Tathir Lutus
تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي
Genres
كانت الدرجات عالية أكثر من المعتاد، كما بدا أن السلم لا يريد أن ينتهي. نظرت فاندا إلى الأسفل، ثمة ضوء أزرق يتخلل القضبان التي أغلقها أندرياس خلفهما. وهكذا، يدا بيد في ضوء مصباح الجيب، كانا يشكلان هدفا مثاليا. أسرعت فاندا خطاها. انحنى الطريق في نهاية السلم انحناءة حادة نحو اليسار، ثم جاءت بضع درجات إضافية صاعدة، وبعد عدة خطوات هبطت مرة ثانية. كانت منهمكة أيما انهماك في تثبيت خطواتها بشكل صحيح على الدرجات الحجرية الزلقة، بحيث لم تلاحظ الفتحة على اليمين إلا عندما مرا منها وتقافز ضوء مصباح أندرياس على السلم فشعرت بالتغيير. وفي ضوء المصباح الذي دار يمينا ويسارا عرفت أنها في غرفة تكاد تكون مستديرة. «سنكون هنا في أمان تام.» قالها أندرياس وهو يقودها على آخر الدرجات حتى دخلا الغرفة وظلا واقفين فيها. «هذا مكان مختلف.» خرجت العبارة من فيها فاستغربت من الراحة التي اعترتها على حين غرة. خطت عدة خطوات حذرة في حين كانت الأرضية تصدر صريرا تحت نعلها. ارتعدت فرائصها وتجمدت. كان أندرياس إلى جوارها وأمسك بها. «هل كل شيء على ما يرام؟» كان الضوء ينير وجهها، فأغلقت عينيها وأومأت برأسها. «من كان ذلك؟» «لا فكرة لدي.» كانت أنفاس أندرياس لا تزال تتهدج وهو يجيب، «مجنون؟ لم أتعرض في حياتي لمثل هذا الأمر قط.» «وأنا التي كنت أظن أن ماربورج فردوس على الأرض.» أدارت فاندا رأسها، إلا أن الغرفة ابتلعت ضوء المصباح الملقى على الأرض أمام أقدامهما. لا أرى الجدران. وشعرت أنها في قبو. «ماذا عسانا نفعل الآن؟» «هل معك هاتفك المحمول؟»
كانت تهز رأسها بالنفي وأمارات الندم تعلو وجهها، إلا أنه كان يوجه ضوء المصباح نحو يديها هذه المرة، فتنهدت قائلة: «كلا، إنه الآن متصل بمقبس الكهرباء ليشحن.» «إذن نحن مضطران للمكوث هنا حتى يطلع النهار.»
لنبق إذن. فجأة لم تكترث للأمر. كانت ساقاها ترفضان المسير ولو خطوة واحدة. جلس أندرياس خلفها وأسند ظهره إلى ظهرها. انزلق رأسها المثقل إلى الوراء إلى أن نامت على كتفه. «ماذا كنت تعنين سلفا بأن المكان هنا مختلف؟» كانت نبرات صوته تسري في عمودها الفقري فتشعرها بالراحة. فكرت فاندا ثم أجابته: «المكان هنا يعبق برائحة البرودة، برودة أزلية.» «صحيح، برودة جافة مستمرة، لكن بلا صقيع. هذا المكان يعد في الصيف أحد أكثر الأمكنة برودة في ماربورج، وأنا آتي إلى هنا أحيانا في الأيام شديدة الحر. أستطيع هنا أن أفكر بهدوء.» توقف قليلا ثم واصل الكلام: «بالمناسبة أنت محقة، إنه مكان آخر بالفعل.» كانت عباراته تشي بالتقدير . «السلالم التي صعدنا عليها كانت تؤدي في السابق إلى المخابئ على الجانب الشمالي، وهي غير موجودة الآن. بعد بنائها في القرن السابع عشر كان المدخل إلى هذه الغرفة مغلقا تماما. نحن في الحقيقة في أسفل دور من مبنى آخر أكثر قدما.» «أين تحديدا؟» «في سجن برج الساحرات.» «وأنت السجان الذي يحمل مفاتيح السجن؟»
ضحك أندرياس ضحكة قصيرة: «أنا مجرد مرشد سياحي ممل، وهذا بالمناسبة السبب أني أحمل مصباح الجيب. فهو، إلى جانب المفاتيح، من أهم أدوات عملي.» شيء في نبرته أثار حنقها.
