروان تسمى إلى هذا العهد «بقندسار»، ويقال لكبير تلك الجهات «أغوانج» ومعنى أغوانج في لغتهم كبير الأغوان، وإن الأرامنة الساكنين في «كنجة» و«روان» و«نخجوان» و«كيلان» يفتخرون بهذا الاسم - أعني «أغوان» ويدعون الأغوانية - فيحتمل أن يكون لفظ أفغان محرفا عن أغوان أو ألبان، وأن يكون رئيس القندسار بعد انتقاله إلى مقامهم الآني وإقامتهم بخطة قندهار سماها بهذا الاسم - أعني قندسار ثم حرف إلى قندهار - ويظهر من أطوارهم أنهم حين مهاجرتهم من أوطانهم الأصلية إلى مستوطناتهم الحالية كانوا متدينين بالديانة النصرانية، ثم أسلموا فيما بعد، وقد يوجد فيهم إلى الآن آثار بعض عادات جدودهم كوضعهم ما يشبه شكل الصليب على أقراص خبزهم.
قول هذا البعض وإن لم يكن خاليا عن الصحة بالمرة، إلا أن تجويزه كون قندهار محرفا عن قندسار يدل على قلة بضاعته في فن التأريخ؛ لأن قندهار من المدن القديمة الشهيرة المذكورة في «مهابران» كتاب ميثولوجيا الهنود، وقال بعضهم: إن هذه الطائفة كانت موجودة بتلك الجبال من عهد قديم على امتيازها على غيرها من الطوائف حتى قال: إنها هي التي حاربت مع إسكندر الرومي، بل كانت في زمن «كشتاسب» وكانت تابعة لولاية «سجستان» تحت حكم رستم المشهور، وكانت تدفع له في كل عام عشرة جلود من جلد البقر باسم الخراج، ثم جاهرته بالعصيان، وامتنعت عن دفع هذا الخراج الجسيم، إلا أنه استظهر عليها، وأرجعها إلى طاعته، والحق أن هذه الأمة من أصل إيراني وأن لسانها مأخوذ من لسان «زندواستا» وهو اللسان الفارسي القديم، وله مشابهة تامة بالفارسية المستعملة الآن، وإن متأخري المؤرخين كفرنسيس لنورمان وغيره يؤيدون هذا الرأي.
الفصل الثالث
في ابتداء سلطنتهم وقيام زعيم منهم بأمر الملك
نشأت هذه الأمة على الجلادة والإقدام فكانت أمة حربية لا تدين لسلطة الأجنبي عليها، حتى أنه في زمن محمود الغزنوي وجنكيز خان التتري وتيمور الكوركان، الذين تمت لهم السلطة عليها، لم تكن تبعيتها لهم خالية من الخطر، وكذلك في عهد انقسام ممالكها بين سلاطين الهند وفارس؛ إذ كانت تتربص بملوكها الشر دائما وتترقب الفرص لإيقاد نار الفتنة، وقد تطاولت أيدي طائفة «الغلجائي» على معسكر محمود الغزنوي ونهبوه، وقد تسلطوا على مدينة «قزنة» زمنا وشكلت طائفة منهم سلطنة في «دهلي» أيضا.
ولما استولى شاه عباس الكبير على بلدة «قندهار» دخلت طائفة الغلجائي و«العبدل» تحت طاعته، ثم جار عليهم الحاكم المتولي من طرفه وعاملهم بالظلم، أرسلوا من طائفة العبدل رجلا يسمى «سدو»؛ ليرفع الشكاية من الحاكم لحضرة الشاه، فلما وصل وعرض الشكاية عليه تعجب الشاه من فصاحته، ولاسترضائه عزل ذلك الحاكم وولاه بدله، فأقام في منصبه بالعدالة وحسن السلوك، حتى جلب قلوب الأفغانيين إليه بحيث رأوا أنه من الواجب أن تكون حكومة الأفغان دائما من ذرية هذا الشخص، وبلغ منهم حسن الاعتقاد فيه إلى حد لو قتل أحد من ذريته أحدا منهم لا يقاصونه، ولو سل أحد سيفا على أحد من نسله كان عقابه القتل، وقد تكون من نسله فصيلة تسمى «سدوزائي» ومنها أحمد شاه على ما سنبينه، وفي زمن شاه سلطان حسين الذي هو آخر سلاطين الصفوية الإيرانية، وقد جلس على كرسي الملك في سنة 1106، حصل العصيان من قبيلة «الغلجائي» القاطنة في مدينة «قندهار» وما يليها، وكلما اجتهدت رجال دولة الشاه في قمعهم لم تزدد نيران الفتنة إلا اشتعالا، فلما أعيتهم الحيل في أمر العصاة أرسلوا إليهم «جرجين خان الكرجي» الذي كان حاكما من طرف الشاه على «كرجستان» وكان قد أظهر العصيان على الشاه إلا أن دولة الشاه استظهرت عليه وقهرته، وبعد وقوعه في قبضتها لم يجد كفارة لذنوبه سوى خلعه للدين المسيحي، ودخوله في الدين المحمدي، وكان معروفا بحسن التدبير وقوة الحزم وثبات الجأش، وجعلوه حاكما على قندهار.
ولما ظن الشاه أن لسلاطين الهند التيموريين يدا في إيقاد الفتنة، أرسل مع جرجين المذكور نحو عشرين ألفا من العساكر الإيرانية وجماعة من الأبطال وذوي الدراية والدربة من أهالي كرجستان احتياطا لكف شر المداخلات الخارجية، فلما وصل هذا الخان بعساكره إلى ضواحي قندهار خرج العصاة وأظهروا الطاعة والانقياد إلا أنه رأى من الواجب عليه إظهار القساوة ومعاملتهم بالخشونة؛ ليذلل بذلك نفوسهم، فلم ير من عزيز إلا وأذله، ولا من قوي إلا وأضعفه، ولا من أمير إلا وأسره، حتى ضاقت صدور القوم عن كتم ما أودعها هذا الوالي من الضجر والغضاضة؛ فبعثوا رسلا وسفراء إلى أصفهان كرسي دولة الشاه ليعرضوا أحوال الأهالي على مسامعه، وحين وصولهم إلى أصفهان بذلوا مجهودهم لنيل ملاقاة الشاه لعرض شكواهم، وبعد أن أعيتهم الحيل لكثرة الحجاب والمناع «الذي هو أساس الظلم في البلاد الشرقية حيث يوجب تطاول أيدي الولاة والمأمورين على حقوق الرعايا كما هو مشاهد الآن في جميع أقطار الشرق» حظوا بملاقاته مرة واحدة، وعرضوا عليه مظالمهم، وكان بمعيته بعض أحباء جرجين خان فألقى إليه: أن شكوى هؤلاء العصاة شكوى الزور والبهتان يرومون التخلص من واليهم صاحب الضبط والربط؛ ليعودوا إلى مثل ما كانوا عليه، فلم يسمعوا من السلطان سوى العتاب فرجعوا إلى بلادهم مصحوبين بالخيبة وبثوا خبر الواقعة في أقوامهم، وكان للولي اطلاع على هذا الأمر بواسطة رقبائه، فأضمر السوء، وأخذ ينتهز الفرص للإيقاع بمن كان له مدخلية في هذا التظلم، خصوصا «ميرويس» المشهور بجلالة النسب، ومكانة الحسب، الذي كان أميرا لقبيلة كبيرة، محافظا على بلدة قندهار، ومعروفا بين الناس بسعة الأخلاق، وفصاحة اللسان، ولين الجانب، وجودة القريحة، وكان ذا وقع في النفوس وتمكن في القلوب، فمد الوالي عليه يد التعدي بعد زمن وأرسله مسلسلا إلى مدينة أصفهان، وكتب إلى أولياء الدولة أن الراحة والطمأنينة لا تستقران في البلاد إلا بحبس هذا الرجل، ومنعه من الرجوع إلى قندهار؛ لأنه مصدر الفساد ومنشأ الفتن.
وقد أخطأ جرجين خان في إرسال ميرويس إلى أصفهان مع علمه بأن الأمراء الشرقيين توطنت نفوسهم على الارتشاء، وأن بلوغ المقاصد ونيل المرام موقوفان على وجود الرشوة وعدمهما على عدمها، فإنه بإرساله هذا قد مكنه من إعطاء الرشوة لأولياء الدولة؛ لينال منهم مرامه، فلم تمض مدة من وصول ميرويس إلى أصفهان حتى اطلع على هيئة الحكومة وضعف عقل الشاه ونفاق أركان الدولة، وأولياء الأمور، وتودد إلى كثير من أعداء جرجين خان، واستمال قلوبهم إليه، حتى ساعدته الفرصة على مقابلة الشاه فبث إليه تفاصيل ما عنده من المطالب، وتمكن بحذقه وعذوبة منطقه من استمالة قلب الشاه إليه وتوسل بالرشوة إلى جذب قلوب الأمراء والكبراء، ولم يلبث أن انتظم في سلك أولياء الأمور في دولة الشاه.
وكان يمكنه إذ ذاك الرجوع إلى قندهار إلا أنه بعد اطلاعه على ضعف دولة إيران واختلال أمورها تمكن من نفسه فكر أعلى من هذا، وهو أنه يمكن أن يخلص بلاد الأفغان بتمامها ويفصل حكومتها عن حكومة الشاه، وعلم أن مثل هذا الأمر العظيم لا يصح الاستعجال فيه، فطلب من الشاه أن يرخص له في السفر للحج، فلما وصل إلى مكة المكرمة رأى من المناسب أن يأخذ بعض الفتاوى من علماء أهل السنة بوجوب محاربة الشيعة؛ ليدعو بذلك قومه إلى حرب دولة الشاه التي هي دولة شيعية، ويجمع كلمتهم على ذلك، فتحصل على بعض فتاوى بذلك، وبعد قضاء فريضة الحج رجع إلى أصفهان مخفيا أمره مظهرا للشاه غاية الإخلاص.
ومن غرائب الاتفاق أن وقعت في ذلك الوقت واقعة كانت من أحسن الوسائل لتنفيذ مقاصده، وهي أن رجلا مجهول النسب من الأرامنة عالما ببعض الألسن الشرقية تقدمت له خدمات للدولة الروسية في الممالك العثمانية فتوسل إلى إمبراطور الروس «بطرس الأكبر» في أن يجعله سفيرا لدى الشاه، فلحسن خدمته اقترن طلبه بالقبول فبعثه الإمبراطور إلى إيران سفيرا، وزاد في مكافأته أن أعفى جميع الأموال التجارية المتعلقة بهذا الرجل من رسوم الجمرك، فجمع هذا السفير كثيرا من تجار الأرمن، وتوجه بهم إلى إيران، ولما قرب من حدودها شهر نفسه بأنه من أولاد سلاطين الأرمن، فاتخذ ميرويس دخول هذا السفير بهذه الكيفية أحسن وسيلة لنيل مقاصده، وذلك أنه أخذ يتكلم في المجامع والمحافل سرا وعلانية، بأن النصارى يريدون أن ينزعوا كرجستان وأرمنستنان من أيدي دولة الشاه، ولا بد أن يكون جرجين خان حاكم قندهار هو الواسطة الفعالة في ذلك، ولقرب عهد جرجين خان بالإسلام؛ أخذ هذا الكلام من النفوس موقعا، وغلب على ظن أولياء الدولة صدقه، فراموا قهر جرجين خان، إلا أنه لقوة عضده وتمكنه في قندهار، تخوفوا من عصيانه عليهم، فأرجعوا ميرويس إلى بلاده حتى إذا تحرك وجرجين خان للعصيان قاومه للعداوة السابقة بينهما «انظر إلى ضعف الرأي واضطراب فكر الشرقيين إلى يومنا هذا.»
ولما رجع ميرويس إلى قندهار اشتد غضب جرجين خان وأراد أن يتخذ وسيلة لهلاكه، فأرسل إليه يتحكم عليه في أن يبعث بابنته إلى ابنه، وإذ رأى ميرويس أن هذا الطلب على وجه قهري وأن إذعانه له يحط من قدره، جمع الأفغانيين وحدثهم القصة، فاغتاظوا لذلك وحثوه على المقاومة والمدافعة عن شرفه؛ فامتلأ لذلك سرورا، لكنه أمرهم بالصبر والتأني، وقال: «الأولى أن نقتل الأسد في النوم إلا أنه يلزمكم الثبات على ما أنتم عليه واعتمدوا علي فإني سأنتقم من العدو.» فاطمأنوا وحلفوا له بالخبز والملح والسيف والقرآن على معاضدته والقيام بطاعته وقالوا: «ومن رجع عن ذلك فزوجته طالق بالثلاث.»
وكان من خادمات ميرويس المتربيات في بيته بنت جميلة أرسلها إلى جرجين خان ليتزوجها ابنه باسم أنها بنته، وأظهر غاية السرور والبشاشة وأنه غير حاقد على جرجين خان؛ فمحا بذلك ما في قلب جرجين، وأزال أحقاده حتى حصل عنده كمال الاعتماد عليه، وبعد زمن هيأ ميرويس مأدبة فاخرة بحديقة خارج البلد دعا إليها جرجين خان وأتباعه، وكان شراب الجميع بتلك المأدبة كأس الموت وساقيه ميرويس «هكذا لا يليق بالأمراء والسلاطين إذا غدروا بشخص أو ظلموه أو أضاعوا حقه أن يصافوه ويعتمدوا عليه خصوصا في مهمات أمورهم، فإن الحقد والعداوة إذا قرعت قلبا قلما زايلته.» ولبس ميرويس لباس جرجين خان وتبعته من الأفغان ألبسة تبعته، ودخلوا البلد بعد المغرب، وهجموا على مستحفظي القلعة على حين غفلة، ولحق بهم جماعة من الأفغانيين كان قد أعدهم كمينا قرب المدينة وانضم إليه أيضا سائر الأفغانيين الساكنين فيها فاستأصلوا جميع المحافظين إلا من فر، واستولوا على القلعة ونادوا: «من لم يأو جنديا من جند جرجين فهو في أمان.» وكان هناك ستمائة جندي أرسلهم جرجين لتأديب بعض القبائل في بعض نواحي الولاية، فقدموا إلى قندهار بالغنائم الوافرة بعد تلك الواقعة، فقوبلوا بالمدافع والبنادق وشجعان الأفغانيين فاطلعوا على حقيقة الأمر، وقاوموا مهاجميهم، فخرج إليهم ميرويس بخمسة آلاف، وثبتت أقدامهم أمام عساكره ثلاثة أيام أظهروا فيها من الجلادة والبسالة ما استوجب الثناء عليهم، ثم انهزموا، إلا أنهم خلصوا أنفسهم، ونجوا إلى أرض خراسان، فأخبروا بالواقعة، فازدادت بذلك دهشة الإيرانيين من الأفغانيين.
ولما خلا جو قندهار من المعارضين بعث ميرويس إلى رؤساء القبائل الأفغانية، فحضروا، ثم قام فيهم خطيبا يبين فضائل الحرية ومزاياها، وشدائد العبودية وبلاياها، ثم قال: «إن وازرتموني واتفقتم معي، فسنخلص أعناقنا من غل الذل، وننشر أعلام العز والحرية، ونتملص من سلطة الإيرانيين الشيعيين.» ثم أبرز ما عنده من الفتاوى الحاكمة بقتال الشيعة التي سبق أخذها من علماء مكة، وأذن فيهم قائلا: «ألا من رجع جانب الإيرانيين، واختار أن يكون في ربقة عبوديتهم، فليقطع الأمل عن أن يساكننا في ديارنا؛ إذ لا يمكن له معاشرتنا ويستحيل أن ينال مودتنا ومصافاتنا.» فوافقه جميع الأمراء، وأكدوا الموافقة بالأيمان «هكذا، هكذا، أولو الفضيلة والحزم، يفدون بأرواحهم ويخاطرون بأنفسهم؛ لتحرير أمتهم، وتخليصها من ربقة الأسر والذل، ولا يطلبون لذلك جزاء سوى تخليد الذكر الجميل، بخلاف أرباب النفوس الدنيئة والهمم المنحطة المنهمكين في الشهوات، فإنهم يبيعون أممهم وأوطانهم للأجانب بأبخس الأثمان.»
ولما بلغ خبر اتفاق الأفغانيين كرسي دولة الشاه، فعوضا عن أن يرسل عسكرا جرارا لتأديب العصاة وتقرير السلم، أرسل «محمد جامي خان»؛ لتهديد ميرويس ومن اتفق معه، فلما وصل هذا السفير إلى قندهار أخذ يبين عظمة دولة إيران وقوتها وقدرتها التامة على تذليل من ناوأها وينذر ميرويس بسوء عاقبة عمله هذا، فأجابه ميرويس قائلا: «هل تظن أنه لا يوجد العقل إلا في رءوس المترفين وأرباب النعم ولا يوجد في أهالي جبال الأفغانستان؟ ولو أن في إمكان سلطانك قهري وغلبتي ما كان له من حاجة لإرسالك لتتكلم بهذه الكلمات التي لا طائل تحتها.» ثم أمر بحبسه، ومع ذلك لم تنته دولة الشاه من نوم الغفلة، حيث بعثت بسفير آخر يسمى «محمد خان» حاكم هرات بعدما بلغها حبس السفير الأول، وقد كان السفير الثاني من أحباء ميرويس ومصاحبه في سفر الحج، ولما وصل إلى قندهار قال له ميرويس: «لولا سابق المحبة والصحبة لعاقبتك عقاب المذنبين، ولكن لا بد أن تعلم أن الرجال الأفغانيين لا يعودون إلى تحمل نير العبودية بعدما تخلصوا منه، وأن الأسود التي قطعت السلاسل لا تقيد بها، وأن السيوف المسلولة لا تغمد، وأن ملككم سينكب ويغلب ودولتكم ستنهب وتسلب.» ثم أمر بقيده.
ولما رأى أولياء الدولة أن لا فائدة في إرسال الرسل، ولا مفر من المحاربة، وجهوا الأوامر لحكام خراسان أن يجيشوا جيوشهم، ويهجموا على الأفغانيين، وبعد انهزامات متتالية للعساكر الإيرانيين تحقق لديهم أن عساكر خراسان وحدها لا تكفي لقمع الأفغانيين، فأعدوا جيشا كبيرا وجعلوا قيادته بيد «خسرو خان» ابن أخ جرجين خان الذي لم يكن في الجلادة والرشد أقل من عمه، وإنما فوضوا قيادته إليه؛ ليكون حب الانتقام لعمه موجبا لزيادة إقدامه وتحمسه «هكذا لا تفيد المماطلة والإهمال سوى الوقوع في الشقاء وعسر التخلص منه.»
فتقابل خسرو خان مع ميرويس واشتعلت نيران الحرب بينهما، فانهزم ميرويس، وحاصر خسرو خان مدينة قندهار فطلب محافظوها الأفغانيون من خسرو خان أن يسلموا له المدينة على شرط أن يؤمنهم على حياتهم فلم يرض بهذا الشرط، فلما علموا أن لا مفر من الموت أخذوا أهبة الدفاع، وكانوا كل يوم يهاجمون محاصريهم، وميرويس بعد جمع عساكره المتفرقة شرع في الهجوم عليهم من الخارج، حتى نفدت ذخائر خسرو خان فاضطر لترك المحاصرة والاشتغال بمدافعة ميرويس، إلى أن قتل، ولم ينج من عساكره الإيرانية التي كان مقدارها خمسة وعشرين ألفا سوى خمسمائة شخص «تلك عاقبة العجب والغرور.»
ثم أرسل الشاه جيشا آخر يقوده «محمد رستم خان» فانهزم أيضا وتمت السلطة لميرويس على ولاية قندهار بلا مزاحم ولا مخاصم، ثم توفى ميرويس عن ولدين لا يزيد سن أكبرهما على ثماني عشرة سنة؛ ولهذا اختار الأفغانيون أن يخلفه في الحكومة أخوه «مير عبد الله»، وكان لهذا الخليفة ميل للصلح مع سلطنة إيران، إلا أن آراء الأفغانيين كانت لا تساعده على هذا الميل، بل عارضوه، وقالوا: «إن لم تستطع أن تحذو حذو أخيك في المهاجمة فلا أقل من أن تهمل في أمر المصالحة.» ومع ذلك لم يسمع مقالتهم، بل تشاور مع بعض أصحابه، واستقر الرأي بينهم على أن يرسلوا معتمدين إلى دولة الشاه لعقد المصالحة بشروط ثلاثة؛ الأول: أن تعفى ولاية قندهار من الخراج السلطاني. الثاني: أن لا يكون للدولة عساكر في تلك الولاية. والثالث: أن تكون الإمارة وراثة في ذرية مير عبد الله المذكور.
فلما اطلع على ذلك الأمراء من الأفغانيين اشتد غيظهم منه وانحرفت قلوبهم عنه وحقد أكبر ولدي ميرويس المسمى «محمود» الذي كان يظهر من ناصيته علائم النجابة والشهامة على عمه حيث تعدى على حقه، فاتفق مع أربعين شخصا من الأفغانيين، ودخل بيته على حين غفلة، وذبحه، وباطلاع الأفغانيين على ذلك، أقاموه حاكما على أنفسهم ولقبوه بشاه قندهار.
وفي تلك الأوقات بعينها قام «إزاد خان العبدالي» من الأفغانيين واستولى على مدينة هرات ورفع لواء الاستقلال، واتفق مع بعض طوائف الأزبك على نهب بلاد خراسان الداخلة تحت حكومة إيران، فبعثت حكومة الشاه بثلاثين ألفا من العساكر تحت إمرة «صفي قلي خان» لتأديب إزاد خان فاستقبلهم بجيوشه، واقتتلوا من أول النهار إلى زوال الشمس، ولهول الواقعة اختلط الأمر على طبجية
1
الإيرانيين فلم يميزوا بين جيوش الأفغان وجيوشهم، فأخذوا يطلقون المدافع على عساكرهم الخيالة، فظنت جيوش إيران أن هذه خدعة حربية؛ إذ كانوا يعلمون أن الأفغانيين لا توجد عندهم المدافع فانفصلت العساكر بعضهم عن بعض، فاتخذ الأفغانيون ذلك فرصة للهجوم فهجموا، وشتتوا شمل العساكر الإيرانية، وبددوها وقتل صفي قلي خان مع ابنه وثمانية آلاف من العساكر الإيرانية، وتركوا جميع الأثاثات والأدوات العسكرية، وعشرين مدفعا وتمت بذلك السلطة لأزاد خان في ولاية هرات، واستقرت بها الحكومة البدالية، كما استقرت الحكومة الغلجائية في مدينة قندهار.
وفي أثناء هذه الفتن هجم الأكراد السنيون للنهب والإغارة على بلاد إيران، وتوغلوا فيها حتى وصلوا إلى جدران أصفهان كرسي المملكة، وثارت أعراب مسقط، واستولت على جزائر خليج فارس، وعلى الفرض
2
الواقعة بساحل ذاك الخليج، فلما رأى محمود شاه قندهار اختلال أحوال السلطنة الإيرانية وضعف عقول أمرائها وتفرق كلمتهم وتمكن النفاق من قلوبهم «كما هو الواقع الآن في أمراء الشرق» طمع في سلطنة الشاه، وساق عساكره لحربه من طريق «كرمان» مع عدم وجود المياه والكلأ بذلك الطريق، فلما وصل إلى كرمان، ولم يكن أهلها على استعداد حيث هاجمهم على غفلة منهم، سلموا له المدينة بدون حرب ولا منازعة، وحصل من عساكره أن أطالوا يد الظلم على الأهالي «كما هو عادة المتغلبين من الأمم الشرقية بل الغربية.» ثم صدر الأمر من شاه إيران إلى «لطف على خان» الذي كان واليا في بندر عباس بمحاربة الأفغانيين وطردهم، فتوجه إليهم، ونازلهم، فلم تكن إلا واقعة واحدة طرد فيها الأفغانيين من كرمان، بحيث لم يستطيعوا الوقوف في نقطة من النقط حتى رجعوا إلى قندهار، إلا أن أهالي كرمان صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، حيث نالهم من يد عساكر الشاه ما أوقع الاشتباه عندهم: «هل مصائب تغلب الأفغانيين أشد وأفظع أو مصائب مساعدة دولتهم؟»
ولما علم لطف علي خان أن مير محمود سيعود كرة ثانية، شرع في حشد العساكر وجمع الذخائر، وأخذ أهبة الاحتياط في «شيراز». ولدواع اقتضاها الحال إما لعدم الانتظام أو حكم الزمان، قد نشأ عن هذا وقوع الظلم بالرعية؛ إذ كانوا يصادرونهم في أموالهم، ويسخرون دوابهم في الأعمال اللازمة وغير ذلك، فاتخذ أعداء لطف علي خان هذا الاختلال وسيلة للسعي في عزله، فسعوا لدى الشاه فعزله عن رئاسة العساكر، فتفرقوا، وذهبوا من حيث جاءوا. «انظر إلى الأدنياء الأخساء خائني الوطن والأمة، كيف أنهم لبعض أغراض شخصية وعداوات جزئية، وللتشفي من شخص واحد، قد تسببوا في تفريق العساكر التي كانت وقاية للأمة وحفاظا للوطن، وترتب على تفريقهم ما ترتب كما سنبينه.»
