لمحة عن التشيع في مصر إلى سقوط الدولة الفاطمية
التشيع بعد الفاطميين
شعر المتشيعين
أثر الفاطميين في شعر أهل السنة
لمحة عن التشيع في مصر إلى سقوط الدولة الفاطمية
التشيع بعد الفاطميين
شعر المتشيعين
أثر الفاطميين في شعر أهل السنة
التشيع في الشعر المصري في عصر الأيوبيين والمماليك
التشيع في الشعر المصري في عصر الأيوبيين والمماليك
تأليف
محمد كامل حسين
لمحة عن التشيع في مصر إلى سقوط الدولة الفاطمية
في بحث لنا تتبعنا فكرة التشيع في مصر الإسلامية حتى دخل الفاطميون مصر سنة 357ه،
1
وتلخص هذه الفكرة: في أن أكثر مسلمي مصر في هذا العهد كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة، وأن قليلا منهم كانوا يدينون بالتشيع، ولكن هؤلاء الشيعة من المصريين لم يشتركوا اشتراكا إيجابيا في حركات فرق الشيعة التي ظهرت في الأقطار الإسلامية الأخرى؛ إذ لم يذكر مؤرخو مصر شيئا عن صدى حركات الشيعة في مصر سوى حركة محمد النفس الزكية سنة 144ه، ولكن هذه الحركة سرعان ما خمد أوارها، ولم تظهر لها في مصر نتائج سياسية، أو مذهبية. ولم يكن للمصريين في هذا العصر رأي شيعي خاص بهم، ولم تظهر لهم فلسفة شيعية مثل هذه الفلسفات التي نراها عند فرق الشيعة في العراق وفارس والشام، إنما كان التشيع في مصر يكاد ينحصر في حب أهل البيت، وهذا رأي كثير من المسلمين غير المتطرفين، فعلماء أهل السنة في مصر وفي غير مصر كانوا يحبون أهل البيت، وعندنا الشافعي والنسائي المحدث وغيرهما دليل على ذلك، بل من العلماء من كان يفضل علي بن أبي طالب على الشيخين، وفي مصر كان محمد بن عبد الله بن عبد الحكم رئيس المدرسة المالكية وابن الحداد القاضي وغيرهما كانوا يفضلون عليا على أبي بكر وعمر.
2
ومع ذلك لم ينحرف هؤلاء الأعلام عن مذهب أهل السنة والجماعة.
وهكذا عاش المصريون بعيدين عن التيارات والمعتقدات الشيعية التي كثرت في غير مصر من البلدان، حتى ظهر عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية في بلاد المغرب سنة 296ه، وكانت دعوته دخلت مصر من قبل على أيدي بعض دعاته من أمثال فيروز، وأبي علي، وأبي جعفر بن نصر وغيرهم،
3
واعتنق بعض المصريين هذه الدعوة سرا وكاتبوا المهدي لفتح مصر، فأرسل المهدي هذه الحملات المتعددة التي ذكرها المؤرخون، وكان قواد هذه الحملات يكاتبون إخوانهم من المصريين لتأييدهم والعمل على نجاح حملاتهم، وحفظ عريب بن سعد مقطوعة شعرية من قول أبي القاسم بن المهدي (القائم بأمر الله الخليفة الفاطمي الثاني) يخاطب بها جماعة من المصريين الذين استجابوا لدعوة الفاطميين،
4
ومع ذلك لم يذكر المؤرخون شيئا عن تحرك المصريين لتأييد حملات الفاطميين، ولم نعرف أن عقائد الفاطميين انتشرت في مصر انتشارا كان له أثر في الحياة الفكرية، فقد ظل أكثر المصريين على مذهب أهل السنة والجماعة يختلفون فيما بينهم بين آراء مالك والشافعي، وقل أن نجد بينهم من كان على مذهب أبي حنيفة، أو من يقول بمقالات المعتزلة، أو الشيعة.
ولما فتح جوهر الكاتب أحد قواد المعز لدين الله الفاطمي مصر سنة 358ه كتب أمانا للمصريين، ونص على أن يترك للمصريين حريتهم في اختيار العقيدة التي يرضونها لأنفسهم، وأن لا يحملهم كرها على تغيير مذهبهم أو دينهم الذي دانوا الله به،
5
ولكن الفاطميين لم يحترموا هذا الأمان، فقد قامت دولتهم على أساس عقيدتهم المذهبية، فكان من الطبيعي أن يعملوا على صبغ البلاد التي تخضع لحكمهم بهذه الصبغة المذهبية التي تمايزوا بها، فلا غرابة أن رأينا دعاتهم ينشطون في كل البلاد وفي كل المجتمعات، يكالبون أصحاب المذاهب الأخرى، ويعقدون مجالس الحكمة التأويلية، ويأخذون العهد على كل مستجيب، واتخذوا للدعوة لمذهبهم وسائل وتدابير مختلفة، فاستجاب كثير من المصريين إلى دعوتهم وعقيدتهم، وظل بعض المصريين على عقيدته ومذهبه، ولكن عقائد الفاطميين شغلت أذهان المصريين طوال الحكم الفاطمي حتى تأثر بها المصريون جميعا، سواء من دخل منهم في الدعوة أو من ظل متمسكا بمذهب أهل السنة والجماعة، حتى خيل إلى كثير من الباحثين أن المصريين جميعا أصبحوا يتمذهبون بعقيدة الفاطميين ويتبعون التقاليد الفاطمية، أي أن مصر قد طبعت بطابع العقائد الفاطمية طوال السنين التي خضعت فيها لحكم الفاطميين.
وبالرغم من أن نفوذ العقائد الفاطمية كان متغلغلا في مصر، فإن هناك عدة عوامل عملت على إضعاف هذه العقيدة في نفوس المصريين، ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن هذا الضعف بدأ في عهد الحاكم بأمر الله (المتوفى حوالي سنة 411ه)، ولا سيما بعد أن وفد على مصر دعاة تأليه الحاكم أمثال الدرزي، وحمزة، والأخرم الفرغاني،
6
ونحن نعلم أن المصريين ثاروا على هؤلاء الدعاة، وقتلوا الأخرم سنة 408ه، وأن الدرزي وحمزة هربا، وأن الحاكم انتقم من المصريين فحرق الفسطاط، وقتل عددا كبيرا من المصريين، وكانت خاتمة حياة الحاكم نهاية لهذه الدعوة الإلحادية الجريئة في مصر، ولكن كان من نتائجها أن بدأ الناس يشكون في عقيدة الفاطميين وفي كل ما قاله الدعاة عن الإمامة والأئمة، وظهرت هذه النتيجة بشكل لافت في عهد المستنصر بالله 427-487ه ولا سيما في تلك السنوات من حكمه التي ضعفت فيها الحياة الاقتصادية وبلغت درجة من الانحطاط جعلت الناس لا يرعون للإمام حرمة ولا للعقيدة وزنا، فضعفت ثقة المصريين في عقيدة الإمام المعصوم وأنه الواسطة بين الله والخلق، وفي عقيدة النص على ولاية العهد، وهي العقيدة التي كانت أساس مذهب الإسماعيلية وسببا في انقسام الشيعة الإمامية إلى إسماعيلية وموسوية، فتهاون المصريون بهذه العقيدة مما سهل الأمر للأفضل بن بدر الجمالي في تحويل الإمامة بعد المستنصر إلى المستعلي، وحرم منها صاحب النص نزار بن المستنصر، فانقسمت الدعوة إلى فرعين رئيسيين هما: الإسماعيلية النزارية، التي عرفت بالإسماعيلية الشرقية أحيانا، وبالإسماعيلية الحشيشية أحيانا أخرى، ويعرفون الآن بالخوجة أو الأغاخانية، وإمامهم الآن هو أغا خان المعروف. والفرع الآخر هو الإسماعيلية المستعلية، أو الإسماعيلية الغربية وهي التي ظلت في مصر واليمن، فكان هذا الانفصال من عوامل ضعف العقيدة وزعزعتها من نفوس المصريين. أضف إلى ذلك أنه لما قتل الآمر بأحكام الله سنة 524ه ولم يكن له ولد، ذهب الصليحيون أصحاب الدعوة في اليمن إلى أن الآمر لما قتل كانت إحدى جهاته حاملا، وأنها أنجبت ولدا له هو الطيب بن الآمر، وأن الإمامة للطيب هذا، وأنه دخل الستر وجعل الملكة الحرة الصليحية حجته وصاحبة الستر عليه، فوجد بذلك فرع جديد للإسماعيلية، وعرفت هذه الدعوة بالدعوة الطيبية ولا تزال تعرف بهذا الاسم إلى اليوم، وأتباع هذه الدعوة يعرفون الآن بالبهرة، وداعيهم المطلق هو طاهر سيف الدين، وإمامهم من نسل الطيب بن الآمر لا يزال في دور الستر، أما في مصر فلم يعترف المصريون بشيء اسمه الطيب بن الآمر، وأقيم عبد المجيد بن محمد بن المستنصر المعروف بالحافظ لدين الله كفيلا للإمام المنتظر في أول الأمر، ثم اعترف بإمامته بعد ذلك، فكان الاعتراف بإمامته خارجا عن أسس الإمامة عند الإسماعيلية؛ إذ الإمامة عندهم لا تكون إلا في الأعقاب،
7
وأن الإمام ينص على حجته وولي عهده من أبنائه، ولا تنتقل الإمامة من أخ إلى أخ، بل لا بد أن تكون من أب إلى ابن، والحافظ لم يكن ابنا لإمام فليس له حق في الإمامة، ومع ذلك اعترف به المصريون إماما لهم تهاونا منهم بالعقيدة الإسماعيلية، مما أدى إلى زيادة استخفافهم بالفاطميين وعقائدهم، وإلى تزعزعها من نفوس كثير ممن استجابوا لها من المصريين.
