Tathir Lutus
تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي
Genres
وبعد أن تركت الشارع الرئيسي وانحنت لتدخل إلى المنطقة السكنية، توقفت قليلا. المفترض أن كنيسة السيدة العذراء تكون في هذا المكان، أنزلت فاندا زجاج النافذة لتتأمل شجرة الدردار القديمة. مرت اثنتا عشرة سنة. كان الطريق إلى منزل والديها يسير كما في أحلام يقظتها بين كنيسة العذراء وأشجار الدردار وكأنها بوابة دخول إليه. أين ذهب المبنى المطلي بالأبيض بتمثال العذراء، فالسيد المسيح، والزهرية النحاسية التي كانت تضع بعض الورود فيها؟ ورود من الحديقة. قرأت اللافتة الجديدة، «بيركين آليه»؛ أي ممر أشجار التبولا، وبالفعل زينت حافة الطريق المسفلت عن يمينه ويساره أشجار تبولا حديثة الغرس ذات جذوع تذكر بأطفال كبروا قبل الأوان.
كثيرا ما ماطلت فاندا في زيارة والديها، والآن قضيا نحبهما. بحثت في حقيبتها وأخرجت منها خطاب موثق العقود. هل كان روبرت ينتظر الآن حضورها؟ هذه المرة لم يبق لها من حجة. كانت عودتها لهذا المكان واجبة. دارت أمام وجهها بلورات ثلج رقيقة، فنظرت فاندا حولها، لماذا الآن تحديدا يبدأ الثلج في السقوط؟ أغلقت نافذة السيارة وواصلت السير.
بعد بضعة مترات قليلة انحنت يسارا ووصلت إلى مدخل المنزل. بدأت أصوات طرقات تدق رأسها، وتسارع نبضها بصورة مخيفة. طرقات البلاط غير المثبت حين ينهرس تحت عجلات سيارة والدها العائد من العمل، البلاطات الآن جديدة ومثبتة بإحكام، لا يصدر عنها أي صوت، فرض عليها الصمت.
كان المنزل متدثرا بالسكون، مظلما إذ كل ستائره المعدنية مسدلة، فيما علت أشجار إبرة الراعي جافة من أصيص على السلم. من ذا الذي زرعها؟ لقد مات أبواها الآن منذ أكثر من سنة، لا يمكن أن يكونا هما من قاما بذلك، ألم تكن ثمة سيارة مركونة إلى جوار الطريق الخارج؟ أوقفت فاندا محرك سيارتها فساد الهدوء التام.
كان هذا هو المنزل الأول في هذه المنطقة. في البداية كانوا يعيشون أمام الماء المنساب عبر المراعي الموحلة والمباني الأسمنتية باحثا عن شقوق رفيعة نادرا ما وجدها. كانت الطبيعة تحاول أن تحمي نفسها من تغول جدران القبو المبنية كأسوار حصن، لكن مقاومتها لم تجدها نفعا، الأمر الذي كان مبعث فخر والدها. ثم جاء الجيران الأوائل، بنيت بيوت، وزرعت حدائق. انحسر الماء، مروضا هادئا مثل طفل شب عن الطوق. هكذا حكى لها والداها عن الأحوال.
أحكمت فاندا لف شالها حول رقبتها وخرجت من السيارة. كان الهواء المشبع بالجليد يخزها في أنفها. كان باب البيت مواربا، أما المدخل فانبعثت منه رائحة أحذية لم تتم تهويتها. «روبرت، هل هذا أنت؟» لم تحصل على إجابة. وجدت طريقها عبر المطبخ إلى غرفة الطعام الصغيرة. كان الموقف مثل الحلم الذي يراودها. طاولة من الخشب حولها خمسة كراسي، لماذا حقا خمسة؟ الطاولة الصغيرة التي تحمل الهاتف القديم رمادي اللون ذا السماعة البيضاء، تماما كما ظهرت لها في الحلم، ثم رأته. كان يجلس في مقعد ظهره إليها، وينظر من النافذة تجاه الحديقة. كان يسند ذراعه اليسرى على مسند المقعد، ومضت سيجارة بين أصابعه. أعسر، كان روبرت أعسر. تذكرت الآن.