وفي تلك الأوقات قد أغار العبدالية من الأفغانيين على غالب بلاد خراسان حتى كادوا يفتحون مدينة «مشهد» وهي طوس القديمة، وفي أثناء هذه الفتن والقلاقل وقعت زلزلة شديدة في مدينة «تبريز» وأصبح ثمانون ألفا من الناس تحت التراب، وحصل في الجو تكاثف حتى حجب ضياء الشمس، فكانت لا ترى إلا كنقطة من نحاس أحمر، فوقع في أوهام العامة أن هذه آثار الغضب الإلهي، ومقدمات نزول البلاء السماوي، وأخذوا يتحيلون لدفع القضاء بطرد الفاجرات وإزالة كثير من المنكرات، والمشايخ كانوا يطوفون في الأزقة ويدعون الناس للاستغفار، والمنجمون قد حكموا حكما باتا أن هذه علامة لخراب أصفهان؛ فوقعت العقول في وحشة، والنفوس في حيرة، وضعفت القلوب، وتدانت لهم حتى كانت هذه الأمة الكبيرة واقفة على قدم الاستعداد للموت، وانقطعت آمالها من الحياة والنجاة. «تفطن وانظر إلى مضار الاعتقادات الخرافية، وما ينشأ عنها من ضعف النفس وسقوط الهمة وارتباط الأيدي عن العمل.»
وفي سنة 1135 من الهجرة عاد مير محمود كرة ثانية من طريق كجستان إلى كرمان مع خمسة وعشرين ألفا من عساكر الأفغان والبلوج،
3
واستولى على كرمان بدون تعب إلا القلعة التي هي مقر الحكومة فإنه لم يتمكن من أخذها وتركها لمحافظيها على أن يأخذ منهم ألفين وخمسمائة تومان «كل تومان يساوي نصف جنيه إنجليزي.» وقد أيقن الأهالي، وتجسم في مخيلتهم، أن محمودا هذا هو غضب الله النازل على دولة إيران الموجب لخراب أصفهان، كما أخبر به العلماء والمنجمون، ثم عطف محمود عنانه إلى مدينة «يزد» يريد افتتاحها، فلم يقدر، فتركها، وتوجه على خط مستقيم إلى مدينة أصفهان كرسي مملكة الشاه، فلما صار على مقربة من أصفهان أرسل إليه الشاه رسولين يرجوانه في كف يد الإغارة والعودة إلى بلاده في نظير أن يعطيه خمسة عشر ألف تومان، فكانت هذه الرسالة دليلا عند محمود على استيلاء الضعف على الإيرانيين وتمكن الرعب من قلوبهم فلم يعبأ بهما وذهب إلى «كلتاد» «قرية على فرسخين من أصفهان» وعسكر عندها، وحفر حول عساكره خندقا؛ لعلمه بأن ستقع هناك محاربة بينه وبين عساكر الشاه، والتحق بعساكر محمود كثير من المجوس الذين على دين «زرتشت»؛
4
رجاء أن تسلط محمود يكون سببا لتخليصهم من جور الشيعة، ولتسلط الوهم على الشاه جمع الأمراء والوزراء يشاورهم في الأمر، فقال محمد قلي خان الذي كان وزيرا: «إن الأفغانيين وإن كان لهم جلادة وثبات في الميدان إلا أن ليس لهم قدرة على فتح القلاع، فالرأي أن نجعل عساكرنا في قلاع أصفهان وندافع عنها فإذا عجزوا عن فتحها تركوها ورجعوا إلى بلادهم كما فعلوا في كرمان ويزد.» واستحسن الشاه هذا الرأي، فقام والي عربستان «خان أهواز» وتكلم بالحمية والحماسة قائلا: «هذه غاية الجبن والضعف، كيف نرضى أن محمودا يحاصر مدينة أصفهان بشرذمة قليلة من الأفغانيين وهي كرسي دولة شاه إيران؟! الرأي أن نبرز إليهم ونحاربهم حيث هم معسكرون.» فتحرك عرق حمية الشاه، وبعث بخمسين ألفا مع عشرين مدفعا لملاقاة محمود، ولما تلاقى الجمعان عند قرية كلتاد رتب كل ميمنته، وميسرته، وقلبه، وركب محمود على فيل، وأخذ يدور حول عساكره ويجول فيما بينهم ويذكرهم بالفخر والمجد اللذين اكتسبوهما في الحروب السابقة، ويقول: «إن غلبتم عدوكم فمدينة أصفهان جزاء أتعابكم، وإن انهزمتم فلا مفر من الموت؛ لبعد الشقة بينكم وبين بلادكم، فتتجرعون سم الأجل بالذل والفضيحة.» وكان بين معسكرهم ومدينة قندهار خمسون مرحلة مع انقطاع المواصلات بينهم وبين هذه المدينة وقتئذ.
ولم يكن عند الأفغانيين مدافع، ولكن كان معهم مائة زنبورك «وهو شيء يشبه المدفع يحمل على الجمل ويطلق وهو فوقه» فأناخ الأفغانيون جمال الزنبورك وراء معسكرهم، ثم ابتدأ الإيرانيون بالقتال فهجمت ميسرتهم على ميسرة الأفغانيين، فتقهقر الأفغانيون منكسرين فغنمت منهم بعض الغنائم، ثم هجمت ميمنة الإيرانيين فتقهقرت ميمنة الأفغانيين، بخدعة حربية، فأغارت خيالة الإيران على عسكرهم، فلما دخلت الخيالة في المعسكر انشق عسكر الأفغان إلى فرقتين، وأطلق الزنبورك على الخيالة، فتساقطوا تساقط ورق الشجر في فصل الخريف، وهجم وقتئذ «أمان الله خان» الأفغاني على مؤخرة العساكر الإيرانيين فقتل الطبجية، وأخذ المدافع، وأمر بإطلاقها على عساكر الشاه، فلم يمض إلا قليل زمن، حتى انهزموا وتفرقوا، وتركوا جميع لوازمهم غنيمة للأفغانيين، فلما وصل خبر الهزيمة إلى أصفهان اهتزت له القلوب، واضطرب الشاه، وجمع وزراءه للاستشارة، وقال: «إن من الرأي أن نترك أصفهان، ونأخذ الخزينة معنا ونشتغل بجمع العساكر الشاهانية، ثم نهاجم الأفغانيين من خلفهم ونستأصلهم.»
فقبل هذا الرأي عند محمود قلي خان الوزير، ولم يقبله والي عربستان المذكور لأمر سنشير إليه، وقال: «لا يليق بالسلطان أن يترك كرسي مملكته لهزيمة واحدة فإن هذا آية الضعف، وموجب لنفرة قلوب الأهالي منه.» فأخذوا في تهيئة لوازم الدفاع والاستعداد للمحاصرة. وكان محمود وقتئذ مترددا في أمره حتى جاءه بواسطة جواسيسه «أتباع والي عربستان» خبر استيلاء الرعب على قلوب الإيرانيين، فاطمأن وساق عسكره إلى «فرح آباد» واستولى عليها بلا محاربة؛ لعدم وجود العسكر فيها، وبعد استيلائه عليها توجه للهجوم على محلة «جلغا» مسكن الأرامنة في أصفهان فاستولى عليها أيضا، ونشأ عن استيلائه خسارة جسيمة لساكنيها.
ثم هجم على برج من أبراج مدينة أصفهان فدفع عنه بقوة البنادق والمدافع فتقهقر ووقع في نفسه أن هذا التقهقر ربما يوجب زوال الرعب من قلوب أهالي المدينة فيصعب الأمر في فتحها، فهجم في اليوم الثاني مع الأبطال الأفغانيين على بعض الاستحكامات، وأظهروا جلادة وشدة، حتى كادت المدينة تفتح لولا مقاومة أحمد أغا أحد أغاوات الحريم، فإنه قاوم ببسالة، وجبر الأفغانيين على التقهقر، فوقع الرعب في قلب محمود، وأرسل يطلب المصالحة، على شرط أن تكون حكومة قندهار وكرمان وخراسان وراثة في ذريته، وأن يزوجه السلطان بابنته، ويعطيه خمسين ألف تومان، ولكن لم تقبل هذه المطالب عند الشاه.
ولما سمع والي عربستان بذلك أرسل سرا إلى محمود رسولا يلومه على طلب المصالحة، ويوصيه بالثبات، ويعده بالظفر، وقال في رسالته: «إنني منكم مذهبا، فاثبتوا ولا تخافوا.» ولما أحاط محمود علما بفحوى الرسالة انتعش مرة ثانية، ودبر تدابير أخرى، وهي أن يخرب القرى والقصبات التي هي حول أصفهان ويجمع الذخائر منها لعساكره ويحرق ما بقي، وقد فعل، ففر أهالي القرى إلى المدينة؛ لعدم وجود الأقوات عندهم، وكان الأمراء - لجهلهم بحقيقة الحال - يقبلونهم بكل مسرة؛ لظنهم أنهم يزيدون في عدد المدافعين، ولم يخافوا من حصول القحط في المدينة؛ لأنها لم تكن محصورة إلا من جهة واحدة، ثم هجم الأفغانيون من الجهة الأخرى، واستولوا على أحد الاستحكامات فيها، وكان محافظوا هذا الاستحكام من الكرج المنهمكين في شرب الخمر، ثم تجاوز الأفغانيون من قنطرة كانت هناك، واستولوا على بعض نواحي المدينة، وفي ذلك الوقت سمع الأفغانيون بقدوم قوم إيرانيين ببعض ذخائر إلى المدينة فعارضوهم وانتهبوها منهم، وقبل أن يصلوا إلى معسكرهم خرج إليهم قوم من قرية صغيرة يقال لها «أصفهانك» واسترجعوها منهم، وأسروا عم محمود وأخاه وابن عمه، وقتلوهم، وكان الشاه أمر بعدم قتلهم؛ لطلب محمود ذلك منه إلا أن أمره لم يصل إلا بعد القتل، فقتل محمود جميع من عنده من الأسراء الإيرانيين عندما سمع بذلك، وأخذ يتشبث بإتمام لوازم الحصار، وقطع طرق المواصلات، وفي تلك الحالة ألح بعض أولياء الدولة على الشاه أن يسلم إليه قيادة المدافعين، وتكفل بدفع الأفغانيين وطردهم من ضواحي أصفهان إلا أن والي عربستان «خان أهواز» منع الشاه من هذا بتمويهات وتدليسات ألقاها إليه .
ولما طالت مدة المحاصرة أخذت الأسعار ترتفع شيئا فشيئا، وظهرت علائم القحط في المدينة، ولم يجد الشاه وسيلة سوى أن أرسل ولده «شاه طهماسب» ولي العهد سرا إلى سائر البلاد الإيرانية؛ ليدعو الناس إلى حرب الأفغانيين وتخليص كرسي المملكة من أيديهم، فلم يتمكن من جمع كلمة الأهالي على القيام بتخليص أبيه، وكان كل يوم يشتد الكرب على أهل المدينة ويذهبون إلى الشاه ويلحون عليه في أن يخرج معهم للمحاربة؛ كي يخلصوا أنفسهم من غائلة الجوع والقحط، وخصوصا حينما سمعوا أنه سيرد إليهم ذخيرة، فإنهم اجتمعوا حول السراي السلطاني، ونادوا على الشاه بالخروج إلى الحرب؛ خوفا من أن تقع هذه الذخيرة في أيدي الأفغانيين ويموت أهل البلد جوعا، فأرسل إليهم الشاه يعدهم بالجواب في غد، فلم ينصرفوا، وأدمنوا على الطلب، حتى أطلق عليهم بعض مستخدمي الحرم البنادق ليرهبهم، فانزجرت نفوس الأهالي من هذا العمل، وتكدرت خواطرهم، وكادوا أن يهجموا على السراي لولا خروج أحمد أغا السابق الذكر إليهم وإرضائه لهم، وبعد انصرافهم جمع جماعة من أبطال العساكر وهجم بهم على الأفغانيين، واشتدت حملته عليهم حتى استخلص بعض الاستحكامات من أيديهم، إلا أن عساكر العرب الذين كانوا تحت إمرة والي عربستان «خان أهواز» تقهقروا تعمدا، فغضب أحمد أغا لذلك، وأمر بإطلاق البنادق على الفرقة العربية من عساكره.
فلما وقع النزاع بين العساكر، واشتغل بعضهم ببعض هجم الأفغانيون، وهزموهم، فذهب أحمد أغا إلى الشاه، وقال له: «إن خان أهواز هو الذي أوجب انهزامنا في جميع المواقع؛ لاتحاده مع محمود في المذهب، ولولا وجوده في معسكرنا لدفعنا الأفغانيين وهزمناهم من أول وقعة.» ولكن خان أهواز ألقى إلى الشاه ما زين له عزل أحمد أغا عن رئاسة المحافظين للقلعة، فعزله فتناول السم ومات، وبموت أحمد أغا فرح الأفغانيون جدا ووقع الاضطراب والوجل في أهالي أصفهان، فاضطر الشاه لأن يرسل رسولا إلى محمود يطلب منه المصالحة على الشروط السابقة، فأجاب محمود «بأن الشاه لا يملك الآن شيئا حتى يعطيني إياه، بل جميع ما في قبضته قد أصبح تحت يدي.»
وفي أثناء هذه الواقعة تحرك الملك محمود حاكم سجستان بعشرة آلاف جندي؛ لتخليص أصفهان، ولما بلغ هذا الخبر أهالي أصفهان قويت قلوبهم، وتعلقوا بحبل الرجاء، وعند شعور مير محمود الأفغاني بذلك أرسل إليه «أن ارجع عن عزيمتك هذه، ولك بلاد خراسان وسجستان تحكمها أنت وذريتك على سبيل الاستقلال.» فصارت هذه الرشوة عمى في بصر مروءته، فعاد للاستيلاء على الممالك التي وعده بها محمود، وانقطع الرجاء بعد ذلك من مدينة أصفهان وسدت طرق النجاة على أهلها وازداد الغلاء شيئا فشيئا، حتى وقع القحط، وأخذ الناس في أكل الحيوانات غير مأكولة اللحم، كالبغال والحمير ثم القطط والكلاب ثم الموتى من الآدميين، ثم كان الناس يموتون في الطرق والأزقة من الجوع وامتلأ نهر «زاينده رود» من جثث الموتى حتى تغيرت مياهه، ولم يكن يستطيع أحد أن يشرب منه، فلما بلغ الحال إلى هذا الحد وذلك في حادي وعشرين أكتوبر سنة 1722 عيسوية
5
المقارنة لسنة 1153 هجرية، خرج شاه سلطان حسين من الحرم لابسا لباس الحداد مع جميع أمرائه، وأخذ يدور في أزقة أصفهان، وهو يبكي من المصائب التي نزلت في أيام دولته على العباد والبلاد ويقول: «إن كل ذلك من خيانة الناصحين وعدم ديانة المشيرين.» ويبين للناس أنه يريد أن يتنازل عن الملك والتاج للأفغانيين، ولما شاهد الناس منه ذلك نسوا مصائبهم ومصائبه، وأجروا سيل الدموع من أعينهم. «هذا جزاء الغفلة وعدم التيقظ والانهماك في الشهوات واستخدام المخالفين في الجنس والمقاصد في المصالح المهمة خصوصا في زمن الحرب.» وفي اليوم الثاني رقموا قرار التسليم وختم عليه جميع الأمراء والكبراء.
وفي الثالث والعشرين من الشهر المذكور خرج شاه سلطان حسين مع جميع العظماء وثلاثمائة من خيالة إيران وذهبوا إلى محمود في فرح آباد، فلما دخلوا عليه في قصره لم يتحرك من مجلسه إلى أن وصلوا وسط الديوان، ثم إن الشاه خلع ريشة الملك عن رأسه وقال لمحمود: «يا بني، إن الله تعالى لم يرد أن أكون على كرسي إيران أزيد مما كنته، وأنت الآن أحق به.» فأجابه محمود: «إن الله يعطي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.» فغرز الريشة في عمامته، ثم تصافيا وزوجه الشاه ببنته في ذلك المجلس، وفي اليوم الثاني دخل محمود مدينة أصفهان، وأجرى السلام العام، فقابله الشاه وجميع الأمراء وسلموا عليه بالسلطنة، ولما استولى محمود على كرسي أصفهان اجتهد في تخليص الناس من جهد البلاد والقحط الذي حاق بهم، وفي جبر الخواطر المنكسرة، فمال الناس إليه وأبقى كل ذي منصب على منصبه، إلا أنه جعل على كل واحد رجلا أفغانيا ليتمرن الأفغانيون على الأعمال الدولية
6
ويحصل له الاطمئنان والثقة بالأعمال، وعاقب بالقتل كل من خان الشاه ودلس عليه في الحرب إلا والي عربستان «خان أهواز» فإنه سلب جميع أمواله، وفضحه أشنع فضيحة ولم يقتله، كأنه عاهده على إبقاء روحه.
ثم أرسل أمان الله خان بستة آلاف جندي؛ لفتح مدينة قزوين فسار إليها، وفي أثناء الطريق فتح مدينة «قاشان» و«قم» ودخل بعد ذلك مدينة قزوين بلا معارض ولا ممانع، إلا أن أهل قزوين كانوا أولي بأس وقوة ونفوس تأبى الضيم خصوصا من مخالفهم في المذهب، فلما رأوا بعض تعد من الأفغانيين، تجمعوا، وهجموا على الأفغانيين من الأطراف، وعند وصولهم إلى أمام القلعة التي بها الحاكم خرج أمان الله خان لتسكين الثورة فجرح، وانتهى الأمر بغلبة الأهالي، وطرد الأفغانيين بعد قتل ألف شخص منهم وذلك في سنة 1136، وفي أثناء سير الأفغانيين المنهزمين انفصل أشرف ابن عم محمود عن أمان الله خان بثلاثمائة أفغاني، وأخذ طريق قندهار، وبعد واقعة قزوين قام أهالي خنسار وسائر البلدان وعملوا بالأفغانيين مثل ما عمل أهل قزوين، واجتمع جميع الأفغانيين في أصفهان، ولما رأى مير محمود ذلك غلب عليه الجبن والخوف، وتوهم أن أهالي أصفهان ربما يفعلون معه مثل ما فعل غيرهم بقومه فتحيل لقتل جميع المستخدمين في الحكومة من الأمراء وبقايا العساكر المحافظين للقلاع والعساكر الذين بمعية شاه سلطان حسين، وطرد جميع الرجال من المدينة، حتى صارت مدينة أصفهان خرابا يبابا، ولما رأى أن سلطنته لا يصح قصرها على البنيان جلب إليها بعضا من الأكراد السنيين كانوا مقيمين في «درجزين». ولما اجتمع الأكراد وجاءه إمداد من جهة قندهار وجه بعض العساكر لفتح «جلبايكان» و«خنسار» و«قاشان» ففتحوا، وأرسل نصر الله المجوسي الذي لحق به في كرمان لفتح مدينة شيراز وسائر المدن الواقعة على سواحل خليج فارس، ففتح جميع تلك البلاد إلا شيراز فإنه جرح في محاصرتها ومات بذلك الجرح فأحيلت قيادة العساكر على «زبردست خان» الأفغاني، وبعد محاصرة مات الناس فيها من الجوع فتح البلد عنوة ودخلها، وأمر بقتل جميع من كان محتكرا للأقوات في المدينة حتى إنه أتى ببعض المحتكرين وعلقه في مخزن بره
7
إلى أن مات جوعا، ولما فتحت شيراز تجدد لمحمود عزم ونشأت فيه قوة فجمع ثلاثين ألفا وتوجه بها إلى جانب «كوه كيلويه» الواقعة على نحو ثلاث درجات في جنوب أصفهان فتعرضت له القبائل الحالة بطريقه إلى تلك البلاد، وأخذوا ينهبون عساكره ويفتكون، واتفق أن وقع الموت في جيوشه لاختلاف الهواء ورداءة المناخ؛ فانفعلت لذلك نفسه، ورجع إلى أصفهان خائبا، ودخلها ليلا. وكذلك وقعت له هزيمة عظمى في مدينة «كز» قتل فيها من عساكره جمع كثير فتسبب عن هذه الحوادث نفور قلوب الأفغانيين منه، فأجبروه على إرجاع أشرف من قندهار وجعله ولي العهد، ثم غلب الوسواس على مير محمود فطلب العزلة والاشتغال بالرياضة، وتصفية الباطن، والاستمداد من عالم الغيب. «وهذه عادة الشرقيين عند وقوعهم في الارتباكات لخطيئاتهم يعدلون عن الأسباب الظاهرة التي أعدها الله لنيل الغايات إلى الاستمداد من الأسرار الباطنية، بترك اللحوم والانزواء والانعزال، وهي عادة هندية وثنية فشت بين المسلمين في القرن الثاني عشر من الهجرة.»
ولما رجع من عالم الغيب الظاهر، وخرج من الخلوة إلى الجلوس ازداد فيه الوسواس وسوء الظن، حتى إنه لخبر لا أصل له أمر بقتل تسعة وثلاثين من أولاد السلاطين الصفوية، وما زال به الوسواس حتى أورثه خبلا وجنونا، وقال «ملا على حزين»: «إنه بلغ به الجنون إلى درجة أن كان ينهش لحم نفسه بأسنانه.» وفي أثناء جنونه سمع الأفغانيون بحركة شاه طهماسب وتهيئه للإغارة فاضطروا أن يجلسوا أشرف على كرسي السلطنة في حياة محمود، فأبى قبول السلطنة ما لم يقتلوا محمودا قصاصا؛ لأنه هو الذي قتل أباه مير عبد الله، فقطعوا رأس محمود في سنة 1138 من الهجرة، وقدموها إليه، فقبل السلطنة وأخذ بزمامها، وكان موت محمود عن سبع وعشرين سنة، وكانت مدة سلطنته ثلاث سنين.
ثم إن أشرف أخذ يستقبح أعمال محمود التي صدرت منه في آخر عمره، ويبث التشنيع عليها في الملأ العام، ولتطييب نفوس الأهالي، واستمالة قلوبهم، أخذ تاج الملك ووضعه على رجل شاه سلطان حسين وألح عليه في لبسه، فلم يرض الشاه بذلك، ورفع التاج بيده، ووضعه على رأس أشرف وقال: «إني اخترت العزلة على العزة.» وزوجه ببنته الثانية، ثم أراد أشرف أن يخدع شاه طهماسب فكاتبه يدعوه للملاقاة مبينا له «أنه قد وقع الهرج في بلاد إيران، وتطاولت إليها يد الأعداء والأجنبيين فلنجتمع لنصلح ذات بيننا ونتعاضد على دفع العدو من البلاد.» وإذ علم بذلك بعض الأمراء الإيرانيين الذين كانوا في خدمة أشرف كتبوا إلى طهماسب محذرين إياه من الاجتماع والاعتماد على قول أشرف، ولما استشعر أشرف بهذا أمر بقتل بقية الأمراء الإيرانيين الذين تخلصوا من سيف مير محمود متعللا بأنهم يراسلون عدوه، وقبل موت مير محمود بقليل كان سلطان العثمانيين قد عقد معاهدة مع إمبراطور روسيا «بطرس الأكبر» على تقسيم الممالك الإيرانية التي لم تدخل في حوزة الأفغانيين، وطرد الأفغانيين من البلاد التي حازوها، وتسليمها ليد طهماسب إن وافق على هذه المعاهدة، ولما أخذ أشرف بزمام السلطنة أرسل سفيرا إلى قسطنطينية فتفاوض مع علمائها في هذا الشأن وقال: «لا يليق بالسلطان أن يعاهد ملكا نصرانيا على اقتلاع ملك مسلم سني.»
فوافقه العلماء على ذلك إلا أن الوزراء حاجوا العلماء وحجوهم حيث قالوا: «إن السلطان العثماني هو أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، وظل الله في الأرضين، ومن لم يكن له مطيعا لأمره، ولم يخطب باسمه، ولم يعط الخراج، فهو عدو للدين، والجهاد فيه أفضل من الجهاد في النصارى.» فسكت العلماء لهذا البرهان الناشئ عن هوى الأنفس، ورجع السفير خائبا، وصدر الأمر لأحمد باشا الذي كان متسلطا على «مراغة» و«قزوين» بسوق العساكر إلى أصفهان، ولما سمع أشرف بذلك أمر بحرق القرى، وجمع عساكره واستقبل العساكر العثمانية فتلاقى أولا مع ألفين من مقدمة جيوشهم على بعد خمسة عشر فرسخا من أصفهان، فقتلهم عن آخرهم، فوقع الرعب في قلوب الأتراك لهذا الخبر، وأمر أحمد باشا بتوقيف العسكر وحفر الخنادق حولهم، أما أشرف فقد بعث بأناس سرا ليسعوا في قلوب الأكراد على ولائه وليذيعوا في المعسكر العثماني أن هذه الحرب مضادة للدين الحنيفي، وبعث بآخرين من العلماء جهرا إلى أحمد باشا ليستميلوا فؤاده إلى السلم ويبينوا له أن الصلح خير، فلم يسمع مقالتهم، بل أمر بسوق العساكر، وكانت ستين ألفا يصحبها سبعون مدفعا، ولم يكن مع أشرف سوى عشرين ألفا يصحبها أربعون «زنبوركا»، فلما تلاقى العسكران انهزم العثمانيون شر هزيمة بعد أن قتل منهم عشرة آلاف، وتركوا جميع أسلابهم وأدواتهم، وفر أحمد باشا إلى «كرمان شاهان»، وخوفا من أن يتعقبه أشرف لم يقم فيه، بل ذهب إلى بغداد، فاتخذ أشرف من ذلك فرصة لاستمالة أفئدة العثمانيين، فكتب إلى أحمد باشا: «إنني لا أحب التصرف في أموال المسلمين فأرسل أمينا من طرفك يستلم جميع ما تركتم سوى الآلات الحربية.» وأطلق أسراء العثمانيين فأوجب ذلك اشتهاره عند العثمانيين بحسن السيرة، فالتزموا أن يصالحوه على أن يعترفوا له بكونه شاه إيران، وأن يعترف هو من سلطان قلبه بكون السلطان العثماني هو ظل الله في الأرضين.