وبلغ التهاون حدا بعيدا حين نرى الوزير الفاطمي أبا الحسن بن السلار المنعوت بالملك العادل سيف الدين الذي تولى الوزارة للظافر سنة 544ه، يتظاهر بالتسنن على مذهب الشافعي، ولما وصل الحافظ أبو طاهر أحمد السلفي إلى الإسكندرية واتخذها دار مقامه، احتفى به العادل ابن السلار، وعمر له هناك مدرسة فوض تدريسها إليه، ولم يكن للشافعيين بالإسكندرية سواها
8
وهو عمل لا يقدم عليه الوزير إلا إذا كان على ثقة تامة أن أتباع العقيدة الفاطمية لا يستطيعون مقاومته؛ وذلك لضعفهم، ولتزعزع العقيدة من نفوس أكثر المصريين، وهناك قصة عمارة اليمني مع سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء صهر الملك الصالح طلائع بن رزيك، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الشك في العقيدة الفاطمية دب في نفس سيف الدين،
9
وقصة أخرى ذكرها عمارة أيضا ترينا كيف كان الداعي ابن عبد القوي والوزير شاور وابنه الكامل يفكرون في تسيير الدعوة لولدي صاحب عدن ونقل مركز الدعوة إلى عدن، فاستشاروا عمارة في ذلك، فقال: «إن أهل اليمن إنما يبعثون لكم الهدايا، والتحف، والنجاوي، ويتولونكم لأجل الدعوة: فإذا تبرعتم بها فقد هونتم حرمتها.»
10
فهذه كلها أدلة نسوقها على ما نذهب إليه عن مدى ضعف العقيدة في نفوس أكثر المصريين في أواخر أيام الفاطميين، حتى في نفوس بعض الدعاة وكبار رجال الدولة.
التشيع بعد الفاطميين
ومع هذا الضعف الذي حل بمذهب الفاطميين في مصر، فقد كان مظهر التشيع واضحا بين بعض المصريين، وليس أدل على ذلك من تلك الصورة القوية التي رسمها القاضي الفاضل في إحدى رسائله، يصور فيها مدى تظاهر المصريين بالتشيع وبالتقاليد الفاطمية، فقد قال:
إن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يفتى فيه بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تعبد من دون الله وتعظم وتفخم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غره تقلب الذين كفروا في البلاد ... ووصلنا البلاد، وبها أجناد عددهم كثير وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السر فيهم أنفذ من العزيمة في الجهر، وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف كلهم أغنام أعجام، إن هم إلا كالأنعام لا يعرفون ربا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجهون إليه من ركنه وامتثال أمره، وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة وحمة وحمية، ولهم حواش لقصورهم من بين داع تتلطف في الضلال مداخله، وتصيب القلوب مخاتله، ومن بين كتاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل، وخدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل، ودولة قد كبر نملها الصغير، ولم يعرف فيها غير الكبير، ومهابة تمنع ما يكنه الضمير، فكيف بخطوات التدبير، هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية جائرة، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله بالتنزيل، وكفر سمي بغير اسمه، وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه، فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار، ونتحيفهم تحيف الليل والنهار، بعجائب تدبير لا تحملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصل، ما كان من صلة البشر ولا قدرتهم لولا إعانة المقادير ...
1
هذه صورة لحالة الدعوة الفاطمية في مصر حين قام صلاح الدين الأيوبي بمحوها من البلاد، رسم هذه الصورة رجل عاش في بلاط الفاطميين في أواخر أيامهم، فقد كان كاتبا من كتابهم، مطلعا على أسرارهم، ثم انقلب عليهم، واستوزر لصلاح الدين فكان عضده الأيمن في القضاء على الفاطميين، ولسنا في مجال الحديث عن القاضي الفاضل، وإنما الذي يهمنا في وصفه أن العقيدة الإسماعيلية قد خالطت من المصريين اللحم والدم، وأنه دبر تدابير مختلفة للقضاء على الفاطميين، وكان نجاحه من المقادير، والذي يقرأ هذه الرسالة للقاضي الفاضل يروعه وصف القاضي الفاضل بتغلغل العقيدة الفاطمية في المصريين، بينما نذهب نحن إلى أن العقيدة ضعفت عند المصريين، فالقاضي الفاضل قد وصف القصر والحاشية من كبار رجال الدولة من دعاة وكتاب، وهؤلاء بحكم صلتهم بالإمام الفاطمي كانوا على نحو ما ذكره القاضي الفاضل، ثم إن القاضي الفاضل قد بالغ في تصويره هذا ليضفي على ما قام به صلاح الدين الأيوبي من تقويض أركان الدولة الفاطمية قيمة وخطرا، ولم يتحدث القاضي الفاضل عن الشعب نفسه، فالشعب المصري كان موزع الهوى بين هذه التقاليد الفاطمية التي ورثها عن قرنين من الزمان، وبين ما طرأ على هذه العقيدة الفاطمية من ضعف؛ لهذا تحول عدد من شيعة مصر إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وبقي عدد آخر على تشيعه وتأثره بالفاطميين، ولا سبيل لصلاح الدين الأيوبي ولا لغير صلاح الدين إلى انتزاع عقيدة من العقائد بحد السيف، أو بالتدابير التي أشار إليها القاضي الفاضل في رسالته السابقة، فليس من السهل اليسير أن يقتلع دين من الأديان بمجرد تغيير النظام السياسي في بلد من البلاد، إنما يحتاج التغيير إلى سنوات عديدة، وإلى تدابير ليست هي من تدابير القوة والبطش فحسب، وإذا نظرنا إلى الذين استجابوا لصلاح الدين وناصروه فسنجد أن جلهم بين هؤلاء الذين لم يعتنقوا المذهب الإسماعيلي، ولم يتحولوا عن عقيدتهم، عقيدة أهل السنة والجماعة، وثبتوا أمام دعاة الإسماعيلية وسلطان أئمتهم، وبين هؤلاء الذين استجابوا إلى مذهب الإسماعيلية، ولكن ضعفت عقيدتهم من نفوسهم؛ لما رأوا أن القائمين على هذه العقيدة انحرفوا عنها، ولم يعملوا بأصولها ولا بفروعها، فتحول هؤلاء عن إسماعيليتهم وهم مطمئنون بعد أن دب الشك في نفوسهم، وفريق ثالث من الذين ساعدوا صلاح الدين في قطع الخطبة للفاطميين وتحويلها إلى العباسيين هم هؤلاء الذين يعرفون بأنهم يأكلون على كل الموائد، ولا يعملون إلا لأنفسهم، ويحاولون الإفادة من كل تغيير، فهم أتباع كل جديد لا لشيء سوى الإفادة من النظم الجديدة، فكثير من رجال الدولة الفاطمية أصبحوا من ألد أعدائها في عصر الأيوبيين، ومن هؤلاء القاضي الفاضل نفسه، والقاضي ابن سناء الملك، والقاضي ابن الزبير وابنا القاضي الجليس ابن الحباب وغيرهم. أما الشعب ولا سيما طبقة الجهال فقد ظلوا على إسماعيليتهم.