لقد جرها إلى السجن إذن. «لم أحجز لديك جولة سياحية.» «وأنا أيضا لم أطلب قاتلا مأجورا.» «هل تعتقد أن الأمر مقصود؟ لا أستطيع تخيل أن أحدهم ...» قطعت حديثها. وماذا لو أن أحدا بالفعل ب ... تلك المداهمة في المعهد ... «أنا خائفة.» قالت بصوت منخفض. «لقد كاد ينجح هذه المرة. لكن هنا بالأسفل لا يمكن أن يقع لنا مكروه.» «متأكد؟» «نحن في أسفل طابق بالبرج الأبيض، هكذا كان يدعى المبنى حين انتهى بناؤه في عام 1478، وقد كان في الأصل برجا من أبراج الدفاع.» ترك الضوء يدور ببطء وهو يقول: «كانت ثمة فتحات في الحائط، تبدو مثل نوافذ ذات أحجام مختلفة. هذه فتحات الرماية، لكن تم إدراك الخطأ التقني في البرج الأبيض في مرحلة متأخرة، ففي منتصف القرن السادس عشر كانوا قد أدركوا أنه لا يطابق المواصفات المطلوبة لبرج دفاع، فبني سور أمام فتحات الرماية وردم الطابق الأرضي الذي نحن فيه هنا الآن، وتم تعديل البرج برمته ليصير سجنا.» «للساحرات؟» «ليس بالضرورة. كانت محاكمات الساحرات يفصل فيها بسرعة، فمن يتهم بممارسة السحر من الرجال أو النساء كان لا يمكث هنا سوى فترة وجيزة.» «أتسمح لي؟» أخذت فاندا مصباح الجيب من يد أندرياس وتركت الضوء يتجول في الغرفة. لم تكن كبيرة، ربما يبلغ قطرها خمسة أو ستة أمتار. كان السقف مقببا ومسننا مثل جلد تنين، قدرت فاندا أن ارتفاعه يبلغ أربعة أمتار، وبعد إمعان النظر تمكنت من رؤية الأطراف الرقيقة للمقرنصات. وجهت الضوء صوب منتصف السقف فوجدت فيه فتحة. «ما هذا؟» «في البداية كانت فتحة مدفأة يمكن لدخان المدافع أن يخرج منها، ولاحقا صارت الفتحة التي يلقى منها المساجين إلى السجن.» شعرت لوهلة أنها يلقى بها من أعلى. أطفأت الضوء فساد ظلام تام. وحين بدأ أندرياس في الحديث بدا صوته قريبا جدا: «السجين لا يريد أن يقفز، فلا يملك السجان إلا أن يركله ليسقط في غياهب السجن. للسقطة وقع مكتوم، وخز مؤلم في الساقين. ثم يسمع صوت قعقعة من عل، فيعرف أن السجان يسحب الآن حجرا ثقيلا يسد الفتحة التي سقط منها للتو. الأمر ميئوس منه إذ كيف عساه يهرب من مكان كهذا؟ فجأة يسود الظلام والصمت. إنه قبر، لقد دفن حيا. يصرخ وهو يعلم تماما أن صرخاته ستضيع سدى. رائحة كريهة تكاد تخنقه، لقد تبلل بنطاله. هذا من الذعر، هكذا يقول لنفسه وكأن عليه أن يعتذر. لكن لمن؟ إنه وحيد. قميصه ملتصق بجروح ظهره المفتوحة جراء التعذيب. كم يشتد ألمه. ينصت، فيسمع صوت رشرشة وصرصرة، فيفكر أنها الفئران، هذا قبل أن يغيب عن الوعي على إثر الإنهاك.
في وقت ما يستيقظ ثانية، لكن تظل عيناه مغمضتين. ثمة قمر كبير خلف جفونه. تتخفى النجوم في ضوء الفجر الشاحب. هل أتى الصباح؟ شيء ما يمسح قدمه. يجفل ويتنهد ويفتح عينيه، لكنها لا ترى سوى العتمة. كم ظل هنا؟ إن مفاصله المتصلبة وفمه الجاف لدلائل موثوقة على أنه مكث لفترة طويلة. لا يتذكر بوضوح. لا يتذكر إلا أنه من المؤكد قد سقط من ارتفاع شاهق.» «كم من الوقت يظل هنا؟» سألت فاندا بصوت امتزج فيه القلق مع الذعر. «أقدر يومين، أو ثلاثة. لم يكن أحد ليعيش أكثر من ذلك. كما أظن أن لا أحد كان يود تحمل مسئولية جثة، وإن كنت أستطيع تصور أن بعض الأشخاص قد قضوا نحبهم هنا.»
ارتجفت فاندا وقالت: «ماذا فعلوا؟» «وما يدريني؟ أنا أخترع هذه الحكايات، والزوار يستمعون إليها بسعادة. قد يكون من قضى نحبه هنا قد قتل أحدهم ، لكن كان اعترافه ضروريا.»
قالت فاندا: «ربما كان مخادعا. أنا أيضا خدعت شخصا، فهل أنا هنا لهذا السبب؟» «ربما كان بريئا، لكنه يقف في طريق شخص آخر.» تلمست يدا أندرياس الأرض بحثا عن المصباح، لكن فاندا كانت لا تزال قابضة عليه. «لقد زورت بيانات.» لقد خرجت الحقيقة الآن. أنصتت في توتر لرد فعله. «لقد خذلت والدي.» «هذا أمر مختلف.» «أترين هذا؟» «لقد أخطأت، زورت، ألا تفهم؟» «كان أبي ليقول أيضا: ها قد ارتكبت خطأ، لقد زورت الخطة التي رسمتها لك.»
هزت فاندا رأسها. «هذا شيء مختلف تماما.» «ماذا زورت؟»
حكت له عن الدراسة التي أجريت في روتشيستر، وكان ينصت لها في انتباه. «لقد تلاعبت بالبيانات من أجل أن ينشر اسمي في بحث متميز.» «وأين المشكلة؟» «ريك يريد البيانات الأصلية.» «ماذا يمكن أن يحدث لك لو اكتشف الأمر؟» «لن يقوم بتفنيد البحث، ففي ذلك خسارة فادحة لماء وجهه. لكن سيخيب ظنه بي.» «أرأيت؟ لقد قلت لك إن المسألة هي هي.» ظلا صامتين لبعض الوقت، ثم ساور فاندا القلق. لا بد أن نبلغ الشرطة، لا بد أن هناك آثارا.
Unknown page