وإثر ذلك وقعت عدة مشكلات، أحدها كون أخي
8
محمود نزع إلى الاستقلال في قندهار فتسبب عنه الشقاق في طائفة الغلجائي، وانقطاع المدد عن الشاه أشرف، وثانيها كون الملك محمود السجستاني سمى نفسه شاها، وتغلب على غالب ممالك خراسان، وثالثها كون نادر المعروف بالشجاعة والعزم والشهامة قد انضم إلى الشاه طهماسب وصار أميرا على عساكره في مدينة «أسترآباد»، وفي خلال هذه المشكلات سار شاه أشرف لفتح مدينة «يزد» فوفق لفتحها، وأرسل سفيرا بعد ذلك إلى الدولة العثمانية فقابله رجالها بكل تبجيل وتعظيم، فعد ذلك شاه أشرف فاتحة الإقبال، ولكن لم يطل زمن سروره، حتى بلغه أن نادرا جيش جيشا من طرف طهماسب لاستخلاص مشهد وهرات من أيدي الأفغانيين العبدالية، فكان من الأمر أن تم له ذلك، استخلصهما واستفحل أمره في تلك البلاد، فاضطرب لذلك شاه أشرف، وأخذ يحشد العساكر، فجمع ثلاثين ألفا، وسار بهم إلى بلاد خراسان، وتلاقى مع عساكر نادر بقرب دامغان، فهاجمها مرات متعددة، إلا أن عساكره لم تقدر على مقاومة عساكر نادر فانهزم ورجع إلى أصفهان، وأمر بجمع الأفغانيين، وعسكر في شمال المدينة بقرب «مودجه خوار» وحفر خنادق وأقام استحكامات، فتوجه إليه نادر وكان في كل نقطة من سيره يزيد عساكره من الإيرانيين إلى أن وصل إلى معسكر أشرف فوجده في غاية المناعة، ومع ذلك أمر بالهجوم عليه وأظهر الأفغانيون غاية الجلادة والثبات، ولكن لما كانت عساكر العدو أكثر عددا، وأوفر عددا، ظفرت بهم، وقتل من أبطال الأفغان أربعة آلاف، وتقهقروا إلى أصفهان، وعلموا علم اليقين أن لا مقام بها فباتوا ليلتهم يتأهبون للرحيل، وقبل طلوع الشمس خرجوا من المدينة سالكين طريق شيران، ويقال: إن أشرف قبل خروجه من المدينة أرسل شاه سلطان حسين السيئ البخت إلى وادي العدم، وبعد أشهر ساق نادر الجيش بأمر طهماسب إلى شيراز، تلاقى هناك مع الأفغانيين المنكسري الخاطر، المجتمعين حول إصطخر، وبعد محاربة هينة تفرقوا وتقهقر أشرف إلى مدينة شيراز، ولما علم أن لا خلاص له خرج مع مائتي خيال قاصدا مدينة قندهار، وتفرقت جموع الأفغانيين مع أمرائهم وكان عددهم يبلغ عشرين ألفا، وفي مسيرهم إلى بلادهم كانوا يكابدون المشاق من قلة الزاد ومعارضة الإيرانيين وسائر القبائل لهم بالقتل والنهب، حتى تلف غالبهم، ولم ينج إلى بلادهم إلا القليل.
وأما شاه أشرف فكان يقاتل مع القبائل إلى أن وصل إلى بلوجستان، فقابله أهلها بالقتل والسلب حتى لم يبق معه إلا شخصان، ثم تلاقى معه ابن عبد الله خان بلوج، وعرفه، فقلته وبعث برأسه مع قطعة من الماس كانت معه إلى شاه طهماسب، وكان ذلك في سنة 1142، وكان أشرف طيب السريرة، حسن السيرة، واسع الأخلاق، حميد الأوصاف عند الأفغانيين، وكان الإيرانيون أيضا يفضلونه على محمود، وقد طالت سلطنة الأفغانيين في إيران سبع سنين، وقتل فيها من الإيرانيين بمحارباتهم مليونان من النفوس، وبعدما نال نادر السلطنة الإيرانية، ونزعها من أيدي الصوفية، جهز ثمانين ألفا لفتح قندهار، ولما وصل إليها وجدها منيعة، لوقوعها إذ ذاك في إبط جبل يقال له «كوه قيطول» وكان محيطا بها على هيئة نصف دائرة، وكان في الجهة التي لم يحطها الجبل أبراج منيعة، فارتأى نادر أن يبني مدينة بجانبها ليتمكن من الحصار، وبعد أن حاصرها سنة كاملة ولم يفز بالافتتاح؛ لوفور الذخيرة عند الأفغانيين، أخذ سبيل المهاجمة، واستولى على بعض الأبراج، بعد كرات عديدة، ووضع عليها الأهوان
9
والمدافع، وسلطها على المدينة فتماطرت الكلل عليها، فلم يجد أهل المدينة سبيلا للسلامة سوى التسليم، ففتحوا الأبواب، ودخلت عساكر نادر في المدينة، ولم يحدث من دخولهم أدنى ضرر بالأهالي؛ لأن نادرا كان قد أعلن العفو عن الأفغانيين، تقريرا لما التزمه عند نيل السلطنة من دفع الرفض، وتقرير الترضي عن الصحابة، فإنه عندما طلب منه الإيرانيون أن يكون هو السلطان والشاه أبى ذلك، وقال: «لا أقبل السلطنة حتى ترفضوا الرفض وتتراضوا عن الصحابة.» فأظهروا له الرضا وواثقوه على ذلك فقبل تاج الملك، ثم كاتب الدولة العثمانية «بأن الإيرانيين قد عدلوا عن سب الصحابة واطمأنوا للترضي عنهم، ولكن المذهب الجعفري من المذاهب المعتبرة عند أهل السنة فنؤمل أن تأذن الدولة بإقامة إمام للجعفريين في مكة المكرمة كما لسائر المذهب» فامتنع شيخ الإسلام عن ذلك، وأغرى الدولة بعدم القبول.
وقد بقي الأفغانيون تحت سلطة الإيرانيين من زمن موت شاه أشرف إلى موت نادر شاه. ولما مات نادر شاه في سنة 1161 قام أحمد خان العبدالي السدوزاي الذي كان في معسكر نادر شاه مع جموع من الأفغانيين والأزبك، وهاجم الإيرانيين ونازلهم منازلة عنيفة ثم انعطف بغاية السرعة إلى قندهار واستولى عليها ووضع يده على الأموال الخراجية التي كانت تحمل من كابل وبلاد السند إلى نادر شاه عند مرورها بقندهار، وبذلك قوي اقتداره فادعى الاستقلال، ولقب نفسه شاه أفغان، وسمى القبيلة العبدالية «دراني». ثم وجه عساكره إلى هرات ومشهد وسجستان، وغيرها من بلاد خراسان، وافتتح الجميع، وكان في مكنته أن يفتح جميع بلاد إيران في ذلك الوقت، غير أنه رأى اشمئزاز نفوس الأهالي من الأفغانيين لما سبق لهم من الإساءات إليهم، وأن تغيير المذهب الذي حدث فيهم بواسطة نادر شاه لم يكن متمكنا منهم، فعلم أن افتتاح تلك البلاد لا يعود بعظيم فائدة، واشتغل أولا بتدبير داخليته، واكتفى بتخليص أمته وترك بعضا من بلاد خراسان لابن نادر شاه، قياما بواجب حق أبيه عليه وتكفل له بحفظه، ثم لما رسخت قدمه في الملك ودان له جميع الأفغانيين ساق عساكره ست مرات إلى الأقطار الهندية، ونال الظفر في كل مرة خصوصا في الواقعة التي وقعت بصحراء پني پتان «بالباء الفارسية فيهما» الواقعة بقرب مدينة دهلي، وكانت تلك الواقعة مع المراتيين من عبدة الأوثان الذين أعجزوا أعاظم السلاطين التيمورية في الهند؛ إذ كانوا يرومون نزع السلطة من أيدي المسلمين، وعساكرهم في تلك الواقعة كانت ثمانين ألفا وعساكر أحمد شاه كانت ستين ألفا نصفها من الأفغان، ولم يكن اعتماد أحمد شاه إلا عليهم، فهزم بهم عساكر المراتيين شر هزيمة، ونكل بهم تنكيلا، حتى صارت هذه الواقعة سدا لسبيل فتوحاتهم، وانتشر له بهذه الواقعة أحسن ذكر بالبلاد الهندية، وكان ذلك مؤيدا له في فتوحاته الهندية فافتتح بلادا كثيرة كبنجاب وكشمير وسند وما يتاخمها من البلدان، ثم فتح بلوجستان ومكران وبلخ وغيرها، وخضع له بعد ذلك سائر الأمراء الكبراء الذين كانوا على مقربة من بلاده، وصار بتدبيره وحكمته متسلطا على مملكة عظيمة، وكان رجال مملكته من الغنى والثروة بمكان، إلا أن مالية الحكومة كانت فقيرة، فإن خراج أقطار كابل وقندهار قد وهبه لأمراء القبائل الأفغانية، ولم يكن يطلب منهم على ذلك عوضا سوى الطاعة والانتظام في سلك العسكرية.
وكان هذا السلطان العظيم الشأن من قبيلة «السدوزاي» على ما تقدم، وهي القبيلة التي كان الأفغانيون يجلونها، وينظرون إليها بعين الاعتقاد، وكان مع ذلك شجاعا ذا عزم وحزم، وتدبير محكم، وسداد رأي، وعلم وحكمة، وسعة أخلاق، وطيب نفس، وعدل وإنصاف، ورحمة بالضعفاء، وعناية بشأن الرعية وإصلاحها؛ ومن أجل ذلك تمكنت محبته من قلوب رعاياه عموما مع اختلاف في الأجناس والمشارب، ومن قلوب الأفغانيين خصوصا، حتى إنهم كانوا يعتقدونه من المقربين إلى الله، ويعدونه أبا لعموم الأفغانيين، ومن ثم لقبوه ببابا وهو إلى الآن يعرف عندهم بهذا اللقب، إذ يدعونه أحمد شاه بابا. استقر عرش ملكه وسلطنته على دعائم الثبات والتمكن، ولكن لما كانت العلة الحقيقية لثبات الملك والسلطنة هي حكمته وتدبيره، ولم يكن في عقبه من يكون على مثل حاله وقعت المملكة بعد موته في ارتباك واضطراب، وكانت وفاته سنة 1185 وقيل: سنة 1187 بعدما قضى من العمر خمسين سنة.
وكان وقتئذ ولده تيمور في مدينة «هرات» فلما سمع خبر الوفاة جمع العلماء والرؤساء وقواد العساكر وخاطبهم قائلا: «إن أبي وهو في حال حياته قد جعلني ولي عهده، غير أن وزيره أغراه وهو في الاحتضار بخلعي من ولاية العهد، وتولية أخي سليمان، بدلا عني. وهو الآن تضرب له طبول السلطنة في قندهار، وقد وضع يده على خزانة والدي، وعظمت بذلك قوته، واشتد بأسه، فهل فيكم من يؤازرني على استرداد حقي المغتصب؟» فصرخوا خافضين له جناح الخضوع، وقالوا بأجمعهم: «إن السواد الأعظم معك وكلنا بين يديك وعلى أهبة لتنفيذ أغراضك.» ثم اجتمعوا في مزار «خواجة عبد الله الأنصاري» وقام الشيخ يحيى العالم المشهور إذ ذاك، وقلده سيف السلطنة، وخضع له جميع الأفغانيين، واستعان بهم على أخيه حتى ظفر به وسجنه في قفص، ولبث في السجن زمن سلطنة تيمور إلى أن مات فيه، وكانت وفاته سنة 1233، ثم قتل وزير أبيه الذي كان قد سعى في خلعه، ثم ساق الجيش إلى هندستان وكشمير ولاهور وألجأ من نبذ طاعة الأفغانيين إلى الدخول في طاعتهم، وبعد ذلك ببضع سنين قلد ولده الثاني «محمود» ولاية هرات، ونقل كرسي السلطنة من قندهار إلى كابل، وجعل المتصرف فيها ولده الثالث «زمان» وقد كان هذا الولد على جانب عظيم من مكارم الأخلاق، واتفق في تلك الأيام أن شاه مراد بك أمير بخارى أغار على مدينة مرو فدمرها، وأسر جميع أهلها، وكانوا على مذهب الشيعة، فاستغاثوا بتيمور شاه فهم لاستنقاذهم، ولكن حال بينه وبين ذلك «فيض الله» أحد القضاة حيث أفتى بأنه لا يجوز لسني أن يسعى في خلاص شيعي. «فاعتبروا يا أولي الألباب.» وتوفى تيمور بكابل ليلة الثامن من شوال سنة 1207 وماتت راحة الأفغانيين بموته، وكان حسن السيرة، لين العريكة، محبا للسلم، ومن أجل ذلك قد نبذ طاعته بعض أمراء البلدان، وكان له من النساء ثلاثمائة من الحلائل، ليس فيهن أفغانية، وخلف اثنين وثلاثين ولدا.
ولما سمع همايون، وهو في قندهار، خبر وفاة والده، قام في قومه برسم السلطنة، وحشد الجنود، وتوجه بها إلى كابل؛ ليستولي عليها، فبلغ ذلك أخاه زمان فخرج لمقابلته بجيش جرار فتلاقيا، واحتدم القتال بينهما في «كلات الغلجاي»، غير أن همايون لم يثبت أمام أخيه، بل فر إلى هرات، والتجأ بأخيه الآخر محمود، والتمس منه أن يعينه على زمان فلم يجبه، ولما آيس منه ترك هرات، وسلك طريق قندهار، واتخذ له مقاما بين المدينتين، فاتفق أن قافلة كانت تأتي من قندهار إلى هرات فاعترضها همايون وقتل رجالها، وسلب أموالها، واستعان بها على حشد جيش؛ ليعاود قتال أخيه زمان، فبلغ ذلك حيدر ابن زمان، فخرج لصده، فلم يقو عليه، بل انهزم، ودخل همايون مدينة قندهار، وعامل أهلها بالخشونة، وعذب تجارها، ونهب أموالهم، وجيش بها الجيوش، ولما سمع بذلك زمان شاه ساق جيشه نحو قندهار، وأخذ في الحملة على همايون، وكانت الدائرة عليه، ففر إلى «ملتان» وقاومه واليها حتى هزمه، وقتل ولده، وأخذه أسيرا، وبعث به إلى زمان شاه فأمر بسمل عينيه.
وبالجملة فإن زمان شاه بمعونة القاضي فيض الله وباينده خان، وبمساعدة البخت، قد خلص له الملك بعد أبيه، واتخذ رحمة الله خان وزيرا له، مع أن الأمراء نصحوه بعدم توليته هذا المنصب، فلم يسمع نصائحهم، ولزم من إقامته فيه فساد على ما نبينه، وقد نفذت سلطة زمان شاهن في البلاد التي كانت تحت سلطة آبائه، كسند، وكشمير، وملتان، وديرة، وشكاربود، وبلخ ثم سار بنفسه إلى قندهار، وفي أثناء ذلك قام أخوه محمود في هرات، وادعى الاستقلال، وحشد العساكر، وسيرها نحو قندهار، فلما أحس بذلك زمان شاه خرج منها، وتوجه لمقابلته، فتلاقيا بين كرشك وزمين داود، فطلب زمان شاه أولا المصالحة من أخيه محمود، فأبى اتكالا على قوته، فاشتعلت نيران الوغى بين العسكرين، وانجلت بهزيمة محمود، ففر إلى هرات، ووقع كثير من أمرائه في الأسر، وخزينته في قبضة عساكر أخيه، وبعد هذه الواقعة وقعت المصالحة بينهما على شرط أن تكون هرات وفره تحت إمرة محمود، وأن تقرأ الخطبة، وتضرب السكة فيهما باسم شاه زمان، ثم توجه الشاه إلى كابل، ومن كابل إلى لاهور، وتسلط عليها وعلى الممالك القريبة منها، وعادت تلك النصرات على عساكره بالثروة والغنى.
وبينما هو في نواحي لاهور إذ بلغه أن محمودا نقض المعاهدة، ويريد فتح قندهار، فأسرع بالرجوع إليها، ومنها توجه إلى هرات، فلما سمع بذلك محمود جمع عساكره، وخرج من هرات لمقابلته إلا أنه بلغه أن الأمراء الذين تركهم في مدينة هرات قد أثاروا الفتنة فيها، ونزعوا لتسليمها بغضا في وزيره لكونه شيعيا فاضطر للرجوع، ولما دخل المدينة قام عليه «قلج خان» الذي كان رئيس أويمق «طائفة من الترك» مع فرقة من عساكره، وأظهروا العصيان، فأرسل وزيره الشيعي ليستميلهم، فحبسوه وأبوا إلا العدوان، وفي هذه الحالة سمع أن قيصر ابن شاه زمان قرب من المدينة، فلم يجد محيصا من الهرب فخرج مع ابنه كامران وفر إلى بلاد العجم، والتجأ إلى فتح علي شاه جد هذا الشاه الموجود الآن، فدخل قيصر مدينة هرات بلا ممانع، ثم حل بها شاه زمان أبوه، وجعله واليا فيها، وبعد مدة رجع محمود إلى نواحي هرات، وجمع بعضا من العساكر لفتحها، إلا أنه لم ينجح، بل انهزم، وحيث لم تطب نفسه بالرجوع إلى فتح علي شاه ذهب إلى أمير بخارى «شاه مراد» وبعد أن لبث عنده ثمانية أشهر استأذن منه في الذهاب إلى خوارزم ثم توجه من خوارزم قاصدا فتح علي شاه سلطان إيران مرة ثانية، وبعدما قضى مدة من الزمن عنده استعان به على تجهيز جيش جرار وساقه إلى قندهار فدخلها بدون ممانعة، ثم اتصل به فيها فتح محمد خان بن باينده خان، وساق معه الجيوش إلى كابل، فلما سمع بذلك شاه زمان خرج لملاقاتهما، ولما التقى الجمعان وقعت بينهما حرب هائلة، أريقت فيها دماء غزيرة من الطرفين، وانتهت بهزيمة شاه زمان، ووقوعه أسيرا بيد أخيه شاه محمود، فأمر بسمل عينيه، وقبض على وزيره رحمة الله خان الخائن، الذي قد كان لطمعه في السلطنة أغرى شاه زمان بقتل جميع الأمراء، وفيهم باينده خان أبو فتح محمد خان الذي اتصل بمحمود، فأمر محمود بتجريد هذا الوزير الشرير من ثيابه وإلباسه ثوبا من حصير، وإشهاره في المدينة على حمار، ثم بقتله بعد ذلك.
ولما لم يقو قيصر بن شاه زمان على مقاومة عمه، ترك مدينة هرات لفيروز الدين شقيق محمود، والتجأ إلى شاه إيران فتمت السلطة لمحمود وتسلط على كرسي كابل، ولما كان محمود يميل إلى مذهب الشيعة نفرت منه قلوب السنيين فتحرك عرق حميتهم وثاروا عليه ثم خذله الشيعيون أيضا، وأجمع أمر الجميع على إعناته فألقوا القبض عليه، وحبسوه في «بالاحصار» وأخرجوا شاه زمان الأعمى من الحبس ليحكم فيهم إلى أن يصل إليهم شاه شجاع، وبعد خمسة أيام قدم شاه شجاع من البنجاب، فأخرجوا محمودا من السجن، وقدموه إلى شاه زمان ليقتص منه، فعفا عنه رحمة به، وأمر برده ليحبس في بالاحصار. وبعد زمن قليل توجه شاه شجاع بجيش جرار إلى كشمير لتأديب واليها عطا محمد خان ابن شير محمد خان، حيث بلغه عصيانه ، فلما وصل إلى مدينة مظفر آباد بقرب كشمير، وافاه سفير من قبل عطا محمد ليعتذر للملك عن عصيانه، ويعرض عليه طاعة سيده وعبوديته له فرجع شاه شجاع بعدما وثق من معاهده، وبينما هو في الطريق إذ بلغه أن محمودا ومن كان معه من الأمراء في الحبس ذبحوا حرس القلعة، وفروا، والتحقوا بفتح خان، الذي كان مسجونا في قندهار وتخلص من سجنها، واتصل بكامران بن محمود وهو وقتئذ في نواحي الأراضي الأفغانية، وأنه قد وقع لذلك اضطراب شديد في مدينة كابل.
فلما ورد شاه شجاع المدينة وشاهد القلق المستولي على أهاليها تأسف بذلك أسفا عظيما، وبعد اجتماع محمود وابنه وفتح خان ذهبوا إلى هرات؛ ليستعينوا بالأمير فيروز الدين السابق ذكره، والي تلك المدينة، فقابلهم بكل احترام، وقدم إليهم هدايا وألبسة فاخرة، إلا أنه لم يأذن لهم بدخول المدينة، وأبى مساعدتهم، وأبدى لهم عن ذلك أعذارا فانقلبوا راجعين، وفي أثناء رجوعهم صادفوا قافلة آتية من هرات إلى قندهار وأخرى من قندهار إلى هرات فأجمعوا أمرهم على أن يقطعوا سبيل هاتين القافلتين، ويسلبوهما، وقد فعلوا، وبعد أن تمت لهم الغنيمة جهزوا أربعة آلاف خيال؛ لفتح قندهار، فلما اقتربوا منها برز إليهم واليها عالم خان بعساكره، وكانت مقتلة عنيفة انتهت بأسر عالم خان. وبعد مدة يسيرة افتتحوا المدينة، واستولوا عليها، ثم بعد مضي زمن جهزوا مائة ألف، وساروا بها لمحاربة شاه شجاع فالتقى الجمعان في قزنة، وبعد ملحمة مهولة تقهقر شاه شجاع، وفر إلى كابل، وحيث لم يكن على ثقة من الأهالي، ولم يركن إليهم فبارح المدينة متوجها إلى بيشاور، بعد أن ترك فيها الأمير حيدر بن شاه زمان، وبذلك تم الظفر لمحمود فدخل، واستولى على عرش الملك، وأبدى لرعيته علائم الشفقة والرحمة، وقلد فتح خان منصب الوزارة، وفوض إليه مهام أعمال السلطنة، وأطلق له التصرف ونصب ابنه كامران واليا على قندهار، ثم إن فتح خان أقام جميع إخوته ولاة في الممالك الأفغانية، وفي خلال تلك الوقائع قتل كامران قيصر الذي أسلفنا خبر هربه إلى إيران. وكان عوده لما سمع أن عمه شاه شجاع صار سلطانا، وبعد مدة طرد شاه شجاع من بيشاور فراسل عطا محمد والي كشمير يطلب منه أن يمده بالدنانير والدراهم، فأجابه عطا محمد «بأنك إن بعثت ما لديك من الجواهر رهنا أرسلت إليك ثلاثين لك روبية» «كل لك منها يساوي عشرة آلاف جنيه» ولم يكن عند الشاه من الجواهر سوى جوهرة كبيرة تسمى «درباي نور» أي بحر النور، فقدمها لعطا محمد فأرسل إليه خمسة عشر لكا، ووعده بإرسال الباقي، فجهز شاه شجاع جيشا، ورجع به إلى بيشاور ليسير منها إلى مدينة كابل، فلما بلغ محمودا خبره أخرج شاه زمان من السجن وخاطبه قائلا له: «إن المملكة قد حاق بها الضرر، وآلت إلى الخراب، وأريقت دماء المسلمين هدرا، فهلموا بنا نستبدل الشقاق بالاتفاق، ونشتغل فيما يعود على المملكة بحسن العاقبة وعلي أن أقوم بجميع واجباتكم وإنزال كل واحد منكم منزلة لائقة به، وأطلق جميع الأمراء المحبوسين من قيودهم وعليكم أن تراعوا مكانتي نظرا لكوني ابنا بكرا لأبينا.»
ولما سمع شاه زمان هذا الخطاب بعث يخبر به أخاه شاه شجاع، فلما وصل إليه الكتاب اتخذه وسيلة لتهديد عطا محمد إذ كتب إليه: «إن لم تعني بالمال والرجال، لأتفق مع أخي على قلع أساسك.» فاهتم لذلك عطا محمد، وجهز خمسة آلاف وسار بها إلى بيشاور. ففرح لذلك شاه شجاع ظنا منه أن عطا محمد قادم لإمداده، ولكنه أضمر غدرا، وفاجأ الشاه بتلك المدينة، وقبض عليه، وأخذه أسيرا في قفص إلى كشمير، واجتهد في تحصينها، وكاتب حكومة الإنجليز في الهند للاتفاق معه على أن يجهز جيشا لحرب رنجيت سنك الوثني
10
الذي اغتصب في أثناء تلك المناوشات الأهلية بعض البانجاب من بلاد الأفغانيين، وتخليص البلاد التي استولى عليها، وتركها بقبضة الإنجليز بشرط أن تعضده إن قصده محمود بسوء، فوقعت المكاتبة بيد جواسيس رنجيت سنك وقدموها له فبعث بها إلى محمود طالبا منه أن يتحد معه في الهجوم على عطا محمد فجهز كل منهما جيشا وفاجآه فأخذاه أسيرا، إلا أن محمودا قد عفا عنه، وخلص شاه شجاع من الأسر، أقام فتح خان الوزير أخاه عظيم خان واليا على كشمير، واستصحب رنجيت سنك شاه شجاعا، وذهبا إلى مدينة لاهور.
ثم بعد مضي سنتين شرهت نفس رنجيت سنك للاستيلاء على كشمير، فجهز ثمانين ألفا من عبدة الأوثان الباباناكيين، وسار بها إلى تلك المدينة، ولم يكن عند عظيم خان سوى عشرة آلاف من المسلمين، فكمن بهم حتى دخل الجيش الوثني الوادي، فأحدقت بهم العساكر الكامنة من الجهات الأربع، وأوقعوا بهم قتلا وأسرا، فكان عدد من قتل وأسر أربعين ألفا وفر باقي العساكر إلى بلادهم، ناجين بأنفسهم من العناء والمشقة، فانفعل لذلك رنجيت سنك، وكتب يستعطف محمودا ويعتذر إليه مما فعل قائلا: «إن الذي أغراه على ما فعل إنما هو شاه شجاع» ولما استشعر بذلك الشاه هم بمفارقة لاهور فطمع رنجيت سنك في مجوهراته، فأبى أن يسلمها إليه على وجه الملكية بل أعطاه إياها على سبيل الأمانة، وكان من جملتها درباي نور «وأظن أنها هي التي أصبحت الآن درة تاج بريطانيا» ثم فر ليلا والتجأ إلى الحكومة الإنجليزية، فتأسف رنجيت سنك لذلك، وكتب إليه يستميله إلى الرجوع، فلم يطب به نفسا، فرد عليه مجوهراته، وأما الإنجليز فإنهم عدوا التجاء الشاه إليهم من أسباب حظهم فأكرموا وفده.