هكذا انقسم المصريون بين مؤيد لصلاح الدين وحركته في إبادة التشيع من مصر، وبين مستمسك بتشيعه يندب أيام الفاطميين ويبكي على أئمته، وقد حاول هؤلاء مرارا أن يعيدوا الخلافة الفاطمية، فكان يظهر من حين لآخر من كان يدعو في البلاد إلى الفاطميين فيلتف الناس حوله، وتخف جنود الأيوبيين للقضاء على حركته، فمن ذلك ما كان في سنة 569ه إذ قام بعض رجال الدولة الفاطمية برياسة هبة الله بن كامل قاضي القضاة، وداعي الدعاة بحركة لإعادة ملك الفاطميين في مصر، وأسهم في هذه الحركة عمارة اليمني بالرغم من تسننه، والداعي عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي وغيرهما، وامتدت هذه الثورة إلى حد أنهم كاتبوا الصليبيين وشيخ الجبل «راشد الدين سنان» زعيم الإسماعيلية النزارية في الشام، ولكن هذه الحركة فشلت وقبض على رؤسائها وقتلوا صلبا، كذلك نقول عن حركة الداعي قديد القفاص بالإسكندرية، وهي الحركة التي وصفها القاضي الفاضل في إحدى رسائله بقوله: «وما يطرف به المولى أن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة فيه، أطلع البحث أن فيه داعية خبيثا أمره، محتقرا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديد القفاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية قد فشت في الشام دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيه يحملون جزءا من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن. ووجدت في منزله بالإسكندرية عند القبض له والهجوم عليه كتب مجردة فيها خلع العذار وصريح الكفر الذي ما عنه اعتذار، ورقاع يخاطب بها، فيها ما تقشعر منه الجلود، وبالجملة فقد الإسلام أمره، وحاق به مكره وصرعه كفره.»
2
ونذكر ثورة كنز الدولة بن المتوج أمير أسوان الذي جمع حوله عددا كبيرا من السودان وحاول أن يعيد الأمر للفاطميين، فتقدم بجنوده حتى بلغ مدينة قوس، فسار إليه الملك العادل أخو صلاح الدين في جيش كثيف سنة 570ه فهزم كنز الدولة وهرب رجاله إلى بلاد النوبة،
3
فطاردهم العادل وشتت شملهم، فاستقروا في السودان ولم يعودوا إلى إقليم أسوان إلا بعد سنة 790ه.
4
وكان ابن المتوج مقصد الشعراء في عصره، اتصل به عدد كبير، نذكر منهم أحمد بن محمد الأسواني الفقيه البولاقي،
5
وعبد الله بن أحمد بن سلامة الفقيه،
6
وسهل الأسواني،
7
وعبد الله بن محمد بن زريق،
8
وغيرهم من الشعراء ذكرهم الأدفوي في كتابه الطالع السعيد، ومع ذلك لم تصلنا أشعارهم التي أنشدوها في ثورته ضد الأيوبيين التي أراد بها إعادة الدولة الفاطمية، ولكن وصلتنا رسالة بقلم القاضي الفاضل في ذكر انتصار جيوش الأيوبيين وفتح بعض بلاد النوبة أرسلها إلى الخليفة المستضيء العباسي عن صلاح الدين، ونجد هذه الرسالة في صبح الأعشى،
9
فليرجع إليها الباحثون.
ويروي ابن الأثير أن جماعة من الشيعة في مصر ثاروا سنة 584ه بالقاهرة ونادوا ليلا بشعار الشيعة: يا آل علي، يا آل علي، وسلكوا الدروب ينادون الناس، ظنا منهم أن أهل البلد يلبون دعوتهم ويخرجون معهم لإعادة الدولة العلوية، وإخراج من كان محبوسا في القصر من أسرة الفاطميين، ولكن لم يلتفت أحد من المصريين إليهم ولا أعارهم سمعه، فلما رأوا ذلك تفرقوا ثم أخذوا، وكتب بذلك إلى صلاح الدين فأهمه أمرهم وأزعجه.
10
وفي أواخر القرن السابع في سنة 697 ظهر شخص في الصعيد ادعى أنه داود بن العاضد الفاطمي، ودعى لنفسه فاستجاب له عدد كبير من أهل الصعيد، ومدحه بعض الشعراء على نحو ما سنذكر بعد، ولكن حركته فشلت.
نتبين من ذلك أن الأيوبيين لم يستطيعوا أن ينتزعوا العقيدة الفاطمية الإسماعيلية من نفوس جميع المصريين دفعة واحدة، وأن التشيع ظل في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية، وكان بعض المصريين يحنون إلى عهد الفاطميين، ويذهب صاحب الطالع السعيد إلى أن بلادا بأكملها في مصر كانت تدين بالتشيع حتى القرن الثامن من قرون الهجرة، ففي حديثه عن أدفو قال: «كان التشيع بها فاشيا، وأهلها طائفتان الإسماعيلية والإمامية، ثم ضعف حتى لا يكاد يتميز به إلا أشخاص قليلة.»
11
ويقول عن أسفون: «بلدة معروفة بالتشيع البشع، لكنه خف بها وقل.»
12
وعن إسنا قال: «وكان التشيع بها فاشيا، والرفض بها ماشيا فجف حتى خف.»
13
وفي حديثه عن بهاء الدين القفطي هبة الله بن عبد الله ابن سيد الكل حاكم إسنا ومدرس مدرستها المتوفى سنة 697ه قال: «إنه فتح إسنا، فإنه كان بها التشيع، فما زال يجتهد في إخماده وإقامة الأدلة على بطلانه وصنف في ذلك كتابا سماه «النصائح المفترضة في فضائح الرفضة» وهموا بقتله فحماه الله منهم.»
14
وفي حديثه عن ابن دقيق العميد المتوفى سنة 667ه قال: «أتى إلى الصعيد في طالع لأهله سعيد، فتمت عليهم بركاته، وعمتهم علومه ودعواته، وكان مذهب الشيعة فاشيا في ذلك الإقليم؛ فأجرى مذهب السنة على أسلوب حكيم، وزال الرفض وانجاب، وثبت الحق حتى لم يبق فيه شك ولا ارتياب.»
15
وحفظ أسماء عدد من العلماء والأدباء من رجال القرنين السابع والثامن من قرون الهجرة كانوا يدينون بالتشيع، نذكر منهم عبد القادر بن مهذب الأدفوي - ابن عم صاحب الطالع السعيد - وقيل أنه رحل إلى قوص للاشتغال بالفقه فحفظ أكثر التنبيه، وكان إسماعيلي المذهب مشتغلا بكتاب الدعائم تصنيف القاضي النعمان بن محمد متفقها فيه، وكان فيلسوفا يقرأ الفلسفة ويحفظ من كتاب زجر النفس وكتاب أثولوجيا وكتاب التفاحة المنسوب إلى أرسطو كثيرا وتوفي سنة 725ه،
16
وكان عبد الملك بن الأغر بن عمران الذي أخذ النحو والأدب عن الشمسي الرومي متهما بالتشيع مشهورا به وتوفي سنة 707ه،
17
وأن الشاعر المحدث محمد بن محمد بن عيسى الشيباني النصيبيني كان متشيعا.
18
أما القاضي جلال الدين الحسن بن منصور المعروف بابن شواق المتوفى سنة 706ه فقد كان يتشيع ويدرس مذهب الشيعة، ثم قبض عليه ورحل إلى القاهرة بعد أن صودرت أمواله،
19
ويذكر ابن حجر أن علي بن المظفر بن إبراهيم الوادعي الكندي المتوفى سنة 716ه وكان كاتبا في ديوان الإنشاء كان يتشيع.
20
ويطول بنا الأمر لو حصرنا في هذا البحث القصير من كان يعرف بالتشيع من علماء وأدباء مصر في عصر الأيوبيين والمماليك، وهذا يدل على أن العقيدة الشيعية لم تقتلع من نفوس المصريين جميعا، بل ظلت عقيدة بعض المصريين بالرغم مما أصاب الشيعة في مصر في ذلك العصر من ألوان الاضطهاد، وبالرغم مما قام به علماء جمهور أهل السنة والجماعة من جهود متواصلة في تعليم المصريين علومهم وآراءهم بفضل تلك المدارس المذهبية السنية التي انتشرت في مصر انتشارا عظيما، فكانت هذه المدارس هي السبب الأول في تحول الشيعة في مصر إلى رأي الجماعة والسنة، وسنبين ذلك في بحث مستقل إن شاء الله.