قالت بصوت منخفض: «مرحبا، ها أنا ذا.» «كان الوالد يجلس هنا دائما حتى قبل انتحاره بقليل.» رد ببطء. اللعنة، ألا يستطيع حتى أن يتحدث معي بصورة طبيعية؟ لا تبدئي في الإحساس بالذنب الآن. «أنا هنا الآن، وبرأيي الأفضل ألا نطيل الموضوع بيننا كثيرا.» «نعم، فلنقصر المسألة. كان الأمر أيضا قصيرا وغير متوقع.» كم كان يرتعش صوته وكيف يمص سيجارته، إدمان الأب، لقد ورث إدمان الأب مثل النار التي تشتعل ثم يأكل بعضها بعضا في النهاية. «أولا، ماتت الوالدة بعد مرض قصير، ثم أعلنا عن ذلك في صفحة الوفيات بالجريدة.» أكمل روبرت كلامه «ثم مات هو بعد حزن قصير ... أم كان علي أن أكتب بعد إدمان طويل للكحول؟»
ألا تستطيعون أن ترحموني من معاناتكم؟ بالنهاية لقد ماتا، فلنترك الأمر يمر بسلام. لا أريد أن أفكر كثيرا في الأمر، أريد أن أحتفظ بهدوئي. «لم أحضر إلى هنا من أجل استعادة القصص القديمة.» «لكني أريد أن أتحدث عنها» رد عليها معاندا. «أريد أن تهتمي لأمرهم، ففي النهاية، هذه هي أسرتك.»
لا أستطيع، لن أستطيع أن أكترث لأمره. لماذا أفكر في هذا الآن تحديدا؟ أسبوع بأكمله قضيته بشفاه متورمة، فيما اختلقت قصة حول طبيب الأسنان. لكن السبب فيما حدث لي كان الوالد وهو في حالة سكر كامل، بعد أن حكى عني الأخ الأصغر حماقة ما. أنت أيها الشكاء الصغير، كنت دائما ماهرا في العويل، وكنت أنا من تحتمل الضرب نيابة عنك، ولم يحدث ذلك مرة واحدة فحسب. «وكان علي وحدي أن أتعامل مع الموضوع.» «لقد هربت. صنعت لنفسك حياة جميلة في أمريكا، إنك حتى لم ترجعي لحضور الجنازة. أما الآن وقد صار ثمة شيء تأخذينه ...» «لم آت لهذا السبب.» لماذا أصلا؟ لأتحدث معه؟ نعقد سلاما؟ هل اعتقدت فعلا أن هذا سيحدث؟ «لماذا إذن إن كان لغير ذلك؟» استدار روبرت بوجهه نحوها بسرعة أثارت فرقها؛ فقد زم عينيه وأخذ يرمقها بنظرات عدوانية. كانت تعرف تلك النظرة، نظرة والدها. لا أفهمه. لم أفهمه قط. إنه لا يريدني أن أعرف. لكن ماذا؟ ولماذا؟
قالت بلا ثقة: «ما الذي يمكن أن يكون سببا لعودتي؟» التزم الصمت وانكمش في ذاته مثل حيوان جريح يتسلل ليقبع في وكر جروحه. كانت ترى سهام تنهداته تنغرس في جسده الغائم حاجبا وجهه خلف أصابعه العظمية، فقط الوهج المنبعث من عقب السيجارة هو ما لم تستطع تجنب رؤيته. كان الرماد يتساقط على بنطاله المصنوع من القماش. ازداد وزنه. لماذا لا أشعر بشيء؟ لا شيء البتة ولا حتى الاشمئزاز؟ ترك روبرت ذراعيه تهبطان.
Unknown page