وفي تلك الأوقات تحركت عزيمة شاه زمان الأعمى، الذي كان موقرا عند العلماء والأمراء للسفر إلى بلخ قاصدا زيارة قبر هناك مشهور بأنه قبر سيدنا علي - رضي الله عنه - فبلغها، وسافر منها إلى بخارى، فقابله أميرها «مير حيدر» بالتعظيم والإجلال، وتزوج بابنة الشاه، ثم سافر من بخارى إلى طهران، فأكرمه فتح علي شاه مزيد الإكرام، وزوده ثم شخص إلى بغداد، وكان واليها إذ ذاك داود باشا المشهور، ومنها قصد الحج، فمات في الأقطار الحجازية.
وفي خلال تلك الحوادث سنة 1222 من الهجرة أزمع حاجي فيروز الدين الذي كان واليا في هرات من طرف أخيه محمود أن يفتح خراسان معتمدا على همة «صوفي الإسلام» البخاري الذي هو من الصوفية الجهرية، وقد كان ترك بلاده خوفا من «بيك بان الأزبك» وكان أيضا يزعم أن الوحي ينزل عليه وأنه يقدر على خرق العادات طامعا أن يرتقي بأنفاسه الباطنية إلى عرش السلطنة، فجهز خمسين ألفا من قبائل هرات وقندهار واندخود وكندز وميمنة وفارياب، وسار بها إلى قلعة شكيبان، فلما أحس بذلك نائب خراسان محمد خان فاجار جهز جيشا لمقابلته، فلما تقابل الجيشان على بعد سبعة فراسخ من هرات اشتعلت نيران الحرب بينهما، حتى فني كثير من الحزبين، وقتل صوفي الإسلام المذكور، وكان في قلب المعسكر داخل هودج مزركش ومحاطا بثلاثمائة وستة وستين من خلص أتباعه بعدما قتلوا جميعا، فعند ذلك تقهقرت عساكر فيروز الدين إلى هرات، وأما عساكر محمد خان، فقد أحرقوا جثة صوفي الإسلام، وأرسلوا جلدة رأسه بعد سلخها، وحشوها تبنا إلى فتح علي شاه. «هذا جزاء من أوقع الفتنة بين طائفتين من المسلمين حتى سفك بعضهم دم بعض، حيث غرهم وأوهمهم بمشيخته وتمويهاته وادعائه الكاذب أنه ممن ينتهي إليهم زمام التصرف في عالم الكائنات، بما ينطوي عليه من القوة الإلهية والأسرار الربانية.»
وبعد انهزام فيروز الدين اضطر إلى أن يرسل إلى الشاه هدايا فاخرة، استمالة لقلبه واتقاء لضرره، بكف عساكره عنه، وقد تعهد أيضا أن يقدم إلى سدة الشاه كل سنة جزءا وافرا من الخراج، وكان فيروز بعد هذه المصالحة مع الإيرانيين بين إقدام وإحجام، ومحاربة ومصالحة، وتسنن وتشيع، إلى أن اشتدت المنافسة بينه وبين حسن علي ميرزا بن فتح علي شاه والي خراسان، وخاف من إغارته على بلاده فأرسل سفيرا إلى أخيه شاه محمود يستمد منه، فعد محمود ذلك وسيلة للاستيلاء على مدينة هرات فأرسل وزيره فتح محمد خان بجيش جرار، ولما وصل إلى المدينة استوحش منه فيروز ولم يسمح بدخوله فيها، بل أمره أن يتوجه لأخذ غوريان من يد الإيرانيين، إلا أن فتح محمد خان كان مأمورا من طرف سيده بدخول مدينة هرات فلم ير بدا من إعمال الحيلة لأخذها، فأرسل إلى فيروز يطلب منه القدوم إلى المعسكر ليستشيره، فلما خرج إليه قبض عليه وأرسله مع أهله أسيرا إلى قندهار ودخل المدينة وأقام بها، وجهز أخاه كهندل خان لتسخير غوريان، ونشر مكاتيب في بلاد خراسان يدعو بها رؤساء القبائل للاتحاد معه على محاربة الإيرانيين.
ولما سمع بذلك حسن علي ميرزا أرسل جيشا لمحافظة تلك البلدة، ولما حصل التقاوم بين المدافعين والمهاجمين جهز فتح خان جيشا كبيرا من أهالي قندهار وهرات وبلوجستان وسجستان وقبائل جمشيدي وهزاره وفيروز كوهي، وسار به مصحوبا بالمدافع والزنبورك لتسخيرها وسائر بلاد خراسان الباقية تحت سلطة الإيرانيين، وعند وصوله إلى كوسيه بلغه أن حسن علي ميرزا وصل بعساكره إلى «كافر قلعة» لمقاومته، وكان بينهما إذ ذاك فرسخان، فأرسل إليه سفيرا يطلب منه تسليم غوريان، ويهدده بالحرب قائلا: «من ذا الذي يدري عاقبة الحرب أهي لك أو عليك؟ وربما أوقعك كبرك واشمئزازك الناشئان عن رؤيتك نفسك ابن سلطان في أمر يوجب تزلزل سلطنة أبيك.» فأجاب حسن علي ميرزا على لسان سفيره: «بأن سيدك محمودا المتربي بنعمة الشاه لا يليق به أن يتكلم بمثل هذا الكلام، فضلا عن خائن مثلك قد حارب ساداته السدوزائية.»
فلما رجع السفير خائبا ساق فتح خان عساكره إلى كافر قلعة، ووقعت بين العسكرين محاربة مهولة، قتل فيها جم غفير من الفريقين، حتى إذا كاد أن ينهزم العساكر الإيرانيون أصيب فتح خان برصاصة في فمه، فتقهقر إلى هرات، فاضطرب شاه محمود وولده كامران اللذان كانا وقتئذ في المدينة، فأرسل ملا شمس مفتي هرات وخان ملا خان «أي شيخ الإسلام» إلى فتح علي شاه ليخبراه أن هذه الجراءة من فتح خان، ولم تكن بعلم من محمود، وليستعطفا قلبه إليه، ولما اطلع الشاه على فحوى السفارة خاطب السفراء قائلا: «إني لا أرضى من شاه محمود إلا أن يبعث إلي فتح خان أو يسمل عينيه.» ولما أحاط كمران بذلك علما حمله الجبن وضعف النفس وقلة العقل على سمل عيني هذا البطل الشجاع الذي أقعد أباه على كرسي السلطنة وحبسه مع أخيه «شيردل خان » وفر «دل خان» أخوه الثاني من هرات إلى قرية «نادر علي» وتحزب مع جماعة من الغلجائي على كامران ليخلص أخويه، وعند سماع كامران هذا التحزب أمر بإطلاقهما، جبنا منه وضعفا.
ولما شاع خبر سمل عيني فتح خان ووصل إلى مسامع أخيه الثالث الشديد البأس «عظيم خان» والي كشمير، أرسل اثنين من إخوته، وهما «دوست محمد خان» و«يار محمد خان» إلى بيشاور لطلب شاه زاده أيوب أخي محمود ليقلداه السلطنة، وقعد فعلا، وناديا باسمه، ودخلا في حدود «جلال آباد» وهجم دوست محمد خان على كابل، وافتتحها، وأرسل أيضا أخاه محمد زمام خان لطلب شاه شجاع الذي كان مقيما في البلاد الهندية التي كانت تحت سلطة الإنجليز، فجاء شاه شجاع المذكور وحارب «سمندر خان» والي دره وغلبه.
وبالجملة فقد قام إخوة فتح خان الذين يبلغ عددهم عشرين رجلا، واتحد كل واحد منهم بواحد من أبناء تيمور شاه الذين يبلغ عددهم اثنين وثلاثين رجلا، وداروا بهم في البلاد الأفغانية شرقا وغربا، وقلعوا أساس ملك محمود ولم يبق في يده سوى قندهار وهرات، ثم انتزعوا الملك من أبناء تيمور، واستقل كل واحد في ولاية من ولايات أفغانستان، كل ذلك أخذا بثأر عيني أخيهم.
ثم بعد زمن قليل استولوا على قندهار ونزعوها من يد محمود أيضا فانحصرت سلطة محمود على هرات ونواحيها، وفي سنة 1241 ساء ظن محمود بابنه وتفرس منه العصيان وخاف منه أن يقبض عليه فخرج من هرات، وجمع بعضا من قبائل «فره» وتوجه لمحاربته، فاضطر ابنه للالتجاء بحسن علي ميرزا، والاستغاثة به، فأغاثه فغلب أباه وهزمه، وأعد كامران - أي الابن المذكور - بعد هذه الواقعة مأدبة فاخرة في هرات دعا إليها حسن علي ميرزا وسلمه مفاتيح خزائنه.
وفي أثناء هذه الفتن استفحل أمر رنجيت سنك الوثني الذي سبق ذكره حتى استولى على ولاية كشمير على غيبة من محمد عظيم خان واليها، حيث ذهب إلى كابل لزيارة أخيه دوست محمد خان، وفي سنة 1245 أرسل كامران سفيرا إلى الشاه ليستعين به على أبيه محمود ثانيا ، فصادف وصول السفير إلى إيران وفاة أبيه بمرض الوباء، وتلاقى هذا السفير مع فيروز الدين الذي ذكرنا أنه حبس في قندهار، وكان قد هرب منها إلى إيران في فتنة فتح خان، فاتفق معه على خلع كامران وإجلاسه على كرسي هرات، وأغراه بأن يستعين بالشاه على ذلك، وبعدما أبرما أمرهما، وجهزا بعضا من الجيوش، وقفلا إلى هرات، وقعت في أثناء الطريق منازعة بين خدم فيروز وبعض الإيرانيين فخرج لمساعدة خدمه فقتله الإيرانيون على غير علم منهم.
وفي سنة 1248 عزم عباس ميرزا على أن يفتح هرات فأرسل ابنه محمد ميرزا مع عسكر جرار إليها، ووقعت محاربات شديدة آلت إلى محاصرتها، وكان سفير الإنجليز «مستر كميل» وقتئذ قد سعى سعيا بليغا لمنع هذه المحاربة، ولكن خاب مسعاه، وبينما كان محمد ميرزا محاصرا لتلك المدينة إذ بلغه موت أبيه، فرأى من المصلحة أن يطلب المصالحة مع كامران، فوقع هذا الطلب عند كامران موقع القبول، وحول أمر المصالحة على وزيره «يار محمد» الذي كان إذ ذاك محبوسا عند الإيرانيين في مشهد، فعقدت المصالحة على أن تضرب السكة في هرات باسم فتح علي شاه، وأن يدفع له كامران في كل سنة خمسة عشر ألف تومان.
ولما علم الإنجليز أن دخول الممالك الأفغانية في حوزة الإيرانين يستعقب زوال سلطتهم في الهند جهزوا شاه شجاع، وأيدوه بعساكر من لدنهم، وأوعزوا إلى رنجيت سنك الوثني وأمير السند «مير غلام علي خان» بتأييد شاه شجاع فلبيا دعوتهم، وإن لم يكونا تحت سلطتهم، فأيداه وعززاه بالعساكر، حتى تم له من العساكر نحو ثلاثين ألفا وتقدم بهم إلى قندهار من طريق بنجاب، فقابله كهندل خان وإخوته وقاتلوه، فهزموه شر هزيمة، وفر إلى هرات، واستنجد ابن أخيه كامران، فأبى، وبعد معاناة مشاق كثيرة وصل إلى بلوج ومنها إلى الهند. «والحاصل أن شره تيمور شاه وانهماكه في الشهوات، وحرصه على اللذات، وكثرة أولاده من أمهات مختلفة، أوجب سلب الراحة، وزوال الأمنية عن الأهالي، وسفك دماء ألوف من الناس، وحرص كل من أبنائه على الملك تسبب عنه حرمان الجميع.»
وفي سنة 1250 عزم كامران على فتح سجستان، فالتجأ أميرها إلى محمد شاه بن عباس ميرزا فاتخذ الشاه ذلك وسيلة إلى فتح هرات فجهز جيشا وسار إليها، وحاصرها زمنا طويلا، وكان الأفغانيون يخرجون من الحصار، ويهاجمون عساكر الشاه ببسالة غريبة. ولما اشتد الأمر على كامران أرسل ابنه نادر ميرزا إلى «ميمنة» و«شبر فان» ليدعو الأزبك وهزازه، فأجابوه دعوته، وجهزوا جيشا عظيما ساقوه إلى هرات لرفع الحصار عنها، ووقعت بينهم وبين عساكر الشاه محاربات كثيرة قتل فيها جمع كثير من الطرفين، ثم استظهرت عساكر الشاه عليهم فاضطرب لذلك كامران، واستشار وزيره في أمره، فانحط رأيهما على المناداة بالحرب الدينية، فتوسلا بملا عبد الحق أحد علماء هرات العظام، فقام يوم الجمعة، وأذن في الناس بالجهاد الديني، فلباه أهل المدينة وسكان القرى القريبة منها. فاغتسلوا غسل الجمعة وقصوا أظافرهم، ولبسوا أكفانهم، وخرجوا يهجمون على أعدائهم، وأوقعوا بهم، وقتلوا كثيرا من أعيان الإيرانيين إلا أنهم لم يقدروا على إجلائهم فرجعوا إلى البلد.
وبعد أن طال زمن الحصار توجه سفير الإنجليز «مكنيل» من طهران إلى المعسكر، وبعد أن تقابل مع الشاه، ورأى أن افتتاح المدينة قد قرب، وفي علمه أن ذلك يوجب انقياد الأفغانيين واتحادهم معه، وفيه من المضرة بسلطتهم في الهند ما لا ينكر، قال للشاه: «دعني أدخل المدينة، وأرضي كامران بالتسليم.» فأذن له الشاه ظنا منه أنه صادق فيما يدعي. فلما دخل المدينة، ولاقى كامران أخذ في تشجيعه وتثبيته، وقال: «لا يصح لك أن تسلم أصلا وإنك إن تثبتت قدماك زمنا ما نرسل لك المدافع والبنادق والذخائر.» وأوثقه على ذلك، ثم خرج وقال للشاه: «إنني كلما هددته هو وعساكره أو رغبتهم، لم ينجع مقالي فيهم، ولم يرهبوا لتهديدي، ولم يطمعوا لترغيبي ...» وبعد ذلك أمر الشاه بجمع النحاس الموجود بالمعسكر، فعملوا منه مدفعا هائلا، ورفعوه على تل عال، وسلطوه على المدينة، وأخذوا في إطلاقه فاشتد البلاء على من فيها مع شدة القحط والغلاء، حتى إنهم أخرجوا من الضعفاء والفقراء نحو أربعة عشر ألفا، فأرسل كامران سفيرا لعرض التسليم، ولما استشعر بذلك سفير الإنجليز اضطرب، وأرسل إلى كامران سرا يطلب منه التثبت، ويعده بأنه سيرفع هذا البلاء عنه، ثم ذهب إلى الشاه وقال له: «إن بين إنجلترا ودولتكم مودة، وإن فتح هرات يستوجب ثوران الفتنة في الهند، فأرجو منكم أن تكفوا عنه.» فلم يقبل رجاءه.
ولما سئم الشاه من طول المحاصرة، ركب جواده، وتقدم أمام العساكر، ونادى فيهم الهجوم على المدينة، فهجمت العساكر دفعة واحدة، وأطلقت المدافع عليها، فتهدم كثير من أسوارها، وكادت تفتح، لولا أن السفير الإنجليزي تقدم إلى الشاه وقال: «إنني أتوسل إليكم أن تأذنوا لي في الذهاب إلى المدينة ثلاثة أيام حتى آتي بكامران ووزيره وأسلمهما لكم بدون سفك دماء وسلب أموال، ولمجد إنجلترا لا تردوا رجائي هذا.» فأذن له الشاه بذلك لمجد إنجلترا، ولما اتصل بكامران وشيعته أعطى لهم خمسة آلاف جنيه، وقال: «إن الحرب قد وضعت أوزارها ثلاثة أيام فأقيموا ما انهدم من الأسوار وتثبتوا إلى أن تأتي مراكبنا من خليج فارس.» ولما اطلع الشاه على ذلك طرده من المعسكر، وبعد ذلك احتد الشاه واضطرمت نيران غضبه وأعاد الهجوم على المدينة، وحمي وطيس الحرب، وثبت الأفغانيون في المدافعة، وبلغ من أمر الإيرانيين أن كانوا يصعدون إلى رأس القلعة والأفغانيون كانوا يدافعونهم عنها وكثرت القتلى بين الطرفين.
وفي أثناء تلك الملحمة جاءت مراكب الإنجليز في خليج فارس، واستولت على جزيرة خارق، فلما بلغ الخبر مسامع الشاه، رأى من الأولى به أن يترك المحاصرة، ويشتغل بمدافعة الإنجليز عن بلاده، وكان سائر مأموري الإنجليز مدة المحاصرة يحثون أمراء كابل وقندهار على حرب الإيرانيين ويحملون العلماء بالدراهم والدنانير على المناداة بالحرب الدينية، ولكنهم لم ينجحوا في مساعيهم، ولقد طالت مدة هذه المحاصرة عشرين شهرا، وكان ذلك سنة 1255.
ولما علم الإنجليز من أمراء الأفغانيين الميل إلى الإيرانيين، إذ كان «دوست محمد خان» أمير كابل و«كهندل خان» والي قندهار وسائر إخوانهما الذي نالوا الملك بعد تفرق كلمة أبناء تيمور يراسلون الشاه في خلال محاصرته لمدينة هرات، ويوادونه، ويراسلون السفراء إليه، توجسوا من ذلك شرا خيفة اتفاقهم الذي يوجب تقلص ظلهم من بلاد الهند، فأخذوا إذ ذاك يترقبون فرصة لاستيلائهم على بلاد الأفغان، فلما أحسوا من الأفغانيين النفور والاشمئزاز من أمرائهم الجدد، رأوا إذ عنت لهم الفرصة أن يتخذوا شاه شجاعا واسطة يتوسلون بها إلى غرضهم من الاستيلاء على تلك البلاد، فجهزوه في جيش جرار مؤلف من جنود منتظمة وغير منتظمة تقودهم المهرة والأمراء ذوو المراتب السامية والمناصب الرفيعة من الإنجليز، فسار شاه شجاع بذلك الجيش من طريق البلوج وسجستان إلى قندهار، وكان قد تقدم هذا الجيش رجال يدعون الأفغانيين إلى شاه شجاع، ويذكرونهم بأنه الوارث الحقيقي للملك، وهو أحق بالسلطنة، ويحثونهم على التخلص من سلطة هؤلاء المتغلبين عليهم، ولما وصل الشاه إلى قندهار رأى واليها كهندل خان أن لا طاقة له على مقاومته لقلة جيوشه وشدة ميل أهل المدينة إلى الشاه فخرج هو وعائلته في خمسمائة من خيالته، وقصد طهران فأكرم محمد شاه مثواه وقلده ولاية «شهر بابك» من بلاد فارس.
ثم إن شاه شجاع جعل «تاو» الإنجليزي واليا على ولاية قندهار، وبعد ذلك سار بجيشه إلى كابل، وفتح في مسيره مدينة قزنة، وبعد وصوله إلى كابل لم يجد دوست محمد خان أميرها من نفسه قوة على المقاومة، ولا اقتدارا على المصادمة فاضطر إلى الخروج منها، وقصد بخارى ليستعين بأميرها، فلم ينجح قصده، ورأى منه عدم الاحتفال به، بل الإهانة والتحقير، فانقلب راجعا وسلم نفسه إلى الإنجليز، فأخذوه أسيرا، وبعثوا به إلى كلكوتا. أما شاه شجاع فقد جعل «ميجر باتنجر» من أعيان الإنجليز واليا على كابل، ثم استولى على جلال آباد بدون منازع ولا ممانع، وبعد هذا أرسل الإنجليز «بنت جركه» في عشرين خيالا من الإنجليز مع ثلاثمائة ألف جنيه إلى كامران ليعطيه إياها، ويدعوه إلى إجابة دعوة شاه شجاع، فقبلها وأبقى الرسول الإنجليزي، ومن معه عنده، حتى أنفق ذلك المبلغ في تحصين القلاع والاستحكامات وجمع الذخائر، ثم طردهم جميعا، وبعث إثر ذلك إلى محمد شاه يعتذر له عما فرط منه في حقه، وقبل أن يخطب، ويضرب السكة باسمه، وكان ذلك سنة 1257، وعلى كل حال قد استتب الأمر وتوطدت السلطنة في غالب أنحاء البلاد الأفغانية لشاه شجاع، لكن صورة، وللإنجليز معنى، حتى أيقن الإنجليز كافة أن البلاد الأفغانية آلت إليهم، وصارت جزءا من ممالكهم، يستحيل تملصها من أيديهم، وقد لبثوا فيها ثلاث سنين وبضع شهور.
ثم شهر جمادى الثانية سنة 1258 أرسل شاه شجاع أشخاصا يحصلون أموال الجباية من بعض القبائل، فأبوا دفعها، واستعصوا، وتمردوا ووقعت بينهما مناوشة جزئية، فلما بلغ شاه شجاعا خبر تمردهم أرسل جماعة من العساكر لكبحهم وتأديبهم، فلما رأى المتمردون من أنفسهم عدم الاقتدار تبددوا في قلل الجبال.
11
وفي غرة رجب خرج من مدينة كابل ثلاثة من خوانين «جمع خان» الغلجائي، وانضم إليهم جماعة من القبائل، وأخذوا في شن الغارة وقطع الطريق، ينهبون، ويسلبون، واتخذوا لهم استحكاما في موضع على مسافة ثلاثة فراسخ من كابل، وصار الطريق منها إلى الهند مقطوعا.
وفي أثناء ذلك اتفق أن محمد أكبر خان الذي كان بعد أسر أبيه دوست محمد خان يجوب المدن ويجول في البلاد، ورد مع جماعة من رجاله على مدينة باميان، فاجتمع به هؤلاء وانضم إلى الجميع أيضا جماعة من طائفة الغلجائي الذين كانوا قد فرض لهم الإنجليز راتبا ثم قطعه عنهم حكمدار الإنجليز في الهند ضنا وشحا، فاشتدت الفتنة وعظم الخطب فبادر الإنجليز بإرسال «مكننكتن» و«منتس» مع جماعة من العساكر لتدارك الأمر وكف شر هذه الفتنة، ولما زايلوا كابل، وصاروا على مسيرة ثلاثة فراسخ منها خرجت عليهم شرذمة من طائفة الغلجائي، وصادروهم، وقتلوا منهم نفرا، فوقف الجيش عن المسير، ثم لحق بهم الجنرال سيل، مع أفواج من العساكر، بقصد مبارزة محمد أكبر خان، ولكن كانوا في غاية الرهبة والخوف من إغارة الأفغانيين، وفي ليلة عشرين من رجب بعثوا يطلبون مددا من العساكر أيضا فوصلهم المدد وقصدوا مكمن محمد أكبر خان ووقعت بينهم وبين الأفغانيين - وفي أثناء الطريق - محاربة استمرت يومين، ولم يظفروا به. وفي خلال ذلك كان شاه شجاع قد سجن شخصا اسمه حمزة خان الغلجائي فهاجمت خواطر الغلجائيين، وثار منهم ثلاثة آلاف، وسدوا طريق كابل من سائر أطرافها، فخرج ميجر كريفس خارج المدينة، ووقع القتال بينه وبينهم، وقتل جماعة من أكابر الإنجليز.
وفي غرة شعبان هاج أهل المدينة وغلقوا حوانيتهم، وهجموا على منزل إسكندر برنس، وفتكوا به، وصلبوه على قارعة الطريق، ثم انصبوا على خزينة الحكومة فنهبوها، وكانت الخزينة إذ ذاك تحت نظارة جانسن، ولما سمع شاه شجاع وهو في «بالاحصار» بما كان من الأمر أرسل ابنه في رجال من الجند، ومعهم مدفعان، ولكن لم يجد ذلك في إطفاء نار الفتنة نفعا.
ثم هجم الأفغانيون في الرابع من شعبان فاستولوا على «باغشاه» وقلعة «محمد شريف»، ووضعوا حامية لقطع المواصلة بين القلعة التي احتكر فيه الإنجليز ذخائرهم وبين استحكاماتهم، وكانت عبارة عن رصيف يبلغ ألف ذراع طولا وستمائة ذراع عرضا، وعمدوا بعد ذلك إلى قلعتهم المذكورة فحاصروها، وكان بها «أنسن وارن» مع فوج من الهنود وطائفة من الحرس، لكنهم لم يستطيعوا فك حصار الأفغانيين عنها، حتى رضي الإنجليز بترك القلعة لهم، وإنما أرسلوا «كابتان سوين» مع طائفة من العساكر لاستخلاص أنسن وارن وإنقاذه من أيديهم، ولكن الأفغانيين أوقعوا بهم إيقاعا، فقتل كابتان سوين وكثير ممن كانوا معه ورجع الباقي منهزمين إلى المعسكر، ثم أرسلوا «أنسن كارون» مع جماعة أيضا من العساكر لإنقاذه، فلاقوا ما لاقاه الجيش الأول.