شعر المتشيعين
كان بين بقايا الشيعة في مصر عدد كبير من الشعراء، حفظت بعض قصائدهم التي يظهر فيها أثر العقيدة الشيعية التي دانوا بها، نذكر من هؤلاء الشعراء أبا العباس شهاب الدين أحمد بن عبد الملك العزازي 710/634ه التاجر بقيسارية جهاركس بالقاهرة،
1
كان أديبا بارعا ولا سيما في نظم الموشحات، وكان يتشيع ويظهر تشيعه في شعره فمن ذلك قوله:
إذا أنا لم أبت دامي الأماقي
عليه وداني الكمد القصي
وأمسي فيه ذا وسن ضنين
وأصبح فيه ذا شجن شجي
فلا سارت بقافية ركابي
ولا عادت بناجحة مطي
وإلا لا اعتقدت ولا علي
ولا أضمرت حب بني علي
أناس أدركوا أمد المعالي
ونالوا رتبة الشرف العلي
هم سحب الندى يوم العطايا
ويوم الفخر أقمار الندي
إذا كررت ذكرهم كأني
فتقت لطايم المسك الزكي
أبوهم ذو الجلالة من قريش
وذو النسب الصحيح من النبي
وناصر دينه سرا وجهرا
خلافا للفريق الجاهلي
وقاهر كل كفار عنيد
وقاتل كل جبار عتي
وضارب يوم صفين وبدر
أعالي هامة البطل الكمي
وكاشف كل مشكلة ولبس
وغامضة بلا حصر وعي
أللباغي عليهم يوم فخر
كأصلهم وفرعهم الزكي
أللساعي بهم نحو المنايا
كقدرهم ومجدهم العلي
أتقدر ظلمة الليل الدياجي
تغطي آية الصبح الجلي
ترى بعد الحسين يسوغ ماء
ويحلو مورد العيش الهني
وأية عيشة تحلو وتصفو
وقد جار العدو على الولي
لقد ظلموا وما حازو حقوقا
لفاطمة البتول ولا الوصي
بكم يا آل يس وطه
تحط خطية الجاني المسي
ويحظى بالشفاعة كل عاصي
ويسعد كل مجترم شقي
سلام الله والرضوان منه
عليكم في الغدو وفي العشي
2
فهذه المعاني التي وردت في هذه المقطوعة لا يمكن أن تصدر إلا من شاعر يعتنق التشيع له دينا، فولايته لآل البيت، وإسباغ الفضائل عليهم، وشفاعته بهم، وحزنه على الحسين بن علي وعلى من قتل من العلويين، كل هذه معان شيعية خالصة لا ينشدها إلا شاعر شيعي، ولكن العزازي في هذه القصيدة وفي غيرها من قصائده الشيعية في ديوانه لم يلم بالمعاني الفلسفية الشيعية التي كنا نراها عند شعراء الفاطميين، بل اكتفى بإيراد المعاني الشيعية العامة التي يقول بها كل فرق الشيعة غير المتطرفة على اختلاف مذاهبهم؛ ولذلك صار من الصعب علينا أن نتعرف الفرقة الشيعية التي كان ينتمي إليها العزازي.
وكذلك نقول عن الشاعر ابن شواق الإسنائي جلال الدين الحسن ابن منصور الذي وصفه الأدفوي بقوله: «رأيته وصحبته مدة، وكان رئيس الذات والصفات، حسن الأخلاق ، كريما في نهاية المكرم حليما له في الحلم علم، وقد ذكرنا كيف صودرت أمواله لتشيعه وأنه رحل إلى القاهرة، فاجتمع بالصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين، فأعجب هذا به وعرض عليه العمل في ديوان الإنشاء فرفض، كان هذا الرجل يتشيع وكان تشيعه على النحو الذي كان عليه شيعة مصر قبل عصر الفاطميين، أي حب الصحابة وتعظيمهم والاعتراف بفضلهم، إلا أنه كان يقدم علي بن أبي طالب عليهم.»
3
ومع ذلك كان هذا المتشيع شاعرا، وقد وصلتنا قصيدة له يمدح بها أهل البيت ويصفهم بصفات هي أقرب ما يكون إلى الصفات التي يذكرها علماء الشيعة الإسماعيلية عن الأئمة، فهو يقول:
كيف لا يحلو غرامي وافتضاحي
وأنا بين غبوق واصطباح
مع رشيق القد معسول اللما
أسمر فاق على سمر الرماح
جوهري الثغر ينحو عجبا
رفع المرضى لتعليل الصحاح
نصب الهجر على تمييزه
وابتدا بالصد جدا في مزاح
فلهذا صار أمري خبرا
شاع في الآفاق بالقول الصراح
يا أهيل الحي من نجد أعسى
تجبروا قلب أسير من جراح
لم خفضتم حال صب جازم
ما له نحو حماكم من براح
ليس يصغي قول واش سمعه
فعلى ماذا سمعتم قول لاح
ومحوتم اسمه من وصلكم
وهو في رسم هواكم غير ماح
فلئن أفرطتموا في هجره
ورأيتم بعده عين الصلاح
فهو راج لأولي آل العبا
معدن الإحسان طرا وللسماح
قلدوا أمرا عظيما شأنه
فهو في أعناقهم مثل الوشاح
أمناء الله في السر الذي
عجزت عن حمله أهل الصلاح
هم مصابيح الدجى عند السرى
وهم أسد الشرى عند الكفاح
تشرق الأنوار في ساحاتهم
ضوءها يربو على ضوء الصباح
أهل بيت الله إذ طهره
فجميع الرجس عنهم في انتزاح
آل طه لو شرحنا فضلهم
رجعت منا صدور في انشراح
أنتم أعلى وأغلى قيمة
من قريضي وثنائي وامتداحي
جدكم أشرف من داس الحصا
في مقام وغدو ورواح
وأبوكم بعده خير الورى
فارس الفرسان في يوم الكفاح
وارث الهادي النبي المصطفى
ما على من قال حقا من جناح
لو يقاس الناس جمعا بكم
لرجحتم جمعهم كل رجاح
يا بني الزهراء يرجو حسن
بكم الخلد مع الحور الصباح
قد أتاكم بمديح نظمه
كجمان الدر في جيد الرداح
فاسمعوا يا خير آل ذكركم
ينعش الأرواح مع مر الرياح
وعليكم صلوات الله ما
غشيت شمس الضحى كل الضواحي
وسرى ركب وغنى طائر
ألف النوح بتكرار النواح
4
فالشاعر في هذه القصيدة ألم ببعض عقائد الشيعة، فالأئمة قد قلدوا أمرا عظيما شأنه - وهي مرتبة الإمامة - وأن الأئمة «أمناء الله في السر» أي في التعاليم الباطنية التي ائتمنوا عليها والتي عجز عنها غيرهم، وضمن في شعره الآية القرآنية
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .
5
وهي الآية التي ذهب الشيعة على أنها أنزلت في أهل البيت من نسل فاطمة بنت الرسول. ثم ذكر أن عليا وصي النبي ووريثه، وهي العقيدة التي يتمايز بها الشيعة، بل هي أساس التشيع، فهذه كلها معتقدات شيعية بها بعض التأثر بالمعتقدات الشيعية الإسماعيلية، مما يدل على أن الشاعر قرأ كثيرا عن الشيعة وعقائدهم ودان بهذه العقائد، وتوفي هذا الشاعر سنة 706ه.
والشاعر الفقيه الشافعي محمد بن علي بن منجي المتوفى سنة 673ه لم يعرف عنه أنه تشيع، بل اتجه في أواخر أيامه إلى التصوف، وبنى بأدفو رباطا ووقف عليه وقفا،
6
كان متأثرا بآراء الشيعة، ولا سيما في عقيدتهم، أن بولاية أهل البيت ينال العفو في الآخرة، ففي قصيدته التي أولها:
حادياها خلياها وسراها
للحمى إن شئتما أن تسعداها
ختمها بقوله:
ولئن جرتم عليه في الهوى
وعدلتم نحو عذال عداها
فهو يرجو العفو يوم العرض عن
ما جناه بولاه آل طه
7
ولم تصلنا من أشعار هذا الفقيه الصوفي شيء في التشيع سوى هذا البيت الأخير، وإنما أوردناه لندلل على أن أثر الشيعة كان قويا في نفوس بعض المصريين.
