فالأضواء تسلط على الجانبين السياسي والعملي في حياة البلاط، بحيث لا يعود هناك مجال للشك في أن العلم والفن والشعر لا وزن لها، إلا إذا كانت وسيلة لخدمة السياسة وزينة على صدور الحكام. وإذا كان «أنطونيو» - وهو الوزير الناجح الذي ابتعد عن البلاط فترة من الزمن في مهمة ناجحة - يعبر عن غضبه وسخطه المكتوم على «تاسو»، فليس ذلك لأنه يشعر بأنه غريمه الذي أوشك أن يحتل مكانه في البلاط أو في قلوب النساء، بل لأنه يشعر كذلك بفطرته أن عالم «تاسو» غير الواقعي يهدد عالمه الواقعي، وأن الخيال والشعر خطر عليه أي خطر. إنه يدافع بغريزته عن حياته، ويريد أن يحمي نفسه من عالم الشعراء والموهوبين، الذي يحس أنه غريب فيه. وليس في الأمر شيء من سوء النية أو الحقد أو الاعتداء ، بل إنه تصرف طبيعي، تمليه ضرورة عمله وحياته؛ ولذلك فلا يصح أن نستكثر عليه موقفه النبيل في آخر المسرحية حين يرى «تاسو» مشرفا على الهاوية، فيمد له يدا مخلصة عاطفة.
أما «تاسو» فهو يتصرف كذلك بما يتفق مع طبيعته فينظر إلى عالم السياسة المحيط به بمنظار الحلم والخيال.
إنه يحاول تحت إلحاح الأميرة أن يلتقي ب «أنطونيو»، ويمد يده إليه في حماس لإيمانه بأن البطل والشاعر يمكن أن يلتقيا ويتحدا، وهو شيء لا يمكن أن يحدث إلا في العالم الذهبي المسحور الذي يحيا فيه، ويفزعه تردد أنطونيو وتحفظه ويسرع إلى التشكك والتوهم. وتزداد شكوكه وأوهامه يوما بعد يوم، حتى تنتهي به إلى الكارثة المحتومة.
ولو أنه قنع بعالمه أو سلم باختلافه عن العوالم الأخرى، لما فقد ثقته في نفسه ولا كانت هناك ضرورة إلى حزنه الجارف المؤثر الذي لا عزاء فيه.
فما أقسى أن يرى نفسه ملكا في مملكة الخيال، ورفيقا للأبطال والشعراء الخالدين، ثم يرى نفسه مع ذلك يسير في دنيا الواقع والمنافع كالشحاذ اليتيم!
ولو استطاع هذا الخيالي المسكين أن يقفز القفزة المناسبة من عالمه المسحور إلى عالم الواقع، لانتشل نفسه من مهاوي العدم وحقق السعادة في الدارين! ولكن هل كان يستحق منا عندئذ أن نسميه شاعرا، أم كان يصبح انتهازيا ممن تمتلئ بهم حياتنا الفنية اليوم؟!
إن الخلاف بين «تاسو» و«أنطونيو» خلاف أساسي بين الشاعر ورجل الحكم، تصطدم فيه العاطفة الجارفة بالعقل الناقد المتزن. ويصل الشقاق بينهما إلى حد تبادل الألفاظ الجارحة، فيجرد «تاسو» سيفه ويطالب «أنطونيو» بالنزال. ويتدخل الأمير بينهما، ويعاقب «تاسو» بالحبس الانفرادي في غرفته.
هنا نستطيع أن نقول إن شيئا قد حدث، وهو أمر نادر في هذه المسرحية! فهذا الحادث الضئيل كان وحده كافيا للإلقاء ب «تاسو» في هاوية الحزن والوحدة التي لا مخرج منها. إنه لم يرتكب خطأ في حق النظام الأخلاقي، بل اصطدم بالقواعد الشكلية. و«الشكل» في مثل هذه المجتمعات هو كل شيء؛ ولذلك فالأمير لا يحاول أن يعرف المخطئ من المصيب. وإذا عاقب فعقابه شكلي. لقد عفا بالفعل عن المذنب، وترك له أن يحرس نفسه بنفسه؛ أعني أن يهرب من هذا السجن الشكلي إذا شاء. وقد كان من الممكن أن تمر العاصفة لو أن «تاسو» خضع لإرادة هذا النظام الشكلي. ولكنه لا يقدر على ذلك ولا يمكن أن يقدر عليه؛ ذلك لأن وجوده كله كشاعر إنما هو تمرد على الشكل. فالشكل قالب مصطنع نفرضه على الحياة، والشاعر يعيش على الخيال الذي يفجر القوالب ويكسر الحواجز والحدود. ولو اعترف بها لأنكر نفسه. فهو الممسوس الذي تسيطر عليه قوى أقوى منه؛ ولذلك فليس في قدرته أن يسلم بالحدود التي تفصل بين إرادة الذات وبين الالتزامات الواجبة نحو المجتمع.
لقد عميت عينه عن رؤية الواقع؛ لأن كل ما نسميه بالواقع، قد تحول عنده إلى خيال. إنه كالممثل على المسرح، يسمع الكلمة التي يبدأ عندها في إلقاء دوره ولكنه لا يكاد يسمع ما يقوله سواه. ولذلك يصعب عليه أن يخرج من نفسه، أو يعرف الموقف المحيط به على حقيقته. ولو قارنا بينه وبين «أنطونيو»، لوجدنا الأخير على حق دائما، فهو يملك كل ما يفتقر إليه «تاسو» من إحساس صائب بالواقع، وفهم لما يليق في المجتمع وما لا يليق.
غير أنه يفتقر إلى مملكة الشعر التي أغلقت بابها في وجهه كما تعوزه القدرة على الإبداع والحماس والانطلاق. ومع ذلك فعلينا أن ننصفه فنقول: إنه يدرك ما سميناه من قبل تنافر الموهبة مع الحياة، ويحاول أن يكفكف من غلواء «تاسو» ويقاوم تطرفه ويعيده من جديد إلى أرض الواقع والمجتمع.
Unknown page