ثم ذهب «كابتان بويد» عند سردار عموم العساكر وقال: «لو سلمت القلعة إلى العدو فإنه فضلا عن أننا نخسر نحوا من خمسين ألف جنيه قيمة ما فيها من الذخائر لم يبق لدينا من القوت ما يكفينا سوى يومين، فماذا نصنع وليس بالسهل جلب الأقوات والذخائر لبعد الشقة؟» ولما وعي السردار ما قاله له كابتان بويد أرسل إلى أنسن وارن ليثبته، ويأمره بأن يقاوم ما استطاع، وأن يحذر من تسليم القلعة، ويعده بأنه سيدركه عما قليل بالمدد، فأجابه أنسن وارن بأنه : «إذا لم يدركنا المدد هذه الليلة فلا نجاة، ولا مخلص لنا من العدو، إذ أخذ ينقب علينا أحد أبراج القلعة حتى اشتد الخوف، وتمكنت الرهبة من قلوب رجالنا، وحتى إن بعض الحامية ألقى بنفسه من القلعة رهبة ووجلا، فإن لم تدركونا الليلة بتنا في قبضة عدونا.»
ولما وصل هذا الجواب جمع السردار رؤساء الجيش وأمراءه، وتفاوض معهم، مستمدا من رئيسهم حيلة يتوصل بها إلى تخليص القلعة ونجاه حاميتها من بلاء العدو، فجمعوا أمرهم على إرسال المدد في ليلتهم، اعتمادا منهم على أن الأفغانيين يجهلون وجوب الحراسة، ولزوم التيقظ والانتباه، لكن رأوا من الاحتياط أن يبثوا الجواسيس أولا ليأتوهم بحقيقة أمرهم، فأرسلوا كابتان جان، فلم يلبث أن غدا عليهم بما آيسهم من إمكان إيصال المدد، إذ رأى الأفغانيين على يقظة يتشاورون في أمر الاستيلاء على القلعة في تلك الليلة، فأضربوا عن إرسال المدد، وعند الفجر زحف الأفغانيون على القلعة ببأس وإقدام شديدين، وأحرقوا بابها، فخرجت حاميتها من الباب الآخر، وهربوا إلى معسكرهم، فاستشاط الإنجليز من ذلك غيظا ودعتهم خشية العار ومخافة الجوع إلى أن يبعثوا بجيش إلى قلعة محمد شريف ليستولي عليها تحت قيادة ميجر، فأخذ ذلك القائد حينما شرع الجيش في المسير يروغ حينا ويتوارى حينا آخر، فلما رأى الإنجليز منه ذلك أجلوا مسيره، وفي الغد جهزوا جيشا تحت قيادة «كريفتس» وسار، فاستولى على قلعة محمد شريف، وعلى نصف باغشاه، بعد حرب قتل فيها عبد الله خان، وقاتله كان كابتان أندرس، ثم داخل الأفغانيين الحماسة، وأظهروا البسالة، حتى استردوا ما أخذ من باغشاه وفتكوا بالإنجليز، وقتلوا منهم عددا كثيرا، وفي اليوم الثامن من شعبان انضم «قزل باشا» كابل إلى الأفغانيين، وأخذوا في ثغر قلعة محمد شريف، فغلب الخوف على الإنجليز، واستولى عليهم من الطيش والدهشة ما لا مزيد عليه، وفي خلال ذلك مرض سردار عموم العساكر الإنجليزية، فرأى الوزير المختار الإنجليزي «أي الحاكم العمومي أو القنصل» وكان اسمه «سير وليم» أن يقيم مقام هذا السردار أحدا سواه، فاستدعى لذلك «بريك دير مشيل تان» فأجابه، وجمع من كان في بالاحصار من عساكر الإنجليز وعساكر شاه شجاع، وقادهم إلى الاستحكامات، وعند وصوله فبدلا من أن يشجعهم ويثبت أقدامهم، قام في المعسكر وقال: «اعلموا أن لا طاقة لنا على مقاومة الأفغانيين، ولو ثبتنا لاستأصلوا آخرنا فالأجدر بنا أن ننجلي عن هذا المكان، ونلحق بجلال آباد، ونتحصن فيها.» فأجابه السردار قائلا: «إنا لن نبرح من ها هنا، بل لا نزال ندافع عن أنفسنا ما استطعنا، فإن خروجنا ومقابلتنا الأفغانيين بالبادية ما هو إلا أن نلقي بأنفسنا في أفواه الأسود.»
فزاد اختلاف الكلمة بينهم خوفهم وضاعف وجلهم، وكان من أمر الأفغانيين في هذه الأثناء أن استولوا على المرتفعات المشرفة على المعسكر شرقا وغربا، وعلى برج «ريكاباش»، وأخذوا يمطرون على الإنجليز كرات المدافع، ويصبون على رجالهم رصاص البنادق، فبادر الوزير المختار إلى استنهاض «شلتان»، وأمره في الحال بالحملة على قلعة «ريكاباش» فتأهبت العساكر، وهمت بالخروج من الجانب الشرقي، فضل «كابتان بلو» الطريق بمن قادهم، وخرج من جانب آخر، ففاجأه الأفغانيون، فارتعدت فرائصه، ونزل به ما تمنى الموت دون لقياه، فأوقعوا به، وقتلوا من رجاله مقتلة عظيمة، فهم «كولونيل مكرلان» و«ليفتنانت برت» بأفواجهما لاستنجاد «كابتان بلو» فحال الأفغانيون بينهما وبينه، ووضعوا السيف في العسكرين جميعا، وإذ رأى شلتان هذا الهول دبت فيه الحمية، فأمر الجيش عموما بالحملة على الأفغانيين، فهاجموهم دفعة، فصدوا ثم عاودوا الهجوم، فردوا، ثم استأنفوا الهجوم، وفي هذه الكرة لم يبق منهم في قيد الحياة إلا «ليفتنانت برت» ورجل آخر، ولم تخسر الأفغانيون في تلك الواقعة الهائلة إلا ثلاثين فارسا، ووفق الإنجليز في خلال كرهم وفرهم في هذه الواقعة أن استولوا على قلعتي «ريكاباش» و«ذي الفقار»، وأصابوا فيها مقدارا من الحنطة فأخذوا أن يجمعوه ويذهبوا به إلى معسكرهم، ولكن لم يلبثوا أن أقبل الليل، وهاجمهم فيه الأفغانيون وثغروا هاتين القلعتين عليهم، وتم استردادهما ليلا وأجلوهم عنهما منهزمين.
وفي الثالث عشر من شعبان قامت طائفة من الأفاغنة، ووضعت ثلاثة مدافع على رابية مشرفة على المعسكر الإنجليزي من الجانب الغربي وأطلقوها عليهم، فالوزير المختار أمر «شلتان» أن يخرج إليهم «ميجار شتوين» فخرج في فريق من العساكر، حتى صار على مسافة اثنتي عشرة ذراعا من مشاة الأفغان، فوقع القتال بينهما، وثبت الأفغان يومها، وأبلوا بلاء حسنا، لكن لما حمي الوطيس، عاد فرسانهم، فاضطرت مشاتهم إلى الرجوع، فاستولى الإنجليز على الرابية، وكسروا عجلة أحد المدافع الثلاثة، وأخذوا الاثنين الباقيين إلى المعسكر، فارتاحت لذلك خواطر الإنجليز بعض الارتياح، وكاد أن يعاودهم بعض ما فقدوا من النشاط، لولا أن جاءهم من قبل الجنرال «سيل» الذي كان مقيما في جلال آباد خبر بأن ليس في طاقته أن يمدهم قبل مضي فصل الشتاء فقنطوا، لكن رأوا حرصا على الحياة أن يتحيلوا لأخذ استحكام محمد خان إذ كان هو المانع من وصول الذخائر إليهم من بالاحصار، فأقعدهم عنه «استورث» المهندس بقوله: «لا طاقة لعساكر الإنجليز على المقاومة بعد.» فعدلوا إلى رأي آخر، وهو أن يستولوا على قرية «بيجارو» التي كانوا يتداركون منها أقواتهم، فأرسلوا «ميجار شتوين» مع عدد وافر من العساكر، فوجد الأفغانيين قد سبقوهم إلى الاستيلاء عليها، فاقتتلوا هناك حثيثا، وكانت الدائرة على الإنجليز، فنكصوا على أعقابهم خائبين وقد جرح كثير من ضباطهم.
وفي الثامن والعشرين من شعبان قدم محمد أكبر خان من باميان إلى كابل، وتواطأ مع الأفاغنة على كلمة واحدة، وفي ذلك اليوم بعينه أجمع الإنجليز رأيا على الاستيلاء على قلعة بيجاور فأمر الوزير المختار شلتان بالمسير إليها فسار هو وميجار شتوين وميجار قارش في أفواج من العساكر حتى بلغوا محلا مشرفا على تلك القلعة، وكان معهم مدفع واحد ليس غير، ولم يكن في القلعة سوى أربعين رجلا، ثم إن شلتان ندب ميجار شتوين لطريق غير مسلوك، فأوقع بهم هناك حتى قتل منهم جماعة وجرح ميجار شتوين، وإذ رأى شلتان تلك النازلة أمر ميجار قارش ومائة من المهندسين أن يسارعوا إلى وضع استحكام يقيهم من بلاء العدو، فقبل أن يتمموا وضعه، أبصروا عشرة آلاف رجل من أهل كابل على جبل مشرف عليهم بحيث يصلهم رصاصهم، ففي الحال أمر «كولونيل أوليور» أن تتأهب تلك العساكر، وتنتظم على شكل قلعة وتصطف الخيالة من خلفهم، ويهجم الجميع بهذا الانتظام على الأفغانيين المذكورين، فعاجلتهم خيالة الأفاغنة بالهجوم على ميمنتهم وحاصروا «ليفتنت واكر» وجرح من الأفغانيين أحد عظمائهم، ثم عمموا الهجوم عليهم من ثلاثة جوانب فضايقوهم، وفتكوا بهم فتكا ذريعا، فطلبوا إلى الفرار سبيلا، إذ إن خيالتهم قد جبنوا عن الهجوم حينما أمرهم به القائد، ورجعوا القهقري، فاستولى الأفغانيون على مدفعهم وذخائرهم، واختاروا العود إلى البلد نظرا لكون أحد عظمائهم المذكور أصبح جريحا، فاختلس الإنجليز هذه الفرصة، وأسرعوا إلى الجبل، فاسترجعوا مدفعهم، وأطلقوه على ظهور الأفغانيين فانقلبوا عليهم وهاجموا مهاجمة الغيظ والحنق، فتبدد شمل الإنجليز، وتفرقوا، وولى من بقي منهم الأدبار فردا فردا، وما برح الأفغانيون يطاردونهم حتى أوصلوهم معسكرهم العمومي، ولم يصدهم عنهم إلا جدران الاستحكام، ولما اشتد على الإنجليز الكرب، وعظم بهم الخطب جنحوا للسلم، فأرسل الوزير المختار إلى الأفغانيين رسولا يدعوهم مستعطفا إلى المسالمة فقالوا: «نجيبكم على شرط أن لا يلبث في بلادنا من جنس الإنجليز ولا واحد.» ثم اقترحوا عليهم أيضا أمورا لم يجد الوزير المختار سبيلا إلى قبولها وكبر عليه الرضاء بها، فقام من مجلس رسل الأفغانيين وهو يقول: «إن يوم القيامة لقريب، وسيجمعنا الميعاد، ويتبين الظالم من المظلوم ويتميز الحق من الباطل.» ثم بعد ذلك وقعت بينهم مناوشات استرد الأفغانيون فيها قلعة محمد شريف في السادس من رمضان؛ فضاقت الإنجليز ذرعا، ورأت أن لا محيص من المسالمة طوعا أو كرها، فكتب الوزير المختار سجلا ينطوي على معاهدة بينه وبين الأفغان ووقع عليه هو و«شيلتان» و«دنيكتل» و«جميرنر».
وفي الحادي عشر من رمضان خرج هذا الوزير مع «كابتان لارنس» و«تردز» و«مكنيزي» وعدد من رجاله إلى قرب جبل «سياه سنك» وعقد هناك مجلسا مع جماعة من أكابر الأفغانيين، ثم قام فيهم خطيبا، وقال مستميلا عواطفهم إليه: «إنا - معشر الإنجليز - طالما عززنا الأمير دوست محمد خان ، ورفعنا شأنه وأكرمنا مثواه في كل مكان.» ثم أبرز السجل وعرضه على المجلس وكان مضمونه: «على الإنجليز أن تخلي قندهار وقزنة وكابل وجلال آباد وسائر البلاد الأفغانية على شرط أن يعطيها الأفغانيون رجلا من أكابرهم رهنا حتى تخرج من تلك البلاد بسلام، وإذا وصلت العساكر الإنجليزية إلى الهند بادروا بإرسال الأمير دوست محمد خان، وعلى الأفغانيين أن يرتبوا لشاه شجاع «لك روبية» يأخذها سنويا أينما كان سواء أقام في أفغانستان أو خرج منها، وعلى الإنجليز أن لا تدخل عساكرهم في بلاد الأفغان إلا برضى أهلها.»
ولما رفع هذا السجل إلى محمد أكبر خان، فبعد الجرح والتعديل فيه، قرر أنه يجب على الإنجليز أن تخلي سائر البلاد والقلاع في مدة ثلاثة أيام، وهو يجري عليهم في الميرة والمئونة، فشرعت الإنجليز على عجل بنقل العساكر من بالاحصار وإخلاء القلاع، مع ذل ومسكنة لا مزيد عليها، على أن محمد أكبر خان لم يوف بوعده متعللا بأنه لا تطيب نفسه بإجراء المئونة عليهم ما لم يخلوا القلاع بالمرة.
وفي الثامن عشر من رمضان نزل الثلج عليهم فتضاعفت مصيبتهم فاضطروا لإخلاء قزنة، واستحضار عساكرهم.
وفي العشرين منه عقد الوزير المختار مجلسا مع الأفغانيين لحسم الأمر، فطلبوا منه أن يعطيهم نصف ما مع العساكر الإنجليزية من المدافع والجبخانة، فدان لطلبهم رغما، ورضي به عجزا، بل زاده أنه سلمهم «كابتان كيلي» و«كابتان ابري» رهنا على وفائه بما طلب منه.
وفي الثاني والعشرين منه جاء «مستر اسكنير» الذي كان أسيرا عند محمد أكبر خان إلى الوزير المختار، وأخبره أن محمد أكبر خان يبتغي منه أمرا عسيرا فارتبك وانعقد لسانه ثم قال: «وهو أنه يريد أن تيسر إليه ووجوه ضباط العساكر ليفصم معكم الأمر مرة واحدة.» فلما وعي ما سمع لم يجد بدا من الطاعة لكنه خشي عاقبة الغدر، فنادى في العساكر بالتأهب والاستعداد خارج الاستحكام ثم سار هو ورؤساء العساكر إلى تل، حيث ينتظرون قدوم محمد أكبر خان، فلم يلبث أن حضر مع بعض من خوانين الأفغان وأخذ يفاوض الوزير المختار، وكل من الخوانين كان يفاوض رئيسا ممن معه من ضباط العساكر، ثم أخذت خيالة الأفغان تتوارد عليهم فرادى فرادى، ومثنى مثنى، وعما قليل صرح محمد أكبر خان على قومه بأن يبطش كل منهم بمن يفاوضه ففعلوا، أما الوزير المختار فقد قطعت يده وجر وهو يستجير ويستغيث ويصيح: «وا ويلاه وا غوثاه.» ثم جزوا رأسه وطافوا به في أزقة كابل وصلبوا «تروار» على قارعة طريقها، وأما «لفتننت أبري» وهو الذي روى خبر هذه الواقعة وأبان فيما كتب سخافة عقول الإنجليز وجبن قلوب أمرائها وضعف آرائهم فقد وقع أسيرا في يد محيي الدين الأفغاني ثم هو مثله بين يدي محمد أكبر، فنظر إليه بعين يتقاطر منها الغضب وخاطبه بقوله: «أكنتم طامعين - أيها الإنجليز - في بلادنا؟ أرأيتم ما حل بكم جزاء عقابا؟ لكني عفوت عنك فليس لي بقتلك حاجة.» ثم وكل أمر حفظه إلى ملا مؤمن.
ثم إن «ميجر بتنجر» الذي خلف الوزير المختار المسمى «سير وليم» هم بافتتاح أمر الصلح ثانيا مع الأفغانيين، فقالوا: «نجيبك على شروط؛ الأول: أن تترك العساكر لنا مدافعهم ولا يبقى لهم سوى ستة، الثاني: أن تسلم لنا الأموال والأدوات والأثقال المتعلقة بالخزينة، الثالث: أن تعطينا جماعة من كبراء الإنجليز بأولادهم وزوجاتهم رهنا، الرابع: أن توفي بما كان الوزير المختار وعدنا به من إعطائنا أربعة عشر لكا من الروبية.» فلما سمع هذه الشروط ورأى أن المقام مقام لا تروج فيه الحيل الثعلبية التي تعودها الإنجليز، بل هو مقام الطعن والضرب، ومجال السيف والرمح، لم يجد له محيصا من قبولها، وإن كانت شاقة ولا ترضى بها نفس حرة، نعم، إن الجنرال «ألفستون» أراد أن يظهر الشمم والحماسة، فانتفخ انتفاخ الهرة، لكن انتفاخه لم يؤثر في دم الإنجليز من الحرارة أثرا، بل تواطأ أمراء العساكر في التاسع والعشرين من رمضان على إعطاء «كابتان درمند» و«كابتان وانسن» و«كابتان واربرتن» و«كابتان دب» مع نسائهم وأولادهم رهنا، ثم جعلوا المجروحين في منزل أحد الأفغانيين، وتركوا معهم بعض الأطباء، وسلموا الأفغانيين خمسة من المدافع السلطانية.
وفي اليوم السادس من شوال تجهزوا للرحيل، وساروا بتسعة مدافع واثني عشر ألف جمل تحملهم رجالا ونساء وأطفالا، وفي خلفهم العساكر المشاة يسيرون على أرجلهم، فوصلوا إلى نهر يلزمهم اجتيازه، وليس عليه سوى قنطرة، فبعد أهوال وأوحال وموت كثير منهم اجتازوه، وقطعوا مسافة ما إلى أن وصلوا إلى «بكران». على أن الأفغانيين لم يتركوهم وبلاءهم، بل اقتفوا أثرهم كالذئاب الجائعة ينهبونهم ويسلبونهم حتى أخذوا منهم مدفعا آخر، وقدموه إلى محمد أكبر خان، ثم إن محمد أكبر خان عاد، وشرط عليهم أن يسلموه ستة أشخاص أيضا من كبرائهم، فأجابوه وعاهدوه على أن لا يطلقوا بندقية واحدة، ولا يشهروا سلاحا على أفغاني بشرط أن لا يتعرضوا إليهم بالإيذاء ولا إلى أقواتهم بالنهب والسلب، ووصلوا بعد زمن قصير مصحوبين بهذه الذلة والمسكنة إلى «بث خاك».
وفي اليوم الثامن من شوال أعاد الأفغانيون إطلاق الرصاص عليهم فهم «ميجر شتوين» بأن يدافع فلم يقو، ثم طلب محمد أكبر خان منهم جماعة أخرى رهنا فوق من أخذهم فسلموا، حتى سلموا، ووصلوا إلى الطريق الموصل إلى «خورد كابل»، وهو عبارة عن شعب يمتد بضعة أميال طولا، والمسلك الذي يجب اجتيازه هناك واقع في سفح جبل يكتنفه من أحد جانبيه نهر ينحط عنه بستين ذراعا وقمة الجبل من الجانب الآخر. فأدركهم هناك الأفغانيون وحاصروهم وأخذوا منهم مدفعا ولم يصلوا إلى قرية خورد كابل، حتى قتلوا منهم ثلاثة آلاف شخص وسلبوا جل ذخائرهم.
وفي اليوم التاسع من شوال الذي كانت الأحياء فيه تحسد الأموات، جاءهم وهم يريدون الرحيل خبر من عند محمد أكبر خان وهو أنه التزم صيانة النساء والأطفال والجرحى فداخلهم بعض الاطمئنان من هذا الخبر.
وفي اليوم العاشر منه فاجأهم الأفغانيون وهم على أهبة المسير، وأحاطوا بهم فسدوا عليهم المسالك، ووضعوا فيهم السيف، ولم تستطع الإنجليز حراكا، بل كانت عساكرهم الهندية تلقي بأسلحتها وتطلب الفرار، ولكن لا تجد سبيلا ولا منقذا من دائرة المنايا، ولم ينته بهم السير إلى «قبر جبار» إلا وقد استأصلهم السيف وسلبت أمتعتهم وأموالهم وذخائرهم، ولم يبق مع من بقي منهم سوى مدفع واحد، وقد غص معبر «هفت كتل» بجثث القتلى.
وبالجملة فقد قتل من عساكرهم المنتظمة خاصة من يوم خروجهم إلى يوم وصولهم إلى «كتر سنك» اثنا عشر ألفا، أما عدد من قتل من العساكر غير المنتظمة فعلمه عند الله. وفي ليلة بلوغهم إلى «كتر سنك» أسرت جماعة منهم، وسلب المدفع الذي كان باقيا معهم.
وفي اليوم الحادي عشر منه خرجوا من «كتر سنك» إلى «جكدلي» فوصلوها وقت العصر، وإذ ذاك قاموا على تل، واصطفوا عليه وأظهروا الجلادة إرهابا للأفغانيين؛ فغضب من ذلك الأفغانيون، وأشرفوا على مرتفعات هناك، وأطلقوا عليهم المدافع والبنادق، ثم إن محمد أكبر خان طلب «اسكينز» وقال له: «لا بد لكم أن تعطوني أيضا شيلتان وجان سن رهنا.» وفي أثناء المكالمة أطلقت على اسكينز رصاصة من حيث لا يعلم فمات، فلما رأى الإنجليز ذلك بادروا بالمسير قاصدين «جلال آباد» فابتدرهم الأفغانيون بالسيوف من سائر الأطراف، وكان عدد القتلى في هذا الموقع أكثر مما هو في «خورد كابل».
وفي صبيحة الثالث عشر من شوال رأى الأفغانيون أن قد قل عدد رجال الإنجليز، فطافوا بهم فقتلوا بعضا، وأسروا بعضا آخر، ولم ينج من يد الأفغان إلا «دكتر بريدون» ففر، ولحق بجلال آباد، وأخبر رأسا الإنجليز بالواقعة، «كأن الأفغانيين علموا أن لوث حيل المحتال، ودرن مكره، وأوساخ خداعه لا يطهرها إلا دمه المهراق، وأن عين الطامعين لا يملؤها إلا تراب القبور، فأراقوا دماء الإنجليز، وجعلوا شعاب جبالهم قبورا لقتلاهم، وأذاقوهم مرارة نقض العهود.»
وعاد محمد أكبر خان بالأسراء من الضباط والنساء والأطفال والجرحى إلى كابل، وهذا ما انتهى إليه حال جيش كابل الإنجليزي، وأما الجيش الإنجليزي الذي كان في مدينة قزنة، فقد أصيب به الجيش الأول فهلك بعض من الجوع والبرد، وقتل بعض بحد سيف الأفغانيين، وأسر الباقي، ومكثوا في الأسر شهورا، ثم أرسلوا إلى كابل، فاستقبلهم محمد أكبر خان وأكرم مثواهم واجتمعوا هناك بميجر بتنجر، وبعد هذه الواقعة رد محمد أكبر خان للضباط سيوفهم ومنحهم بعضا من الدنانير، وكان يتعطف على النساء، ويتلطف بالأولاد، ثم اتفق أنه قتل «شجاع الدولة خان الباركزاي» شاه شجاعا، فحصل الهرج والمرج بين الأفغانيين وتحزبوا أحزابا، وتفرقت كلمتهم، وتنازعوا الملك، وتقاسمه أمراؤهم. فعسكر محمد خان خارج المدينة وانضم إليه «فتى جنك» ابن شاه شجاع.
وفي أثناء هذه الفتن قدم الجيش الإنجليزي الذي كان متحصنا زمن الشتاء في قندهار، إلى كابل، وانضم إليه بعض من المدد، ووقع بينه وبين محمد أكبر خان بعض مناوشات، وآل الأمر بعدها إلى المسالمة، وأطلق سبيل أسرى الإنجليز وتعهد الجنرال «بولوك» بإرسال الأمير دوست محمد خان وعائلته إلى أفغان، ولما رأت العساكر الإنجليزية تفرق كلمة الأفغانيين وتشتتهم وعدم وجود من يضارعهم في المقاومة والمغالبة تطاولوا على البلاد وأحرقوا «جهارته» «السوق الشهيرة الموجودة من عهد أورنك زيب التيموري سلطان الهند وكانت من أبدع الأبنية، وفيها عقود متتالية، يبلغ طولها ستمائة قدم، وعرضها ثلاثين قدما. وكان على جدرانها النقوش المزخرفة والتصاوير الأنيقة، وقد علق الأفغانيون فيها جثة الوزير المختار سير وليم.» وزحفوا على قرية استالف، وقتلوا من بها من الرجال والنساء صغيرا وكبيرا صحيحا وجريحا، واعتصم محمد أكبر خان وأهل مدينة كابل بالجبال وقتئذ، ولما انتقمت العساكر الإنجليزية من الأفغانيين على زعمهم، قفلوا إلى الهند مسرعين فرارا مما عساه أن ينزل بهم.
وبالجملة فإن طمع الشاه شجاع في السلطنة قد ساقه إلى البحث عن حتفه بظلفه، وإن حرص إنجلترا على تملك بلاد الأفغان وشغفها بها أوجب أن تكون مساكنها فيها قبور أجسامها، وإن صيانة الأفغانيين لجرحى الإنجليز ونسائهم وأولادهم، وإن قتل الإنجليز لنساء قرية استالف وأولادها ومرضاها قد أبان للعالم السجايا الشريفة غير المكتسبة التي لم يدنسها طول المكث في الجبال والأودية والطبائع الخسيسة التي لم تهذبها العلوم والمعارف ولم يطهرها زلال التربية.