وقد ذكرنا أنه في سنة 697ه ظهرت حركة داود بن سليمان (ويقال ابن شعبان) بن العاضد، التي دعا فيها لنفسه، وأن الناس اجتمعوا حوله، ومدحه الشعراء بمقطوعات تظهر فيها أثر عقائد الفاطميين، من ذلك قول الشاعر إبراهيم بن محمد بن علي بن نوفل الإدفوي المتوفى سنة 735ه في مدح داود هذا:
ظهر النور عند رفع الحجاب
فاستنار الوجود من كل باب
وأتانا البشير يخبر عنهم
ناطقا عنهم بفصل الخطاب
8
فالشاعر في هذين البيتين مدح داود بهذه الصفات التي أسبغها شعراء العصر الفاطمي على الأئمة، متخذا المصطلحات الفاطمية الخالصة، «فظهور النور عند رفع الحجاب» هو ظهور الإمام بعد استتاره، وفي البيت الثاني يشير إلى أن داعية الإمام - الذي عبر عنه بالبشير - جاءهم بفصل الخطاب، وقد رأينا أن وظيفة الحجة في الدعوة الإسماعيلية هي فصل الخطاب،
9
فالشاعر كان يتحدث إذن كما كان يتحدث شعراء الفاطميين بالرغم من مرور قرن ونصف تقريبا على زوال الدولة الفاطمية في مصر.
وعندما انتشرت دعوة داود هذا في بلدته أسفون أنشد الشاعر الماجن الهجاء قطنبة الأسفوني - الحسين بن محمد بن هبة الله - مقطوعة شعبية في هجاء هذه الدعوة وهجاء دعاتها فقال:
حديث جرى يا مالك الرق واشتهر
بأسفون مأوى كل من ضل أو كفر
لهم منهم داع كتيس معمم
وحسبك من تيس تولى على بقر
ومن نحسهم لا أكثر الله منهم
يسبوا أبا بكر ولم يشتهوا عمر
فخذ مالهم لا تختش من مآلهم
فإن مآل الكافرين إلى سقر
10
فمن هذه المقطوعة الشعبية التي أنشدها قطنبة نستطيع أن نعرف أن الدعوة انتشرت بقوة في بلدة أسفون، وكان لها دعاة يأخذون العهود والمواثيق، وأنهم كانوا يسبون الصحابة على نحو ما كان يفعل الفاطميون، ويخيل إلي أن داود بن سليمان هذا ما هو إلا دعي، وأنه أحد دعاة الإسماعيلية النزارية (الإسماعيلية الشرقية)، فإن من عقائد هذه الدعوة أن يتحمل الإمام فرائض الدين عن المستجيبين وبذلك دعى داود هذا،
11
ولذلك لم تجد الدعوة قبولا عند أكثر المسلمين، وهجاه الشاعر علاء الدين الأسفوني علي بن أحمد بن الحسين المتوفى سنة 731ه فقال:
ارجع ستلقى بعدها أهوالا
لا عشت تبلغ عندنا آمالا
يا من تجمع فيه كل نقيصة
فلأضربن بسيرك الأمثالا
وزعمت أنك للتكلف حامل
وكذا الحمار يحمل الأثقالا
12
فلا غرابة إذن أن نرى هذه الدعوة التي هي أقرب إلى دعوة القرامطة القديمة قد فشلت في مصر سريعا ، وأن تنفر من داود ومن الذين استجابوا له قلوب سواد المصريين؛ ولذلك لم نعد نسمع عن محاولات أخرى في مصر لإعادة الدعوة الفاطمية بعد محاولة داود هذا.
ومن الطرائف التي حدثت في النزاع بين أهل السنة والشيعة في هذا العصر ما سجله الشعر فيما كان يحدث في عاشوراء، ففي هذا اليوم من كل عام كان الشيعة يقيمون مأتم الحسين بن علي جريا على السنة التي كان يتبعها الشيعة في جميع البقاع الإسلامية، وتقليدا لما كان متبعا في مصر الفاطمية، وكان الشعراء ينشدون أشعارهم في هذه المناسبة مثل ما أنشده العزازي في قصيدته التي ذكرناها من قبل، ومثل قول الشاعر شهاب الدين أبي العباس أحمد بن صالح وقد وقع مطر غزير في ذلك اليوم:
يوم عاشوراء جادت بالحيا
سحب تهطل بالدمع الهمول
عجبا! حتى السموات بكت
رزء مولاي الحسين بن البتول
13
ولكن أهل السنة أرادوا أن يكيدوا للشيعة، فكانوا يخرجون في هذا اليوم وقد كحلت أعينهم وخضبت أيديهم، وفي ذلك يقول الشاعر المصري أبو الحسن الجزار:
وبعود عاشوراء يذكرني
رزء الحسين، فليت لم يعد
يا ليت عينا فيه قد كحلت
لشماتة لم تخل من رمد
ويدا به لمسرة خضبت
مقطوعة من زندها بيدي
أما وقد قتل الحسين به
فأبو الحسين أحق بالكمد
14
وأبو الحسين الجزار نفسه هو الذي داعب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، فكتب إلى الشريف ليلة عاشوراء عندما أخر عنه ما كان من جاريه:
قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي
والسيد بن السيد بن السيد
أقسم بالفرد العلي الصمد
إن لم يبادر لنجاز موعدي
لأحضرن للهناء في غد
مكحل العينين مخضوب اليد
15
فالشاعر بمداعبته هذه أعطانا صورة لما كان يجري في ذلك العصر بين المتعصبين من أصحاب المذهبين: المذهب السني الذين كانوا يخرجون ليلة عاشوراء للهناء، والمذهب الشيعي الذين كانوا يخرجون للعزاء، ويخيل إلي أن عادة المصريين الآن ولا سيما في الأرياف بصنع أطباق الحلوى المعروفة باسم عاشوراء، هي أثر من تراث هذا النزاع بين المذهبين في عصر الأيوبيين والمماليك.
أثر الفاطميين في شعر أهل السنة
وإذا تركنا هؤلاء الشيعة الذين أظهروا تشيعهم في أشعارهم، وصوروا لنا لونا من ألوان الفن المتأثر بهذا المذهب الديني، فإننا نواجه ناحية هامة عند شعراء هذا العصر الذي نتحدث عنه، تلك الناحية هي تأثر الشعراء بالآراء والصور التي تركها شعراء المدح في عصر الفاطميين، فنحن نعلم أن الفاطميين جعلوا للأئمة صفات خاصة أخذت من صميم عقيدتهم ومذهبهم،
1
واستخدم جميع الشعراء الذين اتصلوا بالأئمة سبيل المدح بذكر هذه الصفات،
2
واستمر هذا الضرب من المديح طوال عصر الفاطميين في مصر، وبالرغم من أن الدولة الفاطمية زالت على يد الأيوبيين، وأن الدعوة الفاطمية اضمحل أمرها فلم يعد الدعاة يقومون بنشاطهم، فإن الشعراء استمروا في مديحهم في نفس التيار الذي رأيناه عند الفاطميين، بل خلعوا على سلاطين الأيوبيين نفس الصفات التي خلعها الفاطميون على أئمتهم، بل غلا بعضهم في المدح فنسب إلى السلاطين والخلفاء العباسيين ما لم ينسبه الفاطميون إلى أنفسهم، فابن سناء الملك المتوفى سنة 608ه مدح صلاح الدين بقوله:
أعدت إلى مصر سياسة يوسف
وجددت فيها من سميك موسما
وأحييت فيها الدين بعد مماته
فأنت ابن يعقوب وأنت ابن مريما
بقيت إلى أن تملك الأرض كلها
ودمت إلى أن يرجع الكفر مسلما
3
فإذا كنا نقبل أن تكون المقارنة بين صلاح الدين ونبي الله يوسف لتشابههما في الاسم، فإننا لا نقبل أن يكون صلاح الدين هو «ابن يعقوب» أو هو عيسى بن مريم؛ لأنه أحيا الدين بعد مماته، إلا إذا كنا نتمذهب بالعقيدة الفاطمية التي تؤول الآيات القرآنية التي وردت في المسيح بأن إحياء الموتى هو نشر الدين وإحياء النفوس حياة صحيحة بالعبادة العلمية،
4
أو أن نقول كما قال الفاطميون بالدور وانتقال النبوة والأئمة بالتسلسل والتعاقب، وأن الخلف يرث دور السلف تماما ويحدث في أيامه ما حدث في أيام من سبقه ، فإذا بمحمد هو عيسى وهو موسى وهو نوح ... إلخ.
5
فقول ابن سناء الملك «فأنت ابن يعقوب وأنت ابن مريما» هو أثر من آثار العقائد الفاطمية.
