وأن رسول الله ﷺ كان أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، أنهم قد بقوا بعده وملكوا الأمر واستولوا عليه، وامتدت أيديهم الى ملوك الدنيا وممالكها، فجازوها وأنفقوها في إعزاز دينه وتأكيد شريعته، وزهد وافي المباح المطلق، وحموا نفوسهم وأبناءهم منه، وأدخلوا الأمم من الفرس والروم والهند وغيرهم في دينه، وفرضوا عليهم تصديقه وإجلاله، ومن أبى القبول جعلوا دمه له، وأوطئوا أعداءه وشانئيه الذلّ والسيف في مشارق الارض ومغاربها.
وقدم رحمك الله زهد رسول الله ﷺ، فقد كان أزهد الناس فيما تناحر الناس عليه وتطاعنوا فيه وتفانوا لأجله. فقد كان ﷺ ملك من أقصى اليمن الى بحر عمان الى أقصى/ الحجاز الى عرار العراق، واستولى على جزيرة العرب وكانت مقسومة بين خمسة ملوك، لكل واحد منهم شأن عظيم.
هاداه غير واحد من الملوك، وجبى ذلك كله فبذله، وحمى نفسه منه وأهله، وخيّر أزواجه على ارادة الله ورسوله والدار الآخرة، وعلى أن من أراد الحياة الدنيا وزينتها متعه وسرحه سراحا جميلا «١» .
وكان ﷺ مع هذا الملك العظيم أيبس الناس عيشا، وأخشنهم لباسا.
واعتبر من ذلك ببرده الذي يلبسه خلفاؤنا من بعده وقيمته مقدار دانقين، وبقدحه وخاتمه، وجميع ما صار عند خاصة أهله وعامة أنصاره. ثم توفى ولم يترك عينا ولا دينارا ولا شيّد قصرا ولا غرس شجرا ولا شقّ لنفسه نهرا ولا استنبط لنفسه عينا ورغب لأهله وأصحابه في مثل ذلك.
_________
(١) نزلت آيات التخيير في سورة الأحزاب «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا» الأحزاب ٢٨ و٢٩.
1 / 31