ثم أطلقت الإنجليز الأمير دوست محمد خان من الأسر، فرجع إلى كابل، واستولى عليها وعلى جلال آباد وما يجاورها من البلاد، وأما كهندل خان أخو دوست محمد خان الذي بينا سابقا أنه قد التجأ مع إخوته إلى شاه إيران فإنه لما سمع أن العساكر الإنجليزية قد أخلت مدينة قندهار، جهز جيشا صغيرا بإعانة الشاه، وسار به إلى قندهار، وبعد مناوشات يسيرة وقعت بينه وبين بعض من السدوزائية دخلها، وتم نفوذه في أقطارها، وقد وقع بينه وبين الأمير دوست محمد خان محاربات كانت الغلبة فيها للأمير وساق أيضا عساكره إلى هرات ولكن رجع خائبا.
وبعد بضع سنين من إمارة الأمير هجم رنجيت سنك بعساكره على مدينة بيشاور، وكانت الحرب بينهما سجالا، ولما كان زمن المحاربة وقتل من الطرفين عدد كثير، ورأت الإنجليز أن دخول بيشاور التي هي مفتاح بنجاب تحت سلطة الأفغانيين يوجب استفحال أمر الأمير ويورث الخلل في الممالك الهندية الإنجليزية أسرعت إلى المصالحة بينهما على شرط أن تكون تلك المدينة بيد رنجيت سنك الوثني، فكأن أمة الإنجليز بفعلها هذا لم تقصد سد طرق الخلل عن بلادها فقط، بل أرادت أن تهيئ سبل استيلائها عليها علما منها بأن الإمارة السيكية التي شكلها رنجيت سنك واهية الأساس، وقد تم لها ما أرادت حيث استولت عليها بعد المصالحة بزمن يسير، وإثر هذه الوقائع اتفق موت كهندل خان المذكور، ووقعت المنازعة بين إخوته وأبنائه في الملك وآل الأمر إلى المقاتلة وسفك الدماء، ووقع الهرج والمرج في المدينة، فاتفقوا جميعا على جعل دوست محمد خان حكما بينهم، فسار بعسكره إلى قندهار حين بلغه ذلك، واستولى عليها، وعين لكل من المحكمين مرتبا شهريا؛ سدا لشرههم، وكفا لشرهم، وتمت له بذلك السلطة في غالب البلاد الأفغانية، وكان قد أرسل ابنه «محمد أكرم» إلى الأقطار البلخية التي نبذ أهلها طاعة الأفغانيين عند استيلاء الإنجليز على البلاد، واستقلوا بأمرهم فأدخلهم تحت الطاعة. ولم يبق تحت سلطة غيره من المدن الأفغانية الأصيلة إلا مدينة هرات التي بينا سابقا كونها في قبضة كامران ذلك البطل الذي قاوم العساكر الإيرانيين بغاية الثبات والحزم عشرين شهرا مع قلة عدده وعدده، ثم غلبت عليه الشهوة، واستولى عليه الهوى، وانهمك في السكر حتى نفرت منه قلوب الناس، ولعب به وزيره «يار محمد خان البامي زائي» وخنقه في قرية خارج المدينة، واستولى على الملك، وانقرض بموت هذا سلطة العائلة السدوزائية من البلاد الأفغانية.
وبالجملة، فإن ما اكتسبه أحمد شاه السدوزائي من الممالك الواسعة والسلطة التامة بسبب الشجاعة والتدبير والعدالة والاقتصاد في المعيشة قد أضاعه أبناؤه وأحفاده، بالجبن والسفه والجور والترف والانهماك في الشهوات. وكان هذا الوزير على الدوام يرسل إلى شاه إيران ويحتمي بحمايته صيانة لبلاده من سلطة سائر الأمراء الأفغانيين. وخلفه بعد موته ابنه «صيد محمد خان» بإعانة الشاه، وكان هذا الخلف سفيها سيئ الخلق قسي القلب ظالما جائرا؛ فامتلأت قلوب الأهالي منه غيظا، وأثاروا الفتنة عليه فطلبوا «شاه زاده يوسف السدوزائي» الذي كان وقتئذ في مدينة مشهد، والتمسوا من الشاه أن يجهزه، ويرسله ففعل، ودخل مدينة هرات بجيش من الإيرانيين بلا ممانع وأهلك صيد محمد خان.
ثم وقع في هرات بعض من الفتن فاغتنم ناصر الدين شاه فرصة الاستيلاء عليها، فأرسل جيشا جرارا سنة 1274 تحت رئاسة سلطان مراد ميرزا إليها، وبعد محاصرتها أياما تم له فتحها، ودخل قطر هرات تحت حكم إيران، فاستشاطت الإنجليز من هذا الفتح غيظا علما منها أن مدينة هرات مفتاح الأقطار الهندية، وبابها فأرسلت مراكبها بدون مهلة إلى خليج فارس، واستولت على بندر «أبو شهر» وجزيرة «خارق» وبلدة «محمده»؛ إرهابا للشاه، وسدا للخلل المزمع وقوعه، وتسكينا للثورة التي فشت في الهند عندما شاع فيها توجه العساكر الإيرانية نحو البلاد الأفغانية.
بعد مضي سنة من هذه الواقعة وقعت المصالحة بينهما وتركت الإنجليز الفرض الإيرانية على شرط أن يخصص الشاه رجلا أفغانيا ليكون حاكما على هرات، ويسحب عساكره منها، فعين الشاه سلطان أحمد خان ابن عم الأمير وصهره واليا على هرات باستصواب الإنجليز، وشرط عليه أن يضرب السكة ويقرأ الخطبة باسمه، ومع ذلك ما سكن روع الإنجليز، بل أغرت الأمير دوست محمد خان بعد بضع سنين بأخذ مدينة هرات، وتعهدت بأن تعطي له ولمن يخلفه مرتبا معلوما سنويا كافيا لتجنيد العساكر، وتحصين القلاع لتكون الإمارة الأفغانية سدا منيعا بين الهند وبين الممالك الروسية في آسيا الوسطى وإيران، فجند الأمير جيشا وسار به إلى هرات، وحاصرها زمنا طويلا، وكانت عساكر الطرفين بين مهاجمة ومدافعة، وقد اتفق موت سلطان أحمد داخل القلعة، وبعد موته بزمن يسير مات الأمير أيضا في معسكره، ثم أمر رؤساء العساكر المحاصرين بالهجوم، وبعد هجمات متعددة سنة 1280 فتحت عنوة وكان الأمير دوست محمد خان هذا عاقلا ذا دهاء لين العريكة غير مائل إلى الظلم والجور، وقد استمال بحسن سلوكه قلوب إخوته حتى خضعوا له مع أن منهم من كان أكبر سنا وأسس بحكمته وتدبيره ملكا، وكان له أبناء متعددة، وقد جعل أرشدهم وأعقلهم محمد أكبر خان الذي خلص البلاد الأفغانية من مخالب طمع الإنجليز ولي العهد، وحيث توفي في زمن حياته ولى شقيقه شير علي خان تلك الرتبة. «ولقد راعى الأمير حقوق محمد أكبر الذي له منة عليه خصوصا، وعلى الأفغانيين عموما، بإيثار شقيقه، غير أنه لم يراع حقوق سائر الناس، ولم يلاحظ ما يترتب على ذلك من المضار، فإن بعض إخوة شير علي خان كانوا أكبر منه سنا فلم يرضوا بالخضوع له فأثاروا الفتن ولزم منه إراقة الدماء وخراب البلاد ونهب الأموال.» وقد جعل على كل ولاية من ولايات الأفغان واحدا من أبنائه. «ولقد أخطأ الأمير خطأ آخر بتولية أولاده على البلاد؛ لأن البلاد الأفغانية ليست بلادا قانونية، فكأنه بفعله هذا قد مكنهم من الفتن والعصيان.»
ولما توفي الأمير حين محاصرته لهرات كما ذكرنا كان في المعسكر من أبنائه شير علي خان ولي العهد ومحمد أمين ومحمد أسلم خان، وكان لشير علي وزير خائن يسمى محمد رفيق من طائفة الغلجائي، قد أشار عليه بالقبض على إخوته قائلا: «لا تتم لك السلطة ما داموا ولاة مطلقي التصرف خصوصا الذين هم أكبر منك سنا.» فشاع هذا الخبر وبلغ مسامع من كان منهم في المعسكر، فهرب كل منهم ليلا وبادر إلى البلاد التي كان واليا عليها في زمن أبيه.
وأما شير علي خان فبعدما علم بهروبهم عجل في تنظيم مدينة هرات، وجعل ابنه محمد يعقوب خان واليا عليها، وأخذ طريق بلخ من دون أن يتعرض للبلاد التي استولى عليها إخوته الذين هربوا من المعسكر، أو يظهر لهم غضبا، قصد أن يخدع أخاه الأكبر محمد أفضل خان، الذي كان ذا وجاهة عند الناس، وكانت قوته العسكرية أشد من سائر الإخوة ويقبض عليه، فلما وصل إلى حدود بلخ أرسل رقيما
12
يذكر فيه مخاطبا إياه: «إنك أنت الأخ الأكبر فيجب عليك أن تجتهد في إصلاح البلاد ورفع الفساد وجمع كلمة الإخوة، وأما أنا فأتعهد أن لا أنبذ أمرك وأن لا أخالف نصائحك، وأن لا أخرج من ربقة طاعتك.» ولما اطلع محمد أفضل على مضمون ذلك الرقيم انخدع وسار بنفسه إليه فلما تمكن من شير علي قبض عليه وهرب ابنه عبد الرحمن خان وقتئذ إلى بخارى، ودخلت ولاية بلخ تحت قبضته فجعل أحد إخوته المسمى بفيض محمد خان واليا عليها ورجع إلى كابل، ثم جند عسكرا وأرسله إلى كرم تحت رئاسة وزيره محمد رفيق؛ لمحاربة محمد أعظم، فانهزم محمد أعظم شقيق محمد أفضل من أول واقعة، وفر إلى الهند.
وبعد أن فرغ من أمرهما جعل ابنه إبراهيم خان الضعيف الرأي حاكما على مدينة كابل وذهب بنفسه إلى قندهار؛ لكي يقبض على شقيقه محمد أمين خان، وعند وصوله إلى كرات الغلجائي استقبله هناك شقيقه بعساكره فوقعت مناضلة بينهما قتل فيها ابنه محمد علي وشقيقه محمد أمين المذكور، وإثر هذه الواقعة استولت الوساوس على شير علي، وغلبت عليه الهموم والغموم، فترك أشغال الحكومة وإدارة العساكر، وانزوى في مدينة قندهار، ولما بلغ مسامع عبد الرحمن خان تغير حاله، وانزواؤه تحرك من بخارى إلى البلاد البلخية واستولى عليها بعد مناوشات جريئة بإعانة فيض محمد خان، وكان محمد أعظم خان المذكور الذي ترك البلاد الهندية لسوء معاملة الإنجليز قد انضم إلى عبد الرحمن في بلخ فاستفحل أمرهما وجمعا جيشا جرارا، وزحفا به إلى مدينة كابل، وقبل الوصول إليها وقعت محاربة بين عساكرهما وعساكر إبراهيم خان بن شير علي خان في «باج كاه» فانهزمت عساكره، فترك كابل خوفا وجبنا وفر إلى قندهار، وكان وقتئذ وزير شير علي خان «محمد رفيق خان» في كابل، فخرج يستقبلهما بغاية البشاشة، فدخلوا المدينة آمنين مستبشرين، ثم أرسل سرية إلى جلال آباد فافتتحوها، ولما اشتد الخطب، وعظم الأمر تنبه شير علي خان من نوم الغفلة، وأفاق من غشية الحزن، فجند جيوشه، وسار بها إلى كابل، وعندما اجتاز قزنة قابله محمد أعظم وعبد الرحمن بعسكر جرار في شيخ آباد، فاشتعلت نيران الحرب بينهما، وكانت الغلبة لمحمد أعظم، فانهزم شير علي ورجع إلى قندهار، ودخل محمد أعظم مدينة قزنة، وكان شقيقه محمد أفضل - المشار إليه سابقا - محبوسا فيها فأطلقه وسلم عليه هو وجميع العساكر بالإمارة، ولما تمت هذه الغلبة، وقفلوا إلى كابل رأى محمد رفيق خان يسعى في إثارة الفتن وإلقاء الشقاق بين الخوانين والأمراء؛ فأمر بخنقه جزاء لفتنته السابقة وخيانته لسيده، وتركه له، وسعيه في الفساد أخيرا.
ثم جمع محمد أعظم عساكره، وسار بها إلى قندهار، فتلاقى مع الأمير شير علي خان في كلات الغلجائي فتصادم الجيشان، وتقاتلا، وأظهر شير علي خان في تلك الواقعة غاية البسالة والشجاعة، غير أن قوة قلبه ما استوجبت ثبات أقدام عساكره الذين غلب عليهم الجبن والخوف بسبب الانهزامات المتتالية، فاضطر إلى ترك قندهار والذهاب إلى هرات. وبعد بضعة أشهر ذهب بفرقة من الخيالة إلى بلخ، وجمع كثيرا من مقاتلي الأزبك والأفغانيين وزحف إلى كابل من طريق قوهستان الوعرة مصحوبا بفيض محمد خان فقابله عبد الرحمن خان في «بنج شير»، فتقاتل الجيشان فقتل فيض محمد خان. «كأن إقباله وإدباره ووفاقه ونفاقه كانت دواعي الموت وسكراته.» وانهزم شير علي تاركا مدافعه فوق الجبال، وأسرع إلى بلخ، ومنها إلى هرات، علما منه بأن عبد الرحمن سيتبعه بعساكره وقنع بها، وتوفي إثر هذه الواقعة محمد أفضل خان في كابل، وكان رجلا محبا للعلم والعلماء كارها للظلم والجور فخلفه شقيقه محمد أعظم خان.
وبعد أن استقر على منصة الإمارة أرسل ابن أخيه المتوفي عبد الرحمن خان إلى بلخ وجعله واليا عليها وعززه بإسماعيل خان بن محمد أمين خان المقتول؛ ليقدر على إطفاء الفتن التي حصلت هناك بين الأزبك والأفغانيين، ونصب ابنه محمد سرور خان واليا على قندهار، وجعل ابنه الآخر المسمى بعبد العزيز خان الذي كان عمره إذ ذاك ستة عشر عاما رئيسا على العساكر الموجودة فيها، وهذا الرئيس الشاب قد ساقه الغرور وحب الظهور إلى جمع العساكر وسوقها إلى هرات من دون علم أبيه، وعند وصوله إلى قرية كرشك صادمه محمد يعقوب خان بن شير علي بعساكره، فهجم الشاب الرئيس دفعة واحدة بمائتين من المشاة على قلب عسكر الخصم واستولى على مدفع، وجلس عليه بعد أن قتل طبجيته، فلما نظر جيش محمد يعقوب عدم وصول المدد له أحاطوا به، وأخذوه أسيرا فتشتت عساكره وانهزمت - كما هي عادة الشرقيين - عند فقد رئيسهم، فأسرع محمد يعقوب بعساكره إلى مدينة قندهار واستولى عليها بحيث لم يجد من يدافع عنها، فقوي قلب شير علي خان لهذه الغلبة، وجد فيه العزم والإرادة، وقصد تلك المدينة بخيالة «الجمشيدي» و«فيروز كوهي» وجمع منها العساكر المتفرقة وأسرع مع ابنه إلى كابل، فتقابل مع محمد أعظم خان في وادي مكر على بعد ستة فراسخ من قزنة، وأنشأ كل من العسكرين استحكامات وحفروا خنادق، وكان محمد أعظم عند سماعه بزحف شير علي قد أرسل إلى بلخ يطلب إسماعيل خان الخائن علما منه بأنه الخصم الألد لشير علي؛ لأنه قتل أباه وأهانه غاية الإهانة، فجاء بعسكر بلخ، وتوقف في قوهستان إلى أن تقابل العسكران في مكر، فهجم على مدينة كابل وفتحها ونادى فيها باسم شير علي خان ظنا منه بأنه سيجعله مكان أبيه واليا على قندهار.
وعند وصول هذا الخبر إلى عساكر محمد أعظم غلب اليأس عليهم، وحصل فيهم الفتور، وتفرقت كلمتهم وتشتت آراؤهم؛ لأنهم قد رأوا أنفسهم بين عسكرين، وعلموا أنه لا يمكن وصول الزاد إليهم، فعلم محمد أعظم أنه لا يجوز الاعتماد على هؤلاء العساكر الذين غلب عليهم الجبن، واستولى عليهم الفتور والخوف، خصوصا لما رأى جراءة خيالة الجميشيدي وهجومهم على أطراف المعسكر على الدوام، ففر إلى بلخ واجتمع بابن أخيه عبد الرحمن، ودخل شير على خان مدينة كابل بعد أن فارقها زمانا طويلا، واستقبله أهلها بكل بشاشة وسرور؛ لأنه كان محبوبا لدى الناس لسماحة أخلاقه وعدم ميله إلى الظلم بالطبع، ثم إن محمد أعظم وعبد الرحمن بذلا غاية الجهد في جمع العساكر من الأزبك والأفغان، وذهبا إلى قزنة عن طريق هزاره فبارزهما شير علي، وبعد مقاتلات شديدة انهزمت عساكر محمد أعظم وعبد الرحمن، وهربا إلى مدينة مشهد من بلاد إيران، وانفصل عبد الرحمن من عمه في تلك المدينة وذهب إلى بخارى وأقام بمدينة سمرقند وهو الآن بها، وتوفي محمد أعظم بمدينة نيسابور حين ذهابه إلى طهران، وكان عاقلا مدبرا محبا للعدل، ولكن أحوجته الضرورات والحوادث الكونية إلى الجور والظلم، وأما إيثاره ولده الشاب الذي كان في الحقيقة سببا لخيبته، وزوال ملكه بجعله إياه رئيسا لجيوش قندهار، فقد كان لعدم اعتماده على سرداري الأفغان وخوانينهم؛ لأنه قد تمكن منهم سوء الأخلاق بحيث إنهم ما كانوا يعدون الخيانة رذيلة، ولا يستنكفون من ارتكاب العار؛ لأن غالبهم - في خلال هذه الفتن - قد انتمى لكل من الحزبين المتحاربين أزيد من عشرين مرة، وكان متمذهبا بمذهب الصوفية القائلين بوحدة الوجود.
وبالجملة لما تمت السلطة في سنة 1285 للأمير شير علي خان بلا منازع، ولا ممانع، ذهب إلى مدينة أنبالة؛ إجابة لدعوة الحكومة الإنجليزية، فأيدت إنجلترا معاهدته العرقوبية السابقة التي وقعت بينها وبين أبيه دوست محمد خان بمواثيق أخرى هي في الحقيقة عبارة عن تمويهات ومخاتلات، ولما رجع نفي إسماعيل خان الخائن وإخوته إلى الهند، ثم خلع ابنه البطل محمد يعقوب خان من ولاية العهد وجعل أخاه عبد الله خان ولي عهده مع صغر سنه محبة لأمه. «ولبئست الشهوة التي تعمي البصائر وتضل العقول عن الرشاد.» وأما محمد يعقوب خان فقد ذهب إلى هرات وأظهر العصيان بها ولكن لم تمتد مدة هذا العصيان فإنه مع غلبته على عساكر أبيه لبى دعوته حينما دعاه إلى كابل، والأمير بدلا عن أن يجامله أودعه الحبس، ومع هذه كله لم ينل الأمير بغيته؛ لأن الموت قد أسرع بولي عهده الجديد، وفي سنة 1295 غلبت الوساوس والأوهام على رجال الإنجليز حينما رأوا وفود السفارة الروسية على الأمير فجهزوا سفارة مؤلفة من عدة مهندسين وألف خيال وأرسلوها إلى الإمارة الأفغانية فأبى الأمير إلا منعها لقطعهم المرتب الذي تعهدوا بدفعه كل شهر من مدة سنين بلا سبب؛ فاستشاطت الإنجليز غيظا وساقت العساكر إلى البلاد الأفغانية ظلما وجورا.
الفصل الرابع
في بيان الشعوب المختلفة الساكنة في الأقطار المعبر عنها باسم أفغانستان
وأخلاقهم وعاداتهم ومذاهبهم وفي إيضاح كيفية الحكومة في تلك البلاد
إن أعظم الشعوب المستوطنة لتلك الأقطار وأكثرها عدا هو الجنس الأفغاني، ومقره جنوب البلاد والشرق الجنوبي منها، والخلق الغالب في هذا الجنس هو الحقد والضغينة والتشوق للانتقام، واقتحام المحاربات، والتهور في المخاصمات والمنازعات لأدنى الأسباب، وإن صورهم الظاهرة تحكي عن خليقتهم هذه، وتنبئ عنها، فإن وجوههم على الدوام عابسة وقلما يوجد بينهم البشوش، وإن كان يظهر في بعض معاملاتهم الحلم والتؤدة، وكذلك خشونة لغتهم، وغلظ أصواتهم، يدلان على هذه الخليقة، وعلى الفظاظة وغلظ الطباع، ولهم ميل عظيم للنهب والسلب، وشن الغارات، وإثارة الفتن، وبما ارتكز في طباعهم من الشجاعة والإقدام والميل الطبيعي إلى المحاربة أرشدتهم الطبيعة من قرون إلى ترتيب نظامهم العسكري على هيئة تقرب من النظام الموجود في هذه الأزمان، وذلك أنهم كانوا يصفون الصفوف، ويحكمون ترتيبها، ويقيمون الضباط أرباب الرتب العالية وأرباب الرتب الدنية.
وعند سوق الجيوش للمحاربة كانت الضباط تتقدم العساكر لتقودهم، حتى إذا اشتعلت نيران الحرب تأخرت الضباط وتقدمتهم العساكر للنزال والصدام، واشتغلت الضباط بالأوامر والنواهي، والنظر فيما يجب إجراؤه من الإقدام والإحجام، والتيامن والتياسر، والسير والتوقف، وغير ذلك، وكان من عاداتهم أنه إذا ولى أحد العساكر فرارا حكموا عليه بالقتل، ومن ذلك ما وقع في واقعة أصفهان، وهو أن ضابطا هم بقتل أحد العساكر عندما رآه متقهقرا، فأراه العسكري يده اليمنى مقطوعة تخلصا من العقاب القانوني؛ فعافاه الضابط من القتل، إلا أنه لم يخلص من عتابه، ولم يرضه هربه وتقهقره، بل أرجعه إلى المعسكر قائلا: «يا مخنث، ألم تكن يدك اليسرى موجودة؟! فإن قطعت أيضا فعندك أسنان تنهش بها أعداءك، فاذهب، وقاتل الأعداء إلى آخر رمق في حياتك.»
ومن وظائف الضباط زيادة عن الأوامر والنواهي المتعلقة بترتيب العساكر وحفظ نظامهم، تفقد من يموت من العساكر في الميدان؛ ليأتوا به من ساحة القتال ويدفنوه؛ كي لا تقع جثته تحت إهانة أيدي الأعداء، إلا من قتل منهزما فإنهم لا يجوزون دفنه أصلا، ولأفراد العساكر الأفغانية من الطاعة والانقياد لرؤسائهم ما لا يوجد في عساكر ملك من ملوك البلاد المتمدنة، حتى إنهم عند تفرقهم في البادية، وتشتتهم بحيث لا يكون فرد منهم مع الآخر لو سمعوا نداء مناد يدعوهم إلى ضابط أو رئيس من رؤسائهم، لهرعوا مهرولين جميعا لإجابته، والاجتماع حيث يأمرهم، ولو نالوا طعاما في المخمصة لتركوه ملبين داعيهم، ولحسن طاعتهم إذا فتحوا بلدا، وأمرهم أمراؤهم بعدم التعرض لأهاليها، لا يقع منهم أدنى شيء يخل بالراحة، حتى لو مرت عليهم النساء مكللات بأكاليل الذهب لا يلتفتون إليهن، واتفق أنه وقع النزاع في أصفهان بين طائفتين من الأفغانيين في أول جلوس أشرف على كرسي السلطنة، وعظم الخلاف بينهما حتى اقتتلتا، فقفل أرباب الحوانيت حوانيتهم؛ خوفا من حصول الهرج والمرج، فجاء الأمر من أشرف بفتح الحوانيت معلنا: «إن من يصيبه خسارة فأنا الكفيل بتعويضها.» وامتد القتال في المدينة أياما ولم يحصل أدنى ضرر للأهالي من المقاتلين.
ولجميع رجالهم تدرب تام في الطعن بالرماح والضرب بالسيوف، ولهم خفة ونشاط في ركوب الخيل، وفي الأزمنة الأخيرة صارت لهم الدربة في إطلاق الرصاص أيضا. ومن زمن الأمير دوست محمد خان شرعوا في ترتيب العسكرية على النظامات الجديدة، وقد برعوا فيها عملا لا علما، وبلغ عدد عساكرهم المنتظمة ستين ألفا.