وفي قصيدة أخرى مدح هذا الشاعر صلاح الدين بقوله:
نصرت بأفلاك السماء فشهبها
خميس به يردي الخميس العرمرما
رقيت إلى أن لم تجد لك مرتقى
وأقدمت حتى لم تجد متقدما
فما يبرم المقدار ما كنت ناقضا
وما ينقض المقدار ما كنت مبرما
6
ففي البيت الأول يتحدث عن «أفلاك السماء» التي نصرت السلطان، وأفلاك السماء في التأويل الفاطمي يعني الملائكة، وهم العقول في الاصطلاحات الفلسفية والإسماعيلية أيضا،
7
وفي البيت الثاني دفع الشاعر شدة المبالغة، والغلو في المديح إلى أن جعل صلاح الدين في مرتبة ليس فوقها مرتبة، وهذا المعنى كثير جدا في شعر العصر الفاطمي؛ لأن الإمام مثل للمبدع الأول الذي ليست فوقه مرتبة،
8
والبيت الثالث نفس معنى بيت ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ثم اقرأ لابن سناء الملك أيضا قوله في مدح علي الشهيد نور الدين زنكي:
مولى الأنام «علي» هكذا نقلت
لنا الرواة حديثا غير مختلق
9
فالشاعر هنا نقل الحديث النبوي «من كنت مولاه فعلي مولاه» الذي قيل في علي بن أبي طالب إلى علي الشهيد نور الدين، وتبع سنة شعراء الفاطميين الذين مدحوا الأئمة بأنهم موالي الأنام.
ومرة أخرى يمدح صلاح الدين بقوله:
قد ملكت البلاد شرقا وغربا
وحويت الآفاق سهلا وحزنا
واغتدى الوصف عن علاك حسيرا
أي لفظ يقال أو أي معنى
ورأينا ربنا قال أطيعوه
سمعنا لربنا وأطعنا
10
وشعراء الفاطميون كانوا يضمنون في أشعارهم الآية القرآنية:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وقال الدعاة: إن هذه الآية أنزلت في علي بن أبي طالب، فأخذ ابن سناء الملك هذا المعنى وأودعه شعره، ولم يجعلها في الأئمة من أهل بيت علي بن أبي طالب إنما جعلها في صلاح الدين.
ولم يكتف ابن سناء الملك بأن يتأثر بهذه العقائد الفاطمية، ويتبع تيار الشعر الفاطمي في مدحه لصلاح الدين الأيوبي أو نور الدين زنكي، بل نراه في مدائحه للقاضي الفاضل يأتي بالمعاني التي كانت تقال للأئمة الفاطميين، ولها من عقائدهم سند، أما أن تقال للقاضي الفاضل فهذا هو الأثر القوي على شعر ابن سناء الملك، فنحن نعلم أن الفاطميين وصفوا الأئمة بأنهم رحمة للعالمين،
11
فجاء ابن سناء الملك، وقال للقاضي الفاضل:
عبد الرحيم على البرية رحمة
أمنت بصحبتها حلول عقابها
12
وقال الفاطميون إن قصر الإمام هو في العبادة العلمية (التأويل الباطن) هو الكعبة، وأن الحج الباطن هو زيارة الإمام،
13
فقال ابن سناء الملك للقاضي الفاضل:
يا كعبة طاف الملوك بها
بل قبلة حج الأنام لها
14
وهكذا نستطيع بسهولة أن نتتبع أثر العقائد الفاطمية في شعر ابن سناء الملك وهو من شعراء الدولة الأيوبية ومن كبار رجالاتها.
وها هو الشاعر الدمشقي ابن الساعاتي الذي وفد على مصر واتخذها دار إقامته، نراه قد تأثر بما كان في مصر والشام من عقائد الفاطميين، ونهج نهج شعراء المدح في العصر الفاطمي، فنراه يمدح الخليفة العباسي الناصر لدين الله بما كان يمدح به الأئمة فهو يقول مثلا:
فروع إلى العباس تنمى أصولها
وما خير فرع أسلمته أصول
هو النسب الزاكي أناف بفضله «وصي» حوى سبق العلا ورسول
ترى اليوم طلقا حين يذكر «جعفر»
ويسمى إليه حمزة وعقيل
له شرف البيت العتيق وزمزم
وما ساقه حاد إليه عجول
وفضل الذبيحين الذي ما لفضله
نظير، وهل للنيرين عديل
علاه على السبع الشداد محله
ومجد قديم لا يرام أثيل
ففي كل يوم للملائكة العلى
طواف على أبياتكم ونزول
15
فهو يمدح الخليفة العباسي بأنه ينتسب إلى الرسول، والوصي علي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وهذا مدح شيعي خالص، لا يمدح به إلا الأئمة من نسل علي بن أبي طالب، وفي البيت الرابع معنى من المعاني الفاطمية التي تؤول شعائر الحج على أنهم الأئمة وقد شرفهم الله تعالى بذلك،
16
وفي البيت السادس يضمن عقيدة باطنية خالصة بأن جعل الخليفة العباسي فوق السبع الشداد، أي في منزلة المبدع الأول (العقل الأول أو القلم)، وقد ذكرنا أن هذا المعنى لا يمدح به إلا إمام إسماعيلي على نحو ما أوردناه في نظريتنا التي أطلقنا عليها (نظرية المثل والممثول)؛ لأن الإمام في العالم الجسماني مثل العقل الأول الروحاني، ولكن ابن الساعاتي أتى بهذا المعنى غلوا منه ومبالغة وتأثرا بما كان في العصر الفاطمي، وفي البيت الأخير جعل الملائكة يطوفون ببيوت العباسيين، وهو معنى لم ينشد إلا في بلاط الخليفة الفاطمي، فإن الفاطميين أولوا الملائكة وطوافهم ببيت الإمام على الدعاة، والحجج الذين يزورون الإمام ويتجهون إليه؛ لأنه قبلة نفوسهم، وهكذا نرى شاعرا آخر من شعراء الأيوبيين يتأثر بالشعراء الفاطميين.
أما الشاعر ابن النبيه المصري المتوفى سنة 619ه، فقد كان أجرأ شعراء مصر في الأخذ من عقائد الفاطميين، وكان أشدهم مبالغة في مدحه للخليفة الناصر العباسي حتى إن القدماء أنفسهم عابوا عليه هذه المبالغة، واتهموه في دينه، ولابن النبيه عذره، فقد وجد في عصر كانت عقائد الفاطميين لا تزال ماثلة في أذهان الناس، وكان شعر شعراء الفاطميين لا يزال يروى بين الناس، فسار ابن النبيه في تيار هؤلاء الشعراء وخيل له أنه يمدح إمام الفاطميين لا الإمام العباسي عدو الفاطميين، بالرغم من أن الإمام الناصر العباسي نفسه كان متشيعا.
فانظر إلى ابن النبيه في إحدى قصائده في مدح الخليفة الناصر يقول:
بغداد مكتنا، وأحمد «أحمد»
حجوا إلى تلك المنازل واسجدوا
يا مذنبين، بها ضعوا أوزاركم
وتطهروا بترابها وتهجدوا
فهناك من جسد النبوة بضعة
بالوحي جبريل لها يتردد «باب النجاة» «مدينة العلم» التي
ما زال كوكب هديها يتوقد
ما بين سدرته وسدة دسته
نبأ يقر له الكفور الملحد
هذا هو السر الذي بهر الورى
من ظهر آدم والملائك سجد
هذا «الصراط المستقيم» حقيقة
من زل عنه ففي الجحيم يقيد
هذا الذي يسقي العطاش بكفه
والحوض ممتنع الحمى لا يورد «القائم المهدي» أنت بقيت للإس
لام تمهد تارة وتشيد
بعدا «لمنتظر» سواه، وقد بدت
منه البراهين التي لا تجحد
إن كان فوق الطور ناجى ربه
موسى، فبالمعراج أنتم أزيد
أو كان يوسف عبر الرؤيا، فكم
للغيب منكم مصدر أو مورد
الله أنزل وحيه لمحمد
وإليكم وصى بذاك محمد
الدهر في يده فجور مرسل
سبط وبأس مكفهر أجعد
يا من لمبغضه الجحيم قرارة
ولمن يواليه النعيم السرمد
لولا التقية كنت أول معشر
غالوا فقالوا: أنت رب يعبد
17
هذا ما أنشده ابن النبيه في الخليفة العباسي، وواضح كل الوضوح مدى غلو هذا الشاعر في مدحه، هذا الغلو الذي لا أكاد أجد له مثيلا بين شعراء الفاطميين أنفسهم على ما وصفوا به أئمتهم من صفات، وأسبغوا عليهم من نعوت، ولكن شعراء الفاطميين أتوا بهذه الصفات والنعوت من العقيدة الفاطمية نفسها، ومن التأويلات الباطنية التي تمايز بها الفاطميون ولم يقرهم عليها فرقة من فرق المسلمين، أما ابن النبيه وهو شاعر سني في دولة أطاحت بالدولة الشيعية، وحاولت أن تمحو من البلاد العقيدة الشيعية، وكان يمدح الخليفة العباسي، ثم يغلو هذا الغلو في المدح، فهذا هو الشيء الذي لم نكن نتوقعه في شعر المدح في مصر في عصر الأيوبيين، والذين لهم إلمام بالعقائد الفاطمية يستطيعون في سهولة ويسر أن يدركوا تأثر هذا الشاعر بالفاطميين، فالشطر الأول من البيت الأول هو نفسه رأي الفاطميين في عقيدة الأدوار التي تحدثنا عنها من قبل، والحج في الشطر الثاني من البيت الأول، وكل البيت الثاني هو نفسه رأي الفاطميين في الحج الباطني.
وعجيب أن يذهب الشاعر إلى أن الخليفة العباسي الناصر بضعة من جسد الرسول؛ لأنه ليس من نسل الرسول، والحديث النبوي يقول: «فاطمة بضعة مني» ولكن مبالغة الشاعر، وغلوه في المدح جعل الخليفة الناصر من أبناء فاطمة، مثله في ذلك مثل أئمة الشيعة.
ومثل ذلك قوله في قصيدة أخرى:
أهل بيت قد أذهب الله عنهم
كل رجس وطهروا تطهيرا
وكذلك قوله: «مدينة العلم» التي جعلها النبي لنفسه دون سواه فقال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، وشعراء الشيعة لم يذهبوا إلى أن عليا أو أحد أبنائه «مدينة العلم»، ولكن هذا الشاعر السني أبى إلا أن يجعل الخليفة الناصر في مقام النبي نفسه.
أما قوله : «باب النجاة» فهو من أقوال شعراء الفاطميين، وكذلك قوله بعد ذلك إن الناصر هو «الصراط المستقيم»، فهذا تأويل باطني خالص لا يقول به إلا شاعر إسماعيلي في مدح إمام إسماعيلي،
18
أما في قوله: هذا هو السر الذي بهر الورى ... البيت، فهو نفس ما قاله الفاطميون عن مرتبة الاستيداع، (النبوة)، ومرتبة الاستقرار (الإمامة)، وتنقلهما منذ خلق آدم هذا الدور،
19
وهي نفس النظرية التي اعتنقها الصوفية في هذا العصر وهي نظرية «النور المحمدي»، ويظهر تأثر ابن النبيه بالمصطلحات والعقائد الفاطمية تأثرا واضحا في وصفه للخليفة العباسي بأنه «القائم المهدي»، فقوله هذا أخذ أخذا من أقوال الفاطميين، وهو اصطلاح من مصطلحاتهم الخاصة الذي تمايزوا به عن الفرق الأخرى في وصف «المهدي المنتظر» الذي هو عند الفاطميين آخر دور آدم الحالي «وخاتم السبع المثاني»، وهو عند الفاطميين الناطق السابع وآخر النطقاء، فإذا كان الفاطميون قد انحرفوا عن الدين القويم بأن جعلوا نبيا بعد محمد
صلى الله عليه وسلم ، فإن أسفنا أشد حين نجد شاعرا يتمذهب بمذهب أهل السنة والجماعة، يصف خليفة عباسيا بهذه الصفة الفاطمية، وإذا كان أهل السنة يرون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قبض ولم يوص لأحد بعده، خلافا لقول الشيعة الذين ذهبوا إلى أن النبي أوصى لعلي يوم «غدير خم»، فإن الشاعر هنا جعل وصية محمد للعباسيين وهو قول لم نسمع به إلا من شعراء مصر في عصر الأيوبيين.
ومن الصفات التي خلعها الفاطميون على علي بن أبي طالب أنه «قسيم الجنة والنار» أي أنه يقسم الناس بين الجنة والنار، فمبغضه في النار ووليه في الجنة.
وفي ذلك قال المؤيد في الدين يمدح الإمام المستنصر الفاطمي:
بمولانا الإمام أبي تميم
هديت إلى الصراط المستقيم
قسيم النار مولانا معد
وجنات العلي وابن القسيم
فجاء ابن النبيه وجعل هذه الصفة للعباسيين، ويختم ابن النبيه هذه القصيدة بقوله، ولولا تقاه لبلغ به غلوه إلى تأليه الخليفة العباسي، بينما لم يذهب إلى تأليه الأئمة الفاطميين سوى الغلاة الذين طردوا من حظيرة الدعوة الفاطمية، ومن هؤلاء دعاة الحاكم، ولم يذهب شاعر من شعراء الفاطميين إلى القول بهذه الدعوى، فنرى المؤيد في الدين مثلا يقول لإمامه:
لست دون المسيح سماه ربا
أهل شرك ولا نسميك ربا
وفي قصيدة أخرى لابن النبيه في مدح الخليفة العباسي الناصر لدين الله أيضا يقول:
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنما
وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تستحلى أوائله
لكنه ربما مجت أواخره
واجسر على فرص اللذات محتقرا
عظيم ذنبك إن الله غافره
فليس يخذل في يوم الحساب فتى
و«الناصر» ابن رسول الله ناصره
تجسد الحق في أثناء بردته
وتوجت باسمه العالي منابره
له على ستر سر الغيب مطلع
فما موارده إلا مصادره
يقضي بتفضيله سادات عترته
لو كان «صادقه» حيا «وباقره»
كل الصلاة خداج لا تمام لها
إذا تقضت ولم يذكره ذاكره
كل الكلام قصير عن مناقبه
إلا إذا نظم القرآن شاعره
رأيت ملكا كبيرا فوق سدته
جبريل داعيه أو ميكال زائره
20
فابن النبيه في هذه الأبيات يرى أن الخليفة الناصر من نسل رسول الله، وهو نفس الرأي الذي قاله من قبل في قصيدته السابقة:
فهناك من جسد النبوة بضعة
بالوحي جبريل لها يتردد
فإذا كانت هذه هي نظرة ابن النبيه إلى الخليفة العباسي، فلا غرو أن نراه يصف هذا الخليفة بالصفات التي قالها الشيعة عن أئمتهم، فهو إذن الشفيع يوم القيامة، ويكرر هذا المعنى في قصيدة أخرى فيقول:
بولائي أمنت من سيئاتي
يوم ألقى كتابي المنشورا
بل يذهب في الغلو إلى مدى أبعد مما ذهب إليه شعراء العصر الفاطمي؛ إذ نسب إلى الخليفة العباسي معرفة الغيب، وكرر هذا المعنى فذكره في هذه القصيدة وفي القصيدة السابقة، فبينما طعن علماء أهل السنة أئمة الفاطميين بأنهم يدعون معرفة الغيب، وتبرأ الفاطميون من هذه المقالة وممن قال بها،
21
نرى ابن النبيه يلصقها بالخليفة العباسي، ويذهب ابن النبيه إلى أن أئمة الشيعة وخاصة جعفر الصادق، ومحمد الباقر بن علي زين العابدين، لو كانوا أحياء لقدموا الناصر العباسي عليهم، ونلاحظ أنه خص جعفر الصادق والباقر دون غيرهما؛ أولا للضرورة الشعرية في القافية الرائية؛ وثانيا لأن جل علوم الشيعة إنما رويت عن طريقهما، ثم يعود ابن النبيه إلى عقيدة الفاطميين التي تذهب إلى أن الصلاة لا تقبل ما لم يصل على الأئمة، فالشاعر هنا أخذ هذه العقيدة ونظمها مستعملا ألفاظ الفقهاء فزعم أن الصلاة خداج إن لم يكن بها الصلاة على الناصر، فإذا كان الشيعة يقولون ذلك بناء على عقائدهم فنحن لا ندري على أي أساس قال ابن النبيه ذلك، إلا إذا اعتبر الخليفة العباسي من أئمة الشيعة، وكرر ابن النبيه هذا المعنى في قصائد أخرى، فمن ذلك قوله:
أنت يا بن النبي، خابت صلاة
لم تكن في خلالها مذكورا
ونحن نعلم أن الشيعة ذهبوا إلى أن في القرآن الكريم عددا من الآيات أنزلت في أهل البيت،
22
وعدوا ذلك من فضائل أئمتهم ومن مناقبهم، وها هو ابن النبيه يمدح الناصر بهذا المعنى الشيعي، وختم الشاعر هذه القصيدة بأن الناصر ملك كبير، وأن جبريل داعيته وأن ميكائيل زائره، وهذه من المعاني الباطنية الإسماعيلية التي لم يقل بها سوى الإسماعيلية، وذلك أن تأويل الملائكة على الدعاة والحجج، وفي ذلك يقول المؤيد في الدين داعي الفاطميين:
أنا آدمي في الرواء حقيقتي
ملك تبين ذاك للمسترشد
فأخذ ابن النبيه هذه العقيدة الباطنية، ونظمها في شعره وجعلها في الخليفة الناصر العباسي، ومن هذه الأمثلة التي أوردناها من شعر ابن النبيه، ومن أشعاره الأخرى التي يجمعها ديوانه نستطيع أن نلمس مدى تأثر هذا الشاعر بالتعاليم الشيعية عامة والفاطمية منها على وجه الخصوص.