وإن كثيرا منهم وإن كانوا قد مالوا إلى الإقامة في المدن والقرى كأهالي قندهار وقزنة وجلال آباد وغيرها، إلا أنهم كبقية إخوانهم الذين لم يزالوا في الخشونة حيث لم يأخذوا جانب الترف والرفاهية، بل يسلكون في تعيشهم طرق التخشن والتقشف، ويقنعون من اللذات باليسير حتى إنهم يأكلون الضأن بجلده، فإنهم بعدما يذبحونه يحرقون صوفه ثم يجففونه ويدخرونه للأكل، ولا يتناولون الأطعمة بالملاعق، ولا يضعون أواني الطعام على الخوان، بل يأكلون على الأرض بأيديهم، وليس لهم عناية بتنظيف ألبستهم وأبدانهم، ولا يهتمون بنظافة مساكنهم وحجراتهم، وتطهير مدنهم من الأوساخ؛ ولذلك ترى المدن المسكونة بالكثير منهم لا تخلو من الأوساخ والقاذورات، وكثيرا ما تكون جيف الحيوانات في معسكرهم، ولا يعتنون بإبعادها من بينهم، وغالب الجبليين، وأهل القرى منهم، إذا أكل لا يغسل يديه، بل يمسحها في لحيته أو مداسه، وبعض منهم إذا لبس لباسا جديدا يلطخ بعضه بالسمن خصوصا عاتقيه؛ إظهارا لتأصله في الغنى وعدم مبالاته بالجديد، وإراءة لسمنه، وجميعهم سواء كانوا من سكان الأخبية أو البوادي يلبسون من الألبسة خشنها، فأرباب البادية يصنعون ثيابهم من نوع اللباد على هيئة غريبة بكمين طويلين يشبهان خرطوم الفيل، يصلان إلى الأرض، ويسمى عندهم «كوسي»، ولهم أيضا ثوب آخر من هذا النوع يصل إلى الفخذين بكمين قصيرين يسمى «صدرية». وهؤلاء قلما يبدلون ثيابهم قبل البلاء، وسكان المدن يصنعون ثيابهم من الجوخ الغليظ المعروف عندهم ببركر، فيتخذون منه جببا ضيقة الأكمام قصيرتها ويتقبون بأقبية من القماش الملون المعروف بالشيت، وثيابهم في زمن الشتاء من جلود الحمل، يبالغون في دبغها، حتى تصير في اللين والنعومة كالحرير، ويصبغونها بلون أصفر بهي، ويرقشونها بطراز الحريم، ثم يفصلون منها جببا يتخذها العمالة،
1
قصيرة تنتهي إلى الركبتين بكمين إلى المرفق وتسمى «بوستين جه» وأرباب الصنائع، والأواسط من الناس يتخذونها طويلة تبلغ الكعبين، كسائر ألبستهم بكمين طويلين، وتسمى بوستين، وقد يتخذ الأمراء من شيلان الكشمير جببا ومن السمور والسنجاب فراء «كرك».
وغالب الأفغانيين يعتمون بعمامة زرقاء، وأما السردارون والعظماء فغالبا يعتمون بشيلان الكشمير ألوانا، وسكان البلاد الحارة يحتذون النعال، ويتخذون صدريات ويلبسون أقمصة تنتهي إلى نصف الساق واسعة الأكمام، وغالبهم يتحزم بأحزمة عريضة تشغل ما تحت الصدر إلى الفخذية، وغالب القبائل لا يحلقون رءوسهم، وبعضهم يتخذون ضفيرة طويلة من شعورهم، وأما نساؤهم فإنهن يلبسن ألبسة طويلة، ويتمنطقن بمناطق تقرب من الثدي حتى يرى بارزا، وغالب نساء القبائل الساكنة في الجبال يقطعن شعور أذناب الخيول ويصلنها بشعورهن، ونساء قبيلة الغلجائي يحبكن شعور نواصيهن، ويشكلنها بشكل قرص، ثم يسدلنه على الجبهة، فيمتد إلى الصدغين في العرض، ويستر الأنف طولا، كأنما هو برقع مستدير، ويعلقن في آذانهن حلقات غليظة ثقيلة من الفضة والحديد والنحاس والبلور.
وأمراء الأفغان لا يجلسون على المنصات والكراسي، بل يفرشون مجالسهم بالأنماط والنمارق الفارسية، وليس لهم من الأبهة والعظمة ما لغيرهم من الأمراء، ولا يستنكفون من تناول الطعام مع خدمهم والأصاغر من الناس.
والجبليون منهم، وأهل البادية، يحترفون رعي المواشي والأنعام، ويتعيشون منها، وقليل من الزراعة، وقلما يوجد منهم التاجر إلا في قبيلة «لوهاتي» من الجبليين، فإن غالب هذه القبيلة من التجار، ونشاطهم في التجارة على نمط غريب إذ يبلغون بأمتعتهم محمولة على الجمال إلى قرب الصين وبلاد سيبريا، ويجيئون بها إلى بلاد الأناضول، ويطوفون الأقطار الهندية، وهذه القبيلة تمتاز عن سائر القبائل بألبستها، فإن عمائمهم ذات زوايا أربع متقابلة، وأقبيتهم تشبه أقبية الأرناؤد وسكان أذربيجان، بأنها ضيقة الأعالي، واسعة الذيول، كثيرة التكاميش من الوسط.
وأما سكان المدن والقرى فيشتغلون بالزراعة وغرس الأشجار وإنشاء البساتين والرياض، وقلما يوجد فيهم أرباب الصناعة كالحدادة والنجارة والحياكة وما يشبهها، ولا يشتغل منهم بالتجارة غالبا إلا أهالي قندهار، فإن لهم حرصا على التجارة، وغالب تجارهم من طلبة العلم.
وليس للأفغانيين دراية كافية بكيفية إدارة الحكومة، وضبط الدفاتر، وما يشبه ذلك؛ ولهذا تجد جميع هذه الأمور بأيدي طائفة «قزل باش» الذين هم بقايا عساكر نادر شاه، ولا يجوزون بيع الأسراء، وإن كانوا غير مسلمين، ويكرمون الغرباء، وأبناء السبيل، ويستقبحون غالبا السرقة، وإن كانوا يتفاخرون بالنهب والغارة، وغير خاف أن الفرق بين السرقة والنهب هو الفرق بين القوة والضعف، والمنكرات التي هي نتائج الترف والترفه قليلة الوجود فيهم؛ لتمكن أخلاق البداوة منهم، ولا يخلو غالبهم من خلة الطمع؛ لتسلط الفقر عليهم. وإن نساء الأفغانيين الساكنات في المدن يسترن وجوههن بخلاف نساء القرى والبوادي، فإنهن مكشوفات الوجوه، ويختلطن مع الرجال، وتأخذ كل منهن يد رجل، ويرقصن في الأفراح على هيئة دائرة، وتارة يرقص الرجال منفردين على هذه الهيئة في الأعياد والأفراح، ويسمى هذا الرقص لديهم «عتن».
ومن عادة سكان القرى والبوادي من الأفغانيين في أفراحهم أن يدعو والد العروس أقاربه وأحبابه وجيرانه في نهار الزفاف، ويعرض عليهم الثياب التي عليه عادة أن يعدها للعروس وزوجها، ثم يستدعي الزوج في هذا الحفل، ويلبسه على ملأ الحاضرين ما أعد له بعد قراءة الفاتحة، والنسوة يفعلن ذلك بالعروس، ثم يزفونها إلى محل بعلها، مصحوبة بالأغاني والطبول، وعند وصولها واستقرارها في الحجلة التي أعدت لها، تأتي الفتيات بأنواع الفواكه والنقل، وينثرن على رأس العروس، ويأخذ المدعوون والمدعوات في التفكه بالفواكه والتنقل بها، وتلبث العروس عاكفة في محل زوجها لا تظهر في الناس أياما، فإذا مضت تلك الأيام أتت إليها بنات محلتها يعزفن بالدفوف، وعلى رأس كل منهن جرة، ويأخذنها ومعها جرة مثلهن، ويذهبن جميعا على هذه الهيئة مغنيات عازفات إلى أن يصلن نهرا أو عين ماء، فيملأن تلك الجرات، ويرجعن كذلك، وللعروس بعد ذلك ترك العزلة ومعاشرة الناس، وتختص قبيلة «منكل» و«داوور» دون القبائل بكون أبوي العروسين يجب عليهما الرقص في العرس، ولهاتين القبيلتين عادة غريبة، وهي أن شبانهم في أيام المواسم والأعياد يحلقون أحد حاجبيهم وأحد جانبي شاربهم من خلاف، ويكحلون عينا بالسواد وعينا بالحمرة، ومن له لحية منهم يحلق جانبا منها ويترك الآخر، ويقضون أيام عادتهم هذه باللعب بالسيوف، حتى يخيل للناظر أنهم يحاولون الفتك ببعضهم، وأبناء هاتين القبيلتين ممن يستفزهم حسن الصورة ويشغفهم الجمال أينما تجلى، بل هم يتنافسون في إظهار صدق المحبة وخلوصها، بتقديم الذبائح، حتى تغالى بعضهم بتقديم أبيه ذبيحة.
ومن عادة قبيلة «ختك» أن نساءها في المأتم يصبغن وجوههن ويعفرنها ويثبن لاطمات صائحات ويخمشن وجوههن بأظفارهن، ومن عادة جميع الأفغانيين إطعام المعزين ثلاثة أيام إلا أنهم يختلفون عادة في من يقوم بنفقة الأطعمة، ففي غالب القبائل يقوم بها صاحب المأتم، وفي بعضها يقوم بها جيرانه وأهالي القرى القريبة منه، أما هو فلا يصنع شيئا.
ومن أهالي القرى من يعلم الأولاد الذكور الرقص ويلبسهم ثيابا تشبه فساتين نساء الإفرنج، ويجعل عليها شراريب من جميع أطرافها، لأجل الرقص في الأفراح، وإذا ولد لأهل القرى والبوادي منهم مولود تصعد القابلة ولو في نصف الليل على سطح البيت، أو على محل مرتفع، وتنادي بأعلى الصوت ثلاث مرات إخبارا بالمولود، وتأدية لشكر هذه النعمة لله.
وجميع الأفغانيين سنيون متمذهبون بمذهب أبي حنيفة، لا يتساهلون رجالا ونساء، وحضريين وبدويين، في الصلاة والصوم سوى طائفة «نوري» فإنهم متوغلون في التشيع، ولهم محاربات شديدة مع جيرانهم السنيين، ولا يبالون بالصلاة والصوم، وإنما يهتمون بأمر مأتم الحسين - رضي الله عنه - في العشر الأول من محرم ويضربون ظهورهم وأكتافهم بالسلاسل مكشوفة، ويوجد في بعض قبائل «كاكر» بقايا من الطريقة المزدكية، وإن كانوا على دين الإسلام.
ومزدك هذا كان رجلا في زمن «قباذ» من أكاسرة فارس، وقد ادعى النبوة، وتبعه قباذ وأربعون ألفا من الفارسيين، وكان من أصول دينه الاشتراك في الأموال والنساء، وكان يعلل ذلك بأن المنازعات والمقاتلات لا تحصل إلا لأجلهما فلو حصل الاشتراك فيهما لارتفع الشقاق واستتبت الراحة، ولما مات قباذ وجلس ابنه أنوشروان المعروف بالعادل على منصة الملك، احتال لإبادة هذه الشريعة المبتدعة، فطلب الشارع، وقابله بالبشر والبشاشة، وأظهر له رضاه وقال له: «إني قد اخترت هذه الشريعة البديعة، واستحسنتها، ولكن لا أقدر أن أتظاهر بها؛ خوفا ووجلا ما لم أر الذين اتبعوك، وأعلم أن فيهم كفاءة لدفع شر المنكرين.» فعرض الشارع أتباعه عليه في محل أعده أنوشروان لذلك، فصار الجميع طعمة للسيوف، وما هرب منهم إلا ثلاثة أشخاص منهم زوجة مزدك، ولم يصدر عنه هذا الفعل إلا بمشورة وزيره بزرجمهر، حيث قال له: «إن هذا الشارع لا يريد بشريعته هذه إلا استئصال السلطنة عن وجه الأرض؛ لأن السلطنة لا تكون إلا بالمال والنسب، فإذا تأسس الاشتراك في الأموال والنساء فلا سلطنة.» وقال خواجة «نظام الملك» في تأريخه: «إن الإباحيين الموجودين في إيران من أتباع مزدك، وقد توارثوا هذه الطريقة عن الذين نجوا من حد سيف أنوشروان.» وكذلك يرى في أهالي خست وكرم بعض عادات الخوارج والنواصب فإنهم يصورون هيكلا في غرة محرم، ويدفنونه، ثم إنهم يخرجونه في يوم عاشورا، ويكسرون عنقه متهللين مستبشرين، وهؤلاء يستقبحون الختان أيضا.
والأفغانيون - مع شدة تعصبهم للدين، والمذهب، والجنس - لا يعارضون غيرهم في حقوقهم، ولا يتحاشون عن أن يروا شيعيا، أو غير مسلم، يقيم مراسم دينه، ولا يمنعون المستحقين منهم من نيل المراتب العالية في حكومتهم، فإنك ترى أرباب المناصب في البلاد الأفغانية من الشيعيين «القزل باش». وكل أفغاني يزعم أنه أشرف الناس؛ لكونه أفغانيا، ولو كان فقيرا، وأنه لا يوجد الإيمان الكامل والإسلام الخالص إلا في جنس الأفغان والعرب. وكل قبيلة إذا أرادت أن تبرم أمرا فلا بد أن يجتمع أمراؤها للمشورة، وتسمى هذه الجمعية عندهم بجركه، وإذا قتل أحد من قبيلة أحدا من قبيلة أخرى فكل فرد من أفراد القبيلة المقتول يرى أنه من الواجب عليه أن يجتهد لأخذ الثأر بقتل رجل من قبيلة القاتل، ولا يقتنعون بقصاص الحاكم، ولا يتجاوزون عن ذلك، ولو مضت عليه أعوام إلا أن يستجير بهم القاتل، وهكذا تكون الحال إذا قتل أحد من عائلة أحدا من أخرى.
والأفغانيون يحمون الدخيل، ويعينون الملتجئ إليهم بدمائهم وأموالهم، وأهل الحضارة والبداوة منهم يتسلحون غالبا بسيوف صغيرة تسمى «سيلاوة» و«نورة» وبخناجر مستقيمة، وبآلات نارية كالبنادق، والطبنجات، وغالب بنادق أهل الجبال بالفتيل، ولا تنقطع المحاربات بين القبائل والعائلات، وقد وقع كثيرا أن الابن قتل أباه، والأخ قتل أخاه، ولا ينعقد الصلح بين القبيلتين المتحاربتين إلا بالمصاهرة، وغالب سكان الجبال والأودية لا ينقادون للأمير إلا بقوة جبرية، وينتهزون الفرصة دائما لرفع الضرائب الأميرية عن عواتقهم.
ومن القبائل من يقتات بالذرة، ومنهم من يقتات بالدخن، ومنهم من يقتات بالشعير، ومنهم من يقتات بالبر، وغالب أدمهم الأقط واللحم، وفي زمن الشتاء يصنعون منهما طبيخا، ويخبزون خبزهم غالبا بالصباح، وفي الأسفار يخبزونه بمصبأ محماة يضعونها في قطعة من الخمير، ويملئونها نارا حتى تستوي ويسمون هذا الخبز «كاك». وقلما يوجد البصل عند القبائل كقبيلة «يوسف زائي» و«أجيك زائي» فتجدهم إذا رأوا أجنبيا يتملقون ويتذللون له قائلين: «عندنا مريض فنرجوك أن تتفضل عليه ببصلة عسى أن يكون شفاؤه فيها.» وإن قبيلة أجيك زائي كثيرا ما يتعرضون للقوافل إرادة النهب، ويسدون طريقها، ويقابلونها بالأسلحة النارية والآلات الحادة، فإذا لم يمكنهم الغلبة عليها صالحوها بأقة أو أقتين من البصل، واتفق أن محمد أعظم خان بعدما ترك البلاد الهندية وفد على قبيلة يوسف زائي، ونزل في خيمة خانها فقام الخان مسرعا وعلى وجهه لوائح الفرح وإذا به قدم للأمير بصلة.
وكل الأفغانيين يعتقدون بقبور الأولياء، ويذهبون لزيارتها، ويذبحون الذبائح لديها، وبعضهم تغالى في اعتقاده بها، حتى إن رجلا من قبيلة الأفزيدي المشهورة بالسلب والنهب لقي شخصا فأراد أن يسلبه، فاستجار بالله وبالرسول، فلم يتركه ثم استجار بتربة شيخ يسمى «منلايار محمد» فاضطرب ذلك الرجل خوفا وقال: «جل جلاله أوقعتني في الكفر.» وترك سبيله، وغالب القبائل وسكان الأودية والقرى يميلون إلى اللعب والطرب، وفي الأزمنة الخالية عن الشغل يجتمعون على هيئة دائرة ويرقصون الرقص الموصوف سابقا، ويلعبون بالخيل والسيوف، وساكنو الجبال الباردة منهم «كخست» و«كرم» أغلبهم أبيض اللون، والساكنون في البلاد الحارة كقندهار وجلال آباد سمر الألوان.
ومن العوائد الدينية الجارية عندهم أنه إذا مات أحد منهم يخرجون دراهم ودنانير من ماله يعطونها للفقراء والمساكين من العلماء باسم إسقاط الصلاة، ومن أهل القرى والمدن من له شغف عظيم بتعلم العلوم كالصرف والنحو، والمعاني والبيان، والفقه والأصول، والتفسير والحديث، والمنطق والفلسفة، والهيئة والهندسة، والحساب، ويتعلم بعض منهم العلوم الطبية، وبعض من أهل القرى يكتفون بتعلم الفقه بدون استحصال العلوم العربية، والعامة يتكلفون بأرزاق الطلبة مدة الطلب بطيب نفس فيخصص كل واحد قسما لطلبة العلم مما هيأه لغذائه أو عشائه ثم يطوف بعض صغار الطلبة على الدور لجمع ما أعد لهم، وأهل بعض الجهات لا يجوزون تناول ما خصص للطالبين إذا غفل الموكل بالجمع عن أخذه، وللعلماء في تلك البلاد شأن عظيم وسلطة تامة ونفوذ كلمة بين الأهالي، بحيث يخشاهم الكبراء والعظماء والأمراء حيث إن قلوب العوام في قبضتهم. ولهم أن يثيروا الشعب على أي أمير أو كبير متى شاءوا، والكثير منهم يستنكف من ملاقاة الأمراء ويتنزه عن قبول هداياهم وإن كان يقبل هدايا غيرهم من الناس، ويستكبر عن زيارة رجال الحكومة حتى إن أمير البلد لو زار أحدهم لا يرى من نفسه أن يتنازل لمقابلة زيارته بزيارة مثلها، وبسبب سلطتهم هذه قد يصدر عنهم أعمال مضرة يأباها الشرع والعقل، إذ يحكمون بكفر بعض الأشخاص أو بفسقه إذا رأوا منه ما يخالف أهواءهم، بل قد يكفر بعضهم بعضا حبا للانفراد بالرئاسة، خصوصا في هذه الأزمان الأخيرة بعدما انتشر مذهب الوهابية في الهند، فإن من كان أنقذ سلطة إذا رأى نجاحا لمن هو دونه يحكم بأنه وهابي، حتى يسيء إلى اسمه.
ويلزمون الحاكم بإجراء العقوبات الفظيعة على من حكموا عليه، ومن ذلك ما وقع في قندهار، وهو أن أحد كبار العلماء حكم بكفر الشيعة فثارت عليهم قلوب الأهالي، وقامت الحرب بينهم، وسفك فيها عزيز الدماء، ونهبت البيوت والدكاكين، وكذلك ما وقع في كابل وهو أن بعض علمائها حكم بكفر الشيعة، ووقعت بسببه حرب امتدت أشهرا بين السنيين والشيعة «القزل باش»، والبعض منهم يتسم بسمة الطريقة، ويتوسد وسادة الإرشاد، وهؤلاء يتخذون مساكن، ورباطات للزائرين وغيرهم، ويقدمون لهم الأطعمة في أوقاتها، ووجاهتهم ونفوذ كلمتهم، وسعة نفقاتهم، بحسب ما يأخذونه من الذين يلوذون بهم باسم الهدايا والنذور، ومنهم من يتمكن بحسن سلوكه وظاهر صلاحه من قلوب العامة، ويحصل له الكلمة العليا والنفوذ التام، ويقصده ألوف من الناس من كل فج، فيقدم لهم الموائد مدة إقامتهم لديه، ولا يخلو رباطه في جميع الأوقات من مئات من الأطعمة والأشربة والألبسة، ومنهم من يتفرد بالحكم في بعض أضلاع البلاد الأفغانية، ويتمتع بضلعه، ويحامي عن حوزته، ويدفع من يهاجمه من جيرانه، ويهجم في بعض الأوقات عليهم محتجا في كل ذلك بالأدلة الدينية، ومن هؤلاء عبد الغفور المشهور «بأخند صوات» الذي كان متسلطا على «صوات» و«بنير»، وكان معقدا في جميع البلاد الأفغانية على العموم، بل وفي بلاد الهند وبخارى، وكان فقيها زهدا متقشفا، مخشوشنا في معيشته، يتعيش من الذرة والدخن الجبليين، وألبان معز لا ترعى إلا أعشابا جبلية، وكان عنده على الدوام عدد وافر من المريدين، وكثيرا ما شن الغارة على الإنجليز، وانتصر عليهم، وكان ينشر في البلاد منشورات يدعو بها أهلها إلى الجهاد فيجتمع إليه ألوف من الناس، وكان يؤيده ويساعده على هذا جماعة من الوهابية من الهنود أصحاب السيد أحمد الوهابي الذين هاجروا من الأقطار الهندية خوفا من المسلمين السنيين وتوطنوا في صوات وبنير.
وهذا الشيخ «أخند صوات» كان إذا وفد إليه الزائرون وأبناء السبيل يقربهم على حسب أحوالهم، وما منحهم الله في بلادهم من جاه وثروة أو ضعة وفقر، وكان يقدم إلى الأمير ما يليق به، وإلى الفقير الرائب والبصل والخبز اليابس، وكان إذا سمع أن شيخا قد ارتفع في البلاد، أو جلس مجلس الإرشاد بادر بالحكم عليه بالتوهب، حتى تنفر منه القلوب، وتنزل درجته من اعتبار العامة، وقد قتل بعض المشايخ بسبب حكمه هذا، وأشهر بعضهم على أشنع هيئة وأقبح صورة.
وجميع علماء الأفغان يحرمون شرب التبغ بجميع أنواعه كعلماء بخارى، ولكنهم لا يتعرضون لمنع العامة عنه إلا «أخند صوات» فإنه يرسل من لدنه الرسل والمبعوثين إلى البلاد الأفغانية؛ ليمنعوا الناس من شرب الدخان، ويكسروا الشبقات والنارجيلات إذا ظفروا بها، ويحرمون أكل ذبيحة الشيعيين، مع أنهم يحللون أكل ذبائح اليهود والنصارى، زاعمين أن الشيعة قد ارتدوا، والمرتد لا تؤكل ذبيحته بخلاف أهل الكتاب، وجميعهم يحمل على عاتقه حراما غليظا أو رقيقا على حسب الفصول لأجل الصلاة، بل ذلك عادة غالب الأفغانيين، وجميعهم يظهرون التعصب للدين، ويبدون الغيرة على الأحكام الشرعية والاعتقادات، إلا من كان منهم على منصة الإرشاد فإنه قد يوجد فيهم التساهل في الأمور الدينية، ولطلبة العلم لما يرون من احترام العامة لهم بعض تعد على الناس، حتى إن طلاب «نكنهار» يتحزبون، ويتسلحون بالقرابينات، ويهجمون على أهل القرى، إذا رأوا أدنى إهانة منهم لأحدهم، ولا ينتهون عن التطاول، إلا أن يقدم الأهالي كفارة عما فرطوا في جانبهم، وكثير من طلاب تلك النواحي لا يبالون بالصلاة والصوم، ولهم احتفالات في بعض أيام السنة يدعون إليها من الطلبة وغيرهم ما يزيد على ألف شخص، ويلزمون أهل القرى بتهيئة مأدبة فاخرة، ثم يأتون بأمرد جميل، ويلبسونه برقعا وأساور، ويجلسونه على كرسي ويلقبونه السلطان فيكون له الحكم مدة هذا الاحتفال يأمر بضرب من يشاء ويغرم من يشاء، وحينما يريدون الانفضاض يجيء المسمى بالوزير منهم بين يدي المجعول سلطانا، ويقول له: «إن الجند قد تمردوا على السلطان؛ نظرا لانقطاع الراتب عنهم.» فيسفر ذلك الأمرد عن وجهه، ويضع جانبا من النشوق في راحته، ويبسطها، فيتوارد أهل الاحتفال عليه، وكل يتناول شيئا من هذا النشوق، وبهذا ينفض الملعب. واللغة الأفغانية في غاية الخشونة، وحروفها الهجائية أكثر عددا من حروف اللغة الفارسية، وأحسن من يتكلم بها أهل مدينة قندهار، وتوجد مؤلفات قليلة بهذه اللغة نظما ونثرا.
ومن الشعوب الموجودة في البلاد الأفغانية شعب يقال له «تاجيك» ومنه غالب سكان مدينة هرات وضواحيها، ومدينة كابل والقرى الواقعة بينها وبين بلخ، وكذلك أهل مدينة قزنة وبعض القرى المجاورة لها، ولقمان وقصبة لقمان، وبعض قرى قندهار، ومنه أيضا غالب سكان المدن البلخية، وهذا الشعب ذو جد واجتهاد، وله حرص على تعاطي الحرف والصنائع كالحياكة والنجارة والحدادة والبناء، وغيرها، وعلى معرفة فن الزراعة وتربية الأشجار والكروم، وله عناية بالتجارة، والساكنون منه في قوهستان كابل قد طبعوا على الشر والفساد وحب القتال وسفك الدماء، فترى الحرب قائمة فيما بينهم أبدا لا تخلو منها قرية مع أخرى، ولا بيت مع آخر، ومن ثم تجد رجالهم غالبا قد اتخذوا لهم بروجا يقيمون بها بأسلحتهم خوفا من الغارات.