ولم يكن ابن النبيه هو الشاعر الوحيد الذي نرى في شعره أثر هذه التعاليم، فها هو زميله ابن مطروح المتوفى سنة 649ه يتأثر بما تأثر به ابن سناء الملك، وابن الساعاتي، وابن النبيه وغيرهم من شعراء ذلك العصر من تعاليم شيعية ومن تراث الفاطميين، ففي مديحه للخليفة المستنصر بالله العباسي خلع عليه صفات الإمام الفاطمي فهو يقول:
الله أكبر أي طرف يطمح
أم أي ذي لسن يقول فيفصح ؟
حرم الخلافة والإمام إمامنا
فمن العجائب أن لفظا يجنح
عظم المقام عن المقال فحسبنا
أنا نقدس عنده ونسبح
شرفا بني العباس ما أبقيتم
فخرا لمفتخر به يتبجح
من معشر جبريل من خدامهم
وبمثل ذا يتمدح المتمدح
لما سموا سمحوا فحدث صادقا
عن أنفس تسمو وأيد تسمح
فوق السماء خيامهم مضروبة
فلخيلهم مسرى هناك ومسرح
حيث النجوم تعد من حصبائها
والبرق منها بالسنابك يقدح
أخليفة الله الرضا، هل لي إلى
بحبوحة الفردوس باب يفتح؟
حتى أطوف بذلك الحرم الذي
ما فاز إلا من به يتمسح
وأجيل في ملكوت قدسك ناظرا
ما زال يغبق بالنسيم ويصبح
وأقبل الأرض المقدسة التي
أرج السعادة من ثراها ينفح
هذا الذي نزل الكتاب بمدحه
فبأي شيء بعد ذلك يمدح؟
هذا نذير النفخة الأخرى الذي
من لا يدين بحبه لا يفلح
إن الخلافة لم تكن إلا لكم
من آدم وهلم جرا تصلح
23
فابن مطروح في هذه الأبيات التي يمدح فيها الخليفة العباسي لا يجاري شعراء العباسيين في مدائحهم، إنما هو يجاري شعراء الشيعة في مدح أئمتهم، وينهج نهج شعراء الفاطميين خاصة الذين أسبغوا على الأئمة لونا من التقديس، ورفعوا مرتبة الأئمة فوق السموات العلى، وجعلوا بيد الأئمة دخول الجنة أو النار، وذهبوا إلى أن بالقرآن الكريم آيات وردت في الأئمة دون غيرهم، وأن من لا يدين بحب الإمام ويتولاه فهو بعيد عن زمرة المؤمنين، وأن الإمام هو نذير النفخة الكبرى، وأن الإمامة تنقلت من آدم إلى أن استقرت في إمام العصر، فهذه كلها من المعاني الشيعية التي لم يمدح بها إلا أئمة الشيعة، ولم نسمع أن شاعرا من شعراء الأمويين، أو العباسيين مدح خلفاء الأمويين والعباسيين بمثل هذه المعاني إلا في هذا العصر المتأثر بالتقاليد الشيعية الفاطمية.
فإذا اغتفرنا لابن مطروح أن يصف الخليفة العباسي بمثل هذه المعاني الشيعية ؛ لأن المستنصر بالله كان إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، ويمت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
بصلة القرابة القريبة، فغلا الشاعر في مدحه غلو الشيعة في مدح أئمتهم .
فما عذر ابن مطروح في مدائحه للملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل الأيوبي الذي لا يمت إلى الخلافة بصلة ولا ينتسب إلى النبي صلوات الله عليه بسبب؟ ففي قول ابن مطروح في الملك الكامل: «قدست» من ملك عظيم الشان
متتابع الحسنات والإحسان
تتزاحم التيجان في أبوابه
عند السلام، ولابسو التيجان
حتى إذا بصرت به أبصارهم
خروا لهيبته إلى الأذقان
أفد المواكب كالكواكب والتحق «بشريف ذاك العالم الروحاني»
ألقى مقاليد الممالك عنوة
لك حسن تدبير وثبت جنان
وتشوف الأملاك لاسمك كلما
ذكروا سميك عند كل أذان
أما وقد علقت يدي «بمحمد»
وظفرت منه «ببيعة الرضوان»
أنا فيك «حسان» وأنت «محمد» «بمحمد» عطفا على «حسان»
24
فما معنى تقديس هذا الملك؟ وما الذي صبغ عليه هذه القدسية، وما الذي جعل للملك الكامل الأيوبي شرف الانتساب إلى العالم الروحاني؟ وما هذه البيعة التي وصفتها بأنها «بيعة الرضوان» هذه كلها مسائل نرجعها جميعا إلى مبالغة الشاعر في مدحه، وهي المبالغة التي ورثها شعراء عصره عن شعراء الفاطميين، وإذا كان ابن مطروح هنا قد أساء في مبالغته؛ لأنه مدح الملك الأيوبي بصفات دينية ليس بينه وبينها سبب، لكنه سار على سنة شعراء الفاطميين، وجرى في تيارهم متأثرا بهم، ومثل هذا قوله في مدح الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى:
الأشرف الملك الكريم المجتبى
موسى وتمم بالرحيم المحسن
يا أيها الملك الذي من فاته
نظر إليك فما أراه بمؤمن
والسبعة الأفلاك ما حركاتها
إلا مخافة أن تقول لها اسكني
25
فالشاعر هنا جعل النظر إلى الملك الأشرف لونا من ألوان العبادة! وأن الأفلاك تسير بأمره! وهي صفات خلعها عليه الشاعر مبالغة وغلوا، بينما هي صفات شيعية هي من صميم عقائد الشيعة في الإمامة، فإذا قيلت هذه الصفات في الملك الأشرف، أو في غيره من ملوك الأيوبيين، أو سلاطين المماليك فهي السخف بعينه؛ لأنها لا تقوم على أساس مذهبي أو عقيدة دينية ولكنها المبالغة والتقليد لما كان يجري في العصر الفاطمي في مصر، فبالرغم من أن الأيوبيين في مصر عملوا على محو التشيع، ونجحوا سياسيا في تقويض أركان دولة الفواطم، فإنهم لم يستطيعوا أن ينتزعوا من عقول المصريين هذه الآراء الشيعية، أو أن يمحوها محوا تاما، فقد رأينا من تلك الأمثلة التي أوردناها من الشعر كيف كان تأثير عقيدة الشيعة عظيما في هؤلاء الشعراء، حتى خيل إلينا أننا أمام شعراء من الشيعة يمدحون أئمة الشيعة.
على أننا نستطيع أن نقول: إنه بالرغم من ذلك كله، فإن التشيع ضعف في مصر شيئا فشيئا، حتى كاد يمحى منها وأصبحت مصر في القرن العاشر الهجري وما بعده تدين بمذهب أهل السنة والجماعة، ولم يكن ذلك عن طريق السيف والإرهاب فحسب، بل كان هنالك سبب أقوى من الإرهاب والسيف، وهو نشر العلم في مصر.
انتشر المذهب الفاطمي بمصر على يد عدد من الدعاة، واهتم الفاطميون بالدعاة اهتماما عظيما فوضعوا للدعاية أسسا وللدعاة شروطا،
26
فانبث الدعاة بين الناس؛ يكالبون أصحاب الفرق الأخرى ويحتجون عليهم، ويبطلون آراءهم، وأوهموا الناس أن الحق فيما يقوله الدعاة عن الأئمة، وما زالوا بالناس حتى أقبل على دعوتهم عدد كبير اعتنقوا المذهب رغبة أو رهبة، فشغلت عقائد الفاطميين أذهان الناس طوال العصر الفاطمي، وجاء عصر الدولة الأيوبية فأراد القائمون عليها أن يغيروا عقائد الشيعة في مصر، ورأوا أن الفاطميين نشروا مذهبهم عن طريق العلم، فحاربوا التشيع بنفس السلاح الذي استخدمه الفاطميون، وهو الدعوة إلى أهل السنة والجماعة عن طريق فتح المدارس السنية أولا، وتشجيع حركة التصوف ثانيا، وتشجيع المدائح النبوية ثالثا.
Unknown page