وبالجملة إن هذا الشعب أحسن حالا من الأفغانيين؛ فإنه أدرى منهم بالإدارة المنزلية، وأنظم في زيه وملبسه، ويمتاز عنهم بمراعاة النظافة، بل يفوقهم دراية وإدراكا، وفهما وذكاء، غير أنه قلما يوجد فيه عالم أو من يميل إلى تحصيل العلوم على خلاف الأفغانيين. ومما اشتهر به سكان القرى من هذا الشعب إصابة المرمى، فهيهات أن تخطئ رصاصة أحدهم الغرض، ولهم صنف من طوال الخناجر يتقلدونها، وجل هذا الشعب سني على مذهب أبي حنيفة، ولا يوجد في هذا الشعب عصبية كما لا يوجد فيه أمراء، وغالبهم بيض الوجوه، ويعتمون بعمامة الأفغانيين نوعا.
ومن الشعوب أيضا شعب «هزاره»، ويسكن هذا الشعب في الجبال الواقعة في شمال قزنة الممتدة إلى شمال هرات، وأصله من الجنس المغولي كما يؤخذ من سيماهم، فإن بعيونهم ضيقا مع ميل لحاظها نحو الرأس، ولحاهم غالبا ليست إلا بعض شعرات نابتة في أذقانهم.
وبالجملة فإن تركيب وجوههم تركيب وجوه الصينيين والتتر الأصليين، وقد قال بعض المؤرخين إن هذه القبيلة من بقايا عسكر جنكيز خان، بل ادعى أنها كانت منذ ثلاثمائة سنة تتكلم اللغة المغولية، لكن من وقف على تمكنها من اللغة الفارسية، وعدم مزجها إياها بشيء من اللغة المغولية، مع مجاورتها للتركمان، وجنس الأزبك من الترك، يجزم بأنها استوطنت مواطنها هذه من قبل جنكيز خان بمدد مديدة، وهذه القبيلة لم تزل على الخشونة والتوحش، عريقة في البداوة إلى الغاية، على أنها تحسن صنع صنف من الجوخ يقال له «برك» وهو أجود أصنافه، وقلما يصنع نظيره في أوروبا، وجميعها ما عدا عمارة جمشيدي يلبسون قباء مشقوقا يتمنطقون عليه، لكن إذا كان القباء من برك فيجعلون أكمامه إلى المرفق، ومنها إلى الزند، ويتخذونها من أقمشة أخرى كالحرير وغيره، وفي فصل الشتاء يتخذون قلنسوة من القماش، وأما نساؤهم فيعتممن دائما، ويلبسن كالرجال قباء على الشكل المار ذكره، وأما الجمشيدي فلباسهم يشبه لباس مجاوريهم من التركمان والأويمق، وهو جبة تضرب إلى الكعبين ضيقة الأكمام قصيرتهما، وقلنسوة من الفراء تسمى «پاپاق» بالباء الفارسية، وهذه العمارة معروفة بالفروسية ومطبوعة على النهب والسلب وشن الغارة كجيرانها ومشهورة بالشجاعة والإقدام، وإصابة الغرض في المرمى كسائر أخواتها من قبيلة هزاره.
وهذه القبيلة على مذهب الشيعة إلا فصيلة «شيخ علي» و«الجمشيدي»، لكنها ليست على شيء من هذا المذهب إلا بغض الخلفاء، ومحبة علي، وإقامة مأتمه في عاشوراء، بضرب السلاسل على الصدور والظهور، ولا يتقي آحاد هذه القبيلة إظهار مذهبهم، مع أن التقية من واجبات مذهب الشيعة، حتى لو سئل أحدهم عن مذهبه لقال بغلو بدون مبالاة: «إني عبد علي.» ولهم زيادة اعتصام بمذهبهم هذا.
ومما يحسن سرده هنا أن سنيا عرض التسنن على جارية منهم كانت عنده فأبت فعزرها وزجرها وألح عليها، فاستشاطت غيظا، وقالت: «أهون علي أن أكون كلبة ولا أكون سنية.» ومن شأنهم أنهم يلقنون أمواتهم إثر دفنهم بكلمات معناها: «إذ جاءك ناكر ومنكر فلا تخف فإن مولاك عليا سيحضر عندك ويطردهما عنك.» ومن عاداتهم أن أهل الميت يشق كل منهم قلنسوته بعد دفنه ويتركها على قبره، وقلما يوجد عند هذه القبيلة نقود، وغالب معاملاتهم بالمقايضة، وتأخذ منهم الحكومة بدل النقود على حسب حال كل شخص عددا مخصوصا من صنف المعز، فإن تأخر أحدهم في أداء الضرائب حتى تراكمت عليه وعجز عن أدائها يقدم بنته بدلا، فيتخذها العامل أو الحاكم كجارية، وأغلبهم يستعمل أطعمتهم بلا ملح؛ لندرة وجوده، ويعظمون الشرفاء «أي أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه» غاية التعظيم، ويتميز الشريف عندهم عن غيره بالأنفة والعظمة وعدم التحية عند قدومه على مجلس من المجالس واستعمال الشتائم في مخاطبته للعامة، ويعللون هذا بأن الشرفاء سلاطين، فلا ينبغي لهم أن يعاملوا الناس إلا بهذه الطريقة.
ومن العادات الغريبة عندهم أنه إذا حصلت منازعة بين امرأتين تقيم كل منهما نائبة عنها من النسوة أمام الأخرى، فتبتدئ إحداهما بالشتم محركة يديها ورجليها، وحاجبيها بحركات مختلفة فتجيبها الأخرى بشتم أفظع على ذلك النحو من الحركات، وهكذا تتناوبان الشتائم حتى تأتي إحداهما بشتم يبلغ الغاية في الفظاعة بحيث لا تقدر الأخرى أن تأتي بمثله فتنفصل الدعوى، وتكون الدائرة على التي صارت نائبتها عاجزة عن المقابلة، فإن انقضى النهار، وما حصلت الغلبة لإحداهما تأتي كل واحدة منهما بقفة تكفؤها قائلة: «الميعاد غدا.» ومن الشعوب قبيلتا أزبك وتركمان، وهما من أصل تتري يتكلمون الآن باللغة التركية، والقبيلة الأولى تسكن في أقطار بلخ، والثانية في الأراضي الواقعة بين مدينتي ميمنة وهرات، وكلهم سنيون على مذهب أبي حنيفة، وإن الأزبكيين «الذين ينسبون إلى أحد حفدة جنكيز خان» يشتغلون غالبا بالحرث، وتربية الكروم والأشجار، واقتناء المواشي، ويعتمون بعمائم صغيرة يسدلون عذبتها على آذانهم، ويلبسون جببا من الحرير وغيره، مبطنة بقماش غليظ، وشيء من القطن، وتحاكي الحفة الصغيرة، وبعضهم يلبس ثلاثا أو أربعا من هذه الجبب بعضها فوق بعض، ولهم حذق في الفروسية والطعن بالرماح، وإذا ذهب أحد منهم لزيارة آخر يرفع يديه إلى السماء، ويقرأ سورة الفاتحة، وبعد ذلك يقدم له المزور قطعة خبز فيأخذها ويقبلها بكل احترام، ويضعها في جيبه، ولهم رغبة تامة في شرب الشاي، ولا يستنكفون من أكل لحم الفرس، ويوجد فيهم بعض من العلماء.
وأما التركمان فيلبسون جببا من البرك، ويضعون على رءوسهم قلنسوة من الفراء تسمى «پاپاق» بالباء الفارسية كما ذكرنا، ولهم اهتمام تام بتربية الخيول، وخيولهم متولدة من الخيول العربية التي جلبها نادر شاه من نجد، وغالب هذه القبيلة المتوحشة المتبربرة يتعيشون من السلب والنهب ويغيرون على بلاد إيران وأطراف هرات، ويأسرون الرجال والنساء، ويبيعونهم باسم العبيد والإماء، مستدلين بأن أسراءهم من الشيعيين يجوز بيعهم لخروجهم عن الديانة الإسلامية، وكثيرا ما يأسرون أشخاصا من السنيين، ويجبرونهم بالضرب والكي على أن يعترفوا أمام الناس بالتشيع؛ كي لا يمتنع أتقياء بخارى عن شرائهم، واتفق أن بعضا منهم أسر عالما من علماء أهل السنة من نواحي هرات، فكبله بالسلاسل؛ خوف الهرب، ومع ذلك كان إذا حضر وقت الصلاة أطلقه ليؤم الجماعة، وكان بعد تمام الصلاة يقيده ثانيا، ولما رأى العالم منه ذلك قال له: «أنت تعلم أني رجل سني، فبأي وجه تجوز أسري وتحلل بيعي؟» فأجابه بقوله: «إنك لست بأشرف من القرآن الكريم، فكما يجوز لي هبة القرآن كذلك يجوز لي أيضا هبتك، وأما البيع فحاشا.» وبالجملة إن هاتين القبيلتين موصوفتان بالظلم والشر، خصوصا الأخيرة، غير أن عددها قليل في البلاد الأفغانية.
ومن الطوائف الموجودة في البلاد الأفغانية طائفة الشرفاء «أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه» ويلقبون في تلك البلاد بالسيد، وبعض من هذه الطائفة يسكن في «بشنك» من نواحي قندهار، وبعض منها يسكن في ولاية «كنر» الواقعة قرب جلال آباد، ولم يخل شرفاء كنر من الكبراء والعظماء من عهد «بابرشاه» إلى يومنا هذا، وللأفغانيين عموما مزيد اعتقاد بهذه الطائفة، وأما عاداتهم وملابسهم فتماثل عادات الأفغانيين وأخلاقهم وملابسهم.
ومن سكان بلاد الأفغان أيضا طائفة «قزل باش» وهو لفظ تركي، ومعناه أحمر الرأس، وقد لقب بهذا اللقب جميع العساكر الصفوية الشيعيين؛ لأنهم كانوا يعتمون - بأمر السلاطين الصفوية - بعمائم حمراء، وجلها يسكن في كابل، والباقي منها يستوطن في قزنة وقندهار، وأصل هذه الطائفة من البلاد الإيرانية وقد أتى بهم نادر شاه إلى هذه البلاد، ولهم حذق في الآداب والصنائع والأعمال الديوانية؛ ومن أجل هذا ترى أن المتوظفين في الإدارة الملكية الأفغانية منهم، وغالب الأمراء يختارونهم؛ لتربية أولادهم، ولتعليمهم الأدب والشعر، ويمتازون بالذكاء والفطنة والنظافة عن بقية سكان البلاد الأفغانية، ويتصفون بالشجاعة والإقدام، وكلهم على مذهب الشيعة، يقيمون مآتم للحسين بن علي بن أبي طالب في الأيام الأول من شهر محرم.
ويوجد في جنوب قندهار قرب «بشنك» بعض من طائفة البلوج، وهذه الطائفة من أصل فارسي، ومن عاداتهم أنهم يرسلون شعورهم ويدهنونها ويحتذون بالنعال، ويضعون نجاد سيوفهم حمائل على عواتقهم، وهم موصوفون بالقوة، ومشهورون بالسرقة والغارة، ومعروفون بالكرم، ولا يعرفون من الإسلام إلا اسم الله تعالى، واسم محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبعضهم يعرفون عليا رضي الله عنه، وإذا قيل لأحد منهم: «يا أيها البلوجي، هل تصوم؟» يجيب قائلا: «إني ما سرقت معز النبي
صلى الله عليه وسلم ، بل إن خالنا «أي أميرنا» قد سرقها فمنعه النبي - عليه الصلاة والسلام - من الأكل ثلاثين يوما؛ زجرا.» وهكذا إذا سئل عن الصلاة يقول: «إن الخان هو الذي يصلي.» وإذا لقي أحد منهم أحدا سواء كان منهم أو أجنبيا عنهم يبتدره بالسؤال عن الخان ثم يحييه بتحيات متتالية تستغرق زمانا، ويختمها بقوله. وبالجملة فهذه الطائفة في غاية الجهل والتوحش والتبرر وغلظة القلب حتى إن فصيلة منها تسمى «مرى» تغير على القوافل، وتأبى إلا قتل رجالها زعما منها أن الأموال لا تحل ما دام أربابها في قيد الحياة.
ويوجد في البلاد الأفغانية كثير من عبدة الأوثان الهنديين، ولهم بها معابد تسمى «درمسال» ولهم خارج مدينة كابل محرقة يحرقون فيها جثث أمواتهم على مقتضى ديانتهم، وغالبا يحفظون رمادها ويرسلونه إلى نهر القنج، وجلهم على مذهب بابانانك الذي أشرنا إليه سابقا، ويشتغلون غالبا بالتجارة والصيرفة، ويجتنبون غاية الاجتناب مس غير المتدين بدينهم، ويتحاشون عن تعاطي طعامه وشرابه.
وأما كيفية حكومة الأفغانيين: فالحكومة الأفغانية حكومة استبدادية مطلقة، ولكن لها نوع مشابهة بالحكومة الشوروية؛
2
لأنها لا يمكن إبرام أمر مهم فيها إلا بمشاورة رؤساء القبائل، وهي مؤلفة من أمير، وهو سلطان البلاد، ووزير، وهو بمنزلة الصدر الأعظم، و«مستوفي الممالك»، وهو بمثابة ناظر المالية والداخلية معا في سائر الحكومات، و«خازندار» وهو الذي يناط به حفظ النقود الأميرية، و«إيشيك أغاسي باشي» وهو الذي ترفع إليه عرائض المشتكين ويفصل الدعاوي بين المتخاصمين بأمر الأمير، وولاة، وغالب هؤلاء الولاة من العائلة السلطانية ويلقبون بالسردار، وجنرالات وهم رؤساء العساكر، وبعض هؤلاء السردارين، وكتوالين وهم الشحنة، «أي ضباط البلد» ويوجد في كل بلد مستوف نائب عن «مستوفي الممالك» وهو لضرب الضرائب وجمع الأموال الأميرية، ومأمورون، وجباة.
وأمير الأفغان ليس له أبهة ملوك الشرقيين وجلالتهم، بل يجلس في ديوان الحكومة المسمى عندهم «دربار» على النمارق الفارسية، مع أعيان الحكومة، ولا يتميز عنهم إلا بمتكأ يوضع بجانبه، ولا يمنع الحاجب والبواب أحدا من الدخول عليه حتى أسافل الناس، ولكل واحد من أهالي البلدان أن يرفع شكواه إليه مكلما إياه مشافهة، رافعا صوته بدون خجل ولا مبالاة، وهكذا سائر الولاة مع الرعية في الولايات، نعم، إنه يقف أمام الأمير كثير من الخدم متسلحين بالسيوف والخناجر مهيئين لإجراء الأوامر والنواهي، ويركب في محفة تحملها أعناق الرجال تارة وفي هودج محمول على الأفيال أخرى، ويجلس مع الأمير في ديوان الحكومة «خان منلا» وهو قاضي القضاة لفصل الدعاوي الشرعية ويجلس أيضا مع كل وال قاض، ولا يجوز للأمير ولا لأحد من الولاة أن يتداخل في الأمور الشرعية، ولا يوجد للحكومة الأفغانية قانون سياسي وإنما الحل والعقد وفصل القضايا وتعيين الجزاء وتحديد العقاب وضرب الجزية «أي الجزاء النقدي» والحبس والضرب والطرد موكول برأي الأمير، وسائر الولاة يفعلون على حسب ما يتراءى لهم «ولا شك أن هذه الطريقة لا تخلو من الغدر والظلم في كثير من الأحيان» غير أن العقاب بالمثل وقطع اليد والرجل قلما يقع في تلك البلاد، وأما القتل سياسة فلا يقدم عليه الأمير جهارا إلا إذا اتفقت معه آراء كبراء قبيلة من أراد الأمير قتله خوف الفساد وخشية التعصب وإثارة الفتنة، نعم، إن الأمير كثيرا ما يفعل بعظماء عائلته أفعالا شنيعة كالقتل والسمل وغيرهما من الفظائع؛ لعدم من يقوم بنصرهم ويأخذ بثأرهم، وكثيرا ما يصادر الأمير أموال الوزراء إذا غضب عليهم أو أحس منهم بسوء، وهكذا يفعل الولاة من العائلة السلطانية مع المستخدمين في الولايات للسبب عينه، ولا ينجو أرباب الغنى من التجار والزراع من هذه البلية، وللأمير أن يتصرف في الخزينة الأميرية كتصرفه في مطلق ماله كيفما يشاء، وليس لأحد حق المنع والردع، بل لا يخطر ببال شخص ما أن الأموال الأميرية ليست من ممتلكات شخص الأمير وأنه لا يجوز لأمير ما أن يتصرف فيها إلا بالمقدار الذي يجوزه القانون وترضى به الأمة.
ولعدم معرفة الحكومة الأفغانية بواجباتها، وعدم وجود قانون يجبرها على موجبات الإصلاح ، تراها غير مهتمة بتأمين السبيل وإصلاح الطرق ومنع قطاع الطرق وحفظ القوافل ووقاية السابلة، حتى إن القافلة إذا أرادت أن تذهب من بلد إلى بلد فلا يمكنها ما لم تكن مؤلفة من مائتين متسلحين بالسيوف والبنادق كأنهم جيوش حربية مستعدون للطعن والنزال لا للبيع والشراء؛ ولأجل هذا قلت التجارة في تلك البلاد، وصار سوقها كاسدا، ويوجد في بعض البلاد الأفغانية محتسب لدفع الموبقات، وإن الحكومة الأفغانية تشبه أن تكون حكومة عسكرية؛ لأن جميع أرباب المناصب الملكية والعلمية وكل المستخدمين من الوزير إلى الكاتب المسمى عندهم «ميرزا» ومن قاضي القضاة إلى أدنى نائبه تقيد أسماؤهم في الدفاتر العسكرية وتكون مرتباتهم الشهرية على حسب ما يوجبون عليهم إحضاره في المحاربة من الفرسان للمقاتلة والمناضلة، مثلا يقرر لقاضي القضاة مرتب مائة خيال، فيجب عليه أن يحضر في جميع المحاربات مصحوبا بما فرض عليه من الفرسان متسلحين بأسلحتهم، وإن الحكومة تلزم مشايخ القرى والقصبات بجمع عساكر النظام من أرباب العقارات والضياع فيقدم المشايخ رجالا على حسب ما يتراءى لهم من غير قانون ولا ضرب قرعة، وليس لمدة العسكرية حد معين، وإذا كان العسكري تحت السلاح فراتبه الشهري ست روبيات بلا تعيينات يومية، وقد يحصل التأخير في أدائه، ولها أن تجمع في أوقات المحاربة من سكان البوادي وأهل القرى على حسب كثرتهم وقلتهم مشاة تسمى عندهم «خاصة دار» وفرسانا تسمى أوپره سوار «بالباء الفارسية»، وهي التي تقوم بمئونتهم مدة المحاربة وغالب هؤلاء الفرسان من الجمشيدي والأزبك، والإمارة الأفغانية وراثية، ولكن لا يشترط أن يكون الوارث أكبر أولاد الأمير، فله أن يجعل من يشاء من أولاده ولي عهده، ومع ذلك لا تخلو الإمارة الأفغانية من التقلقل؛ لشدة حرص الطامعين وكثرة شره المفسدين الذين لا يألون جهدا في السعي للتغلب عليها، ولا توجد معاهدة دولية بين هذه الإمارة وسائر الحكومات، وإنما تقرر بعض من الشروط بينها وبين الحكومة الهندية الإنجليزية في الزمان السابق.
والأموال الأميرية في تلك البلاد قسمان: قسم يؤخذ من أرباب الزراعة وأصحاب البساتين ومقتني المواشي، وهذا القسم يشبه أن يكون زكاة شرعية، وقسم يؤخذ من أرباب الدكاكين والصنائع ومن كل ذكر من طائفة الغلجائي يكون عمره خمس عشرة سنة «ضربت على كل ذكر من طائفة الغلجائي روبية جزية عليهم وإذلالا لهم تؤخذ منه كل سنة منذ انتقلت السلطنة منهم إلى العبدل قبيلة الأمير الحالي» ومن أرباب الجنايات جريمة، ومن البضائع الواردة إلى البلاد الأفغانية باسم «الجمرك» والرسم الذي يؤخذ بهذا الاسم لا يتقيد بحدود البلاد، بل يؤخذ في كل مدينة وقصبة، ولما كان سكان الجبال غالب الأوقات في حال التمرد والعصيان، فلا يمكن استحصال الأموال منهم إلا بالقوة الجبرية وإرسال الكتائب من العسكرين، ولتوالي الفتن في البلاد الأفغانية واستمرار عصيان القبائل فلا يمكن بيان المعدل الحقيقي للأموال الأميرية، ويظن أنها لا تزيد عن مليون ونصف من الجنيهات، ولا تنقص عن مليون وربع، وهذا المبلغ يصرف في مرتبات العائلة السلطانية. واللغة الرسمية عند الحكومة هي اللغة الفارسية، ومن عادات الأمراء الأفغانيين أن يخرجوا يوم عيدي الأضحى والفطر في موكب عظيم للصلاة خارج البلد، وبعد أدائها تضرب المدافع والبنادق ويتسابق أمامهم الفرسان على الخيول الجياد، ثم بعد عودهم يجلسون في الديوان وتمد الموائد وترد عليهم الناس أفواجا للمعايدة.
خاتمة الكتاب
في ذكر أحوال البلاد الأفغانية إجمالا من حيث الأهوية والأبنية والمزارع والصناعة والتجارة والمعادن
إن البلاد الأفغانية، لاختلاف أبعادها عن خط الاستواء، ووجود الجبال العالية والأودية المنخفضة فيها، تختلف أهويتها حرارة وبرودة على حسب المواقع، وتتغير بتغير الفصول والأزمان، ولكنها جيدة للصحة؛ لخلوها من العفونة والفساد، وقلما تقع فيها الأمراض الناشئة عن فساد الهواء كالأمراض الوبائية، وبيوت المدن والقرى طبقة واحدة مبنية غالبا باللبن، خالية عن الزخرف والزينة إلا مدينة كابل، فإن جل أبنيتها بالأخشاب والأحجار وقد يوجد في بعضها حدائق وجداول وحياض، وشوارعها وأزقتها ضيقة معوجة خلا شوارع مدينة قندهار، فإنها واسعة مستقيمة، والجوامع المشيدة المزخرفة التي كانت في تلك البلاد في الأزمنة السالفة صارت بسبب توالي هجمات الأعداء ودوام المحاربات خاوية على عروشها إلا القليل منها، وأما ما يوجد منها الآن فإنها خالية من الإحكام والمتانة، عديمة الزخارف والزينة، وتحيط بالمدن والقصبات أسوار عليها أبراج على الطراز القديم لا تقاوم المدافع وإنما هي سد لهجمات الفرسان، نعم، إن لكل من مدينة هرات ومدينة كابل مناعة فإن الأولى مسورة بسور محصن بأتربة تمنع تأثير أكر المدافع، والثانية محاطة بجبال عليها أبراج واستحكامات يمكن بها مدافعة العدو زمنا طويلا.
وأراضي الأفغان قابلة لأنواع المزروعات ترويها أنهر ونهيرات، ولكن لكثرة الفتن وعدم مهارة الأهالي في فنون الزراعة وإحكام الجسور، وحفر الترع، وبناء القناطر، تكون غالب الأراضي معطلة وتذهب الأنهر في الأودية والأراضي المرملة بلا انتفاع يعتد به، ومع ذلك فالأهالي يزرعون البر والشعير، والأرز والذرة، والدخن والباقلة، والحمص والبقول، والخضراوات، وغيرها مما يقوم به معيشتهم، ولا يهملون زرع قليل من القطن والتنباك والأفيون والحشيشة للتجارة، ويسعون بقدر طاقتهم في غرس الأشجار وتربيتها، كالكرم والخوخ، والمشمس والكمثرى، والتفاح والسفرجل، والرمان والجوز، واللوز والعناب، والفستق والتوت وغيرها، وأهالي هرات يربون دود القز، ويزرع في جلال آباد قصب السكر، ويوجد في بعض الجبال الأفغانية كثير من الصنوبر والمصطكي والفستق البري والجميز، وكل الفواكه الموجودة في تلك البلاد في غاية الجودة.
والصنائع في تلك البلاد قليلة جدا، وهي ما ورثوه عن آبائهم من غير اهتمام بإجادته وإتقانه، فمنها نسيج الأقمشة الحريرية، وعمل صنف من الكشمير غير الملون المسمى عندهم «پتو» بالباء الفارسية، والفراء «الكرك» من جلود الحمل في مدينة كابل، ومنها عمل الأبسطة الملونة الجيدة في هرات، ومنها الجوخ المسمى ببرك كما أشرنا إليه سابقا في قبيلة هزاره، ويوجد في كابل وقندهار معامل صغيرة لاصطناع المدافع والبنادق والسيوف.
ومعاملات بلاد الأفغان التجارية لم تكن غالبا إلا بينها وبين الهند وبخارى وإيران، فالصادر منها إلى الهند هو الصوف والقطن والفواكه والنقل بأنواعه تحمل على ظهور الإبل، وإلى إيران البرك والفراء وصنف من النعال وشيلان الكشمير المجلوبة إليها من بلاد كشمير و«عنبر سر»، ويجلب إليها من بخارى والهند الجوخ وأقمشة الكتان والقطن والشاي والسكر والزجاج والخزف الصيني والقرطاس والفولاذ والحديد والنحاس والزئبق ودود القز والعقاقير، وغير ذلك، ومن إيران الأقمشة والأسلحة، ويوجد فيها معادن كثيرة ولكن الأهالي غير قادرين على استخراجها والانتفاع بها، ومنها معادن الذهب في قندهار، ومعدن الحديد في بلاد «خست وكرم»، ومعدن الياقوت في كابل، ومعدن الحديد والكبريت، والياقوت، واللازورد في بدخشان، وغير هذه توجد معادن كثيرة معطلة. وهذا ما أردنا بيانه في كيفية سلطنة الأفغانيين، ووضع بلادهم، وطرق تعيشهم وسرد قبائلهم، والله ولي التوفيق.
Unknown page